المجموع شرح المهذب - جـ 15

 المجموع شرح المهذب

________________________________________

القسم: الفقه الشافعي

الكتاب: المجموع شرح المهذب ((مع تكملة السبكي والمطيعي))

المؤلف: أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي (ت ٦٧٦هـ)

الناشر: دار الفكر

(طبعة كاملة معها تكملة السبكي والمطيعي)

[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]

تاريخ النشر بالشاملة: ٨ ذو الحجة ١٤٣١

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 1)

________________________________________

التكملة الثانية

المجموع شرح المهذب

 

للامام ابي زكريا محيى الدين بن شرف النووي

المتوفى سنة ٦٧٦ هـ

‌الجزء الخامس عشر

دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 3)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله تعالى:

 

‌كتاب الإجارة

 

يجوز عقد الاجارة على المنافع المباحة، والدليل عليه قوله تعالى (فان ارضعن لكم فآتوهن أجورهن) وروى سعيد بن المسيب عن سعد رضى الله عنه قال: كنا نكرى الارض بما على السواقى من الزرع، فنهى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذلك وامرنا ان نكريها بذهب أو ورق.

وروى أبو أمامة التيمى قال: سألت ابن عمر فقلت: إنا قوم نكرى في هذا الوجه، وإن قوما يزعمون أن لا حج لنا، فقال ابن عمر: ألستم تلبون وتطوفون بين الصفا والمروة، أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فسأل عما تسألونني عنه فلم يرد عليه حتى نزل (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ ربكم) فتلاها عليه.

وروى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم احتجم وأعطى الحجام أجره، ولان الحاجة إلى المنافع كالحاجة إلى الاعيان، فلما جاز عقد البيع على الاعيان وجب أن يجوز على المنافع

 

(فصل)

ولا تجوز على المنافع المحرمة لانه يحرم فلا يجوز أخذ العوض عليه كالميتة والدم.

 

(فصل)

واختلف أصحابنا في استئجار الكلب المعلم، فمنهم من قال يجوز لان فيه منفعة مباحة فجاز استئجاره كالفهد، ومنهم من قال: لا يجوز، وهو الصحيح، لان اقتناءه لا يجوز إلا للحاجة.

وهو الصيد وحفظ الماشية وما لا يقوم غير الكلب فيه مقامه إلا بمؤن، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا إلَّا كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ نَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ وما ابيح للحاجة لم يجز أخذ العوض عليه كالميتة، ولانه لا يضمن منفعته بالغصب فدل على أنه لا قيمة لها.

 

(فصل)

واختلفوا في استئجار الفحل للضراب، فمنهم من قال يجوز لانه

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 4)

________________________________________

يجوز أن يستباح بالاعارة فجاز أن يستباح بالاجارة كسائر المنافع، ومنهم من قال لا يجوز، وهو الصحيح، لما روى ابْنِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم نهى عن ثمن عسب الفحل، ولان المقصود منه هو الماء الذى يخلف منه وهو محرم لا قيمة له فلم يجز أخذ العوض عليه كالميتة والدم

(فصل)

واختلفوا في استئجار الدراهم والدنانير ليجمل بها الدكان واستئجار الاشجار لتجفيف الثياب والاستظلال، فمنهم من قال يجوز، لانه منفعة مباحة فجاز الاستئجار لها كسائر المنافع.

ومنهم من قال لا يجوز، وهو الصحيح، لان الدراهم والدنانير لا تراد للجمال ولا الاشجار لتجفيف الثياب والاستظلال، فكان بذل العوض فيه من السفه وأخذ العوض عنه من أكل المال بالباطل، ولانه لا يضمن منفعتها بالغصب فلم يضمن بالعقد (الشرح) حديث سعد بن أبى وقاص رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وقد

سكت عنه أبو داود والمنذري.

قال ابن حجر في فتح الباري: رجاله ثقات إلا أن محمد بن عكرمة المخزومى لم يرو عنه الا ابراهيم بن سعد.

وأما حديث أبى أمامة التيمى فاخرجه احمد وغيره، وقد مضى تخريجه وبيان ما يشتمل عليه من احكام في كتاب الحج.

واما حديث (مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا إلَّا كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ ماشية) فقد أخرجه أحمد في مسنده والبخاري ومسلم والترمذي عن ابن عمر.

وأما حديث النهى عن ثمن عسب الفحل فقد رواه أحمد والبخاري والنسائي وأبو داود، ورواه الدارقطني عن أبى سعيد الخدرى بلفظ (نهى عن عسب الفحل وعن قفيز الطحان) وقال في مجمع الزوائد: رجال أحمد رجال الصحيح، الا أن ابراهيم النخعي لم يسمع من أبى سعيد فيما أحسب.

وأخرجه أيضا البيهقى وعبد الرزاق واسحاق في مسنده وأبو داود في المراسيل والنسائي في الزراعة غير مرفوع والاصل في جواز الاجارة الكتاب والسنة والاجماع، فأما الكتاب فقوله تعالى (فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن) (قالت إحداهما: يا أبت استأجره

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 5)

________________________________________

إن خير من استأجرت القوى الامين، قال إنى أريد أن أنكحك إحدى إبنتى هاتين على أن تأجرني ثمانى حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك) وروى ابن ماجه عن عتبة بن المنذر قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فقرأ (طس) حتى إذا بلغ قصة موسى قال (إن موسى عليه السلام أجر نفسه ثمانى حجج أو عشرا على عفة فرجه وطعام بطنه) وقال تعالى (فوجد فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه، قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا) وأما السنة فقد ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبا بكر استأجرا

عبد الله بن الاريقط الديلى وكان خريتا - وهو الخبير بمسالك الصحراء والوهاد العالم بجغرافية بلاد العرب على الطبيعة - ليكون هاديا ومرشدا لهما في هجرتهما من مكة إلى المدينة.

وفى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال (ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بى ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يوفه أجره) والاحاديث في هذا كثيرة أما الاجماع فقد انعقد بين أهل العلم في كل عصر وكل مصر على جواز الاجارة إلا ما روى عن عبد الرحمن الاصم الذى قيل فيه: إنه عن الحق أصم من أنه لا يجوز ذلك لانه غرر، لانه يعقد على منافع لم تخلق، ولو تحقق ما يتصوره الاصم صوابا لتعطلت الصنائع والمساكن والمتاجر والموصلات بكل أنواعها لانها كلها - وهى تستغرق مظاهر الحياة قديما وحديثا - قائمة على المؤاجرات والمعاوضات على المنافع كالمعاوضات على الاعيان سواء بسواء.

بل إن المعاوضات على المنافع أوسع مدى وأكثر عددا وأشمل مرفقا، ولان المنافع المتاحة أوسع آفاقا من الاعيان والعروض.

فإذا ثبت هذا فإن الاجارة كالبيع تنعقد بأربعة: بمؤجر ومستأجر ومؤاجر وأجرة.

فالاول فهو باذل المنفعة كالبائع، والثانى طالب المنفعة كالمشترى، وكل من صح شراؤه صح استئجاره.

والثالث فهو كل عين صح الانتفاع بها مع بقائها صحت إجارتها كالدور والعقار إذا لم يكن المقصود من منافعها أعيانا كالنخل

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 6)

________________________________________

والشجر، وما تم الانتفاع به مع عينه لم تصح اجارته كالدراهم والمأكول، لان منفعة الدراهم بإزالتها عن الملك، ومنفعة المأكول بالاستهلاك كاستئجار الدراهم والدنانير للجمال والزينة والطعام ليعتبر مكيلا ففيه لاصحابنا وجهان:

 

(أحدهما)

يصح لوجود المعنى وحصول الانتفاع مع بقاء العين (والوجه الثاني) لا يصح لان هذا نادر من منافع ذلك، والاغلب سواه، فصار حكم الاغلب هو المغلب، ولان المنافع المضمونة بالاجارة هي المضمونة بالغصب، ومنافع الدراهم والطعام لا تضمن بالغصب كنشر الثياب فوق الشجر فلم يصح أن تضمن بالاجارة.

وهكذا كل ما كانت منافعها أعيانا من النخل والشجر، لان منافعها ثمار هي أعيان يمكن العقد عليها بعد حدوثها، فلم يصح العقد عليها قبله.

فإن استأجر ذلك لمنفعة تستوفى مع بقاء العين كالاستظلال بالشجر أو ربط ماشية إليها فذلك ضربان:

(أحدهما)

أن يكون هذا غالبا فيها ومقصودا من منافعها فتصح الاجارة عليها

(والثانى)

أن يكون نادرا غير مقصود في العرف، فيكون على ما مضى من الوجهين.

ثم العقد وان توجه إلى العين فهو أنه ربما تناول المنفعة لان الاجرة في مقابلتها وانما توجه إلى العين لتعتبر المنفعة بها.

وقال أبو إسحاق المروزى: العقد انما تناول العين دون المنفعة ليستوفى من العين مقصوده من المنفعة، لان المنافع غير موجودة حين العقد فلم يجز أن يتوجه العقد إليها.

وهذا خطأ، ألا ترى أنه قد يصح العقد على منفعة مضمونة في الذمة غير مضافة إلى عين؟ كرجل استأجر من رجل عملا مضمونا في ذمته، وإذا كان كذلك فلا بد أن تكون المنفعة معلومة كما لابد أن يكون المبيع معلوما، فإن كانت مجهولة لم تصح الاجارة، كما لو كان المبيع مجهولا، والعلم بها قد يكون من وجهين:

(أحدهما)

تقدير العمل مع الجهل بالمدة

(والثانى)

تقدير المدة مع الجهل بقدر العمل، وسيأتى تفصيلهما وبالله والتوفيق.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 7)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

واختلفوا في الكافر إذا استأجر مسلما إجارة معينة، فمنهم من قال فيه قولان لانه عقد يتضمن حبس المسلم فصار كبيع العبد المسلم منه.

ومنهم من قال يصح قولا واحدا لان عليا كرم الله وجهه كان يستقى الماء لامرأة يهودية كل دلو بتمرة

(فصل)

ولا يصح إلا من جائز التصرف في المال لانه عقد يقصد به المال فلم يصح الا من جائز التصرف في المال كالبيع

(فصل)

وينعقد بلفظ الاجارة لانه لفظ موضوع له، وهل ينعقد بلفظ البيع، فيه وجهان

(أحدهما)

ينعقد لانه صنف من البيع لانه تمليك يتقسط العوض فيه على المعوض كالبيع فانعقد بلفظه

(والثانى)

لا ينعقد لانه يخالف البيع في الاسم والحكم فلم ينعقد بلفظه كالنكاح.

 

(فصل)

ويجوز على منفعة عين حاضرة، مثل أن يستأجر ظهرا بعينه للركوب ويجوز على منفعة عين في الذمة مثل أن يستأجر ظهرا في الذمة للركوب، ويجوز على عمل معين مثل أن يكترى رجلا ليخيط له ثوبا أو يبنى له حائطا، ويجوز على عمل في الذمة، مثل أن يكترى رجلا ليحصل له خياطة ثوب أو بناء حائط لانا بينا أن الاجارة بيع والبيع يصح في عين حاضرة وموصوفة في الذمة، فكذلك الاجارة.

وفى استئجار عين لم يرها قولان

(أحدهما)

لا يصح

(والثانى)

يصح ويثبت الخيار إذا رآها كما قلنا في البيع

(فصل)

وتجوز على عين مفردة وعلى جزء مشاع لانا بينا أنه بيع، والبيع يصح في المفرد والمشاع فكذلك الاجارة.

 

(فصل)

ولا تجوز إلا على عين يمكن استيفاء المنفعة منها، فان استأجر أرضا للزراعة لم تصح حتى يكون لها ماء يؤمن انقطاعه، كماء العين والمد بالبصرة

والثلج والمطر في الجبل لان المنفعة في الاجارة كالعين في البيع فإذا لم يجز بيع عين لا يقدر عليها لم تجز إجارة منفعه لا يقدر عليها فإن اكترى أرضا على نهر إذا زاد سقى وإذا لم يزد لم يسق، كأرض مصر والفرات وما انحدر من دجلة نظرت فان اكتراها بعد الزيادة صح العقد لانه يمكن استيفاء المعقود عليه، فهو كبيع الطير

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 8)

________________________________________

في القفص، وإن كان قبل الزيادة لم يصح لانه لم يعلم هل يقدر على المعقود عليه أو لا يقدر فلم يصح كبيع الطير في الهواء، وان اكترى أرضا لا ماء لها ولم يذكر أنه يكتريها للزراعة ففيه وجهان، أحدهما: لا يصح لان الارض لا تكترى في العادة الا للزراعة، فصار كما لو شرط أنه يكتريها للزراعة، والثانى: ان كانت الارض عالية لا يطمع في سقيها صح العقد لانه يعلم أنه لم يكترها للزراعة.

وان كانت مستفلة يطمع في سقيها بسوق الماء إليها من موضع لم يصح لانه اكتراها للزراعة مع تعذر الزراعة، فإن اكترى أرضا غرقت بالماء لزراعة ما لا يثبت في الماء كالحنطة والشعير نظرت فان كان للماء مغيض إذا فتح انحسر الماء عن الارض وقدر على الزراعة صح العقد، لانه يمكن زراعتها بفتح المغيض، كما يمكن سكنى الدار بفتح الباب، وان لم يكن له مغيض ولا يعلم أن الماء ينحسر عنها لم يصح العقد لانه لا يعلم هل يقدر على المعقود عليه أم لا يقدر فلم يصح العقد كبيع ما في يد الغاصب، فان كان يعلم أن الماء ينحسر وتنشفه الريح ففيه وجهان: أحدهما لا يصح لانه لا يمكن استيفاء المنفعة في الحال.

والثانى يصح وهو قول أبى إسحاق وهو الصحيح لانه يعلم بالعادة امكان الانتفاع به، فان اكترى أرضا على ماء إذا زاد غرقت فاكتراها قبل الزيادة صح العقد لان الغرق متوهم فلا يمنع صحة العقد (الشرح) خبر على رضى الله عنه رواه أحمد وجود الحافظ بن حجر اسناده ولفظه (جعت مرة جوعا شديدا فخرجت لطلب العمل في عوالي المدينة، فإذا أنا

بامرأة قد جمعت مدرا فظننتها تريد بله، فقاطعتها كل ذنوب على تمرة، فمددت ستة عشر ذنوبا حتى مجلت يداى، ثم أتيتها فعدت لى ست عشرة تمرة، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأكل معى منها) وقد أخرجه ابن ماجه والبيهقي عن ابن عباس أن عليا أجر نفسه من يهودى يسقى له كل دلو بتمرة) وعندهما أن كل عدد التمر سبع عشرة تمرة.

وفى اسناده حنش راويه عن عكرمة وهو ضعيف، وقوله (ذنوبا) الدلو مطلقا أو التى فيها ماء أو الممتلئة أو غير الممتلئة وكلها في القاموس، وقوله (مجلت) بكسر الجيم أي غلظت وتنفطت وقد أمجلها العمل أو المجل أن يكون بين الجلد واللحم ماء، أو المجلة جلدة رقيقة يجتمع فيها ماء من أثر العمل.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 9)

________________________________________

وهذا الخبر يدل دلالة يعجز القلم عن استقصاء ما توحى به، من بيان ما كانت الصحابة عليه من الحاجة وشدة الفاقة والصبر على الجوع وبذل الوسع وإتعاب النفس في تحصيل القوام من العيش للتعفف عن السؤال وتحمل المتن، وأن تأجير النفس لا يعد دناءة، وإن كان المستأجر غير شريف أو كافرا والاجير من أشراف الناس وعظمائهم، وقد أورده صاحب المنتقى ليستدل به على جواز الاجارة معاددة يعنى أن يفعل الاجير عددا معلوما من العمل بعدد معلوم من الاجرة.

(فرع)

الاجارة عوض في مقابلة المنفعة كالثمن في مقابلة المبيع وحكمه كحكمه في جوازه معينا وفى الذمة، قال الشافعي: فالاجارات صنف من البيوع لانها تمليك من كل واحد منهما لصاحبه اه.

ومن هذا اخذ الفقهاء انه عقد لازم لا يجوز فسخه إلا بعيب كالبيع، فإن كان العيب موجودا في الشئ المؤاجر كالدار إذا خربت والدابة إذا مرضت فللمستأجر أن يفسخ دون المؤجر كما لو وجد بالمبيع عيب كان للمشترى أن يفسخ

دون البائع، وإن كان العيب موجودا في الاجرة فان كانت في الذمة أبدل المعيب بغيره ولا خيار، وان كانت معيبة فللمؤجر ان يفسخ دون المستاجر كما يفسخ البائع بوجود العيب في الثمن المعين دون المشترى: ولا يجوز فسخ الاجارة بعذر يطرأ إذا لم يطرأ في المعقود عليه عيب، ومن هنا كان لاصحابنا وجهان في انعقاده بلفظ البيع، ونظرا لان عقد الاجارة كعقد النكاح يؤخذ جانب البيع فيه بمفهوم المعاوضه وليس بمنطوق التعاقد لذلك قالوا: إنه يخالف البيع في الاسم والحكم فلم ينعقد بلفظه كالنكاح، والوجه الثاني: ينعقد بلفظ البيع لانه تمليك يتقسط العوض فيه على الباذل كالبيع سواء بسواء.

إذا ثبت هذا: فهل المعقود عليه العين لانها الموجودة فيقال: أجرتك دارى أم أن العقد يتعلق بالمنفعه دون الاعيان، فيقال: أجرتك دارى أو منفعة دارى بكذا، أو بعتك منفعتها، وهذا الاخير هو قول مالك وأبى حنيفة وأحمد وأكثر أصحاب الشافعي، ويصح العقد على منفعة مضمونه في الذمه غير مضافه إلى عين كرجل استأجر من رجل عملا مضمونا في ذمته، وإذا كان كذلك فلابد أن تكون

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 10)

________________________________________

المنفعة معلومة كما لا بد ان يكون المبيع معلوما، فإن كانت مجهوله لم تصح الاجارة كما لو كان المبيع مجهولا، ومن ثم كانت الاجارة على نوعين، نوع يكون عقده على مدة معلومه: ونوع يكون على عمل معلوم فالاول كالدار والارض فلا تجوز إجارتها إلا على مدة ومتى تقدرت المدة لم يجز تقدير العمل، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد، لان الجمع بينهما يزيدها غررا، لانه قد يفرغ من العمل قبل انقضاء المدة، فإن استعمل في بقية المدة فقد زاد على ما تعاقدا عليه وإن لم يعمل كان تاركا للعمل في بعض المدة، وقد لا يفرغ من العمل في المدة، فإن أتمه عمل في غير المدة، وهذا غرر أمكن التحرز منه، ولم يوجد مثله في محل الوفاق

فلم يجز العقد معه، (فرع)

قال الشافعي: إذا تكارى الرجل الارض ذات الماء من العين أو النهر نيل أو غير نيل أو الغيل أو الآبار على أن يزرعها غلة الشتاء والصيف فزرعها إحدى الغلتين والماء قائم ثم نضب فذهب قبل الغلة الثانية فأراد رد الارض بذهاب الماء فذلك له ويكون عليه من الكراء بحصة ما زرع إن كانت حصة الزرع الذى زرع الثلث أو النصف أو الثلثين أو أقل أو أكثر أدى ذلك وسقطت عنه حصه الزرع الثاني اه.

قال النووي في المنهاج: ولا يصح استئجار آبق ومغصوب وأعمى للحفظ وأرض للزراعة لا ماء لها دائم، ولا يكفيها المطر المعتاد، ويجوز إن كان لها ماء دائم، وكذا إن كفاها ماء المطر الدائم أو الثلوج المجتمعة، والغالب حصولها في الاصح اه.

قال الشربينى الخطيب في المغنى: ومجرد الامكان لا يكفى كإمكان عود الآبق والمغصوب، نعم لو قال المكرى أنا أحفر لك بئرا وأسقى أرضك منها أو أسوق الماء إليها من موضع آخر صحت الاجارة كما قال الرويانى.

أما لو استأجرها للسكنى فإنه يصح، وإن كانت بمحل لا يصلح لها كالمفازة، إلى أن قال: ويجوز استئجار أراضي مصر للزراعة بعد ريها بالزيادة، وكذا قبله على الاصح إن كانت ترزى من الزيادة الغالبة كخمسة عشر ذراعا فما دونها كما نقله في الكفايه عن أبى الطيب وابن الصباغ واقتضاه كلام الشيخين.

وقال السبكى: وما يروى من خمسة عشر كالموثوق به عادة.

وما يروى من

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 11)

________________________________________

ستة عشر وسبعة عشر غالب الحصول، وإن كان الاحتمال متطرقا إلى الستة عشر وإلى السبعة عشر كثيرا اه وتصح الارض للزراعة قبل انحسار الماء عنها، وإن سترها عن الرؤية، لان

الماء من مصلحتها كاستتار اللوز والجوز بالقشرة، فإن قيل: ينبغى عدم الصحة لان الانتفاع عقب العقد شرط، والماء يمنعه أجيب بأن الماء من مصالح الزرع، وبأن صرفه ممكن في الحال بفتح موضع ينصب إليه فيتمكن من الزرع حالا كاستئجار دار مشحونة بالامتعة التى يمكن نقلها في زمن لا أجرة له هذا إن وثق بانحساره وقت الزراعة وإلا فلا يصح، وإن كانت الارض على شط نهر، والظاهر أنه يجرفها بفيضانه أو تنهار من أمواجه لم يصح استئجارها لعدم القدرة على تسليمها، وإن احتمله ولم يظهر جاز لان الاصل والغالب السلامة.

وإن استأجر أرضا للزراعة وأطلق دخل فيها شربها ان اعتيد دخوله بعرف مطرد والشرب بكسر الشين النصيب من الماء، بخلاف مالو باعها لا يدخل، لان المنفعة هنا لا تحصل بدونه أو شرط في العقد، فإن اضطرب العرف فيه أو استثنى الشرب ولم يوجد شرب غيره لزوال المانع بالاغتناء عن شربها، والامتناع الشرعي لتسليم المنفعة كالحسى في حكمه.

وقد أورد المصنف وجهين في الارض التى يغطيها الماء وعلم انحسار أو احتمال تبخرها وجفافها، أحدهما: عدم صحة العقد لعدم امكان استيفاء المنفعة حالا، والثانى: وهو قول أبى اسحاق المروزى وهو الصحيح والذى عليه الفتوى من أئمه المذهب أنه يصح، لانه يعلم بالعادة المطردة إمكان الانتفاع وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

 

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:

(فصل)

وان استأجر رجلا ليعلمه بنفسه سورة وهو لا يحسنها ففيه وجهان

(أحدهما)

يصح كما يصح أن يشترى سلعه بدراهم، وهو لا يملكها ثم يحصلها ويسلم

(والثانى)

لا يصح لانه عقد على منفعة معينة لا يقدر عليها فلم يصح كما لو أجر عبد غيره.

 

(فصل)

ولا تصح الاجارة الا على منفعة معلومة القدر لانا بينا أن الاجارة

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 12)

________________________________________

بيع والبيع لا يصح إلا في معلوم القدر فكذلك الاجارة ويعلم مقدار المنفعة بتقدير العمل أو بتقدير المدة، فإن كانت المنفعة معلومة القدر في نفسها كخياطة ثوب وبيع عبد والركوب إلى مكان قدرت بالعمل لانها معلومة في نفسها فلا تقدر بغيرها، وإن قدر بالعمل والمدة بأن استأجره يوما ليخيط له قميصا فالاجارة باطله لانه يؤدى إلى التعارض وذلك انه قد يفرغ من الخياطة في بعض اليوم فان طولب في بقية اليوم بالعمل اخل بشرط العمل وان لم يطالب اخل بشرط المدة، فان كانت المنفعة مجهولة المقدار في نفسها كالسكنى والرضاع وسقى الارض والتطيين والتجصيص قدر بالمدة لان السكنى وما يشبع به الصبى من اللبن وما تروى به الارض من السقى يختلف ولا ينضبط، ومقدار التطيين والتجصيص لا ينضبط لاختلافهما في الرقة والثخونة فقدر بالمدة، واختلف اصحابنا في استئجار الظهر للحرث، فمنهم من قال يجوز ان يقدر بالعمل بان يستأجره ليحرث أرضا بعينها، ويجور ان يقدر بالمدة بأن يستأجره ليحرث له شهرا، ومنهم من قال لا يجوز تقديره بالمدة والاول أظهر لانه يمكن تقديره بكل واحد منهما فجاز التقدير بكل واحد منهما

(فصل)

وما عقد على مدة لا يجوز الا على مدة معلومة الابتداء والانتهاء.

فان قال أجرتك هذه الدار كل شهر بدينار فالاجارة باطلة، وقال في الاملاء تصح في الشهر الاول وتبطل فيما زاد، لان الشهر الاول معلوم وما زاد مجهول فصح في المعلوم وبطل في المجهول، كما لو قال اجرتك هذا الشهر بدينار وما زاد بحسابه، والصحيح هو الاول لانه عقد على الشهر وما زاد من الشهور.

وذلك مجهول فبطل، ويخالف هذا إذا قال أجرتك هذا الشهر بدينار وما زاد بحسابه لان هناك أفرد الشهر الاول بالعقد وههنا لم يفرد الشهر عما بعده بالعقد، فبطل

بالجميع، فإن أجره سنة مطلقة حمل على سنة بالاهلة، لان السنة المعهودة في الشرع سنة الاهلة.

والدليل عليه قوله عزوجل: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج.

فوجب ان يحمل العقد عليه، فإن كان العقد في أول الهلال عد اثنا عشر شهرا بالاهلة، تاما كان الشهر أو ناقصا، وان كان في اثناء الشهر عد ما بقى من الشهر وعد بعده احد عشر شهرا بالاهلة ثم كمل عدد الشهر

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 13)

________________________________________

الاول بالعدد ثلاثين يوما لانه تعذر اتمامه بالشهر الهلالي فتمم بالعدد، فان أجره سنة شمسيه ففيه وجهان:

(أحدهما)

لا يصح لانه على حساب انسئ فيه أيام والنسئ حرام، والدليل عليه قوله تعالى، (انما النسئ زيادة في الكفر)

(والثانى)

انه يصح لانه وان كان النسئ حراما، الا أن المدة معلومة فجاز العقد عليها كالنيروز والمهرجان، وفى أكثر المدة التى يجوز عقد الاجارة عليه طريقان ذكرناهما في المساقاة

(فصل)

ولا تصح الاجارة الا على منفعة معلومة، لان الاجارة بيع والمنفعة فيها كالعين في البيع، والبيع لا يصح الا في معلوم فكذلك الاجارة، فان كان المكترى دارا لم يصح العقد عليها حتى تعرف الدار لان المنفعة تختلف باختلافها فوجب العلم بها ولا يعرف ذلك الا بالتعيين لانها لا تضبط بالصفة فافتقر إلى التعيين كالعقار والجواهر في البيع، وهل يفتقر إلى الرؤية؟ فيه قولان بناء على القولين في البيع، ولا يفتقر إلى ذكر السكنى ولا إلى ذكر صفاتها لان الدار لا تكترى الا للسكنى وذلك معلوم بالعرف فاستغنى عن ذكرها كالبيع بثمن مطلق في موضع فيه نقد معروف، وان اكترى ارضا لم يصح حتى تعرف الارض لما ذكرناه في الدار، ولا يصح حتى يذكر ما يكترى له من الزراعة

والغراس والبناء، لان الارض تكترى لهذه المنافع وتاثيرها في الارض يختلف فوجب بيانها.

وان قال: أجرتك هذه الارض لتزرعها ما شئت جاز، لانه جعل له زراعة أضر الاشياء، فأى صنف زرع لم يستوف به أكثر من حقه، وان قال اجرتك لتزرع واطلق ففيه وجهان

(أحدهما)

لا يصح لان الزروع مختلفة في التأثير في الارض فوجب بيانها

(والثانى)

يصح لان التفاوت بين الزرعين يقل وان قال أجرتك لتزرعها أو تغرسها لم يصح لانه جعل له أحدهما ولم يعين فلم يصح، كما لو قال بعتك أحد هذين العبدين، وان قال أجرتك لتزرعها وتغرسها ففيه وجهان

(أحدهما)

لا يصح وهو قول المزني وأبى العباس وأبى اسحاق لانه

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 14)

________________________________________

لم يبين المقدار من كل واحد منهما

(والثانى)

يصح وله ان يزرع النصف ويغرس النصف، وهو ظاهر النص، وهو قول أبى الطيب بن سلمة، لان الجمع يقتضى التسوية فوجب ان يكون نصفين (الشرح) هذا الحكم في تعليم القران ينبنى على ان تعليم القرآن هل يجوز بأجر أو لا؟ فقد روى ابن ماجه والبيهقي والرويانى في مسنده عن أبى بن كعب قال: علمت رجلا القرآن فاهدى لى قوسا، فَذَكَرْت ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ (إن أخذتها أخذت قوسا من نار) فرددتها.

قال البيهقى وابن عبد البر: هو منقطع، يعنى عطية الكلاعى وأبى بن كعب وكذلك قال المزى، وتعقبهم الحافظ بن حجر بأن عطية ولد فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأعله ابن القطان بالجهل بحال عبد الرحمن بن سلم الراوى عن عطية،

*

*

*

وورد عن عبادة بن الصامت عند أبى داود وابن ماجه بلفظ (علمت ناسا من أهل الصفة الكتاب والقرآن، فاهدى إلى رجل منهم قوسا فقلت: ليست بمال وأرمى عليها في سبيل الله عزوجل، لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلاسألنه فاتيته فقلت: يا رسول الله، إنه رجل اهدى إلى قوسا ممن كنت أعلمه الكتاب والقرآن وليست بمال وأرمى عليها في سبيل الله، فقال: إن كنت تحب ان تطوق طوقا من نار فاقبلها) وفى اسناده المغيرة بن زياد أبو هاشم الموصلي، وقد وثقه وكيع ويحيى بن معين وتكلم فيه جماعة.

وقال احمد: ضعيف الحديث، حدث بأحاديث مناكير وكل حديث رفعه فهو منكر.

وقال أبو زرعة الرازي: لا يحتج بحديثه، ولكنه قد روى عن عبادة من طريق اخرى عند أبى داود بلفظ (فقلت: ما ترى فيها يا رسول الله؟ فقال جمرة

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 15)

________________________________________

بين كتفيك تقلدتها أو تعلقتها) وفى هذه الطريق بقية بن الوليد، وقد تكلم فيه جماعة ووثقة الجمهور إذا روى عن الثقات، وقد أورد ابن حجر حديث عبادة هكذا في كتاب النفقات من تخليص الحبير وتكلم عليه، وفى هذا المعنى ورد عن معاذ عند الحاكم والبزار بنحو حديث أبى، وعن أبى الدرداء عند الدارمي بإسناد على شرط مسلم بنحوه أيضا.

وقد استدل بهذه الاحاديث القائلون بعدم جواز الاجرة على تعليم القرآن كاحمد بن حنبل واصحابه وأبى حنيفة، وبهذا قال عطاء والضحاك بن قيس والزهرى واسحاق بن راهوية وعبد الله بن شقيق، وذهب جمهور الفقهاء من الشافعية والمالكية إلى أنها تحل الاجرة على تعليم القرآن، وأجابوا عن هذه الاحاديث بأجوبة منها ان حديثى عبادة وأبى قضيتان في عين فيحتمل أَنَّ النَّبِيَّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ أنهما فعلا ذلك خالصا لله فكره أخذ العوض عنه، وأما من علم القرآن على أنه لله وأن يأخذ من المتعلم ما دفعه إليه بغير سؤال ولا استشراف نفس فلا بأس به.

وقد استدلوا على الجواز بحديث سهل بن سعد عند الشيخين (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَتْهُ امرأة فقالت: يا رسول الله إنى قد وهبت نفسي لك فقامت قياما طويلا، فقام رجل فقال: يا رسول الله زوجنيها ان لم يكن لك بها حاجة فقال صلى الله عليه وسلم: هل عندك من شئ تصدقها إياه؟ فقال: ما عندي الا إزارى هذه، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ أعطيتها إزارك، جلست لا إزار لك فالتمس شيئا فقال، ما اجد شئا فقال: التمس ولو خاتما من حديد فالتمس فلم يجد شيئا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هل معك من القران شئ؟ فقال: نعم سورة كذا وسورة كذا يسميها، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ زوجتكها بما معك من القرآن) وفى رواية (قد ملكتكها بما معك من القرآن) ولمسلم (زوجتكها تعلمها القرآن) وفى رواية لابي داود (علمها عشرين آية وهي امرأتك) ولاحمد (قد أنكحتكها على ما معك من القرآن)

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 16)

________________________________________

ومن أدلة الجواز حديث عمر المتقدم في كتاب الزكاة (إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ له: ما اتاك من هذا المال من غير مسألة ولا اشراف نفس فخذه، ومن ادلة الجواز حديث الرقية المشهور الذى اخرجه البخاري عن ابن عباس وفيه (ان أحق ما اخذتم عليه اجرا كتاب الله) .

فإذا ثبت هذا: فان كان الاجر على تعليم السورة لا يحفظها ففى صحة ذلك وجهان (احدهما) يصح كما يصح شراء مالا يملكه ثمنه على ان يحصلها ثم يدفعها

 

(والثانى)

لا يصح لان المنفعة غير مقدور عليها فلم يصح.

قال العلامة الشربينى في المغنى على المنهاج: اما إذا استاجره مدة لجميعه فانه لا يصح على الاصح فان فيه جمعا بين الزمان والعمل وحينئذ كان ينبغى ان يقول المصنف - يعنى النووي - تعليم قرآن بالتنكير، فان الشافعي رضى الله عنه في باب التدبير نص على ان القران بالالف واللام لا يطلق الا على جميعه، فإذا قدر التعليم بمدة كشهر هل يدخل الجميع اولا؟ أفتى الغزالي بان ايام السبوت مستثناة في استئجار اليهودي شهرا لاطراد العرف به.

وقال البلقينى: ويقاس عليه الاحد للنصارى، والجمع في حق المسلمين، ثم قال ويشترط على المنعاقدين بما يقع العقد على تعليمه، فان لم يعلماه وكلا من يعلم ذلك ولا يكفى ان يفتح المصحف ويقول: تعلمني من هنا إلى هنا، لان ذلك لا يفيد معرفة المشار إليه بسهولة أو صعوبة، فإذا اطلق العقد في تعلم القرآن ولم يشترط قراءة بعينها فقد قال الماوردى والرويانى تفريعا على ذلك: يعلمه الاغلب من قراءة البلد كما لو اصدقها دراهم فانه يتعين دراهم البلد، أي فان لم يكن فيها أغلب علمه ما شاء من ذلك وهذا أوجه، فان عين له قراءة تعينت.

فان أقرأه غيرها ولم يستحق اجرة في احد وجهين يظهر ترجيحه، ولا يشترط رؤية المتعلم، ويشترط في المتعلم أن يكون مسلما أو يرجى إسلامه، فان لم يرج لم يعلم كما يباع المصحف من الكافر.

(فرع)

قال الشافعي وكذلك يملك المستأجر المنفعة التى في العبد والدار والدابة إلى المدة التى اشترط حتى يكون أحق بها من مالكها، ويملك بها صاحبها

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 17)

________________________________________

العوض فهى منفعة معقولة من عين معروفة فهى كالعين المبيعة، ولو كان حكمها خلاف حكم العين لكان في حكم الدين ولم يجز أن يكترى بدين لانه حينئذ يكون

دينا بدين، وقد نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الدين بالدين، فإذا وقع ما أكرى وجب له جميع الكراء كما إذا دفع ما باع وجب له جميع الثمن إلا أن يشترط أجلا اه.

وجملة القول في عقد الاجارة أن يتضمن تمليك منافع في مقابلة أجرة، فأما المنافع فلا خلاف أنها تملك بالعقد ويستقر الملك بالقبض، وأما الاجارة فلها ثلاثة أحوال.

(أحدها) أن يشترطا حلولها وتكون حالة اتفاقا.

 

(والثانى)

أن يشترطا تأجيلها أو تنجيمها فتكون مؤجلة أو منجمه اجماعا (والثالث) ان يطلقاها فلا يشترطا فيها حلولا ولا تأجيلا، فقد اختلف الفقهاء فيها على ثلاثة مذاهب: فمذهب الشافعي منها أن الاجرة تكون حالة تملك بالعقد وتستحق بالتمكين، وقال أبو حنيفة: لا يتعجل الاجرة بل تكون في مقابلة المنفعة، فكلما مضى من المنفعة جزء ملك ما في مقابلته من الاجرة، وقال مالك: لا يستحق الاجرة الا بمضي جميع المدة استدلالا بقوله تعالى، فان أرضعن لكم فآتوهن أجورهن، فاقتضى أن تكون باستكمال الرضاع يستحق الاجرة، وبما رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال (أعطوا الاجير أجره قبل أن يجف عرقه) فكان ذلك منه حثا على تعجيلها في أول زمان استحقاقها، وذلك بعد العمل الذى يعرف به، ولان أصول العقود موضوعة على تساوى المتعاقدين فيما يملكانه بالعقد ويكون ملك العوض تاليا لملك المعوض كالبيع إذا ملك على البائع المبيع ملك به الثمن، وإذا سلم المبيع استحق قبض المنافع مؤجلا وجب أن يكون قبض الاجرة مؤجلا، وتحريره قياسا أنه عقد معاوضه فوجب أن يكون استحقاق العوض بعد اقباض المعوض كالبيع، ولان ما استحق من الاعواض على المنافع يلزم أداؤه بعد تسليم المنافع كالجعالة والقراض، ولان

من ملك للاجرة يمنع من استحقاقها عليه بالعقد، وقد ثبت أن الدار المؤجرة من الاجرة فدل على أنه لم يكن مالكا للاجرة.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 18)

________________________________________

ودليلنا هو أن ما لزم من عقود المنافع استحق العوض فيه حالا كالنكاح، ولان كل عوض تعجل بالشرط فإطلاقه يوجب حلوله كالثمن، ولان الاصول موضوعة على أن تسليم المعوض يوجب تسليم العوض ليستوي حكم المتعاقدين فيما يملكانه من عوض ومعوض كما هو مقرر في الاصول فلا يكون حظ أحدهما فيه أقوى من حظ الآخر كالبيع إذا سلم المبيع فيه وجب تسليم الثمن، وكالنكاح إذا حصل التمكين وجب تسليم الصداق، كذلك الاجارة إذا حصل تسليم المنفعة وجب تسليم الاجرة، والمنافع ههنا مقبوضة بالتمكين حكما، وإن لم يكن القبض مستقرا.

(فرع)

قال الشافعي: وله أن يؤاجر عبده وداره ثلاثين سنة، أما عقد الاجارة على سنة واحدة فيجوز لان الغرر يسير فيها والضرورة داعية إليها فأما ما زاد على السنة الواحدة فقد حكى مالك أنه جوزها إلى خمس سنين أو ست سنين لا غير، وللشافعي فيما زاد على السنة الواحدة قولان.

 

(أحدهما)

لا تجوز الاجارة أكثر من سنة، لان الاجارة غرر لانها عقد قد تسلم وقد لا تسلم، فإذا قل الزمان قل غررها فجاز، وإذا طال الزمان كثر غررها فبطل كالخيار، ولان السنه هي المدة التى تكمل فيها منافع الزراعة في الارضين، ولا تتغير فيها غالبا الحيوانات والدور فلذلك تقدرت مدة الاجارة بها وبطلت فيما جاوزها.

(والقول الثاني) وهو أصح القولين هنا، أن الاجارة تجوز أكثر من سنة بثلاثين سنة قدرها الشافعي على سبيل الكثرة، أما أدناها فأقل مدتها ما أمكن

فيه استيفاء المنفعة المعقود عليها وذلك قد يختلف باختلاف المؤاجر، فإن كان ذلك دارا للسكنى جازت إجارتها يوما واحدا، وان كان ذلك أرضا للزراعة فأقلها مدة زراعتها، فأما أكثر المدة فهو ما علم بقاء الشئ المؤاجر فيها، فإن كان ذلك أرضا تأيد بقاؤها، وإن كان دارا روعى فيها مدة يبقى فيها بناؤها، وإن كان حيوانا روعى فيه الاغلب من مدة حياته.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 19)

________________________________________

(فرع)

فأما إذا آجر داره كل شهر بدينار ولم يذكر عدد الشهور وغايتها لم تصح الاجارات فيما عدا الشهر الاول للجهالة بمبلغه، فصار كقوله: أجرتكها مدة، واختلف أصحابنا في صحتها ولزومها في الشهر الاول على وجهين.

 

(أحدهما)

أن الاجارة فيه صحيحه لكونه معلوما.

(والوجه الثاني) وهو الاصح أنها باطلة لكونه واحدا من عدد مجهول فلم يتميز في الحكم.

وقال أبو حنيفة: الاجارة صحيحه وللمستأجر فسخ الاجارة في كل شهر قبل دخوله، فإذا دخل قبل فسخه لزمه وجعل إطلاق الشهور مع تسمية الاجرة لكل شهر جاريا مجرى بيع الصبرة المجهولة القدر إذا سمى ثمن كل قفيز، وهذا خطأ للخطأ بما تناوله العقد من الشهور بخلاف الصبرة التى قد أشير إليها وينحصر كيلها، ولانه لا يخلو أن تصح الاجارة فلا يكون له فسخها من غير عذر أو تبطل، فلا يجوز أن يقيم عليها مع العذر، ويلزم أجرة المثل إن سكن دون المسمى.

فإذا قدر المدة بسنه حملت على السنه الهلاليه المعهودة شرعا فان شرط هلاليه كان تأكيدا، وإن قال عدديه أو سنه بالايام كان له ثلاثمائة وستون يوما، لان الشهر العددى يكون ثلاثين يوما، وإن استأجر سنه هلاليه أول الهلال عد اثنى عشر شهرا بالاهلة سواء كان الشهر تاما أو ناقصا، لان الشهر الهلالي ما بين

الهلالين ينقص مرة ويزيد أخرى، وإن كان العقد في أثناء شهر عد ما بقى من الشهر وعد بعده أحد عشر شهرا بالهلال ثم كمل الشهر الاول بالعدد ثلاثين يوما لانه تعذر اتمامه بالهلال فتممناه بالعدد وأمكن استيفاء ما عداه بالهلال فوجب ذلك لانه الاصل، وقد مضى في السلم بحث في الشهور العربية الهلاليه والشمسية الرومية ويعد ذلك أساسا لتوقيت التعامل هنا كمثله هناك.

(فرع)

قال في المنهاج: يشترط كون المنفعة معلومة ثم تارة تقدر بزمان كدار سنه، وتارة بعمل كدابه إلى مكة وكخياطه ذا الثوب فلو جمعهما فاستأجره ليخيطه بياض النهار لم يصح في الاصح، ويقدر تعليم القرآن بمدة أو تعيين سور وفى البناء يبين الموضع والطول والعرض والسمك وما يبنى به إن قدر بالعمل،

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 20)

________________________________________

وإذا صلحت الارض لبناء وزراعة وغراس اشترط تعيين المنفعة، ويكفى تعيين الزراعة عن ذكر ما يزرع في الاصح، ولو قال: لتنتفع بما شئت صح، وكذا لو قال: إن شئت فازرع وإن شئت فاغرس في الاصح، ويشترط في إجارة دابة لركوب معرفة الراكب بمشاهدة أو وصف تام، وقيل لا يكفى الوصف، وكذا الحكم فيما يركب عليه من محمل وغيره إن كان له.

وقال السبكى: لا بد في تصوير هذه المسألة من زيادة ما شئت فيقول: إن شئت فازرع ما شئت أو اغرس ما شئت، فإن لم يزد ما ذكر عاد الخلاف في وجوب تعيين ما يزرع، اه وإذا صلحت الارض لغراس أو بناء أو زراعة أو لاثنين من هذه الثلاثة اشترط تعيين المنفعة في الصورتين لاختلاف الضرر اللاحق باختلاف منافع هذه الجهات، فإن أطلق لم يصح، أما إذا لم تصلح إلا لجهة واحدة فإنه يكفى الاطلاق فيها كأراضي الاحكار فإنه يغلب فيها البناء، وبعض البساتين فانه

يغلب فيها الغراس، ويكفى في أرض استؤجرت للزراعة تعيين الزراعة عن ذكر ما يزرع فيها، كقوله أجرتكها للزراعة أو لتزرعها، فيصح لقلة التفاوت بين أنواع الزرع، ويزرع ما شاء للاطلاق قال الرافعى: وكان يحتمل أن ينزل على أقل الدرجات.

وما قاله حكاه الخوارزمي وجها، فيكون الوجه الثاني أنه لا يكفى لان ضرر الزرع مختلف.

نعم إن أجر على غيره بولاية أو نيابة لا يكفى الاطلاق لوجوب الاحتياط.

وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

 

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:

(فصل)

وإن استأجر ظهرا للركوب لم يصح العقد حتى يعرف جنس المركوب، لان الغرض يختلف باختلافه، ويعرف ذلك بالتعيين والوصف لانه يضبط بالصفة فجاز أن يعقد عليه بالتعيين والوصف كما قلنا في البيع، فإن كان في الجنس نوعان مختلفان في السير كالمهماج والقطوف من الخيل ففيه وجهان

(أحدهما)

يفتقر إلى ذكره لان سيرهما يختلف

(والثانى)

لا يفتقر لان التفاوت

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 21)

________________________________________

في جنس واحد يقل ولا يصح حتى يعرف الراكب، ولا يعرف ذلك إلا بالتعيين لانه يختلف بثقله وخفته وحركته وسكونه، ولا يضبط ذلك بالوصف فوجب تعيينه، ولا يصح حتى يعرف ما يركب به من سرج وغيره، لانه يختلف ذلك على المركوب والراكب.

فإن كان عماريه أو محملا ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) أنه يجوز العقد عليه بالوصف لانه يمكن وصفه فجاز العقد عليه بالصفة كالسرج والقتب، والثانى إن كانت من المحامل البغدادية الخفاف جاز العقد عليه بالصفة لانها لا تختلف وإن كانت من الخراسانيه الثقال لم يجز إلا بالتعيين لانها تختلف وتتفاوت

(والثالث) وهو المذهب انه لا يجوز إلا بالتعيين لانها تختلف بالضيق والسعه والثقل والخفه وذلك لا يضبط بالصفة فوجب تعيينه.

واختلف أصحابنا في المعاليق كالقدر والسطيحه، فمنهم من قال لا يجوز حتى يعرف قولا واحدا لانها تختلف فوجب العلم بها.

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِيهِ قَوْلَانِ:

(أَحَدُهُمَا)

لَا يَجُوزُ حتى يعرف لما ذكرناه

(والثانى)

يجوز وتحمل على ما جرت به العادة لانه تابع غير مقصود فلم تؤثر الجهالة فيه كالغطاء في الاجارة والحمل في البيع، وان كان السير في طريق فيه منازل معروفه جاز العقد عليه مطلقا لانه معلوم بالعرف فجاز العقد عليه مطلقا كالثمن في موضع فيه نقد متعارف، فان لم يكن فيه منازل معروفه لم يصح حتى يبين لانه مختلف لا عرف فيه فوجب بيانه كالثمن في موضع لا نقد فيه.

 

(فصل)

فان استأجر ظهر الحمل متاع صح العقد من غير ذكر جنس الظهر لانه لا غرض في معرفته ولا يصح حتى يعرف جنس المتاع انه حديد أو قطن لان ذلك يختلف على البهيمه ولا يصح حتى يعرف قدره لانه يختلف، فان كان موزونا ذكر وزنه، وان كان مكيلا ذكر كيله، فإن ذكر الوزن فهو أولى لانه أخصر وأبعد من الغرر، فان عرف بالمشاهدة جاز كما يجوز بيع الصبرة بالمشاهدة وان لم يعرف كيلها، فان شرط أن يحمل عليها ما شاء بطل العقد لانه دخل في الشرط ما يقتل البهيمه، وذلك لا يجوز فبطل به العقد.

فأما الظروف التى فيها المتاع فانه ان دخلت في وزن المتاع صح العقد لان

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 22)

________________________________________

الغرر قد زال بالوزن وإن لم تدخل في وزن المتاع نظرت فان كانت ظروفا معروفة كالغرائر الجبلية جاز العقد عليها من غير تعيين لانها لا تتفاوت، وإن كانت غير معروفة لم يجز حتى تعين لانها تختلف ولا تضبط بالصفة فوجب تعيينه.

(الشرح) المهملج.

قال في القاموس: والهملجة فارسي معرب، وشاة هملاج لا مخ فيها لهزالها، وأمر مهملج مذلل منقاد، والهملاج بالكسر من البراذين، والقطوف الدابة ضاق مشيها، قال زهير: بارزة الفقارة لم يخنها قطاف في الركاب ولا خلاء والعمارية نسبة إلى موضع باليمامة والمحمل كمجلس الهودج فكأن منها ما يصلح للركوب، ومنها ما يصلح للحمل، والمعاليق جميع معلاق، وهو ما يعلق بعروة بلا شد ولا ربط، والسطيحة إناء مسطح من الجلد.

أما الاحكام فإنه يشترط في إجارة الظهر للركوب عينا أو ذمة معرفة الراكب بمشاهدة أو وصف تام له لينتفي الغرر.

وذلك بنحو ضخامة أو نحافة، كما في الحاوى الصغير خلافا للبلقينى وغيره من اعتبار الوزن، إذ أن ثقل الوزن يخل بتوازنه أو بحشمته، وإنما اعتبروا في نحو المحمل الوصف مع الوزن لانه إذا عين لا يتغير، والراكب قد يتغير بسمن أو هزال، فلم يعتبر جمعهما فيه، وقيل لا يكفى الوصف وتتعين المشاهدة لانه ليس الخبر كالعيان، ولما يأتي من عدم الاكتفاء بوصف الرضيع، وكذا الحكم فيما معه من متاع، وفيما يركب عليه من محمل وسرج وأكاف إن فحش تفاوته ولم يكن هناك عرف مطرد أو كان ذلك تحت يد المكترى ولو بعارية فيشترط معرفته بمشاهدته أو وصفه التام، فإذا كان الراكب مجردا فلا حاجة إلى ذكر ما يركب عليه، ويركبه المؤجر على ما شاء من سرج يليق بالدابة ويناسب قوتها، فان كان هناك عرف مطرد فلا حاجة إلى ذكره أو النص عليه خلافا للاذرعي، ولا بد في نحو المحمل من وطاء وهو ما يجلس عليه.

وكذا غطاء إن شرط في العقد، فان كان ثمة عرف مطرد حمل الاطلاق عليه، ولو شرط في عقد الاجارة حمل المعاليق فسد العقد في الاصح لاختلاف الناس فيها قلة وكثرة

(والثانى)

يصح ويحمل على الوسط المعتاد،

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 23)

________________________________________

وإن لم يشرطه لم يستحق حملها في الاصح، هكذا أفاده النووي والرملى وغيرهما ويقاس على هذا ما ينبغى أن تكون عليه مؤاجرة السيارات للركوب لانتقال أو ارتحال، فقد تحددت في زماننا هذا حمولة السيارات الركوبية بعدد الراكبين وما يجوز حمله بالعرف المطرد من حقائب، وكذلك السيارات الحمولية تحددت حمولتها بالوزن ومقصد الشرع المحافظة على البهيمة من وجهين: حرمة الحياة وحرمة المال.

(فرع)

وأما الآلات والعربات ففيها حرمة يجب في الايجار أن يعرف المحمول وقدره وجنسه، فإذا كان في أو طبه وأجوله أو صناديق امتحنها وعرف ما فيها، فان كانت عارية فلا كلام وإن كانت مظروفة في أكياس أو معبأة وجب امتحانها ومعرفتها جنسا ووزنا.

قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَلَا يَجُوزُ من ذلك شئ على شئ مغيب لا يجوز حتى يرى الراكب والراكبين، وظرف المحمل والوطاء وكيف الظل إن شرطه لان ذلك يختلف فيتباين أو تكون الحمولة بوزن معلوم أو كيل معلوم أو ظرف ترى أو تكون إذا شرطت عرفت مثل غرائر الحلبه وما أشبه هذا.

وقال أيضا (وإذا تكارى الرجل الدابه إلى موضع فجاوزه إلى غيره فعليه كراء الموضع الذى تكاراها إليه الكراء الذى تكاراها به وعليه من حين تعدى إلى أن ردها كراء مثلها من ذلك الموضع، وإذا عطبت عليه لزمه الكراء إلى الموضع التى عطبت فيه وقيمتها.

 

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

فان استأجر ظهرا للسقي لم يصح العقد حتى يعرف الظهر، لانه لا يجوز الا على مدة، وذلك يختلف باختلاف الظهر فوجب العلم به على الاظهر

ويجوز أن يعرف ذلك بالتعيين والصفة، لانه يضبط بالصفة فجاز أن يعقد عليه بالتعيين والصفة، كما يجوز بيعه بالتعيين والصفة، ولا يصح حتى يعرف الدولاب لانه يختلف، ولا يعرف ذلك إلا بالتعيين، لانه لا يضبط بالصفة فوجب تعيينه.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 24)

________________________________________

(فصل)

وإن استأجر ظهرا للحرث لم يصح حتى يعرف الارض، لانه يختلف ذلك بصلابة الارض ورخاوتها، فإن كان على جربان لم يفتقر إلى العلم بالظهر لانه لا يختلف، وإن كان على مدة وقلنا إنه يصح لم يجز حتى يعرف الظهر الذى يحرث به، لان العمل يختلف باختلافه، ويعرف ذلك بالتعيين والصفه لما ذكرناه في السقى.

 

(فصل)

وان استأجر ظهرا للدياس لى يصح حتى يعرف الجنس الذى يداس لان العمل يختلف باختلافه، فان كان على زرع معين لم يفتقر إلى ذكر الحيوان الذى يداس به، لانه لا غرض في تعيينه، فان كان على مدة لم يصح حتى يعرف الحيوان الذى يداس به، لان العمل يختلف باختلافه

(فصل)

وإن استأجر جارحة للصيد لم يصح حتى يعرف جنس الجارحه لان الصيد يختلف باختلافه ويعرف ذلك بالتعيين والصفه لانه يضبط بالصفة ولا يصح حتى يعرف ما يرسله عليه من الصيد، لان لكل صنف من الصيد تأثيرا في اتعاب الجارحه.

(الشرح) يجوز اكتراء الدابه للاستقاء بالغرب وهو الدلو العظيمه ونحوه كالدولاب، فلا بد من معرفته لانه يختلف بكبره وصغره، ويقدر بكيله متريا أو قياسه أو وزنه، ولا يجوز تقدير ذلك بحوض في الارض أو حفرة فيها للجهالة ولتسرب الماء في باطن التربه

فإن قدره بعدد المرات احتاج إلى معرفة الموضع الذى يستقى منه والذى يذهب إليه، لان ذلك يختلف بالقرب والبعد والسهولة والحزونه، وان قدره بملء شئ معين احتاج إلى معرفته ومعرفة ما يستقى منه، هذا ما يقال في الاستيقاء.

ولما كانت البهيمة تؤجر للحرث والدراس والطحن غير ما مضى من الحمل والنقل فنقول: ان جواز كراء الدابة للحمل ثابت بالكتاب (وتحمل أثقالكم إلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إلَّا بِشِقِّ الانفس)

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 25)

________________________________________

أما كراء البقر للحرث فقد ثبت بالنص والعرف قال النبي صلى الله عليه وسلم (بينما رجل يسوق بقرة أراد أن يركبها فقالت: إنى لم أخلق لهذا، وإنما خلقت للحرث، رواه الشيخان، على أن هذا يحتاج إلى شرطين، معرفة الارض وتقدير العمل، فأما الارض فلا تعرف الا بالمشاهدة لاختلافها صلابة ورخاوة وسعة وضيقا وقد كانت الارض تقدر مساحتها بالجربان جمع جريب وهو ما يبلغ ستين ذراعا مربعا مهيا للزرع ولذلك كانوا يقولون فلان يملك ألف جريب وألف خريب ويعنون بالخريب غير المهيأ للزراعة ويحتاج إلى اصلاح حتى يكون جريبا، ومن هنا اختلف كراء الجريب عن الخريب لان الجريب تكون مستوية السطح خالية من الحجارة والحفر بعكس الخريب لذلك وجب رؤيتها لانها لا تعرف الا بالمشاهدة وأما تقدير العمل فيجوز بأحد شيئين اما بالمدة كيوم ويومين واما بالارض كهذه القطعة، أو من هذا المكان أو بالمساحة كقصبة أو قصبتين (والقصبة ٣٥٥ س م.

) والفدان ٣٣٣ وثلث قصبة.

أما الدراس أو الدياس والدياس جعلوها مصدرا لداس يدوس دوسا

ودياسا مثل الدراس فمن علماء اللغة من ينكر كون الدياس من كلام العرب، ومنهم من يقول: هو مجاز وكأنه مأخوذ من داس الارض دوسا إذا شدد وطأه عليها بقدمه، والمدوس الذى تداس به الحنطة بكسر الميم لانه آلة.

وأما المداس الذى ينتعله الانسان فإن صح سماعه فقياسه كسر الميم لانه آلة والا فالكسر أيضا حملا على النظائر الغالبة من العربية، ولا أدرى وجه صاحب القاموس المحيط في جعله زنة سحاب قلت: أما تأجير البقر للدراس أو غير البقر فأشبه الحرث في معرفة نوع الزرع المراد دياسه وهل بالنورج أم بدونه وعلى مدة ومعرفة الحيوان، لان الغرض يختلف باختلافه، فمن الحيوانات ما يكون نجس البول والروث فيختلط بالطعام فيحتاج إلى اختياره وتحديد نوعه وكذلك ادارة الرحى للطحن يفتقر إلى شيئين، معرفة الحجر بالمشاهدة، واما بصفة تعرف بها حالته من الثقل أو الخفة وتقدير العمل اما بالزمان كيوم ويومين ونوع المطحون فقد يكون عسير الطحن لصلابته.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 26)

________________________________________

(فرع)

إذا استأجر جارحة للصيد لم يصح حتى يعرف جنسها لانها إذا كانت الجارحة كلبا فلا يصح استئجاره كما صحح ذلك النووي، وحكى الرملي والشربينى منازعة النووي في هذا، وقال الاذرعى: المختار قول الغزالي، يعنى من حيث جواز إجارة الكلب المعلم للصيد.

أما الجوارح الاخرى كالبازي والعقاب والفهد فيجوز استئجارها قولا واحدا كما يجوز استئجار السنور لصيد الفأر وعلى هذا يصح استئجارها أعنى الجوارح من ذمى أو مجوسي ويجرى عليها حكم صيد المسلم بكلب النصراني واليهودى، إن قلنا بصحة استئجاره فإن صيده جائز.

أما الجوارح الاخرى فإنه يصح استئجارها من يهودى أو نصراني ويصح صيدها

قال العبدرى: وبه قال الفقهاء كافة.

وقال ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْحَكَمُ وَالزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو ثَوْرٍ وهو أصح الروايتين عن عطاء وَمِمَّنْ كَرِهَهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَالنَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ بْنُ راهويه، وقال أحمد: كلب النصراني واليهودى عندي أهون من المجوسى وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

 

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:

(فصل)

وان استأجر رجلا ليرعى له مدة لم يصح حتى يعرف جنس الحيوان: لان لكل جنس من الماشية تأثيرا في اتعاب الراعى.

ويجوز أن يعقد على جنس معين وعلى جنس في الذمة، فإن عقد على موصوف لم يصح حتى يذكر العدد، لان العمل يختلف باختلافه، ومن أصحابنا من قال: يجوز مطلقا ويحمل على ما جرت به العادة أن يرعاه الواحد من مائه أو أقل أو أكثر، والاول أظهر لان ذلك يختلف وليس فيه عرف واحد.

 

(فصل)

وان استأجر امرأة للرضاع لم يصح العقد حتى يعرف الصبى الذى عقد على ارضاعه، لانه يختلف الرضاع باختلافه، ولا يعرف ذلك الا بالتعيين، لانه لا يضبط بالصفة ولا يصح حتى يذكر موضع الرضاع لان الغرض يختلف باختلافه.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 27)

________________________________________

(فصل)

وان استأجر رجلا ليحفر له بئرا أو نهرا لم يصح العقد حتى يعرف الارض لان الحفر يختلف باختلافها ولا يصح حتى يذكر الطول والعرض والعمق، لان الغرض يختلف باختلافها، وان استأجر لبناء حائط لم يصح العقد حتى يذكر الطول والعرض وما يبنى به من الآجر واللبن والجص والطين، لان الاغراض تختلف باختلافها، وان استأجره لضرب اللبن لم يصح حتى يعرف

موضع الماء والتراب، ويذكر الطول والعرض والسمك والعدد، وعلى هذا جميع الاعمال التى يستأجر عليها.

وان كان فيما يختلف الغرض باختلافه، رجع فيه إلى أهل الخبره ليعقد على شرطه، كما إذا أراد أن يعقد النكاح، ولم يعرف شروط العقد رجع إلى من يعرفه ليعقد بشروطه، وان عجز عن ذلك فوضه إلى من يعرفه ليعقد بشرطه كما يوكل الاعمى في البيع والشراء من يشاهد المبيع.

 

(فصل)

وان استأجر رجلا ليلقنه سورة من القرآن لم يصح حتى يعرف السورة لان الغرض يختلف باختلافها، وان كان على تلاوة عشر آيات من القرآن لم يصح حتى يعينها لان آيات القرآن تختلف، فإن كان على عشر آيات من سورة معينة ففيه وجهان

(أحدهما)

لا يصح، لان الاعشار تختلف

(والثانى)

يصح، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ (جَاءَتْ امْرَأَةٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعرضت نفسها عليه، فقال لها: اجلسي بارك الله فيك، أما نحن فلا حاجة لنا فيك، ولكن تملكيننا أمرك؟ قالت: نعم، فنظر رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وجوه القوم، فدعا رجلا منهم فقال لها: انى أريد أن أزوجك هذا ان رضيت فقالت: ما رضيت لى يا رسول الله فقد رضيت، ثم قال للرجل: هل عندك من شئ؟ قَالَ لَا وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ.

قَالَ: ما تحفظ من القرآن؟ قال سورة البقرة والتى تليها، قال: قم فعلمها عشرين آية وهى امرأتك) وهل يفتقر إلى تعيين الحرف؟ فيه وجهان

(أحدهما)

لا يصح حتى يعين الحرف، لان الاغراض تختلف باختلاف الحرف

(والثانى)

لا يحتاج إلى تعيين الحرف، لان ما بين الاحرف من الاختلاف قليل.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 28)

________________________________________

(فصل)

وإن استأجر للحج والعمرة لم يصح حتى يذكر أنه إفراد أو قران أو تمتع، لان الاغراض تختلف باختلافها، فأما موضع الاحرام فقال في الام لا يجوز حتى يعين وقال في الاملاء: إذا استأجر أجيرا أحرم من الميقات ولم يشرط التعيين، واختلف أصحابنا فيه فقال أبو إسحاق المروزى: فيه قولان:

(أحدهما)

لا يجوز حتى يعين، لان الاحرام قد يكون من الميقات، وقد يكون من دويرة أهله، وقد يكون من غيرهما، فإذا أطلق صار العقد على مجهول فلم يصح

(والثانى)

أنه يجوز من غير تعيين ويحمل على ميقات الشرع، لان الميقات معلوم بالشرع فانصرف الاطلاق إليه كنقد البلد في البيع ومن أصحابنا من قال: إن كان الحج عن حى لم يجز حتى يعين، لانه يمكن الرجوع إلى معرفة غرضه، وإن كان عن ميت جاز من غير تعيين، لانه لا يمكن الرجوع إلى معرفة غرضه، وحمل القولين على هذه الحالين.

ومنهم من قال: إن كان للبلد ميقاتان لم يجز حتى يبين لانه ليس أحدهما بأولى من الآخر، فوجب بيانه كالثمن في موضع فيه نقدان.

وإن لم يكن له إلا ميقات واحد جاز من غير تعيين، كالثمن في موضع ليس فيه إلا نقد واحد، وحمل القولين على هذين الحالين، فإن ترك التعيين وقلنا إنه لا يصح فحج الاجير، انعقد الحج للمستأجر لانه فعله بإذنه مع فساد العقد فوقع له كما لو وكله وكالة فاسدة في بيع (الشرح) أوردنا في صدر هذا الباب آية استئجار شعيب لموسى، وقد روى أحمد والبخاري وابن ماجه أن النبي صلى الله عليه قال: ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم، فقال أصحابه وأنت؟ قال نعم.

كنت أرعاها على قراريط لاهل مكة، وقال سويد بن سعيد: يعنى كل شاة بقيراط.

وقال ابراهيم الحربى: قراريط اسم موضع، وقد صوب ابن الجوزى وابن ناصر التفسير الذى ذكره ابراهيم الحربى: لكن الذى رجح تفسير ابن سويد

أن أهل مكة لا يعرفون مكانا يقال له: قراريط وقد روى النسائي من حديث نصر بن حزن قال: افتخر أهل الابل والغنم فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بعث موسى وهو راعى غنم، وبعث داود

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 29)

________________________________________

وهو راعى غنم وبعثت وأنا راعى غنم أهلى بجياد، وفى الحديث دليل على جواز الاجارة على رعى الغنم، ويلحق بها في الجواز غيرها من الحيوان، وهل يصح أن يرعى قطيعا بغير عدد من الغنم، أو قطيعا بغير عدد من البقر قل أو كثر؟ قولان

(أحدهما)

وهو الاصح أن يذكر العدد وأن يكون الاجر مناسبا لقدر المنفعة والعمل

(والثانى)

إذا جرى عرف مطرد بأن يرعى القطيع من غير عدد صح عقده.

(فرع)

مذهب الشافعي رضى الله عنه على أنه يجوز استئجار الام لارضاع ولدها.

وقال أبو حنيفة: لا يجوز ما دامت في النكاح أو العدة اه.

ولا يجوز استئجار امرأة حرة منكوحة لرضاع أو غيره مما يؤدى إلى خلوة محرمة إلا بإذن زوجها على الاصح، ويؤخذ من قول الاذرعى أنه يجوز لها ذلك إذا كان زوجها غائبا فأجرت نفسها لعمل مباح لا خلوة فيه بأجنبى ينقضى أجله قبل قدومه، وقد اعترض الغزى على هذا بأن المرأة ومنافعها مستحقة لزوجها بعقد النكاح.

قال الرملي: وهذا الاعتراض ممنوع بأنه لا يستحقها، وانما يستحق المنفعة منها وهى متعذرة منه، ولو اختلفت الزوجة مع زوجها حول الاذن صدق الزوج ولا كلام.

على أن الاقيس على ظاهر المذهب أنه يصح لها ذلك على حد قول الاذرعى لانه لما جاز للزوج أن يستأجر زوجته لارضاع ولده ولو كان منها فان ذلك يفيد بمفهومه ملكها المنفعة، إذا تقرر هذا فهل يجوز أن يستأجر المرضعة بطعامها

وكسوتها؟ مذهب الشافعي على أن ذلك لا يجوز في الظئر ولا في غيره من أنواع الاجارات وقد اختلفت الرواية عن أحمد فيمن استأجر أجيرا بطعامه وكسوته أو جعل أجرا وشرط طعامه وكسوته فروى عنه جواز ذلك وهو مذهب مالك واسحاق وروى عن أبى بكر وعمر وأبى موسى أنهم استأجروا الاجراء بطعامهم وكسوتهم، وروى عن أحمد أن ذلك جائز في الظئر دون غيره لقوله تعالى (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) فأوجب لهن النفقة والكسوة

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 30)

________________________________________

على الرضاع، ولم يفرق بين المطلقة وغيرها، بل في الآية قرينة تدل على طلاقها لان الزوجة تجب نفقتها وكسوتها بالزوجية وإن لم ترضع، لان الله تعالى قال (وعلى الوارث مثل ذلك) والوارث ليس بزوج، ولان المنفعة في الحضانة والرضاع غير معلومة، فجاز أن يكون عوضها كذلك.

وروى عنه رواية ثالثة: لا يجوز ذلك بحال، لا في الظئر ولا في غيرها.

وبهذا قال الشافعي وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، لان ذلك يختلف اختلافا كثيرا متباينا فيكون مجهولا، والاجر من شرطه أن يكون معلوما.

إذا ثبت هذا فهل تدخل الحضانة في الرضاع أم لا؟ على وجهين

(أحدهما)

لا تدخل وهو قول أبى ثور وابن المنذر لان العقد لم يتناولها

(والثانى)

تدخل وهو قول أصحاب الرأى، لان العرف جار بأن المرضعة تحضن الصبى فحمل الاطلاق على ما جرى به العرف والعادة.

ويشترط لعقد الرضاعة أربعة شروط: ١ - أن تكون مدة الرضاع معلومة، لانه لا يمكن تقديره إلا بها، فإن السقى والعمل فيها يختلف.

٢ - معرفة الصبى بالمشاهدة، لان الرضاع يختلف باختلاف الصبى في كبره وصغره ونهمته وقناعته.

٣ - موضع الرضاع لانه يختلف فيشق عليها في بيته ويسهل عليها في بيتها

٤ - معرفة العوض وكونه معلوما كما سبق (فرع)

إذا استأجر عاملا يحفر له بئرا وحدد له مكان البئر وسعتها وأجره، أو استأجر عاملا يضرب له لبنا وهيأ له الماء والتبن والتراب والمكان الصالح اضرب اللبن، ثم انهارت البئر أو تلف اللبن بمطر أو داست عليه بهيمة فأتلفته فقد استحق العامل أجره، ولا ضمان عليه في البئر ولا في اللبن (فرع)

يجوز أن يأخذ الاجرة على تعليم القرآن أو سورة منه مع تعيينها أو قدر منه مع تعيينه وتحديده كما يجوز أن يأخذ الاجرة على تعليم الفقه والحديث ونحوهما ان كان محتاجا وهو وجه في المذهب، ولا يصح الاستئجار على القراءة على الموتى لنصه في الام حيث قال: إن القراءة لا تحصل له.

وقال الشربينى في المغنى: الاجارة للقرآن على القبر مدة معلومة أو قدرا معلوما

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 31)

________________________________________

جائزة للانتفاع بنزول الرحمة حيث يقرأ القرآن ويكون الميت كالحى الحاضر، سواء أعقب القرآن بالدعاء أم جعل قراءته له أم لا فتعود منفعة القرآن إلى الميت في ذلك، ولان الدعاء يلحقه وهو بعدها أقرب إلى الاجابة وأكثر بركة، ولانه إذا جعل أجرة الحاصل بقراءة للميت فهو دعاء بحصول الاجر فينتفع به.

فقول الشافعي رضى الله عنه أن القراءة لا تحصل له محمول على غير ذلك.

وقد أفتى الشهاب الرملي بذلك وأفاده ولده شمس الدين في نهاية المحتاج قلت: وقد أجمع أهل العلم على أن القارئ إذا قرأ ابتغاء المال وطلبا للنقود لا سيما في زماننا الذى عمت فيه حرفة القراءة، وصاروا يتقاولون على القراءة ويتزيدون كما يتزيد المتبذلون من أهل الغناء والفتنة فإنه لا ثواب له وقد يكون مأزورا آثما لانه لا يبتغى بالقرآن وجه الله، ولم يقف عند عجائبه فيحرك به قلبه، وكما يقول أبو حامد الغزالي رحمه الله: الموعظة زكاة نصاب الاتعاظ

ومن لا نصاب عنده لا زكاة عليه، ففاقد الاتعاظ بكتاب الله ليس عنده ما يمنحه غيره من الموعظة (فرع)

قال أصحابنا: أعمال الحج معروفة فإذا علمها المتعاقدان عند الاجارة صَحَّتْ الْإِجَارَةُ، وَإِنْ جَهِلَهَا أَحَدُهُمَا لَمْ تَصِحَّ بِلَا خِلَافٍ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ والبغوى وَالْمُتَوَلِّي، وَهَلْ يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ الْمِيقَاتِ الَّذِي يُحْرِمُ مِنْهُ الْأَجِيرُ؟ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ وَمُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ، وَنَصَّ فِي الْإِمْلَاءِ أَنَّهُ لا يشترط وللاصحاب أَرْبَعُ طُرُقٍ، أَصَحُّهَا وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَالْأَكْثَرُونَ، وَوَافَقَ الْمُصَنَّفُونَ عَلَى تَصْحِيحِهِ: فِيهِ قَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا لَا يُشْتَرَطُ، وَيُحْمَلُ عَلَى مِيقَاتِ تِلْكَ الْبَلْدَةِ فِي الْعَادَةِ الْغَالِبَةِ، لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَقَعُ عَلَى حَجٍّ شَرْعِيٍّ، وَالْحَجُّ الشَّرْعِيُّ لَهُ مِيقَاتٌ مَعْقُودٌ شَرْعًا وَغَيْرُهَا فَانْصَرَفَ الْإِطْلَاقُ إلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا يُقَرِّرَهُ الْمُتَعَاقِدَانِ وَمَا تَقَرَّرَ فِي الشَّرْعِ أَوْ الْعُرْفِ، كَمَا لَوْ بَاعَ بِثَمَنٍ مُطْلَقٍ فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي الْعُرْفِ، وَهُوَ النَّقْدُ الْغَالِبُ ويكون كما لو قَرَّرَاهُ.

وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى تَصْحِيحِ هَذَا الْقَوْلِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي تَعْلِيقِهِ وَالْمَحَامِلِيُّ وَالْبَنْدَنِيجِيّ والرافعي وآخرون.

والثانى: يُشْتَرَطُ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ قَدْ يَكُونُ مِنْ الْمِيقَاتِ وَفَوْقَهُ وَدُونَهُ، وَالْغَرَضُ يَخْتَلِفُ بِذَلِكَ فَوَجَبَ بَيَانُهُ

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 32)

________________________________________

والطريق الثاني: إن كان للبلد طريقان مختلفان إلى الميقات أو طريق يفضى إلى ميقاتين اشترط بيانه وإلا فلا.

والطريق الثالث: إنْ كَانَ الِاسْتِئْجَارُ عَنْ حَيٍّ اُشْتُرِطَ، وَإِنْ كان عن ميت فلا لانه قد يتعلق للحى غرض فيه وهذا الطريق هو الذى حكاه المصنف هنا وحكاه الشيخ أَبُو حَامِدٍ وَالْمَحَامِلِيُّ وَسَائِرُ الْعِرَاقِيِّينَ، وَضَعَّفَهُ الشَّيْخُ أبو حامد الاسفرايينى وآخرون، وهذا والذى قبله ليس بشئ عندهم ونقله إمام الحرمين.

والطريق الرابع: ما حكاه الدارمي من أنه يشترط قولا واحدا، وعلى هذا إن شرطاه فأهملاه فسدت الْإِجَارَةُ، لَكِنْ يَصِحُّ الْحَجُّ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ وَعَلَيْهِ أجرة المثل، أما تَعْيِينُ زَمَانِ الْإِحْرَامِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ بِلَا خِلَافٍ.

قالوا: وَإِنْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ اُشْتُرِطَ بِلَا خلاف بيان أنهما إفراد أو تمتع أو قران لاختلاف الغرض بذلك، هذا وقد نَقَلَ الْمُزَنِيّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ فِي الْمَنْثُورِ أَنَّهُ إذَا قَالَ الْمَعْضُوبُ: مَنْ حَجَّ عَنَى فَلَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَحَجَّ عَنْهُ إنْسَانٌ اسْتَحَقَّ الْمِائَةَ، قَالَ الْمُزَنِيّ: يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَحِقَّ أُجْرَةَ الْمِثْلِ، لِأَنَّ هَذَا إجَارَةٌ فَلَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ الْأَجْرِ، هَذَا كَلَامُ الشَّافِعِيِّ وَالْمُزَنِيِّ، وقد ذكر المصنف المسألة في باب الجعالة، وللاصحاب فيها ثلاثة أوجه (أصحها) صحة الحج عن المستأجر واستحقاق الاجير أجرة المثل، لِأَنَّهُ جَعَالَةٌ وَلَيْسَ بِإِجَارَةٍ وَالْجَعَالَةُ تَجُوزُ عَلَى عمل مجهول فوقوعها عن معلوم أولى، هذا وبقيه ما يتعلق بالاجارة عن الحج من انفراد أجير أو تعدد أجراء أو حصول الاجارة بمكة أو غيرها مفصل مبسوط في كتاب الحج من المجموع فاشدد به يديك وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

 

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:

(فصل)

ولا تصح الاجارة الا على أجرة معلومة لانه عقد يقصد به العوض، فلم يصح من غير ذكر العوض كالبيع، ويجوز اجارة المنافع من جنسها ومن غير جنسها: لان المنافع في الاجارة كالاعيان في البيع، ثم الاعيان يجوز بيع بعضها ببعض فكذلك المنافع.

 

(فصل)

ولا تجوز الا بعوض معلوم لم روى أبو سعيد الخدرى (رض)

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 33)

________________________________________

إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (من استأجر أجيرا فليعلمه أجره) ولانه عقد معاوضة فلم يجز بعوض مجهول كالبيع، وان عقد بمال جزاف نظرت، فإن كان

العقد على منفعة في الذمة ففيه قولان، لان اجارة المنفعة في الذمة كالسلم، وفى السلم على مال جزاف قولان، فكذلك في الاجارة، فإن كان العقد على منفعة معينه ففيه طريقان، من أصحابنا من قال يجوز قولا واحدا، لان اجارة العين كبيع العين، وفى بيع العين يجوز أن يكون العوض جزافا قولا واحدا، فكذلك في الاجارة، ومنهم من قال: فيه قولان

(أحدهما)

يجوز

(والثانى)

لا يجوز، لانه عقد على منتظر، وربما انفسخ فيحتاج إلى الرجوع إلى العوض، فكان في عوضه جزافا قولان كالسلم.

وان كانت الاجارة على منفعه معينه جاز بأجرة حالة ومؤجلة، لان اجارة العين كبيع العين، وبيع العين يصح بثمن حال ومؤجل، فكذلك الاجارة، فإن أطلق العقد وجبت الاجرة بالعقد، ويجب تسليمها بتسليم العين، لما روى أبو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (أعطوا الاجير أجره قبل أن يجف رشحه) .

ولان الاجارة كالبيع ثم في البيع يجب الثمن بنفس العقد ويجب تسليمه بتسليم العين، فكذلك في الاجارة، فإن استوفى المنفعة استقرت الاجرة لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَالَ ربكم عزوجل: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه خصمته، رجل أعطى بى ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يوفه أجره ولانه قبض المعقود عليه فاستقر عليه البدل كما لو قبض المبيع، فان سلم إليه العين التى وقع العقد على منفعتها ومضت مدة يمكن فيها الاستيفاء استقر البدل لان المعقود عليه تلف تحت يده فاستقر عليه البدل كالمبيع إذا تلف في يد المشترى فان عرض العين على المستأجر ومضى زمان يمكن فيه الاستيفاء استقرت الاجرة لان المنافع تلفت باختياره فاستقر عليه ضمانها كالمشترى إذا أتلف المبيع

في يد البائع.

فإن كان هذا في اجارة فاسدة استقر عليه أجرة المثل، لان الاجارة كالبيع

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 34)

________________________________________

والمنفعة كالعين، ثم البيع الفاسد كالصحيح في استقرار البدل، فكذلك في الاجارة فإن كان العقد على منفعة في الذمة لم يجز بأجره مؤجلة، لان إجارة ما في الذمة كالسلم، ولا يجوز السلم بثمن مؤجل، فكذلك الاجارة، ولا يجوز حتى يقبض العوض في المجلس كما لا يجوز في السلم، ومن أصحابنا من قال: إن كان العقد بلفظ السلم وجب قبض العوض في المجلس لانه سلم، وإن كان بلفظ الاجارة لم يجب لانه إجارة والاول أظهر، لان الحكم يتبع المعنى لا الاسم.

ومعناه معنى السلم فكان حكمه كحكمه، ولا تستقر الاجرة في هذه الاجارة إلا باستيفاء المنفعة، لان المعقود عليه في الذمة فلا يستقر بدله من غير استيفاء كالمسلم فيه: (الشرح) حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رواه أحمد ولفظه (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن استئجار الاجير حتى يبين له أجره، وعن النجش واللمس والقاء الحجر) قال في مجمع الزوائد: رجال أحمد رجال الصحيح الا أن ابراهيم النخعي لم يسمع من أبى سعيد فيما أحسب.

وأخرجه أيضا البيهقى وعبد الرزاق وإسحاق بن راهويه وأبو داود في المراسيل والنسائي في الزراعة غير مرفوع، ولفظ بعضهم (من استأجر أجيرا فليسلم له أجرته) وفى هذا الحديث دليل على وجوب بيان قدر الاجرة، وبه قال أبو يوسف ومحمد، وقال مالك وأحمد بن حنبل وابن شبرمة: لا يجب للعرف واستحسان المسلمين، قال صاحب البحر: لا نسلم بل الاجماع على خلافه اه.

ويؤيد قول المذهب القياس على ثمن المبيع.

اما حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَقُولُ الله

تعالى: ثلاثة انا خصمهم يوم القيامة، الحديث) فقد أخرجه أحمد والبخاري، وأخرجه أيضا البزار وفى اسناد البزار هشام بن زياد (أبو المقدام) وهو ضعيف قال ابن التين: هو سبحانه خصم لجميع الظالمين الا أنه أراد التشديد على هؤلاء بالتصريح، والخصم يطلق على الواحد والاثنين وعلى أكثر من ذلك.

وقال الهروي: الواحد بكسر أوله، قال الفراء في الطلاق الخصم على الواحد فاكثر هو قول الفصحاء، ويجوز في الاثنين خصمان، قلت: استعمل القرآن

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 35)

________________________________________

في الاثنين خصمان في قوله تعالى (خصمان بغى بعضنا على بعض) وهو ابلغ استعمال وافصحه.

قوله (من كنت خصمه خصمته) هذه الزيادة ليست في صحيح البخاري ولكنه أخرجها أحمد وابن حبان وابن خزيمة والاسماعيلي، قوله (باع حرا وأكل ثمنه) في رواية لابي داود (ورجل اعتبد محرره) وهو أعم في الفعل وأخص في المفعول.

قال الخطابى: اعتباد الحر يقع بأمرين، ان يعتقه ثم يكتم ذلك أو يجحده، والثانى أن يستخدمه كرها بعد العتق، والاول أشدهما.

قال في الفتح: الاول أشد لان فيه مع كتم الفعل أو جحده العمل بمقتضى ذلك من البيع وأكل الثمن فمن ثم كان الوعيد عليه أشد.

وفى قضاء الاجر عند توفية العمل خلاف بين العلماء فعند أبى حنيفة وأصحابه إنما تملك بالعقد فتتبعها أحكام الملك، وعند الشافعي واصحابه أنها تستحق بالعقد وهذا في الصحيحة، وأما الفاسدة فقال في البحر: لا تجب بالعقد إجماعا وتجب بالاستيفاء إجماعا.

والاجارة أصول في أنفسها تتنوع على وجهها، وهى كالبيع سواء بسواء، قال الشافعي رضى الله عنه: البيوع الصحيحة صنفان بيع عين يراها المشترى

والبائع، وبيع صفة مضمونة على البائع، وبيع ثالث وهو الرجل يبيع السلعة بعينها غائبة عن البائع والمشترى، غير مضمونة على البائع إن سلمت السلعة حتى يراها المشترى كان فيها بالخيار باعه إياها على صفة وكانت على تلك الصفة التى باعه إياها، أو مخالفة لتلك الصفة، لان بيع الصفات التى تلزم المشترى ما كان مضمونا على صاحبه، ولا يتم البيع في هذا حتى يرى المشترى السلعة فيرضاها ويتفرقان بعد البيع من مقامهما الذى رآه فيه، فحينئذ يتم البيع ويجب عليه الثمن كما يجب عليه الثمن في سلعة حاضرة اشتراها حتى يتفرقا بعد البيع عن تراض ولا يجوز أن تباع هذه السلعة بعينها إلى أجل من الآجال قريب ولا بعيد من قبل أنه إنما يلزم بالاجل ويجوز فيما حل لصاحبه، وأخذه مشتريه ولزمه بكل وجه اه.

ونقل السبكى في فتاويه عن القفال قوله: أما الاجارة على الذمة فيثبت فيها خيار المجلس لا محالة بناء على أنها ملحقه بالسلم حتى يجب فيها قبض البدل في المجلس

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 36)

________________________________________

وقال: أما الرجل يؤاجر نفسه فالاجارة تجوز معينا، وفى الذمة، فإن أجره معينا فلا بد أن تكون المنفعة معلومة بأحد أمرين بتقدير العمل أو المدة، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

 

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:

(فصل)

وما عقد من الاجارة على منفعة موصوفة في الذمة يجوز حالا ومؤجلا في الذمة كالسلم، والسلم يجوز حالا ومؤجلا، فكذلك الاجارة في الذمة وإن استاجر منفعة في الذمة وأطلق وجبت المنفعة حالة، كما إذا أسلم في شئ واطلق وجب حالا، فان استأجر رجلا للحج في الذمة لزمه الحج من سنته، فإن أخره عن السنة نظرت، فان كانت الاجارة عن حى كان له أن يفسخ، لان حقه تأخر، وله في الفسخ فائدة، وهو أن يتصرف في الاجرة، فإن كانت عن ميت

لم يفسخ، لانه لا يمكن التصرف في الاجرة إذا فسخ العقد، ولابد من استئجار غيره في السنة الثانية، فلم يكن للفسخ وجه، وما عقد على منفعة معينة لا يجوز إلا حالا، فإن كان على مدة لم يجز إلا على مدة يتصل ابتداؤها بالعقد، وإن كان على عمل معين لم يجز الا في الوقت الذى يمكن الشروع في العمل لان إجارة العين كبيع العين وبيع العين لا يجوز الا على ما يمكن الشروع في قبضها فكذلك الْإِجَارَةِ فَإِنْ اسْتَأْجَرَ مَنْ يَحُجُّ لَمْ يَجُزْ إلَّا فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ التَّوَجُّهِ، فَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ قَرِيبٍ لَمْ يَجُزْ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، لِأَنَّهُ يَتَأَخَّرُ اسْتِيفَاءُ المعقود عليه عن حال العقد، وإن كان فِي مَوْضِعٍ بَعِيدٍ لَا يُدْرِكُ الْحَجَّ إلَّا أَنْ يَسِيرَ قَبْلَ أَشْهُرِهِ لَمْ يَسْتَأْجِرْ إلَّا فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَتَوَجَّهُ بَعْدَهُ لِأَنَّهُ وَقْتُ الشروع في الاستيفاء، فإن قال أجرتك: هذه الدار شهرا لم يصح.

لانه ترك تعيين المعقود عليه في عقد شرط فيه التعيين، فبطل كما لو قال: بعتك عبدا، فإن أجر دارا من رجل شهرا من وقت العقد ثم أجرها منه الشهر الذى بعده قبل انقضاء الشهر الاول، ففيه وجهان.

 

(أحدهما)

لا يصح، لانه اجارة منفعة معينة على مدة متأخرة عن العقد، فأشبه إذا أجرها من غيره.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 37)

________________________________________

(والثانى)

أنه يصح، وهو المنصوص، لانه ليس لغيره يد تحول بينه وبين ما استاجره.

ولان أحد شهريه لا ينفصل عن الآخر، فأشبه إذا جمع بينهما في العقد.

(الشرح) قال المحاملى في المجموع: لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ فِي إجَارَةِ الْعَيْنِ إلا في الوقت الذى يتمكن فيه.

وقال النووي: إن كان في موضع قريب لم يجز استئجاره قبل أشهر الحج.

وإن كان في موضع بعيد لم يستأجره إلَّا فِي الْوَقْتِ

الَّذِي يَتَوَجَّهُ بَعْدَهُ لِأَنَّهُ وقت الشروع في الاستيفاء.

وقال أبو الطيب لا يمكن إجارة إلَّا فِي وَقْتٍ يُمْكِنُ الْعَمَلُ فِيهِ أَوْ يحتاج فيه إلى السبب.

اه ومن هنا إذَا لَمْ يَشْرُعْ فِي الْحَجِّ فِي السَّنَةِ الْأُولَى لِعُذْرٍ أَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ، فَإِنْ كَانَتْ الاجارة على العين انفسخت لفوات موضوع العقد قولا واحدا، وإن كانت في الذمة، فإن لم تتعين السنة فهو كتعيين السنة الاولى، وعند بعض اصحابنا يجوز التأخر عن السنة الاولى ويثبت الخيار للمستأجر، وإن عينا السنة وتأخر عنها فطريقان أَصَحُّهُمَا: عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا لَوْ انْقَطَعَ الْمُسْلَمُ فيه عند حلول الاجل (أ) لا ينفسخ العقد وهو الاظهر (ب) يَنْفَسِخُ قَوْلًا وَاحِدًا، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هنا.

وإن كان الاستئجار عن ميت فلا خيار للمستأجر، وهذا هو رأى المصنف وأصحابنا العراقيين، وقد قال إمام الحرمين: وفيما ذكروه نظر لانه لا يمنع أن يثبت للورثة الخيار ويستردون الاجرة بالفسخ، وهذا استدراك على المصنف يجعل للورثة الحق في أن يبذلوا الاجرة لاجير آخر، وهذا أجدر بحصول المقصود وقد تابع الغزالي شيخه على هذا.

وقال البغوي وآخرون بوجوب مراعاة الولى المصلحة في ذلك، فإن رأى الفسخ لخوف إفلاس الاجير أو هربه وإلا تركه وضمن، وصحح الرافعى هذا وحمل الرافعى قول المصنف وأصحابه من العراقيين على أن الْمَيِّتُ قَدْ أَوْصَى بِأَنْ يَحُجَّ عَنْهُ فُلَانٌ فتكون الوصية مستحقة الصرف إليه.

وقال أبو إسحاق المروزى: للمستأجر أَنْ يَرْفَعَ الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي لِيَفْسَخَ الْعَقْدَ

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 38)

________________________________________

إن كانت المصلحة تقتضيه.

قال الرافعى: فإن نَزَلَ مَا ذَكَرُوهُ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ ارْتَفَعَ الخلاف، وإن على الثاني هان امره.

قوله (لانه اجارة منفعة معينة على مدة متأخرة) قال النووي في المنهاج: ولا تجوز اجارة عين لمنفعة مستقبلة.

اه وذلك كإجارة هذه الدار السنة المستقبلة أو سنة أولها من غد، وكذا ان قال أولها من أمس، وكإجارة أرض مزروعة لا يمكن تفريغها الا بعد مدة لمثلها أجرة، وذلك كما لو باعه عينا على ان يسلمها له بعد ساعة بخلاف اجارة الذمة كما مر، ولو قال وقد عقد آخر النهار: اولها يوم تاريخه لم يضر لان القرينة ظاهرة في أن المراد باليوم الوقت أو في التعبير باليوم عن بعضه، ويستثنى من المنع في المستقبلة صور، كما لو أجره ليلا ليعمل نهارا.

وهذا عرف شائع في ديارنا ابان الحصاد وجنى القطن ونقاوة الدودة وشتل الارز وتعفير الطماطم بالكبريت قبل جفاف الندى.

ومثله اجارة دار بغير بلد المتعاقدين، كمن يستأجر عشة برأس البر ليصطاف فيها فأجرها قبل الصيف لان استيفاء العقد لا يكون الا صيفا، وإذا لم يؤجرها فاته الانتفاع بمقصوده.

فلو آجر الشهر الثاني لمستأجر الشهر الاول أو السنة الثانية لمستأجر السنة الاولى قبل انقضائها جاز في الاصح لاتصال المدتين مع اتحاد المستأجر، كما لو آخر منه السنتين في عقد، ولا نظر إلى احتمال انفساخ العقد الاول لان الاصل عدمه، فان وجد ذلك لم يقدح في الثاني.

(فرع)

في جواز الوارث ما آجره الميت من المستأجر تردد.

أفاد شمس الدين الرملي أن الاقرب منه الجواز لانه نائبه.

وقال الزركشي: أنه الظاهر، وهذا إذا لم يحصل فصل بين السنين، والا فلا يصح، وهذا يشمل الطلق والوقف، نعم لو شرط الواقف أن لا يؤجر الوقف أكثر من ثلاث سنين فأجره الناظر ثلاثا في عقد آخر قبل مضى المدة فالمعتمد كما افتى به ابن الصلاح ووافقه السبكى والاذرعى وغيرهما عدم صحة

العقد الثاني.

وان قلنا بصحة اجارة الزمان القابل من المستأجر اتباعا لشرط الواقف، لان المدتين المتصلتين في العقدين في معنى العقد الواحد.

وهذا بعينه

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 39)

________________________________________

يقتضى المنع في هذه الصورة لوقوعه زائدا على ما شرطه الواقف، وان خالفه ابن الاستاذ وقال: ينبغى ان يصح نظرا إلى ظاهر اللفظ.

(فرع)

مذهبنا انه لا تصح اجارة المسلم للجهاد في سبيل الله لحرب أعداء الدين، لان الجهاد فرض عليه ما دام مستطيعا، ولانه إذا حضر الصف تعين عليه القتال فريضة، ويصح للامام ان يستأجر غير المسلمين لقتال غير المسلمين من الكفار.

ولا يصح استئجار المسلم لعبادة تحتاج إلى نية الا الحج وتفرقة الزكاة أو تعليم قرآن، وتصح الاجارة لتجهيز ميت ودفنه، وتصح الاجارة للصوم عن الميت، وتصح لذبح الهدى والاضاحي ونحوها.

ويصح الاستئجار لشعار غير فرض كالاذان.

قال الشربينى في المغنى: ولا يصح الاستئجار للامامة ولو نافلة كالتراويح لان فادتها من تحصيل فضيلة الجماعة لا تحصل للمستأجر بل للاجير، ويصح استئجار بيت ليتخذه مصلى، وصورته كما قال صاحب الانتصار ان يستأجره للصلاة، اما إذا استأجره ليجعله مسجدا فلا يصح بلا خلاف، ولا يصح الاستئجار لِزِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

قال الرملي وغيره: فزيارة قبر غيره أولى.

هكذا افاده الخطيب الشربينى وشمس الدين الرملي الشبراملسى في شروحهم لمنهاج النووي، وعزا الرملي إلى الماوردى هذا ووافقه عليه.

وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:

(فصل)

فإن اكرى ظهرا من رجلين يتعاقبان عليه أو اكترى من رجل عقبة ليركب في بعض الطريق دون بعض جاز.

وقال المزني: لا يجوز اكتراء

العقبة الا مضمونا لانه يتأخر حق احدهما عن العقد فلم يجز، كما لو اكراه ظهرا في مدة تتأخر عن العقد، والمذهب الاول، لان استحقاق الاستيفاء مقارن للعقد، وانما يتأخر عن القسمة وذلك لا يمنع صحة العقد، كما لو باع من رجلين صبرة فانه يصح، وان تأخر حق أحدهما عند القسمة، فان كان ذلك في طريق فيه عادة في الركوب والنزول، جاز العقد عليه مطلقا، وحملا في الركوب والنزول على العقادة لانه معلوم بالعادة.

فحمل الاصلاق عليه كالنقد المعروف

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 40)

________________________________________

في البيع، وإن لم يكن فيه عادة لم يصح حتى يبين مقدار ما يركب كل واحد منهما لانه غير معلوم بالعادة، فوجب بيانه كالثمن في موضع لا نقد فيه، فان اختلفا في البادئ في الركوب أقرع بينهما، فمن خرجت عليه القرعة قدم لانهما تساويا في الملك فقدم بالقرعة.

(الشرح) التعاقب التناوب، فينزل هذا نوبة وهذا نوبة.

وفى الحديث (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكه بالنهار) والعقب بضم العين جمع عقبة، أي نوبة قال الشافعي رضى الله عنه: فان تكارى منه لعبده فأراد أن يركب الليل دون النهار بالاميال، أو أراد ذلك به الجمال فليس ذلك لواحد منهما، ويركب على ما يعرف الناس العقبة، ثم ينزل فيمشي بقدر ما يركب، ثم يركب بقدر ما مشى، فيفدحه ولا الركوب فيضر بالبعير اه.

ويفهم من كلامه ان القصد من عقد الاجارة تحقيق المنفعة للمستأجر وعدم المضارة بالبهيم لحرمته.

قال النووي رضى الله عنه (ويجوز كراء العقب في الاصح) وبيان ذلك ان يؤجر دابة رجلا ليركبها بعض الطريق ويمشى بعضها أو يركبه المالك تناوبا

أو يؤجرها رجلين ليركب ذا أياما وذا أياما كذلك تناوبا، أو يقول: آجرتك نصفها لمكان كذا أو كلها لتركبها نصف الطريق فيصح كبيع المشاع، ويبين البعضين في الصورتين كنصف أو ربع ما لم يكن ثم عادة معروفه مضبوطة بالزمن أو المسافة ثم يقتسمان بالتراضى، فإذا تنازعا أيهما يبدأ أقرع بينهما، لانهما يملكان المنفعة معا، ويغتفر التأجير الواقع لضرورة القسمة.

نعم شرط الصحه في الاولى تقدم ركوب المستأجر، وإلا بطلت لتعلقها حينئذ بزمن مستقبل، ومقابل الاصح في قول النووي أوجه أصحها المنع لانها إجارة أزمان متقطعه.

وفى الروضة أنه ليس لاحدهما أن يطلب المشى ثلاثا والركوب ثلاثا للمشقه.

اه

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 41)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

وما عقد من الاجارة على مدة لا يجوز فيه شرط الخيار، لان الخيار يمنع من التصرف، فان حسب ذلك على المكرى زدنا عليه المدة، وإن حسب على المكترى نقصنا من المدة وهل يثبت فيه خيار المجلس؟ فيه وجهان

(أحدهما)

لا يثبت لما ذكرناه من النقصان والزيادة في خيار الشرط.

 

(والثانى)

يثبت لانه قدر يسير، ولكل واحد منهما إسقاطه، وإن كانت الاجارة على عمل معين ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) لا يثبت فيه الخياران، لانه عقد على غرر فلا يضاف إليه غرر الخيار

(والثانى)

يثبت فيه الخياران، لان المنفعة المعينة كالعين في البيع، ثم العين المعينه يثبت فيها الخياران فكذلك المنفعة (والثالث) يثبت فيه خيار المجلس دون خيار الشرط، لانه عقد على منتظر فيثبت فيه خيار المجلس دون خيار الشرط كالسلم.

وإن كانت الاجارة على منفعه في الذمه ففيه وجهان (احدهما) لا يثبت فيه

الخياران، لانه عقد على غرر فلا يضاف إليه غرر الخيار

(والثانى)

يثبت فيه خيار المجلس دون خيار الشرط، لان الاجارة في الذمة كالسلم، وفى السلم يثبت خيار المجلس دون خيار الشرط، فكذلك في الاجارة.

 

(فصل)

وإذا تم العقد لزم ولم يملك واحد منهما ان ينفرد بفسخه من غير عيب لان الاجارة كالبيع، ثم البيع إذا تم لزم فكذلك الاجارة وبالله التوفيق (الشرح) مذهبنا أنه لا خيار بعد لزوم العقد.

وقال أبو حنيفة: يجوز للمستأجر فسخ الاجارة بالاعذار الظاهرة مع السلامه من العيوب، ولا يجوز للمؤجر أن يفسخ بالاعذار، مثل أن يستأجر دارا ليسكنها ثم يريد النقلة عن البلد أو يستأجر حرز لمتاعه ثم يريد بيعه، أو يستأجر من يطحن له برا ثم يريد بذره.

إلى ما أشبه ذلك من الاعذار، فيجعل له بها فسخ الاجارة للعذر.

ألا ترى أن من استؤجر لقلع فدانين من الحطب جاز للمستأجر فسخ الاجارة للعذر الطارئ ولم يجبر على قلع فدانيه، وكذا كل عذر.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 42)

________________________________________

ودليلنا على أبى حنيفة قوله تعالى (يا ايها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) فكان عموم هذا الامر يوجب الوفاء بكل عقد ما لم يقم دليل بتخصيصه، ولان كل عقد لزم العاقدين مع سلامة الاحوال لزمهما ما لم يحدث بالعوضين نقص كالبيع، ولان كل عقد لزم العاقد عند ارتفاع العذر لم يحدث له خيار بحدوث عذر كالزوج، ولان كل سبب لا يملك المؤجر الفسخ لم يملك المستأجر به الفسخ كالاجرة لا يكون حدوث الزيادة فيها موجبا لفسخ المؤجر كما لم يكن حدوث النقصان فيها موجبا لفسخ المستأجر، لان نقصانها في حق المستأجر كزيادتها في حق المؤجر ولانه عقد إجارة فلم يجز فسخه بعذر كالمؤجر، ولان العقود نوعان، لازمة فلا يجوز فسخها بعذر كالبيع، وغير لازمة فيجوز فسخها بغير عذر كالقراض.

فلما لم يكن عقد الاجارة ملحقا بغير اللازم في جواز فسخه بغير عذر وجب أن يكون ملحقا باللازم في إبطال فسخه بعذر.

فأما الجواب عن قياسه على الوكالة فهو أن الوكالة غير لازمة يجوز فسخها بعذر وغير عذر، وليس كذلك الاجارة، وأما استدلاله بأن للاعذار تأثيرا في عقود الاجارات كالضرس المستأجر على قلعه إذا برئ، فالجواب عنه هو أن من ملك منفعة بعقد إجارة فقد استحقها، وليس يجب عليه استيفاؤها، ألا ترى أن من استأجر سكنى دار فله أن يسكنها، ولا يجبر على سكناها، فإن مكن من سكناها فلم يسكن فعليه الاجرة، هذا أصل مقرر في الاجارة، وإذا كان كذلك - فإن كان الضرس على حال مرضه وألمه - فقلعه مباح، وللمستأجر أن يأخذ الاجير بقلعه إن شاء، فإن أبى المستأجر أن يقعله من ألمه لم يجبر عليه.

وقيل له: قد بذل لك الاجير القلع وأنت ممتنع، فإذا مضت مدة يمكن فيها قلعه فقد استحق أجرته كما لو مضت مدة السكنى، وان برئ الضرس في الحال قبل إمكان القلع بطلت الاجارة، لان قلعه قد حرم، وعقد الاجارة انما يتناول مباحا لا محظورا، فصار محل العمل معدوما، فلذلك بطلت الاجارة كما لو استأجر لخياطة ثوب فلف، إذ لا فرق بين تعذر العمل بالتلف وبين تعذره بالحظر.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 43)

________________________________________

فإذا تقرر أن عقد الاجارة من العقود اللازمة، وأن فسخه بالعذر غير جائز فلا يجوز اشتراط الثلاث فيه، وقال أبو حنيفة: يجوز اشتراط الخيار فيه كما يجوز في البيع لانهما معا من عقود المعاوضات.

ودليلنا: هو ان ما لزم من عقود المنافع لم يصح اشتراط الخيار فيه كالنكاح ولان اشتراط الثلاثة يتضمن اتلاف بعض المعقود عليه فيما ليس متابع للمعقود

عليه مع بقاء العقد في جميعه فلم يصح، كما لو شرط في ابتياع جوادين أنه ان تلف أحدهما في يد البائع لم يبطل البيع.

ولان المعقود إذا لم يبق جميعه في مدة الخيار لم يصح اشتراط الخيار قياسا على بيع الطعام الرطب.

فإذا صح ان خيار الشرط لا يدخله فقد اختلف أصحابنا هل يدخله خيار المجلس ام لا؟ على وجهين.

(احدهما) يدخله كالبيع لكونهما عقدى معاوضة.

فعلى هذا ان أخرها المؤجر من غير المستأجر في خيار المجلس صحت الاجارة الثانية وكان ذلك فسخا للاجارة الاولى.

هكذا أفاده الماوردى.

وقال بعض أصحابنا: تفسخ الاجارة الاولى ولا تصح الاجارة الثانية لتقدم الفسخ.

لانه لا يصير الفعل الواحد فسخا وعقدا لتنافيهما.

ولهذا القول وجه فإن كان المذهب هو ان استقرار العقد الثاني يوجب فسخ العقد الاول بالتأهب الثاني.

وعلى هذا الوجه لو أخره المستأجر كانت اجارته باطلة سواء قبضه أو لم يقبضه.

لان خيار المؤجر يمنع من امضاء المستأجر.

وعلى هذا الوجه لو افترقا عن تراض لم يكن للمستأجر أن يؤجر قبل قبضه كما ليس للمشترى بيع ما لم يقبضه (والوجه الثاني) ان خيار المجلس لا يدخله.

ويصير العقد بالبذل والقبول لازما.

لان خيار المجلس يفوت بعض المدة فاشبه خيار الشرط.

فعلى هذا لو أجره المؤجر قبل الافتراق أو بعده لم يجز.

ولو آجره المستأجر.

فان كان بعد القبض جاز.

وان كان قبله؟ فعلى وجهين.

 

(أحدهما)

يجوز لمفارقته البيع في الخيار ففارقه في القبض.

(الوجه الثاني) لا يجوز لكون المنفعة مضمونه على المستأجر فأشبه ضمان

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 44)

________________________________________

المبيع على البائع وان فارق البيع في حكم الخيار وهذان الوجهان في اجارة ما لم يقبض مبنى

على اختلاف اصحابنا في عقد الاجارة هل تناول الدار المؤاجرة لاستيفاء المنفعة منها أو تناول المنفعة؟ فقال أبو إسحاق المروزى: عقد الاجارة انما تناول الدار الموجودة، لان المنافع غير مخلوقة، فعلى هذا يمنع من إجارتها قبل القبض كما يمنع من البيع.

(والوجه الثاني) وهو الاكثر من أصحابنا أن العقد إنما تناول المنفعة دون الرقبة لان العوض في مقابلتها، ولا يصح أن يتوجه العقد إلى ما لم يقابله العوض وتصير المنافع بتسليم الرقبة مقبوضة حكما، وإن لم يكن القبض مستقرا إلا بمضي المدة فعلى، هذا تجوز إجارتها قبل قبضها.

وقال النووي: لا تنفسخ الاجارة بعذر كتعذر وقود حمام وسفر ومرض مستأجر دابة لسفر، ولو استأجر أرضا لزراعه فزرع فهلك الزرع بجائحه فليس له الفسخ، ولا حط شئ من الاجرة، وتنفسخ بموت الدابه والاجير المعينين في المستقبل لا الماضي في الاظهر، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

 

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:

 

(بَابُ مَا يلزم المتكاريين وما يجوز لهما) يجب على المكرى ما يحتاج إليه المكترى للتمكين من الانتفاع كمفتاح الدار وزمام الجمل والبرة التى في أنفه والحزام والقتب والسرج واللجام للفرس لان التمكين عليه ولا يحصل التمكين إلا بذلك، فان تلف شئ منه في يد المكترى لم يضمنه كما لا يضمن العين المستأجرة وعلى المكرى بدله لان التمكين مستحق عليه إلى أن يستوفى المستأجر المنفعة وما يحتاج إليه لكمال الانتفاع كالدلو والحبل والمحمل والغطاء فهو على المكترى، لان ذلك يراد لكمال الانتفاع، واختلف أصحابنا فيما يشد به أحد المحملين إلى الآخر، فمنهم من قال: هو على المكرى لانه من آلة التمكين، فكان على المكرى، ومنهم من قال: هو على المكترى

لانه بمنزلة تأليف المحمل وضم بعضه إلى بعض.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 45)

________________________________________

(فصل)

وعلى المكرى إشالة المحمل وحطه وسوق الظهر وقوده، لان العادة أنه يتولاه المكرى فحمل العقد عليه، وعليه أن ينزل الراكب للطهارة وصلاة الفرض لانه لا يمكن ذلك على الظهر، ولا يجب ذلك للاكل وصلاة النفل، لانه يمكن فعله على الظهر وعليه أن يبرك الجمل للمرأة والمريض والشيخ الضعيف، لان ذلك من مقتضى التمكين من الانتفاع، فكان عليه فأما أجرة الدليل فينظر فيه فإن كانت الاجارة على تحصيل الراكب فهو على المكرى لان ذلك من مؤن التحصيل، وإن كانت الاجارة على ظهر بعينه فهو على المكترى لان الذى يجب على المكرى تسليم الظهر وقد فعل، وعلى المكرى تسليم الدار فارغة الحش، لانه من مقتضى التمكين، فإن امتلا في يد المكترى ففى كسحه وجهان:

(أحدهما)

أنه على المكرى لانه من مقتضى التمكين فكان عليه

(والثانى)

أنه على المكترى لانه حصل بفعله فكان تنقيته عليه كتنظيف الدار من القمامة وعلى المكرى إصلاح ما تهدم من الدار وإبدال ما تكسر من الخشب، لان ذلك من مقتضى التمكين فكان عليه.

واختلف أصحابنا في المستأجرة على الرضاع هل يلزمها الحضانة وغسل الخرق؟ فمنهم من قال يلزمها لان الحضانة تابعة للرضاع، فاستحقت بالعقد على الرضاع ومنهم من قال لا يلزمها لانهما منفعتان مقصودتان تنفرد إحداهما عن الاخرى فلا تلزم بالعقد على إحداهما الاخرى وعليها أن تأكل وتشرب ما يدر به اللبن ويصلح به، وللمستأجر أن يطالبها بذلك لانه من مقتضى التمكين من الرضاع، وفى تركه إضرار بالصبى

 

(فصل)

وعلى المكرى علف الظهر وسقيه لان ذلك من مقتضى التمكين فكان عليه، فان هرب الجمال وترك الجمال فللمستأجر أن يرفع الامر إلى الحاكم ليحكم في مال الجمال بالعلف لان ذلك مستحق عليه فجاز أن يتوصل بالحكم إليه فإن أنفق المستأجر ولم يستأذن الحاكم لم يرجع لانه متطوع، وإن رفع الامر الحاكم ولم يكن للجمال مال اقترض عليه، فإن اقترض من المستأجر وقبضه منه

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 46)

________________________________________

ثم دفعه إليه لينفق جاز، وان لم يقبض منه ولكنه أذن له في الانفاق عليها قرضا على الجمال ففيه قولان.

 

(أحدهما)

لا يجوز لانه إذا أنفق احتجنا أن يقبل قوله في استحقاق حق له على غيره

(والثانى)

يجوز لانه موضع ضرورة، لانه لا بد للجمال من علف وليس ههنا من ينفق غيره، فإن أذن له وأنفق ثم اختلفا في قدر ما أنفق فان كان ما يدعيه زيادة على المعروف لم يلتفت إليه لانه ان كان كاذبا فلا حق له وان كان صادقا فهو متطوع بالزيادة فلم تصح الدعوى، وإن كان ما يدعيه هو المعروف فالقول قوله لانه مؤتمن في الانفاق فقبل قوله فيه، فان لم يكن حاكم فأنفق ولم يشهد لم يرجع لانه متطوع، وإن أشهد فهل يرجع؟ فيه وجهان

(أحدهما)

لا يرجع لانه يثبت حقا لنفسه على غيره من غير اذن ولا حاكم.

 

(والثانى)

يرجع لانه حق على غائب تعذر استيفاؤه منه فجاز أن يتوصل إليه بنفسه، كما لو كان له على رجل دين لا يقدر على أخذه منه، فان لم يجد من يشهد أنفق.

وفى الرجوع وجهان

(أحدهما)

لا يرجع، لما ذكرناه فيه إذا أشهد،

(والثانى)

يرجع، لان ترك الجمال مع العلم أنه لا بد لها من العلف إذن في الانفاق.

(الشرح) قوله (برة) محذوفة اللام، هي حلقة تجعل في أنف البعير تكون

من النحاس ونحوه، وأبريت البعير جعلت له برة، وقوله (القماش) وهو ما على وجه الارض من فتات الاشياء، حتى يقال لرذالة الناس قماش.

وما أعطاني إلا قماشا، أي أردأ ما وجد، أفاده في القاموس.

وقوله في ترجمة الباب (ما يلزم المتكاريين) أي ما يتعين لدفع الخيار، فعلى المكرى تسليم مفتاح ضبة الدار إلى المكترى لتوقف الانتفاع عليه، وهو أمانة بيده، فو تلف ولو بتقصير فعلى المكرى تجديده، فان امتنع لم يجبر ولم يأثم وينبنى على ذلك سؤال: هل تصح إجارة دار لا باب لها؟ ففى هذه الصورة نظر وقد تتوجه الصحه إن أمكن الانتفاع بها بلا باب، كأن أمكن التسلق من الجدار، وعلى القول

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 47)

________________________________________

بالصحة هل يثبت الخيار للجاهل، كأن رآها قبل سد بابها ثم استأجرها اعتمادا على الرؤية السابقة؟ قلنا يثبت له الخيار وجها واحدا.

فأما القفل فلا يجب تسليمه فضلا عن مفتاحه لانه منقول وليس بتابع، كما أن عليه من أسباب التمكين مبنيا على أصل المذهب إضاءة المدخل واستكمال المرافق الصحيه، فإن لم يفعل لم يجبر، وكان المكترى بالخيار والمستأجر عليه كنس السلم والفناء لان ذلك ميسور لَهُ.

قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي كراء الابل والدواب من الام: وعلى المكرى أن يركب المرأة البعير باركا وتنزل عنه باركا، لان ذلك ركوب النساء.

اما الرجال فيركبون على الاغلب من ركوب الناس، وعليه أن ينزله للصلوات وينتظر حتى يصليها غير معجل له ولما لا بد له منه كالوضوء، وليس عليه أن ينتظره لغير ما لابد له منه.

قال وليس للجمال إذا كانت القرى هي المنازل أن يتعداها إن أراد الكلا، ولا للمكترى إذا أراد عزلة الناس، وكذلك إن اختلفا

في الساعة التى يسيران فيها، فان أراد الجمال أو المكترى ذلك في حر شديد نظر إلى مسير الناس بقدر المرحلة التى يريدان وقال الشافعي رضى الله عنه: وعلف الدواب والابل على الجمال أو مالك الدواب، فان تغيب واحد منهما فعلف المكترى فهو متطوع إلا أن يرفع ذلك إلى السلطان، وينبغى للسلطان أن يوكل رجلا من أهل الرفقة بأن يعلف ويحسب ذلك على رب الدابه والابل، وإن ضاق ذلك فلم يوجد أحد غير الراكب.

فان قال قائل: يأمر الراكب أن يعلف لان من حقه الركوب والركوب لا يصلح إلا بعلف ويحسب ذلك على صاحب الدابة، وهذا موضع ضرورة، ولا يوجد فيه الا هذا، لانه لابد من العلف والا تلفت الدابه ولم يستوف المكترى الركوب كان مذهبا ثم قال الشافعي رضى الله عنه: وفى هذا أن المكترى يكون أمين نفسه، وأن رب الدابه إن قال لم يعلفها الا بكذا، وقال الامين: علفتها بكذا لاكثر،

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 48)

________________________________________

فإن قبل قول رب الدابة في ماله سقط كثير من حق العالف، وإن قبل قول المكترى العالف كان القول قوله فيما يلزم غيره، وإن نظر إلى علف مثلها فصدق به فيه فقد خرج مالك الدابة والمكترى من أن يكون القول قولهما، وقد ترد أشباه من هذا في الفقه فيذهب بعض أصحابنا إلى أن لا قياس، وأن القياس ضعيف، وقد ذكر في غير هذا الموضع، ويقولون: يقضى بين الناس بأقرب الامور في العدل فيما يراه إذا لم يجد فيه متقدما من حكم يتبعه.

قال الشافعي رضى الله عنه: فيعيب هذا المذهب بعض الناس من كره الرأى فإن جاز أن يحكم فيه بما يكون عدلا عند الناس فيما يرى الحاكم فهو مذهب أصحابنا في بعض أقاويلهم، وإن لم يجز فقد يترك أهل القياس القياس،

والله تعالى أعلم.

(فرع)

إذا استأجر دارا فانطمت آبارها وامتلات حشوشها فالذي عليه أصحابنا أن تنقية ذلك وتنظيفه على المؤجر دون المستأجر من غير تفصيل لما عليه من حقوق التمكين.

قال الماوردى: والذى عندي وأراه مذهبا أن تنقية ما انطم من آبارها على المؤجر وتنقية ما امتلا من حشوشها على المستأجر، لان امتلاء الحشوش من فعله فصار كتحويل القماش وليس كذلك انطمام الآبار، فلو امتنع المستأجر من تنقية الحشوش أجبر عليه، ولو امتنع المؤجر ما يلزمه من الآبار لم يجبر عليه، وكان المستأجر بالخيار، والله أعلم بالصواب.

قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

واختلف أصحابنا في رد المستأجر بعد انقضاء الاجارة، فمنهم من قال: لا يلزمه قبل المطالبة لانه أمانة فلا يلزمه ردها قبل الطلب كالوديعة، ومنهم من قال: يلزمه لانه بعد انقضاء الاجارة غير مأذون له في إمساكها، فلزمه الرد كالعارية المؤقتة بعد انقضاء وقتها، فإن قلنا: لا يلزمه الرد لم يلزمه مؤنة الرد كالوديعة، وان قلنا: يلزمه لزمه مؤنة الرد كالعارية.

 

(فصل)

وللمستأجر أن يستوفى مثل المنفعة المعقود عليها بالمعروف، لان إطلاق العقد يقتضى المتعارف، والمتعارف كالمشروط، فإن استأجر دارا للسكنى

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 49)

________________________________________

جاز أن يطرح فيها المتاع، لان ذلك متعارف في السكنى، ولا يجوز أن يربط فيها الدواب ولا يقصر فيها الثياب ولا يطرح في أصول حيطانها الرماد والتراب، لان ذلك غير متعارف في السكنى، وهل يجوز أن يطرح فيها ما يسرع إليه الفساد، فيه وجهان.

 

(أحدهما)

لا يجوز لان الفأر ينقب الحيطان للوصول إلى ذلك.

 

(والثانى)

يجوز، وهو الاظهر، لان طرح ما يسرع إليه الفساد من الطاهر المأكول متعارف في سكنى الدار، فلم يجز المنع منه، وإن اكترى قميصا للبس لم يجز أن ينام فيه بالليل، ويجوز بالنهار، لان العرف أن يخلع لنوم الليل دون نوم النهار.

وإن استأجر ظهرا للركوب ركب عليه لا مستلقيا ولا منكبا: لان ذلك هو المتعارف، وإن كان في طريق العادة فيه السير في أحد الزمانين من ليل أو نهار لم يسر في الزمان الآخر لان ذلك هو المتعارف، وان اكترى ظهرا في طريق العادة فيه النزول للرواح ففيه وجهان.

 

(أحدهما)

يلزمه النزول، لان ذلك متعارف والمتعارف كالمشروط.

 

(والثانى)

لا يلزمه، لانه عقد على الركوب في جميع الطريق فلا يلزمه تركه في بعضه، فإن اكترى ظهرا إلى مكة لم يجز أن يحج عليه، لان ذلك زيادة على المعقود عليه، وإن اكتراه للحج عليه، فله أن يركبه إلى منى ثم إلى عرفة ثم إلى المزدلفة ثم إلى منى ثم إلى مكة، وهل يجوز أن يركبه من مكة عائدا إلى منى للمبيت والرمى؟ فيه وجهان

(أحدهما)

له ذلك لانه من تمام الحج

(والثانى)

ليس له لانه قد حل من الحج.

(الشرح) قد عرفنا مما سبق من الشواهد والادله والنصوص أن عقد الاجارة يصح على العين مدة تبقى بصفاتها غالبا لامكان استيفاء المعقود عليه كسنة أو عشر سنين أو ثلاثين سنة على ما يليق بكل عين مستأجرة.

قال البغوي: الا أن الحكام اصطلحوا على أن لا يؤجروا الوقف أكثر من ثلاث سنين لئلا يندرس الوقف.

قال السبكى: ولعل سببه أن اجارة الوقف

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 50)

________________________________________

تحتاج إلى أن تكون بالقيمة وتقويم المدة المستقبلة البعيدة صعب.

وللمستأجر

في اجارة العين أن ينتفع بها من أول العقد ويده عليها يد أمانة فيأتى فيه ما مر في الوديع مدة الاجارة ان قدرت بزمن، أو مدة امكان استيفاء المنفعة ان قدرت بمحل عمل لعدم امكان الاستيفاء للمنفعة بدون وضع يده، وبه فارق كون يده يد ضمان على طرف مبيع قبضه فيه لتمحض قبضه لغرض نفسه، ويجوز السفر للمكترى بالعين المكتراة عند انتفاء الخطر لملكه المنفعة فجاز له استيفاؤها حيث شاء، وظاهره عدم الفرق بين اجارة العين وهو ظاهر، والذمة وهو محتمل، نعم سفره بها كسفر الوديع فيما يظهر أخذا مما مر في الوديعة.

ووجه ما قررنا أنه عقد لا يقتضى الضمان لان العين أمانة في يد المستأجر ان تلفت بغير تفريط لم يضمنها، وسئل أحمد بن حنبل عن المظل والخيمة إلى مكة فتذهب من المكترى بسرق أو ذهاب هل يضمن؟ قال: أرجو أن لا يضمن، وكيف يضمن؟ إذا ذهب لا يضمن.

اه فإذا انقضت المدة فعليه رفع يده، وليس عليه الرد في قول غير أن عليه أن يتوقف عن الانتفاع، وفارق العارية فإنه عليه أن يردها من حيث أخذها، ووجهه أنه عقد لا يقتضى الضمان فلا يقتضى رده ومؤنته كالوديعه وفارق العارية فإن ضمانها يجب فكذلك ردها، وعلى هذا متى انقضت المدة كانت العين في يده أمانة كالوديعه، ان تلفت من غير تفريط فلا ضمان عليه.

والقول الآخر: يضمن إذا انتهت مدة الاجارة لانه بعد انقضاء الاجارة غير مأذون له في امساكها أشبه العارية المؤقته بعد وقتها، فإن ضمن المؤجر على المستأجر ضمان العين فالشرط فاسد لانه ينافى مقتضى العقد، وهل تفسد الاجارة به؟ فيه وجهان بناء على الشروط الفاسدة في البيع.

وروى عن ابن عمر أنه قال: لا يصلح الكراء بالضمان.

وعن فقهاء المدينة أنهم كانوا يقولون: لا تكترى بضمان، الا أنه من شرط على كراء أنه لا ينزل

متاعه بطن واد أو لا يسير به ليلا مع أشباه هذه الشروط فتعدى ذلك فتلف شئ مما حمل في ذلك التعدي فهو ضامن، فأما غير ذلك فلا يصح شرط الضمان

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 51)

________________________________________

فيه، وإن شرطه لم يصح الشرط لان ما لا يجب ضمانه لا يصير بالشرط مضمونا وما يجب ضمانه لا ينتفى ضمانه بشرط نفيه.

فأما إن أكراه عينا وشرط عليه أن لا يسير بها في الليل أو وقت القائلة أو لا يتأخر بها عن القافلة أو لا يجعل سيره في آخرها؟ أو لا يسلك بها الطريق الفلانية وأشباه هذا مما له فيه غرض مخالف ضمن لانه متعد لشرط كرائه فضمن ما تلف به، كما لو شرط عليه أن لا يحمل عليها إلا قفيزا فحمل قفيزين، فإذا كانت العين دارا فلا يصح أن يقتنى فيها ما يؤدى إلى المضارة بالبناء إلى الحد الذى جعل بعض الاصحاب يمنع أن يكون في متاعه بعض المأكولات التى تحدث رائحة تجلب الفيران لما يترتب عليه من احداث شقوق في جدار البيت، وقد رد هذا القول جمهور العلماء بأن المتعارف بين الناس وما تحكم به ضرورات المعيشة أن كل مأكولات الانسان تغرى الفيران وتجذبها إليها ولذا فقد عفى في الاصح عما لا يمكن التحرز منه أو الاستغناء عنه ومقتضى أصول المذهب أن كل متعارف هو كالمشروط فلا يلزمه تركه.

(فرع)

يشترط في اجارة الذمة أو العين للركوب بيان قدر السير كل يوم وكونه ليلا أو نهارا والنزول في عامر أو صحراء لتفاوت الاغراض بذلك، ولو أراد أحدهما مجاوزة المحل المشروط أو نقصا منه لخوف لحوق ضرر منه ولو كان ظنا جاز دون غيره كما لو استأجر مطية للذهاب والاياب فإنه لا تحسب عليه مدة اقامتها لخوف الا أن يكون بالطريق منازل مضبوطة بالعادة، فينزل عليها، فإن لم تنضبط اشترط بيان المنازل أو التقدير بالزمن وحده، والا امتنع التقدير بالسير

به لعدم تعلقه بالاختيار، وحينئذ يتعذر الاستئجار في طريق مخوفة لا منازل فيها (فرع)

من اكترى مطية ليحج عليها فله الركوب عليها إلى مكة ومن مكة إلى عرفة والخروج عليها إلى منى لانه من تمام الحج، وقيل ليس له الركوب إلى منى لانه بعد التحلل من الحج، والاولى له ذلك لانه من تمام الحج وتوابعه، ولذلك وجب على من وجب عليه دون غيره فدخل فِي قَوْله تَعَالَى (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البيت من استطاع إليه سبيلا) ومن اكترى إلى مكة فقط فليس له الركوب

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 52)

________________________________________

إلى الحج لانها زيادة، ويحتمل أن له ذلك لان الكراء إلى مكة عبارة عن الكراء إلى الحج لكونها لا يكترى إليها الا للحج غالبا فكان بمنزلة المكترى للحج، هذا مذهبنا وبه قال أحمد وأصحابه.

قال الشافعي رضى الله عنه: وإذا تكارى رجل محملا من المدينة إلى مكة فشرط سيرا معلوما فهو أصح، وان لم يشترط فالذي أحفظ أن المسير معلوم وأنه المراحل فيلزمان المراحل لانها الاغلب من سير الناس، فإن قال قائل كيف لا يفسد في هذا الكراء والسير يختلف؟ قيل: ليس للافساد ههنا موضع، فان قال: فبأى شئ قسته، قيل: بنقد البلد، البلد له نقد وصنج وغلة مختلفة فيبيع الرجل بالدراهم ولا يشترط نقدا بعينه، ولا يفسد البيع، ويكون له الاغلب من نقد البلد وكذلك يلزمهما الغالب من مسير الناس اه.

قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

فان اكترى ليحمل له أرطالا من الزاد فهل له أن يبدل ما يأكله فيه قولان.

 

(أحدهما)

له أن يبدل وهو اختيار المزني كما أن له أن يبدل ما يشرب من الماء

(والثانى)

ليس له أن يبدله، لان العادة أن الزاد يشترى موضعا واحدا

بخلاف الماء قال أبو إسحاق: هذا إذا لم تختلف قيمة الزاد في المنازل، فأما إذا كانت قيمته تختلف في المنازل جاز له أن يبدله قولا واحدا لان له غرضا أن لا يشترى موضعا واحدا.

 

(فصل)

وان اكترى ظهرا فله أن يضربه ويكبحه باللجام ويركضه بالرجل للاستصلاح لما روى جابر قال: سافرت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاشترى منى بعيرا وحملنى عليه إلى المدينة، وكان يسوقه وأنا راكبه وأنه ليضربه بالعصا ولا يتوصل إلى استيفاء المنفعة الا بذلك فجاز له فعله.

 

(فصل)

وللمستأجر أن يستوفى مثل المنفعة المعقود عليها وما دونها في الضرر ولا يملك أن يستوفى ما فوقها في الضرر، فإن اكترى ظهرا ليركبه في طريق فله أن يركبه في مثله وما دونه في الخشونه ولا يركبه فيما هو أخشن منه،

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 53)

________________________________________

فإن استأجر أرضا ليزرع فيها الحنطة فله أن يزرع مثلها وما دونها في الضرر ولا يزرع ما فوقها، لان في مثلها يستوفى قدر حقه وفيما دونها يستوفى بعض حقه، وفيما فوقها يستوفى أكثر من حقه، فان اكترى ظهرا ليحمل عليه القطن لم يحمل عليه الحديد لانه أضر على الظهر من القطن لاجتماعه وثقله، فان اكتراه للحديد لم يحمل عليه القطن لانه أضر من الحديد، لانه يتجافى ويقع فيه الريح فيتعب الظهر، فان اكتراه ليركبه بسرج لم يجز أن يركبه عريا لان ركوبه عريا أضر، فان اكتراه عريا لم يركبه بسرج لانه يحمل عليه أكثر مما عقد عليه، فان اكترى ظهرا ليركبه لم يجز أن يحمل عليه المتاع لان الراكب يعين الظهر بحركته والمتاع لا يعينه، فان اكتراه لحمل المتاع لم يجز أن يركبه لان الراكب أشد على الظهر لانه يقعد في موضع واحد والمتاع يتفرق على جنبيه، فان اكترى قميصا للبس لم يجز أن يتزر به، لان الاتزار أضر من اللبس، لانه يعتمد فيه على طاقين وفى

اللبس يعتمد فيه على طاق واحد، وهل له أن يرتدى به فيه وجهان:

(أحدهما)

يجوز لانه أخف من اللبس

(والثانى)

لا يجوز لانه استعمال غير معروف فلا يملكه كالاتزار

(فصل)

وله أن يستوفى المنفعة بنفسه وبغيره، فان اكترى دارا ليسكنها فله أن يسكنها مثله ومن هو دونه في الضرر، ولا يسكنها من هو أضر منه، فان اكترى ظهرا ليركبه فله أن يركبه مثله ومن هو أخف منه ولا يركبه من هو أثقل منه لما ذكرناه في الفصل قبله.

(الشرح) حديث جابر رواه البخاري ومسلم بلفظ (أنه كان يسير على جمل له قد أعيا فأراد أن يسيبه، قال: ولحقني النبي صلى الله عليه وسلم فدعا لى وضربه فسار سيرا لم يسر مثله فقال: بعنيه، فقلت لا، ثم قال: بعنيه فبعته واستثنيت حملانه إلى أهلى، وفى لفظ لاحمد والبخاري (وشرطت ظهره إلى المدينة) وتمام الحديث في الصحيحين (فلما بلغت أتيته فنقدني ثمنه ثم رجعت فأرسل في أثرى فقال: أتراني ماكستك لا آخذ جملك، خذ جملك ودراهمك فهو لك) أما أحكام هذه الطائفة من الفصول فانه إذا اكترى دابة في الذمة فانه لا خيار

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 54)

________________________________________

في عقدها إذا وجد بالدابة عيبا، لان المعقود عليه في الذمة بصفة السلامة، والمعقود عليه هنا غير سليم، فإذا لم يرض به رجع إلى ما في الذمة، ولو عجز عن الابدال ثبت للمستأجر الخيار، كما ذكر ذلك الاذرعى، ويخص المكترى بما تسلمه فله إيجار، ويمتنع إبدالها بغير رضاه ويتقدم بمنفعتها على جميع الغرماء.

فإذا ثبت هذا بالنسبة للدابة فانه يلزم ثبوته للطعام المحمول ليؤكل في الطريق إذا لم يتعرض في العقد لابداله ولا لعدمه فانه يبدل إذا أكل في الاظهر عملا بمقتضى اللفظ لتناوله حمل كذا إلى كذا.

وكأنهم قدموه على العادة بأنه لا ببدل

لعدم اطرادها.

 

(والثانى)

لا، لان العادة عدم الابدال للزاد ولو لم يجده فيما بعد محل الفراغ بسعره فيه أبدل جزما.

نعم لو شرط عدم إبداله اتبع الشرط، ولو شرط قدرا فلم يأكل منه فالظاهر كما قاله السبكى أنه ليس للمؤجر مطالبته بنقص قدر أكله اتباعا للشرط، ويحتمل أن له ذلك للعرف، لانه لم يصرح بحمل الجميع في جميع الطريق.

قال: وهو الذى إليه نميل.

وخرج بعض الفقهاء ما يحمل عما يؤكل، وما حمل فتلف قبل الوصول فانه يبدل قطعا.

قال الشافعي رضى الله عنه: وإن اختلفا في الرحله رحل لا مكبوبا ولا مستلقيا، وان انكسر المحمل أو الظل أبدل محملا مثله أو ظلا مثله، وإن اختلفا في الزاد الذى ينفد بعضه، فقال صاحب الزاد: أبدله بوزنه فالقياس أن يبدل له حتى يستوفى الوزن وقال: ولو قال قائل: ليس له أن يبدل من قبل أنه معروف أن الزاد ينقص قليلا ولا يبدل مكانه كان مذهبا والله تعالى أعلم من مذاهب الناس.

(فرع)

يجوز للمستأجر ضرب الدابة بقدر ما جرت به العادة، ويكبحها باللجام وحثها على السير بحسب طبيعتها، فان كانت من النوع الذى قال فيه علقمة: فأدركها ثانيا من عنانه

* يمر كمر الرائح المتحلب فليس له أن يضربها لادراكها المقصود مع راحة الراكب في سرعتها

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 55)

________________________________________

وأما إن كانت غير ذلك فعلى حد قول امرئ القيس: فللساق ألهوب وللسوط درة

* وللزجر منه وقع أهوج منعب إلا أنه لا يجوز أن يكون أهوج منعب، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ نخس بعير جابر وضربه، وكان أبو بكر رضى الله عنه يخرش بعيره بمحجنه.

قال الشافعي رضى الله عنه: وإذا اكترى الرجل من الرجل الدابة فضربها أو نخسها بلجام أو ركضها فماتت سئل أهل العلم بالركوب، فان كان فعل من ذلك ما تفعل العامه فلا يكون عندهم فيه خوف تلف أو فعل بالكبح والضرب مثل ما يفعله بمثلها عندما فعله فلا أعد ذلك خرقه ولا شئ عليه، وان فعل ذلك عند الحاجه إليه بموضع قد يكون بمثله تلف أو فعله في الموضع الذى لا يفعل في مثله ضمن في كل حال من قبل أن هذا تعد، والمستعير هكذا إن كان صاحبه لا يريد أن يضمنه، فان أراد صاحبه أن يضمنه العارية فهو ضامن تعد أو لم يتعد.

وأما الرائض فان من شأن الرواض الذى يعرف به إصلاحهم للدواب الضرب على حملها من السير، والحمل عليها من الضرب أكثر ما يفعل الركاب غيرهم، فإذا فعل من ذلك ما يكون عند اهل العلم بالرياضة اصلاحا وتأديبا للدابة بلا إعناف بين لم يضمن إن عيت، وان فعل خلاف هذا كان متعديا وضمن والمستعير الدابة هكذا كالمكترى في ركوبها إذا تعدى ضمن، وإذا لم يتعد لم يضمن ثم قال: والذى ناخذ به في المستعير انه يضمن تعدى أو لم يتعد، لحديث النبي صلى الله عليه وسلم (العارية مضمونه مؤداة) وهو آخر قوله صلى الله عليه وسلم اه هذا وقد سئل احمد رضى الله عنه عن ضرب الصبيان فقال: على قدر ذنوبهم ويتوقى يجهده الضرب.

وإذا كان صغيرا لا يعقل فلا يضربه.

ومن ضرب من هؤلاء الضرب المأذون فيه لم يضمن ما تلف.

وبهذا في الدابة قال مالك والشافعي واسحاق وأبو ثور وأبو يوسف ومحمد.

وقال الثوري وأبو حنيفة: يضمن لانه تلف بجنايته فضمنه كغير المستأجر، وكذلك قال الشافعي في المعلم يضرب الصبى لانه يمكنه تأديبه بغير الضرب (فرع)

إذا كترى دابة إلى مسافة فسلك أشق منها فهى مثل مسألة الزرع

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 56)

________________________________________

ولانه متعد فلرب الدابة منعه من سلوك تلك الطريق.

وان اكترى لحمل القطن فحمل بوزنه حديدا أو حديدا فحمل بوزنه قطنا فالصحيح أن عليه أجر المثل لان ضرر أحدهما مخالف لضرر الآخر، فلم يتحقق كون المحمول مشتملا على المستحق بعقد الاجارة وزيادة عليه، فإذا أكراه لحمل قفيزين فحملها فوجدهما ثلاثة، فان كان المكترى تولى الكيل ولم يعلم المكرى بذلك رطل حنطة فحمل مائة شعيرا أو عكس ذلك لاجتماعهما بسبب ثقلها في محل واحد، وهو لخفته يأخذ من ظهر الدابة أكثر، فضررهما مختلف، وكذا كل مختلفى الضرر كما قلنا في الحديد والقطن.

فلو اكترى لعشرة اقفزة شعير فحمل عشرة اقفزة حنطة لانها أثقل دون عكسه بأن اكتراه لحمل عشرة أقفزة حنطة فحمل عشرة أقفزة شعيرا من غير زيادة أصلا فلا ضمان عليه لاتحاد جرمهما باتحاد كيلهما مع كون الشعير أخف، فلو اكترى لحمل مائة فحمل مائة وعشرة لزمه مع المسمى أجرة المثل للزيادة لتعديه، وان تلفت بذلك المحمول أو بسبب آخر ضمنها ضمان يد إن لم يكن صاحبها معها لكونه غاضبا لها بحمل الزيادة.

فان كان صاحبها معا وتلفت بسبب الحمل دون غيره إذ ضمانها ضمان جناية لاسيما ومالكها معها ضمن قسط الزيادة فقط لاختصاص يده بها، ولهذا لو سخره مع دابته فتلفت لم يضمنها المسخر لتلفها في يد مالكها، وفى قول يضمن نصف القيمة توزيعا على الرؤس.

ولو سلم المائة والعشرة إلى المؤجر فحملها جاهلا بالزيادة، كان قال له: مائه فصدقه ضمن المكترى القسط واجرة الزيادة على المذهب إذ المكرى لجهله صار كالآلة بتأثير تدليس المكترى.

والطريق الثاني أنه على القولين في تعارض الغرر والمباشرة، فان كان عالما كان وزن المؤجر وحمل، أو رأى المكترى يكيل ويحمل، أو أعلمه المكترى بحقيقة الكيل فلا أجرة للزيادة لعدم تدليس المستأجر ولا ضمان إن تلفت، وبهذا قال أحمد وأصحابه، الا أنهم اختلفوا في أجر القدر الزائد على العقد

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 57)

________________________________________

على وجهين

(أحدهما)

لا اجر له كمذهبنا

(والثانى)

له أجر الزائد لانهما اتفقا على حمله على سبيل الاجارة فجرى مجرى المعاطاة في البيع ودخول الحمام من غير تقدير اجره.

قالوا وان كاله المكرى وحمله المكترى على الدابة عالما بذلك من غير ان يامر بحمله عليها فعليه اجر القفيز الزائد.

وان امره ففى وجوب الاجر وجهان عندهم.

(فرع)

قال النووي (رض) : وللمكترى استيفاء المنفعة بنفسه وبغيره.

قلت: وينبغى ان يكون غيره امينا، فلو شرط المكرى استيفاء المنفعة بنفسه بطل العقد، لان المكترى يملك المنفعة فلا ينازعه فيها المكرى، ومثله كمثل من يشترط على المشترى الا يبيع ما اشتراه، وله ان يركب ويسكن من هو مثله في الضرر اللاحق بالعين ودونه بالاولى، لان ذلك استيفاء للمنفعة المستحقة من غير زيادة، ولا يسكن حدادا ولا قصارا لما يحدثه القصار من الدق والازعاج وتاثير الدق في المبنى والازعاج للجار.

قال الرملي: الا إذا قال: لتسكن من شئت كازرع ما شئت، ونظر فيه الاذرعى فقال ان مثل ذلك يقصد به التوسعه دون الاذن في الاضرار، وقد رد الرملي بان الاصل خلافه، كما لا يجوز ابدال ركوب بحمل ويجوز عكسه، وان قال اهل الخبرة لا يتفاوت الضرر.

وبهذا قال احمد واصحاب الراى قال الشافعي مقررا: وهم يزعمون ان رجلا لو تكارى من رجل بيتا لم يكن

له ان يعمل فيه رحى ولا قصارة ولا عمل حدادين لان هذا مضر بالبناء، فأن عمل هذا فانهدم البيت فهو ضامن لقيمة البيت، وان سلم البيت فله اجره.

ويزعمون ان من تكارى قميصا فليس له ان ياتزر به، لان القميص لا يلبس هكذا، فان فعل فتخرق ضمن قيمة القميص، وان سلم كان له اجره، ويزعمون انه لو تكارى قبة لينصبها فنصبها في شمس أو مطر فقد تعدى لاضرار ذلك بها.

فان عطبت ضمن وان سلمت فعليه اجرها مع اشياء من هذا الضرب يكتفى باقلها حتى يستدل على انهم قد تركوا ما قالوا ودخلوا فيما عابوا مما مضت به الآثار، ومما فيه صلاح الناس.

اه

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 58)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

فان استأجر عينا لمنفعة وشرط عليه ان لا يستوفى مثلها أو دونها أو لا يستوفيها لمن هو مثله أو دونه ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) أن الاجارة باطله لانه شرط فيها ما ينافى موجبها فبطلت

(والثانى)

أن الاجارة جائزة، والشرط باطل، لانه شرط لا يؤثر في حق المؤجر، فألغى وبقى العقد على مقتضاه (والثالث) أن الاجارة جائزة والشرط لازم، لان المستأجر يملك المنافع من جهة المؤجر فلا يملك ما لم يرض به.

 

(فصل)

وللمستأجر أن يؤجر العين المستأجرة إذا قبضها لان الاجارة كالبيع وبيع المبيع يجوز بعد القبض فكذلك إجارة المستأجر، ويجوز من المؤجر وغيره كما يجوز بيع المبيع من البائع وغيره وهل يجوز قبل القبض فيه ثلاثة أوجه (أحدها) لا يجوز كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ

(والثانى)

يجوز لان المعقود عليه هو المنافع، والمنافع لا تصير مقبوضة بقبض العين، فلم يؤثر فيها قبض العين (والثالث) أنه يجوز إجارتها من المؤجر لانها في قبضته، ولا يجوز من

غيره لانها ليست في قبضته، ويجوز أن يؤجرها برأس المال وبأقل منه وبأكثر لانا بينا أن الاجارة بيع وبيع المبيع يجوز برأس المال وبأقل منه وبأكثر منه، فكذلك الاجارة

(فصل)

وإن استأجر عينا لمنفعة فاستوفى أكثر منها فإن كانت زيادة تتميز بأن اكترى ظهرا ليركبه إلى مكان فجاوز أو ليحمل عليه عشرة أقفزة فحمل عليه أحد عشر قفيزا لزمه المسمى لما عقد عليه وأجرة المثل لما زاد لانه استوفى المعقود عليه فاستقر عليه المسمى واستوفى زيادة فلزمه ضمان مثلها، كما لو اشترى عشرة أقفزة فقبض أحد عشر قفيزا.

فان كانت الزيادة لا تتميز بأن اكترى أرضا ليزرعها حنطة فزرعها دخنا، فقد اختلف أصحابنا فيه، فذهب المزني وأبو اسحاق إلى أن المسألة على قولين

(أحدهما)

يلزمه أجرة المثل للجميع، لانه تعدى بالعدول عن المعقود عليه إلى غيره، فلزمه ضمان المثل كما لو اكترى أرضا للزراعة فزرع أرضا أخرى.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 59)

________________________________________

(والثانى)

يلزمه المسمى وأجرة المثل للزيادة، لانه استوفى ما استحقه وزيادة، فأشبه إذا استأجر ظهرا إلى موضع فجاوزه، وذهب القاضى أبو حامد المروروذى إلى أن المسألة على قول واحد، وأن صاحب الارض بالخيار بين أن يأخذ المسمى وأجرة المثل للزيادة، وبين أن يأخذ أجرة للجميع، لانه أخذ شبها ممن استأجر ظهرا إلى مكان فجاوزه، وشبها ممن اكترى أرضا للزرع فزرع غيرها، فخير بين الحكمين.

 

(فصل)

وان أجره عينا ثم أراد أن يبدلها بغيرها لم يملك لان المستحق معين فلم يملك إبداله بغيره كما لو باع عينا فأراد أن يبدلها بغيرها.

(الشرح) إذا اشترط ألا يستوفى في المنفعة مثلها أو ما دونها أو اشتراط أن

لا يستوفيها بمثله أو من هو دونه، فعلى ثلاثة أوجه.

أحدها: أن الاجارة باطله لاشتراط ما ينافى موجبها وقد عرفنا من الشواهد الماضية أنه لو اشتراط أمرا كأن قال: أتكارى منك محملا أو زاملة على المنصوص في الام، فإن هذا الشرط يبطل العقد، كما لو قال أبيعك أقل من عشرة فما دونها بكذا فان هذا البيع باطل، لانه ينافى موجب العقد الذى يوجب ملك المنفعة والتسلط على استيفائها بنفسه وبنائبه، واستيفاء بعضها بنفسه وبعضها بنائبه.

والشرط ينافى ذلك فكان باطلا.

والوجه الثاني: أن الاجارة جائزة والشرط باطل لانه شرط لا يؤثر في حق المستأجر من استيفاء المنفعة، وفارق البيع، لان البائع يده هنا على المبيع والمستأجر يده على المنفعة، وبهذا قال أحمد، لان المستأجر يملك المنافع من جهة المؤجر فلا يملك ما لم يرض به.

والوجه الثالث: صحة الشرط وصحة العقد لان المستأجر يملك المنفعة من قبل المؤجر فليس للمستأجر أن يتعدى بامتلاك لم يرض به فلزمه الشرط وصحت الاجارة وقد فصلنا ذلك على أصل المذهب، ونصه في الام على ما سيأتي.

(فرع)

يجوز للمستأجر أن يؤجر العين التى استأجرها إذا قبضها، ونص أحمد على ذلك، وهو قول سعيد بن المسيب وابن سيرين ومجاهد وعكرمة

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 60)

________________________________________

وأبى سليمان بن عبد الرحمن والنخعي والشعبى والثوري والشافعي وأصحاب الرأى وذكر القاضى من الحنابلة فيه رواية أخرى أنه لا يَجُوزُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ربح ما لم يضمن، والمنافع لم تدخل في ضمانه، ولانه عقد على ما لم يدخل في ضمانه فلم يجز كبيع المكيل والموزون قبل قبضه، والاول أصح، لان قبض العين قام مقام قبض المنافع بدليل أنه يجوز التصرف فيها فجاز العقد

عليها كبيع الثمرة على الشجرة، وقياس الرواية الاخرى باطل على هذا الاصل إذا ثبت هذا: فإنه لا تجوز إجارته إلا لمن يقوم مقام أو دونه في الضرر لما مضى فأما اجارتها قبل قبضها فلا تجوز من غير المؤجر في أحد الوجوه الثلاثة عندنا وأحد الوجهين عند الحنابلة، وهو قول أبى حنيفة، لان المنافع مملوكة بعقد معاوضة فاعتبر في جواز العقد عليها القبض كالاعيان.

والوجه الثاني يجوز العين لان قبض العين لا ينتقل به الضمان إليه، فلم يقف جواز التصرف عليه، فأما إجارتها قبل القبض من المؤجر - وهو الوجه الثالث عندنا وهو قول عند الحنالبة - فإذا قلنا: لا يجوز من غير المؤجر كان فيه وجهان أحدهما: لا يجوز لانه عقد عليها قبل قبضها، والثانى: يجوز لان القبض لا يتعذر عليه بخلاف الأجنبي، وأصلهما: بيع الطعام قبل قبضه لا يصح من غير بائعه رواية واحدة، وهل يصح من بائعه؟ على روايتين، فأما إجارتها بعد قبضها من المؤجر فجائزة، وبهذا قال أحمد والشافعي رضى الله عنه.

وقال أبو حنيفة لا يجوز لان ذلك يؤدى إلى تناقض الا حاكم، لان التسليم مستحق على الكراء، فإذا اكتراها صار مستحقا له فيصير مستحقا لما يستحق عليه، وهذا تناقض.

دليلنا أن كل عقد جاز مع غير العاقد جاز مع العاقد كالبيع وما ذكروه لا يصح لان التسليم قد حصل، وهذا المستحق له تسليم آخر يبطل بالبيع فإنه يستحق عليه تسليم العين، فإذا اشتراها استحق تسليمها، فان قال: التسليم ههنا مستحق في جميع المدة بخلاف البيع.

قلنا: المستحق تسليم العين وقد حصل، وليس عليه تسليم آخر غير أن العين من ضمان المؤجر، فإذا تعذرت المنافع بتلف الدار وغصبها رجع عليه لانها بسبب كان في ضمانه.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 61)

________________________________________

(فرع)

ويجوز للمستأجر إجارة العين بمثل الاجر وزيادة، وهذا قول أحمد

والشافعي وأبى ثور وابن المنذر، وروى ذلك عن عطاء والحسن والزهرى.

وفى رواية لاحمد: إن أحدث في العين زيادة جاز له أن يكريها بزيادة، والا لم تجز الزيادة، فإن فعل تصدق بالزيادة، وروى هذا عن الشعبى والثوري وأبو حنيفة لانه يربح فيما لم يضمن.

وعن أحمد رواية ثالثة: إذا أذن له فيها المالك جاز، وإذا لم يأذن لم يجز، وكره ابن المسيب وأبو سلمة وابن سيرين ومجاهد وعكرمة والشعبى والنخعي الزيادة مطلقا لدخولها فيما لم يضمن، دليلنا أنه عقد يجوز برأس المال فجاز بزيادة كبيع المبيع بعد قبضه.

وأما الحديث فإن المنافع قد دخلت في ضمانه من وجه، فانها لو فاتت من غير استيفائه كانت من ضمانه، ولا يصح القياس على بيع الطعام قبل قبضه.

فإن البيع ممنوع منه بالكلية سواء ربح أو لم يربح، وههنا جائز في الجملة.

وتعليلهم بأن الربح في مقابلة عمله ملغى بما إذا كنس الدار ونظفها، فان ذلك يزيد في أجرها في العادة.

(فرع)

كل عين استأجرها لمنفعة فله أن يستوفى تلك المنفعة وما دونها في الضرر.

هذا ما سبق ان بيناه.

وبه قال أحمد.

ولا نعرف في ذلك مخالفا، ومتى فعل ما ليس له كان ضامنا، وقد ضرب المصنف مثلا بالارض يستأجرها لزرعها حنطة فزرعها دخنا.

قال الماوردى في الحاوى الكبير ١) بعد ان أورد قول الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْأُمِّ: وَلَوْ اكتراها ليزرعها قمحا فله أن يزعها ما لا يضر بالارض إضرار القمح، وهذا كما قال: إذا استأجر أرضا ليزرعها حنطة فله أن يزرعها الحنطة وغير الحنطة مما يكون ضرره مثل ضرر الحنطة أو أقل، وليس له

________________________________________

(١) الحاوى الكبير مخطوطة في دار الكتب العربية ذات أربعة وعشرين مجلدا ومن نوعها المجلد الاول في دار الكتب الازهرية والحاوى الصغير مخطوطة

في دار الكتب العربية ذات أربعة عشر مجلدا.

على أن نقولنا التى اعتمدناها هنا في التكملة هذه من الحاوى الكبير.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 62)

________________________________________

أن يزرعها ما ضرره اكثر من ضرر الحنطة.

وقال داود بن على: لا يجوز إذا استأجرها لزرع الحنطة أن يزرعها غير الحنطة، وان كان ضرره أقل من ضرر الحنطة استدلالا بقوله تعالى (أوفوا بالعقود) فلم يجز العدول عما تضمنه العقد قال: ولانه لما لم يجز إذا اشترى بدراهم بأعيانها أن يدفع غيرها من الدراهم وان كانت مثلها لما فيه من العدول عما اقتضاه العقد، كذلك في اجارة الارض لزرع الحنطة لا يجوز أن يعدل فيها عن زرع الحنطة.

ودليلنا ان ذكر الحنطة في اجارة الارض انما هو لتقدير المنفعة به لا لتعيين استيفائه، الا تراه لو تسلم الارض ولم يزرعها لزمته الاجرة، فإذا ثبت أن ذكر الحنطة لتقدير المنفعة فهو إذا استوفى المنفعة فقدرت به في العقد وبغيره جاز، كما لو استأجر لحمل قفيز من حنطة فحمل قفيزا غيره، وكما لو استاجر ليزرع حنطة بعينها فزرع غيرها، ولان عقد الاجارة يتضمن اجرة يملكها المؤجر ومنفعه يملكها المستأجر، فلما جاز للمؤجر ان يستوفى حقه كيف شاء بنفسه وبوكيله وبمن يحيله جاز للمستأجر أن يستوفى حقه من المنفعة كيف شاء بزرعها الحنطة وغير الحنطة، وباعارتها لمن يزرعها وبتركها وتعطيلها.

فأما استدلاله بقوله تعالى (أوفوا بالعقود) فمثل الحنطة ما يتضمنه العقد بما دللنا.

وأما الجواب عما استدل به من تعيين الاثمان بالعقد فكذا في الاجارة، فهو أن الفرق بينهما في التعيين متفق عليه، لان الدارهم تتعين بالعقد حتى لا يجوز العدول إلى جنسها والحنطة لا تتعين في عقد الاجارة وانما الخلاف في تعيين جنسها لاقراره لو استاجرها لزرع حنطة بعينها جاز له العدول إلى غيرها من

الحنطة، فكذلك يجوز ان يعدل إلى غير الحنطة.

اه فإذا تقرر هذا لم يخل حال المستأجر ليزرع الارض حنطة من ثلاثة اقسام: ١ - أن يستأجرها لزرع الحنطة وما أشبهها، فيجوز له مع موافقة داود أن يزرعها الحنطة وغير الحنطة مما يكون ضرره مثل ضرر الحنطة أو أقل، الا أن داود يجيزه بالشرط ونحن نجيزه بالعقد والشرط تأكيدا ٢ - أن يستأجرها لزرع الحنطة ويغفل ذكر ما سوى الحنطة مما ضره أكثر من الحنطة أو أقل،

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 63)

________________________________________

٣ - أن يستأجرها لزرع الحنطة على ان لا يزرع سواها ففيه ثلاثة أوجه حكاها ابن أبى هريرة (أحدها) أن الاجارة باطلة

(والثانى)

أن الاجارة جائزة والشرط باطل، وله أن يزرعها الحنطة وغير الحنطة لانه لا يؤثر في حق المؤجر ما يفى (والثالث) أن الاجارة جائزة والشرط لازم، وليس له أن يزرعها غير الحنطة لان منافع الاجارة إنما تملك بالعقد على ما سمى فيه، ألا تراه لو استأجرها للزرع لم يكن له الغرس فكذلك إذا استأجرها لنوع من الزرع، قال الشافعي: وان كان يضرها مثل عروق تبقى فليس ذلك له، فان فعل فهو متعد ورب الارض بالخيار ان شاء أخذ الكراء وما نقص الارض على ما ينقصها زرع القمح ويأخذ منه كراء مثلها.

قال المزني: يشبه أن يكون قوله الاول أولى، لانه أخذ ما كرى وزاد على الكرى ضررا، كرجل اكترى منزلا يدخل فيه ما يحتمل سقفه فجعل فيه أكثر.

إذا عرف هذا فانه إذا استأجر أرضا لزرع حنطة لم يكن له ان يزرعها ولا أن يغرسها ما هو أكثر ضررا منها لانه غير مأذون فيه فصار كالغاصب، وهل يصير بذلك ضامنا لرقبة الارض حتى يضمن قيمتها ان غصبت أو تلفت بسيل،

على وجهين

(أحدهما)

وهو قول أبى حامد الاسفرايينى أنه يضمنها لانه قد صار بالعدول عما استحقه غاصبا.

والغاصب ضامن

(والثانى)

وهو الاصح، أنه لا يضمن رقبة الارض لان تعديه في المنفعة لا في الرقبة، فإن تمادى الامر بمستأجرها حتى حصد زرعه ثم طولب بالاجرة فالذي نص عليه الشافعي أن رب الارض بالخيار بين أن يأخذ المسمى وما نقصت الارض وبين أن يأخذ أجرة المثل، فاختلف أصحابنا، فكان المزني وأبو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يخرجون تخيير الشافعي على قولين

(أحدهما)

أن رب الارض يرجع بأجرة المثل دون المسمى لان تعدى الزارع بعدوله عن الحنطة إلى ما هو أضر منها كتعديه بعدوله عن الارض إلى غيرها، فلما كان بعدوله عن الارض إلى غيرها ملتزما لاجرة المثل دون المسمى فكذلك بعدوله إلى غير الحنطة.

والقول الثاني: أنه يرجع بالمسمى من الاجرة، وينقص الضرر الزائد على

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 64)

________________________________________

الحنطه لانه قد استوفى ما استحقه وزاد، فصار كمن استأجر بعيرا من مكة إلى المدينة فتجاوز به إلى البصرة فعليه المسمى وأجرة المثل في الزيارة.

وقال الربيع وأبو العباس ابن سريج وأبو حامد المروروذى: إن المسألة على قول واحد، وليس التخيير فيه اختلافا للقول فيها، فيكون رب الارض بالخيار بين أن يرجع بالمسمى وما نقصت الارض بالزيادة كالمجاوز بركوب الدابة وبين أن يفسخ الاجارة ويرجع بأجرة المثل لانه عيب قد دخل عليه فجاز أن يكون مخيرا به بين المقام أو الفسخ فأما المزني فإنه اختار أن يرجع بالمسمى وما نقصت الارض.

وتابعه أبو اسحاق المروزى واستدلا بمسألتين: (إحداهما) أن يستأجر بيتا لحمولة مسماة فيعدل إلى غيرها فهذا أمر ينظر،

فان استأجر أسفل البيت ليحرز، فيه مائة رطل حديد فأحرز فيه مائة وخمسين رطلا، أو عدل عن الحديد إلى القطن فلا ضمان عليه، لان سفل البيت لا تؤثر فيه هذه الزيادة ولا العدول عن الجنس، وان كان علو البيت تكون فيه الحمولة على سقفه، فإن كانت الاجارة لمائة رطل من حديد فوضع عليه مائة وخمسين رطلا فهذه زيادة متميزة فيلزمه المسمى من الاجرة وأجرة مثل الزيادة.

وان كان قد استأجر لمائة رطل قطنا فوضع فيه مائة رطل من حديد فهذا ضرر لا يتميز، لان القطن يتفرق على السقف والحديد مجتمع في موضع منه، فكان أضر فيكون رجوع المؤجر على ما ذكرنا من اختلاف أصحابنا في القولين.

والمسألة الثانية من دليل المزني على اختيار أن يستأجر دارا للسكنى فيسكن فيها حدادين أو قصارين أو ينصب رحى، فهذه زيادة ضرر لا تتميز، فيكون رجوع المؤجر على ما وصفنا من اختلاف أصحابنا في القولين.

قال الماوردى: ليس للمزني من دليل فيما استشهد به من مذهب ولا حجاج.

(فرع)

قوله: وان أجره عينا ثم أراد أن يبدلها الخ.

قال الشافعي في الام: وإذا تكارى ابلا بأعيانها ركبها، قال وان تكارى حمولة ولم يذكر بأعيانها وركب ما يحمله، فان حمله على بعير غليظ فان كان ذلك ضررا متفاحشا أمر أن يبدله، وان كان شبيها بما يركب الناس لم يجبر على ابداله.

والله أعلم بالصواب

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 65)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

فإن استأجر أرضا مدة للزراعة فأراد أن يزرع ما لا يستحصد في تلك المدة، فقد ذكر بعض أصحابنا أنه لا يجوز، وللمؤجر أن يمنعه من زراعته فإن بادر المستأجر وزرع لم يجبر على قلعه قبل انقضاء المدة، ويحتمل عندي أنه لا يجوز منعه من الزراعة، لانه يستحق الزراعة إلى أن تنقضي المدة فلا يجوز

منعه قبل انقضاء المدة، ولانه لا خلاف أنه إن سبق وزرع لم يجبر على نقله، فلا يجوز منعه من زراعته.

 

(فصل)

وإن اكترى أرضا مدة للزرع لم يخل إما أن يكون لزرع مطلق أو لزرع معين، فان كان لزرع مطلق فزرع وانقضت المدة ولم يستحصد الزرع نظرت، فان كان بتفريط منه بأن زرع صنفا لا يستحصد في تلك المدة أو صنفا يستحصد في المدة إلا أنه أخر زراعته، فللمكرى أن يأخذه بنقله، لانه لم يعقد إلا على المدة فلا يلزمه الزيادة عليها لتفريط المكترى، فان لم يستحصد لشدة البرد أو قلة المطر ففيه وجهان.

 

(أحدهما)

يجبر على نقله، لانه كان يمكنه أن يستظهر بالزيادة في مدة الاجارة، فإذا لم يفعل لم يلزم المكرى أن يستدرك له ما تركه.

 

(والثانى)

لا يجبر وهو الصحيح، لانه تأخر من غير تفريط منه، فان قلنا يجبر على نقله وتراضيا على تكره باجارة أو إعارة جاز، لان النقل لحق المكرى وقد رضى بتركه، وإن قلنا: لا يجبر فعليه المسمى إلى انقضاء المدة بحكم العقد وأجرة المثل لما زاد لانه كما لا يجوز الاضرار بالمستأجر في نقل زرعه، لا يجوز الاضرار بالمؤجر في تفويت منفعة أرضه.

فان كان لزرع معين لا يستحصد في المدة وانقضت المدة والزرع قائم نظرت فان شرط عليه القلع فالاجارة صحيحة لانه عقد على مدة معلومة ويجبر على قلعه لانه دخل على هذا الشرط، فان تراضيا على تركه باجاره أو إعارة جاز لما ذكرناه وإن شرط التبقيه بعد المدة فالاجارة باطلة لانه شرط ينافى مقتضى العقد فأبطله فان لم يزرع كان لصاحب الارض أن يمنعه من الزراعة لانها زراعة في عقد باطل

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 66)

________________________________________

فان بادر وزرع لم يجبر على القلع، لانه زرع مأذون فيه، وعليه أجرة المثل لانه

استوفى منفعة الارض باجارة فاسدة، فان أطلق العقد ولم يشرط التبقية ولا القلع فَفِيهِ وَجْهَانِ.

 

(أَحَدُهُمَا)

وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ: أنه يجبر على قلعه لان العقد إلى مدة وقد انقضت فأجبر على قلعه كالزرع المطلق.

 

(والثانى)

لا يجبر لانه دخل معه على العلم بحال الزرع وأن العادة فيه الترك إلى الحصاد، فلزمه الصبر عليه، كما لو باع ثمرة بعد بدو الصلاح وقبل الادراك ويخالف هذا إذا اكترى لزرع مطلق، لان هناك يمكنه أن يزرع ما يستحصد في المدة، فإذا ترك كان ذلك بتفريط منه فأجر على قلعه، وههنا هو زرع معنى علم المكرى أنه لا يستحصد في تلك المدة، فإذا قلنا: يجبر فتراضيا على تركه باجارة أو إعارة جاز لما ذكرناه، وإن قلنا: لا يجبر لزمه المسمى للمدة، وأجرة المثل للزيادة، لانه كما لا يجوز الاضرار بالمكترى في نقل زرعه لا يجوز الاضرار بالمكرى في إبطال منفعة أرضه.

(الشرح) قال الشافعي رضى الله عنه: وإذا تكاراها سنة فزرعها فانقضت السنة والزرع فيها لم يباغ أن يحصد - فان كانت السنة يمكنه أن يزرع فيها زرعا يحصد قبلها فالكراء جائز، وليس لرب الارض أن يثبت زرعه وعليه أن ينقله عن الارض إلا أن يشاء رب الارض تركه، وإذا شرط أن يزرعها صنفا من الزرع يستحصد أو يستقصل قبل السنة فأخره إلى وقت من السنة فانقضت السنة قبل بلوغه فكذلك أيضا، وإن تكارى مدة أقل من سنة وشرط أن يزرعها شيئا بعينه ويتركه حتى يحصد فكان يعلم أنه لا يمكنه أن يستحصد في مثل هذه المدة تكاراها فالكراء فاسد من قبل أن أثبت بينهما شرطهما ولم أثبت على رب الارض أن يبقى زرعه فيها بعد انقضاء المدة أبطلت شرط الزارع أن يتركه حتى يستحصد، وإن أثبت له زرعه حتى يستحصد أبطلت شرط رب الارض فكان

هذا كراء فاسدا ولرب الارض كراء مثل أرضه إذا زرع، وعليه تركه حتى يستحصد.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 67)

________________________________________

وصورة هذه المسألة أن يستأجر الرجل أرضا مدة معلومة ليزرعها موصوفا فزرعها، ثم انقضت المدة قبل استحصاد زرعها، فلا يخلو حال المدة من ثلاثة أحوال (احداها) أن يعلم أن ذلك الزرع يستحصد في مثلها (والثانية) أن يعلم أنه لا يستحق في مثلها (والثالثة) أن يقع الشك فيه، فأما الاولى فلا تخلو من ثلاثة أقسام.

(أحدها) أن تأخير استحصاده لعدوله عن الجنس الذى شرطه إلى غيره مثل أن يستأجر خمسة أشهر لزرع الباقلا فيزرعها برا فتنقضى المدة، والبر غير مستحصد فهذا يؤخذ بقلعه قبل استحصاده، لانه بعدوله عن الباقلا إلى البر يصير متعديا فلم يستحق استيفاء زرع تعدى فيه، فان تراضى المؤجر والمستأجر على تركه إلى أوان الحصاد بأجرة المثل فيما زاد على المدة أقر، وان رضى المستأجر وأبى المؤجر أو رضى المؤجر وأبى المستأجر من بذل أجرة المثل قلع.

(والقسم الثاني) أن يكون تأجير استحصاده لتأخير بذره من عدول عن جنسه فهذا مفرط ويؤخذ بقلع زرعه قبل استحصاده لان تفريطه لا يلزم غيره، فان بذل أجرة مثل المدة الزائدة ورضى المؤجر بقبولها ترك والا قلع.

(والقسم الثالث) أن يكون تأخير استحصاده لامر سماوي من طول برد أو تأخر مطر أو انخفاض نيل أو دوام ثلج ففيه وجهان.

أحدهما: يترك إلى وقت استحصاده لانه لم يكن من المستأجر عدوان ولا تفريط، فإذا ترك إلى وقت الحصاد ضمن المستأجر أجرة مثل المدة الزائدة على عقده.

الوجه الثاني: أن يؤخذ بقلعه ولا يترك لانه قد كان بقدر على الاستظهار لنفسه في استزادة المدة

خوفا مما عساه يحتمل من أسباب سماوية فلو لم يأخذ لنفسه فرصة صار مفرطا.

أما الحال الثانية: وهو أن يعلم مجارى العادة أن مثل ذلك الزرع لا يستحصد في مثل تلك المدة، مثل أن يستأجرها أربعة أشهر لزرعها برا أو شعيرا فهذا اما: (أ) أن يشترط قلعه عند انقضاء المدة، فهذه اجارة جائزة، لانه قد يريد زرعه قصيلا ولا يريده حبا، فإذا انقضت المدة أخذ بقلع زرعه وقطعه.

(ب) أن يشترط تركه إلى وقت حصاده فهذا اجارة فاسدة، لان اشتراط

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 68)

________________________________________

استيفاء الزرع بعد مدة الاجارة ينافى موجبها فبطلت، ثم للزارع استيفاء زرعه وقت حصاده، وإن بطلت الاجارة، ولا يؤخذ بقلع زرعه لانه زرع عن إذن اشترط فيه الترك وعليه أجرة المثل، والفرق بين هذه المسألة في استيفاء الزرع مع فساد الاجارة وبين أن يؤخذ بقلعه فيما تقدم من الاحوال والاقسام مع صحة الاجارة أن الاجارة إذا بطلت روعى الاذن دون المدة، وإذا صحت روعيت المدة (ج) أن يطلق العقد فلا يشترط فيه قلعا ولا تركا فقد اختلف أصحابنا هل إطلاقه يقتضى القلع أو الترك؟ على وجهين.

 

(أحدهما)

وهو قول أبى إسحاق المروزى: أنه يقتضى القلع اعتبارا بموجب العقد، فعلى هذا الاجارة صحيحة، ويؤخذ المستأجر بقلع زرعه عند تقضى المدة

(والثانى)

وهو ظاهر كلام الشافعي أن الاطلاق يقتضى الترك إلى أوان الحصاد اعتبارا بالعرف فيه، كما أن ما لم يبد صلاحه من الثمار يقتضى إطلاق بيعه للترك إلى وقت الجداد اعتبارا بالعرف فيه، فعلى هذا تكون الاجارة فاسدة، ويكون للمستأجر ترك زرعه إلى وقت حصاده، وعليه أجرة المثل كما لو شرط الترك.

الحال الثالثة: وهو أن يقع الشك في المدة هل يستحصد الزرع فيها؟ كأن استأجرها خمسة أشهر لزرع البر والشعير، فقد يجوز أن يستحصد الزرع في هذه

المدة في بعض البلاد وبعض السنين، ويجوز أن لا يستحصد فيكون حكم هذه الحال حكم ما علم أنه يستحصد فيه، على ما مضى إسقاطا للشك واعتبارا باليقين هكذا أفاده الماوردى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

 

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:

(فصل)

وإن اكترى أرضا للغراس مدة لم يجز أن يغرس بعد انقضائها، لان العقد يقتضى الغرس في المدة فلم يملك بعدها، فإن غرس في المدة وانقضت المدة نظرت، فإن شرط عليه القلع بعد المدة أخذ بقلعه لما تقدم من شرطه ولا يبطل العقد بهذا الشرط، لان الذى يقتضيه العقد هو الغراس في المدة، وشرط القلع بعد المدة لا يمنع ذلك، وإنما يمنع من التبقية بعد المدة، والتبقة بعد

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 69)

________________________________________

المدة من مقتضى الاذن لا من مقتضى العقد، فلم يبطل العقد بإسقاطها، فإذا قلع لم يلزمه تسوية الارض لانه لما شرط القلع رضى بما يحصل به من الحفر، فإن أطلق العقد ولم يشترط القلع ولا التبقية لم يلزمه القلع، لان تفريغ المستأجر على حسب العادة، ولهذا لو اكترى دارا وترك فيها متاعا وانقضت المدة لم يلزمه تفريغها إلا على حسب العادة في نقل مثله، والعادة في الغراس التبقية إلى أن يجف ويستقلع.

فإن اختار المكترى القلع نظرت، فإن كان ذلك قبل انقضاء المدة ففه وجهان أحدهما: يلزمه تسوية الارض، لانه قلع الغراس من أرض غيره بغير إذنه، فلزمه تسوية الارض، والثانى: لا يلزمه لانه قلع الغراس من أرض له عليها يد فإن كان ذلك بعد انقضاء المدة لزمه تسوية الارض وجها واحدا لانه قلع الغراس من أرض غيره من غير إذن ولا يد، فان اختار التبقية نظرت، فان أراد صاحب الارض أن يدفع إليه قيمة الغراس ويتملكه أجبر المكترى على

ذلك لانه يزول عنه الضرر بدفع القيمة، فان أراد أن يقلع نظرت، فان كانت قيمة الغراس لا تنقص بالقلع أجبر المكترى على القلع، لانه لا ضرر عليه في القلع، فان كانت قيمة الغراس تنقص بالقلع، فان ضمن له أرش ما نقص بالقلع أجبر عليه، لانه لا ضرر عليه بالقلع مع دفع الارش، فان أراد أن يقلع ولا يضمن أرش النقص لم يجبر المكترى.

وقال المزني يجبر لانه لا يجوز أن ينتفع بأرض غيره من غير رضاه، وهذا خطأ، لان في قلع ذلك من غير ضمان الارش إضرارا بالمكترى، والضرر لا يزال بالضرر.

فان اختار أن يقر الغراس في الارض ويطالب المكترى بأجرة المثل أجبر المكترى، لانه كما لا يجوز الاضرار بالمكترى بالقلع من غير ضمان، لا يجوز الاضرار بالمكرى بابطال منفعة الارض عليه من غير أجرة، فان أراد المكترى أن يبيع الغراس من المكرى جاز، وإن أراد بيعه من غيره ففيه وجهان، وقد بيناهما في كتاب العارية، فان اكترى بشرط التبقية بعد المدة جاز، لان إطلاق

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 70)

________________________________________

العقد يقتضى التبقية فلا يبطل بشرطها، والحكم في القلع والتبقية على ما ذكرناه فيه إذا أطلق العقد.

 

(فصل)

فإن اكترى أرضا بإجارة فاسدة وغرس كان حكمها في القلع والاقرار على ما بيناه في الاجارة الصحيحة لان الفاسد كالصحيح فيما يقتضيه من القلع والاقرار فكان حكمهما واحدا، وبالله التوفيق (الشرح) قال الشافعي رضى الله عنه: وان قال اغرسها وازرعها ما شئت فالكراء جائز، قال المزني: أولى بقوله ألا يجوز هذا لانه لا يدرى يغرس أكثر فيكثر الضرر على صاحبها أو لا يغرس

وهذه العبارة تشتمل على ثلاث مسائل، احداهن أن يقول: أجرتكها لتزرعها ان شئت أو تغرسها ان شئت فالاجارة صحيحة، وهو مخير بين زرعها ان شاء وبين غرسها، فان زرع بعضها وغرس بعضها جاز، لانه لما جاز له غرس الجميع كان غرس البعض أولى بالجواز.

الثانية أن يقول: قد أجرتكها لتزرعها أو تغرسها، فالاجارة باطلة، لانه لم يجعل له الامرين معا، ولا أحدهما معينا، فصار ما أجره له مجهولا الثالثة أن يقول: قد أجرتكها لتزرعها وتغرسها ففيه وجهان

(أحدهما)

وهو مذهب المزني أن الاجارة باطلة، لانه لما لم يخيره بين الامرين وجمع بينهما صار ما يزرع منها ويغرس مجهولا، وهذا قول أبى اسحاق المروزى

(والثانى)

وهو ظاهر كلام الشافعي.

وقال ابن أبى هريرة: أن الاجارة صحيحة وله أن يزرع النصف ويغرس النصف لان جمعه بين الامرين يقتضى التسوية بينهما، فلو زرعها جميعا جاز، لان زرع النصف المأذون في غرسه أقل ضررا، ولو غرسها جميعا لم يجز لان غرس النصف المأذون في زرعه أكثر ضررا قال الشافعي رضى الله عنه: وان انقضت سنوه لم يكن لرب الارض أن يقلع الغراس حتى يعطيه قيمته وقيمة ثمرته ان كانت فيه يوم نقلعه، ولرب الارض الغراس ان شاء أن نقلعه على أن عليه ما نقص من الارض، والغراس كالبناء إذا كان باذن مالك الارض مطلقا.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 71)

________________________________________

قال المزني: القياس عندي أنه إذا حد له أجلا يغرس فيه فانقضى الاجل وأذن له أن يبنى في عرصة له، فانقضى الاجل فالارض والعرصة بعد انقضاء الاجل مردودان.

وصورتها فيمن استأجر أرضا ليبنى فيها ويغرس فانقضى الاجل والبناء

والغراس قائم في الارض فليس له بعد انقضاء الاجل أن يحدث بناء ولا غرسا، فإن فعل كان متعديا وأخذ بقلع ما أحدثه بعد الاجل من غرس وبناء، فأما القائم في الارض قبل انقضاء الاجل فلا يخلو حالهما فيه عند العقد من ثلاثة أحوال (أحدها) أن يشترطا قلعه عند انقضاء المدة فيؤخذ المستأجر بقلع غرسه وبنائه لما تقدم من شرطه، وليس عليه تسوية ما حدث من حفر الارض لانه مستحق بالعقد (الثانية) أن يشترطا تركه بعد انقضاء المدة فيقر ولا يفسد العقد بهذا الشرط لانه من موجباته لو أخل بالشرط ويصير بعد انقضاء المدة مستعيرا على مذهب الشافعي فلا يلزمه أجرة، وعلى مذهب المزني عليه الاجرة ما لم يصرح له بالعارية فإن قلع المستأجر غرسة وبنائه لزمه تسوية ما حدث في حفر الارض لانه لم يستحقه بالعقد، وإنما استحقه بالملك، وهذا قول جميع أصحابنا وإنما اختلفوا في تعليله فقال بعضهم: العلة فيه أنه لم يستحقه بالعقد، وهو التعليل الذى ذكرناه فعلى هذا لو قلعه قبل انقضاء المدة لالزمه تسوية الارض.

والحال الثالثة: أن يطلقا العقد فلا يشرطا فيه قلعه ولا تركه فينظر، فإن كانت قيمة الغرس والبناء مقلوعا كقيمته قائما أخذ المستأجر بقلعه لانه لا ضرر يلحقه فيه ولا نقص.

وان كانت قيمته مقلوعا أقل من قيمته قائما وهو الاغلب نظر، فان بذل رب الارض قيمة الغرس والبناء قائما، أو ما بين قيمته مقلوعا لم يكن للمستأجر تركه، لان ما يدخل عليه من الضرر بقلعه يزول ببذل القيمة أو النقص، وقيل: لا يجبرك على أخذ القيمة ولكن يخيرك بين أن تقلعه أو تأخذ قيمته وليس لك إقراره وتركه، وإن لم يبذل رب الارض قيمة الغرس والبناء ولا قدر النقص نظر في المستأجر، فان امتنع من بذل أجرة المثل بعد تقضى

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 72)

________________________________________

المدة لم يكن له إقرار الغرس والبناء وأخذ بقلعه، وإن بذل له أجرة المثل مع امتناع رب الارض من بذل القيمة أو النقص، فمذهب الشافعي وجمهور أصحابه أن الغرس والبناء مقران لا يؤخذ المستأجر بقلعهما ولا يجبر رب الارض بعد انتهاء المدة على تركهما استدلالا بما ذكره المزني من قول الله تَعَالَى (إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ) وليس من رب الارض رضى بالترك فلم يجبر عليه، ولانه لما أخذ بقلع زرعه عند انقضاء المدة لم يقر إلى أوان حصاده مع أن زمان حصاده محدود، فلان يؤخذ بقلع الغرس والبناء مع الجهل بزمانهما أولى، ولان تحديد المدة يوجب اختلاف الحكم في الاستيفاء كما أوجب اختلاف الحكم في إحداث الغرس والبناء، وهذا المذهب أظهر حجاجا وأصح اجتهادا.

واستدل أصحابنا على تركه وإقراره بقوله صلى الله عليه وسلم (ليس لعرق ظالم حق) رواه أبو داود والدارقطني عن عروة بن الزبير مرسلا، فاقتضى ذلك وقوع الفرق بين الظالم والمحق، فلم يجز أن يسوى بينهما في الاخذ بالقلع.

قالوا ولان من أذن لغيره في إحداث حق في ملك كان محمولا فيه على العرف المعهود في مثله كمن اذن لجاره في وضع اجزاعه في جداره كان عليه تركه على الدوام، ولم يكن له اخذه بقلعها، لان العادة جارية باستدامة تركها، كذلك الغرس والبناء العادة فيهما جارية بالترك والاستبقاء دون القلع، والتناول محمول على العادة.

وهذا الاستدلال يفسد بالزرع لان العادة جارية بتركه إلى أوان حصاده.

ثم هي غير معتبرة حين يؤخذ بقلعه.

(فرع)

وإذا كانت الاجارة فاسدة فبنى المستأجر فيها وغرس أو زرع فهو في الاقرار والترك على ما ذكرنا في الاجارة الصحيحة، لان الفاسد في كل عقد حكمه حكم الصحيح في الامانة والضمان.

والله تعالى أعلم بالصواب

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 73)

________________________________________

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:

 

(بَابُ مَا يوجب فسخ الاجارة) إذا وجد المستأجر بالعين المستأجرة عيبا جاز له ان يرد، لان الاجارة كالبيع، فإذا جاز رد المبيع بالعيب جاز رد المستأجر، وله أن يرد بما يحدث في يده من العيب، لان المستأجر في يد المستأجر كالمبيع في يد البائع، فإذا جاز رد المبيع بما يحدث من العيب في يد البائع، جاز رد المستأجر بما يحدث من العيب في يد المستأجر.

 

(فصل)

والعيب الذى يرد به ما تنقص به المنفعة، كتعثر الظهر في المشي والعرج الذى يتأخر به عن القافلة وضعف البصر والجذام والبرص في المستأجر للخدمة، وانهدام الحائط في الدار، وانقطاع الماء في البئر والعين والتغير الذى يمتنع به الشرب أو الوضوء وغير ذلك من العيوب التى تنقص بها المنفعة.

فاما إذا اكترى ظهرا فوجده خشين المشي لم يدر، لان ذلك لا تنقص به المنفعة.

وان اكترى ظهرا للحج عليه فعجز عن الخروج بالمرض أو ذهاب المال لم يجز له الرد، وان اكترى حماما فتعذر عليه ما يوقده لم يجز له الرد، لان المعقود عليه باق، وانما تعذر الانتفاع لمعنى في غيره فلم يجز له الرد، كما لو اشترى ظهرا ليحج عليه فعجز عن الحج لمرض أو ذهاب المال، وان اكترى أرضا للزراعة فزرعها ثم هلك الزرع بزيادة المطر أو شدة برد أو دوام ثلج أو أكل جراد لم يجز له الرد لان الجائحة حدثت على مال المستأجر دون منفعة الارض فلم يجز له الرد، وان اكترى دارا فتشعثت فبادر المكرى إلى اصلاحها لم يكن للمستأجر ردها لانه لا يلحقه الضرر، فان لم يبادر ثبت له الفسخ لانه يلحقه ضرر بنقصان المنفعة، فان رضى سكناها ولم يطالب بالاصلاح فهل يلزمه جميع الاجرة ام لا؟ فيه وجهان

 

(أحدهما)

لا يلزمه جميع الاجرة لانه لم يستوف جميع ما استحقه من المنفعة فلم يلزمه جميع الاجرة، كما لو اكترى دارا سنة فسكنها بعض السنة ثم غصبت

(والثانى)

يلزمه جميع الاجرة لانه استوفى جميع المعقود عليه ناقصا بالعيب

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 74)

________________________________________

فلزمه جميع البدل، كما لو اشترى عبدا فتلفت يده في يد البائع ورضى به.

 

(فصل)

ومتى رد المستأجر العين بالعيب، فان كان العقد على عينها انفسخ العقد، لانه عقد على معين فانفسخ برده، كبيع العين.

وان كان العقد على موصوف في الذمة لم ينفسخ العقد برد العين، بل يطالب ببدله، لان العقد على ما في الذمة، فإذا رد العين رجع إلى ما في الذمة، كما لو وجد بالمسلم فيه عيبا فرده.

 

(فصل)

وان استأجر عبدا فمات في يده، فان كان العقد على موصوف في الذمة طالب ببدله لما ذكرناه في الرد بالعيب، وان كان العقد على عينه فان لم يمض من المدة ما له أجرة انفسخ العقد.

وقال أبو ثور من أصحابنا: لا ينفسخ، بل يلزم المستأجر الاجرة لانه هلك بعد التسليم فلم ينفسخ العقد، كما لو هلك المبيع بعد تسليم فلم ينفسخ العقد، والمذهب الاول، لان المعقود عليه هو المنافع، وقد تلفت قبل قبضها فانفسخ العقد كالمبيع إذا هلك قبل القبض.

وان مضى من المدة ماله أجرة انفسخ العقد فيما بقى بتلف المعقود عليه، وفيما مضى طريقان:

(أحدهما)

لا ينفسخ فيه العقد قولا واحدا

(والثانى)

انه على قولين بناء على الطريقين في الهلاك الطارئ في بعض المبيع قبل القبض، هل هو كالهلاك المقارن للعقد ام لا؟ لان المنافع في الاجارة كالمبيع قبل القبض، وفى المبيع قبل القبض طريقان فكذلك الاجارة.

 

(فصل)

وان اكترى دارا فانهدمت فقد قال في الاجارة ينفسخ العقد،

وقال في المزارعة إذا اكترى أرضا للزراعة فانقطع ماؤها ان المكترى بالخيار بين أن يفسخ وبين أن لا يفسخ.

واختلف أصحابنا فيهما على طريقين، فمنهم من نقل جواب كل واحدة من المسئلتين إلى الاخرى فخرجهما على قولين، وهو الصحيح

(أحدهما)

ان العقد ينفسخ فيهما، لان المنفعة المقصودة هي السكنى والزراعة وقد فاتت فانفسخ العقد، كما لو اكترى عبدا للخدمة فمات.

 

(والثانى)

لا ينفسخ لان العين باقية يمكن الانتفاع بها وانما نقصت منفعتها فثبت له الخيار كما لو حدث به عيب.

ومنهم من قال إذا انهدمت الدار انفسخ

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 75)

________________________________________

العقد، وان انقطع الماء من الارض لم ينفسخ لان الارض باقية مع انقطاع الماء والدار غير باقية مع الانهدام.

(الشرح) لا ينفسخ عقد الاجارة عينية كانت أو في الذمة بنفسها ولا يفسخ احد العاقدين بالاعذار التى لا توجب خللا في المعقود عليه، كمن استأجر حماما وتعذر عليه جلب الوقود له، أو استأجر سيارة وتعذر على شراء وقودها، أو مرض فحال مرضه دون السفر عليها، أو استأجر بيتا ولم يجد أثاثا يتخذه فراشا فيها، ويقاس على هذه الامثلة كل عذر لا يلحق المعقود عليه خلل في عينه بعيب فيه، وإذا استأجر دارا فوجد ماء بئرها متغيرا، قال أبو حنيفة: إن استطيع الوضوء به فلا خيار للمستأجر.

وعندنا انه ان خالف معهود الآبار في تلك الناحية فله الخيار، فان كان معهودهم الشرب من آبارهم - فإذا كان تغيره يمنع من شربه - فله الخيار، وان أمكن الوضوء منها، وان كان معهودهم الا يشربوا منها فلا خيار، وإن كان غير معهود في ذلك الوقت - فان كان مع نقصانه كافيا لما يحتاج المستأجر من شرب أو طهور، فلا خيار له، وان كان مقصرا عن الكفاية فله الخيار.

فأما رجاء الحصول على الماء إذا تغير ماؤه فلا خيار لمستأجره، ولو نقص ماؤه فله الخيار الا أن يكون معهودا في وقته فلا خيار فيه.

قال الشافعي: وإذا اكترئ الرجل الارض من الرجل بالكراء الصحيح ثم أصابها غرق منعه الزرع أو ذهب بها سيل أو غصبها فحيل بينه وبينها سقط عنه الكراء من يوم أصابها ذلك، وهى مثل الدار يكتريها سنة ويقبضها فتهدم في أول السنة أو آخرها، والعبد يستأجره السنة فيموت في أول السنة أو آخرها فيكون عليه من الاجارة بقدر ما سكن واستخدم ويسقط عنه ما بقى، وان أكراه أرضا بيضاء يصنع فيها ما شاء، أو لم يذكر انه اكتراها للزرع ثم انحسر الماء عنها في أيام لا يدرك فيها زرعا، فهو بالخيار بين أن يأخذ ما بقى بحصته من الكراء أو يرده لانه قد انتقص مما اكترى.

وكذلك ان اكتراها للزرع، وكراؤها للزرع أبين في ان له أن يردها ان شاء، وإن كان مر بها فافسد زرعه أو أصابه

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 76)

________________________________________

حريق أو ضريب ١) أو جراد أو غير ذلك فهذا كله جائحة على الزرع لا على الارض فالكراء له لازم، فان أحب أن يجدد زرعا جدده ان كان ذلك يمكنه، وان لم يمكنه فهذا شئ أصيب به في زرعه لم تصب به الارض فالكراء له لازم، وهذا مفارق للجائحة في الثمرة يشتريها الرجل فتصيبها الجائحة في يديه قبل أن يمكنه جدادها.

ومن وضع الجائحة ثم ابتغى أن لا يضعها ههنا، فان قال قائل: إذا كانتا جائحتين فما بال احداهما توضع والاخرى لا توضع، فان من وضع الجائحة الاولى فانما يضعها بالخبر، وبانه إذا كان البيع جائزا في شراء الثمرة إذا بدا صلاحها وتركها حتى تجدد فانما ينزلها بمنزلة الكراء الذى يقبض به الدار ثم تمر به أشهر ثم تتلف الدار فيسقط عنه الكراء من يوم تلف.

اه وقد اختلف أصحابنا في الفساد الطارئ على المستأجر - بفتح الجيم - على

حسب اختلافهم في الفساد الطارئ على بعض الصفقة، هل يكن كالفساد المقارن للعقد؟ فقال بعض أصحابنا هما سواء، فيكون بطلان الاجارة فيما مضى من المدة على قولين من تفريق الصفقة.

وقال آخرون: ان الفساد الطارئ على العقد مخالف للفساد المقارن للعقد، فتكون الاجارة فيما مضى من المدة غير فاسدة قولا واحدا.

فان قبل ببطلان الاجارة فيما مضى من المدة لزم المستأجر أجرة المثل في الماضي دون المسمى.

وان قيل بصحة الاجارة فيما مضى فقد اختلف أصحابنا هل له الخيار في فسخه أم لا؟ على وجهين

(أحدهما)

لا خيار له لفواته على يده، فعلى هذا ان كانت اجرة السنة كلها متساوية لتساوي العمل فيها فعليه نصف الاجرة المسماة لاستيفاء نصف العمل المستحق بنصف السنة المسماة وان كان العمل فيها مختلفا والاجرة فيه مختلفة مثل ان تكون اجرة النصف الماضي من السنة مائة درهم واجرة النصف الباقي خمسين درهما تقسطت الاجرة على العمل المختلف دون المدة، وكان على المستأجر ثلثى ثلثا الاجرة بمضي نصف المدة لانها تقابل ثلثى العمل

________________________________________

(١) الضريب يقال للثلج الدائب ولسموم الماء انشفه الارض.

هكذا في القاموس

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 77)

________________________________________

(والوجه الثاني) أن له الخيار لتفريق الصفقة عليه بين المقام على الاجارة فيما مضى وبين فسخها فيه، فان أقام على الماضي لزمه من الاجرة ما ذكرناه من الحساب والقسط، وكان بعض أصحابنا يخرج قولا آخر أن يقيم بجميع الاجرة والا فسخ، وهو قول من يجعل الفساد الطارئ كالفساد المقارن، وان فسخ الاجارة في الماضي لزمه فيه أجرة المثل، لان الفسخ قد رفع العقد فسقط حكم المسمى فيه.

(فرع)

وجملة بيان هذه الفصول ان من استأجر عينا مدة فحيل بينه وبين الانتفاع بها لم يخل من أقسام ثلاثة.

(احدها) ان تتلف العين كنفوق دابة فهذا على ثلاثة أضرب، أحدها: ان تتلف العين قبل قبضها، فان الاجارة تنفسخ بغير خلاف نعلمه، لان المعقود عليه تلف قبل قبضه فاشبه ما لو تلف الطعم المبيع قبل قبضه.

 

(والثانى)

أن تتلف عقيب قبضها، فان الاجارة تنفسخ ايضا ويسقط الاجر عند عامة الفقهاء الا أبا ثور حكى عنه أنه قال: يستقر الاجر، لان المعقود عليه اتلف بعد قبضه أشبه المبيع، وهذا غلط، لان المعقود عليه المنافع، وقبضها استيفاؤها أو التمكن من استيفاؤها، ولم يحصل ذلك فاشبه تلفها قبل قبض العين (والثالث) أن تتلف بعد مضى شئ من المدة، فان الاجارة تنفسخ فيما بقى من المدة دون ما مضى، ويكون للمؤجر من الاجر بقدر ما استوفى من المنفعة، هذا معنى ما نقلناه من الام قبل.

وقال أحمد فيما رواه عنه ابراهيم بن الحارث: إذا اكترى بعيرا بعينه فنفق البعير يعطيه بحساب ما ركب، وذلك لما ذكرنا من ان المعقود عليه المنافع، وقد تلف بعضها قبل قبضه فبطل العقد فيما تلف دون ما قبض، كما لو اشترى صبرتين فقبض احداهما وتلفت الاخرى قبل قبضها.

فان كان المستأجر مختلف الاجر حسب اختلاف الازمان كدار بسيف البحر ايجارها صيفا أكثر من أجرها شتاء، أو دار بأسوان أجرها شتاء أكثر من أجرها صيفا أو دار لها موسم كدور مكة شرفها الله رجع في تقويمه إلى أهل الخبرة

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 78)

________________________________________

ويقسط الاجر المسمى على حسب قيمة المنفعة كقسمة الثمن على الاعيان المختلفة في البيع، وكذلك لو كان الاجر على قطع المسافة وكانت معروفة بالاميال أو الكيلو مترات.

القسم الثاني: ان يحدث على العين ما يمنع نفعها كدار انهدمت وأرض غرقت أو انقطع عنها الماء فهذه ينظر فيها فان لم يبق فيها أصلا فهى كالتالفة سواء، وان بقى فيها نفع غير ما استأجرها له انفسخت الا في انقطاع الماء لانه لم يحدث في المعقود عليه خلل يفسد العقد فاشبه ما لو نقص نفعها مع بقائه، فهو مخير بين الفسخ والامضاء، فان فسخ فعليه ما مضى من العقد، وان اختار امضاءه فعليه جميع الاجر لان العيب إذا رضى به سقط حكمه.

فإذا انهدمت الدار أو مرض الخادم، فان الاجارة لا تنفسخ لبقاء المعقود عليه، ولكن المستأجر بالخيار لاجل العيب الحادث المؤثر في منفعته بين المقام والفسخ، والخيار فيه على التراخي لا على الفور بخلاف الخيار في البيع لانه يتجدد بمرور الاوقات لحدوث النقص فيها فان كان مرض الخادم مرضا لا يؤثر في العمل نظر فيما استؤجر له من العمل، فان كان مما لا تعاف النفس مرضه فيه كالكنس والرعى وحرث الارض فلا خيار للمستأجر، وان كان مما تعاف النفس مرضه فيه كخدمته في مأكله ومشربه وملبسه فله الخيار.

وقال النووي في الدار: تنفسخ بهدمها.

وقال شمس الدين الرملي: في الاصح وان كانت الاجارة في دار حرث شارعها أو دكان بطلت سوقه فلا خيار له لانه عيب خدث في غير المعقود عليه، فإذا استأجر دارا فانهدم فيها حائط أو سقط فيها سقف نظر، فان لم يمكن سكنى الدار بانهدام حائطها وسقوط سقفها كان كما لو انهدم جميعها في بطلان الاجارة فيها، وان أمكن سكناها لم تبطل الاجارة وكان مخيرا في الفسخ للعيب الحادث.

وأما ان انهدم نصفها وبقى نصفها والباقى منها يمكن سكناه بطلت الاجارة في النصف المنهدم، وهى صحيحة في النصف السليم والمستأجر بالخيار، ومن جعل من أصحابنا الفساد الطارئ على بعض الصفقة كالفساد المقارن للصفقة خرج الاجارة فيما سلم من الدار على قولين.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 79)

________________________________________

(فرع)

فإذا انهدمت الدار فبناها المؤجر لم تعد الاجارة فيها بعد فسادها الا بعقد جديد: لان بطلانه يمنع من عوده الا باستحداث عقد ولكن لو اشتركت وتشعبت فلم يختر المستأجر الفسخ حين عمرها المؤجر ففى خيار المستأجر وجهان أحدهما: قد سقط لارتفاع موجبة، والثانى: انه باق بحاله لما تقدم من استحقاقه ولكن له لو رام المؤجر ان يمنع المستأجر من الفسخ حتى يعمرها له لم يكن ذلك للمؤجر، وكان المستأجر على خيار.

(فرع)

قال الشافعي رضى الله عنه: ولو اكترى أرضا سنة فغصبها رجل لم يكن عليه كراه لانه لم يسلم له ما اكترى، قلت: ومن هنا نعلم أن الارض إذا غصبت من يد المستأجر فله الفسخ، وهل تبطل الاجارة بالغصب؟ على قولين.

أصحهما: باطلة، والمستأجر برئ من اجرة مدة الغصب، ولا يكون المستأجر خصما للغاصب فيها، لان خصم الغاصب انما هو المالك أو وكيله وليس المستأجر مالكا ولا وكيلا فلم يكن خصما.

والقول الثاني: ان الاجارة لا تبطل لان غاصبها ضامن لمنافعها لكن يكون المستأجر بحدوث الغصب مخيرا بين المقام أو الفسخ فان فسخ سقطت عنه الاجرة ولم يكن خصما للغاصب فيها، وان أقام فعليه المسمى ويرجع باجرة المثل على الغاصب ويصير خصما له في الاجرة دون الرقبة، الا ان يبقى من مدة الاجارة شئ فيجوز أن يصير خصما في الرقبة ليستوفى حقه من المنفعة وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

 

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:

(فصل)

وان اكرى نفسه فهرب أو أكرى عينا فهرب بها نظرت، فان كانت الاجارة على موصوف في الذمة استؤجر عليه من ماله كما لو اسلم إليه في شئ فهرب، فانه يبتاع عليه المسلم فيه، وان لم يمكن الاستئجار عليه ثبت للمستأجر

الخيار بين أن يفسخ وبين ان يصبر، لانه تأخر حقه فيثبت له الخيار، كما لو اسلم في شئ فتعذر، وان كانت الاجارة على عين فهو بالخيار بين أن يفسخ وبين أن يصبر، لانه تأخر حقه فثبت له الخيار، كما لو ابتاع عبدا فابق قبل القبض، فان لم يفسخ نظرت، فان كانت الاجارة على مدة انفسخ العقد بمضي المدة يوما بيوم

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 80)

________________________________________

لان المنافع تتلف بمضي الزمان فانفسخ العقد بمضيه، وان كانت على عمل معين لم ينفسخ لانه يمكن استيفاؤه إذا وجده

(فصل)

وان غصبت العين المستأجرة من يد المستأجر - فان كان العقد على موصوف في الذمة - طولب المؤجر باقامة عين مقامها على ما ذكرناه في هرب المكرى، وان كان على العين فللمستأجر أن يفسخ العقد، لانه تأخر حقه فثبت له الفسخ، كما لو ابتاع عبدا فغصب فان لم يفسخ - فان كانت الاجارة على عمل - لم تنفسخ لانه يمكن استيفاؤه إذا وجده، وان كانت على مدة فانقضت ففيه قولان:

(أحدهما)

ينفسخ العقد فيرجع المستأجر على المؤجر بالمسمى، ويرجع المؤجر على الغاصب باجرة المثل

(والثانى)

لا ينفسخ، بل يخير المستأجر بين ان يفسخ ويرجع على المؤجر بالمسمى، ثم يرجع المؤجر على الغاصب باجرة المثل، وبين ان يقر العقد ويرجع على الغاصب بأجرة المثل، لان المنافع تلفت في يد الغاصب، فصار كالمبيع إذا اتلفه الأجنبي.

وفى المبيع قولان إذا اتلفه الأجنبي فكذلك ههنا.

 

(فصل)

وان مات الصبى الذى عقد الاجارة على إرضاعه فالمنصوص انه ينفسخ العقد، لانه تعذر استيفاء المعقود عليه، لانه لا يمكن اقامة غيره مقامه لاختلاف الصبيان في الرضاع فبطل.

ومن أصحابنا من خرج فيه قولان آخر انه

لا ينفسخ، لان المنفعة باقية، وانما هلك المستوفى فلم ينفسخ العقد، كما لو استأجر دارا فمات، فعلى هذا ان تراضيا على ارضاع صبى آخر جاز.

وان تشاحا فسخ العقد، لانه تعذر امضاء العقد ففسخ.

 

(فصل)

وان استأجر رجلا ليقلع له ضرسا فسكن الوجع، أو ليكحل عينه فبرئت، أو ليقتص له فعفا عن القصاص، انفسخ العقد على المنصوص في المسألة قبلها، لانه تعذر استيفاء المعقود عليه فانفسخ، كما لو تعذر بالموت، ولا ينفسخ على قول من خرج القول الآخر.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 81)

________________________________________

(الشرح) إذا هرب الاجير أو شردت الدابة المتاجرة أو أخذ المؤجر العين وهرب بها، أو منعه استيفاء المنفعة من غير هرب على نحو ما، لم تنفسخ الاجارة، لكن يثبت للمستأجر خيار الفسخ، فان فسخ فلا كلام، وان لم يفسخ انفسخت الاجارة بمضي المدة يوما فيوما، فان عادت العين في اثناء المدة استوفى ما بقى منها، فان انقضت المدة انفسخت الاجارة لفوات المعقود عليه، وان كانت الاجارة على موصوف في الذمة، كخياطة ثوب أو بناء حائط أو حمل إلى موضع معين استؤجر من ماله من يعلمه، كما لو أسلم إليه في شئ فهرب ابتيع من ماله، فان لم يمكن ثبت للمستأجر الفسخ، فان فسخ فلا كلام، وان لم يفسخ وصبر إلى ان يقدر عليه فله مطالبته بالعمل، لان ما في الذمة لا يفوت بهربه، وكل موضع امتنع الاجير من العمل فيه، أو منع المؤجر المستأجر من الانتفاع إذا كان بعد عمل البعض فلا أجر له فيه على ما سبق، الا أن يرد العين قبل انقضاء المدة أو يتم العمل - ان لم يكن على مدة - قبل فسخ المستأجر، فيكون له أجر ما عمل.

فأما ان شردت الدابة أو تعذر استيفاء المنفعة بغير فعل المؤجر فله من الاجر بقدر ما استوفى بكل حال، والى هذا كله ذهب الحنابله (فرع)

إذا غصبت العين المستأجرة من يد المستأجر ففيه قولان: أحدهما للمستأجر الفسخ لان فيه تأخير حقه، فان فسخ فالحكم فيه كما لو انفسخ العقد بتلف العين سواء، وان لم يفسخ حتى انقضت مدة الاجارة فله الخيار بين الفسخ والرجوع بالمسمى، وبين البقاء على العقد ومطالبة الغاصب باجرة المثل، لان المعقود عليه لم يفت مطلقا بل إلى بدل وهو القيمة، فاشبه ما لو اتلف الثمرة المبيعة آدمى قبل قطعها، ويتخرج انفساخ العقد بكل حال على القول بأن المنافع الغصب لا تضمن، وهو محل خلاف بين أصحابنا، وهو قول أصحاب الرأى وأصحاب أحمد.

 

(والثانى)

لا تخيير، بل ينفسخ ويرجع المستأجر على المؤجر بالمسمى ويرجع المؤجر على الغاصب بأجرة المثل

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 82)

________________________________________

وقول ثالث لم يذكره المصنف، وهو قول ابن الرفعة: لا خيار ولا فسخ أخذا من النص، وقد استشهد له الغزى.

قال الرملي: فيه نظر.

وقال الاذرعى هو مشكل وما أظن الاصحاب يسمحون به وان كانت الاجارة على عمل في الذمة كخياطة ثوب أو حمل شئ إلى موضع معين فغصبت الماكينة التى يخيط.

بها، أو العربة التى يحمل عليها لم ينفسخ العقد وللمستأجر مطالبة الاجير بعوض المغصوب وإقامة من يعمل العمل، لان العقد على ما في الذمة، كما لو وجد بالمسلم فيه عيبا فرده، فان تعذر البدل ثبت للمستأجر الخيار بين الفسخ أو الصبر إلى أن يقدر على العين المغصوبة فيستوفى منها (فرع)

وتنفسخ الاجارة بموت الطفل، لانه يتعذر استيفاء المعقود عليه

لانه لا يمكن اقامة غيره مقامه لاختلاف الصبيان في الرضاع واختلاف اللبن باختلافهم، فانه قد يدر على احد الوالدين دون الآخر، وهذا هو منصوص الشافعي، فإذا انفسخ العقد بطلت الاجارة من أصلها بالاجر كله.

وان كان في اثناء المدة رجع بحصة ما بقى.

ومن أصحابنا من خرج قولا آخر انه لا ينفسخ، لان المنفعة باقية ببقاء المرضعة وانما المستوفى هو الذى هلك والعقد باق بين المتعاقدين فإذا تراضيا على إرضاع صبى آخر جاز والا انفسخ العقد.

أما إذا ماتت المرضعة فان الاجارة تنفسخ لفوات المنفعة بهلاك محلها، وحكى عن بعض أصحاب أحمد أنها لا تنفسخ، وكذلك ذهب بعض الاصحاب وقالوا: يجب في مالها أجر من ترضعه تمام الوقت لانه كالدين.

(فرع)

يجوز أن يستأجر طبيبا يخلع له ضرسه لانها منفعة مباحة مقصوده فجاز الاستئجار على فعلها كالختان، فإذا برأ الضرس قبل قلعه انفسخت الاجارة لان قلعه سليما لا يجوز، وان لم يبرأ لكن امتنع المستأجر من قلعه لم يجبر عليه لان اتلاف جزء من الادمى محرم في الاصل، وانما أبيح القلع إذا صار بقاؤه ضررا، والامر مفوض إلى الانسان في نفسه إذا كان أهلا لذلك.

وصاحب الضرس أعلم بمضرته ومنفعته، وكذلك.

وإذا استأجر طبيبا في الرمد ليكحل عينه بالنترات والاكاسيد فلم يبرأ عينه استحق الاجر، وبه قال أكثر الفقهاء.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 83)

________________________________________

وقال مالك: إنه لا يستحق أجرا حتى تبرأ عينه، ولم يحك ذلك أصحابه، وهو فاسد، لان المستأجر قد وفى العمل الذى وقع العقد عليه فوجب له الاجر وإن لم يحصل الغرض، كما لو استأجره لبناء حائط يوما أو لخياطة قميص فلم يتمه فيه فان برئت عينه فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ انْفَسَخَتْ الْإِجَارَةُ فِيمَا بَقِيَ من مدة، لانه قد تعذر

العمل فاشبه ما لو حجر عنه امر غالب، وكذلك لو مات، فان امتنع من العلاج فلم يستعمله مع بقاء المرض استحق الطبيب الاجر بمضي المدة، كما لو استأجره يوما للبناء فلم يستعلمه فيه، فاما ان شارطه على البرء فان مذهبنا ومذهب أحمد ابن حنبل ان ذلك يكون جعالة فلا يستحق شيئا حتى يتحقق البرء، سواء وجد قريبا أو بعيدا، فان برئ بغير دوائه أو تعذر علاجه لموته أو غير ذلك من الموانع التى هي من جهة المستاجر فله أجر مثله، كما لو عمل العامل في الجعالة ثم فسخ العقد، وان امتنع لامر من جهة المعالج أو غير الجاعل فلا شئ له على تفصيل سيأتي في الجعالة ان شاء الله.

 

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

وان مات الاجير في الحج قبل الاحرام نظرت، فان كان العقد على حج في الذمة استؤجر من تركته من يحج، فان لم يمكن ثبت المستأجر الخيار في فسخ العقد كما قلنا في السلم، وان كان على حجة بنفسه انفسخ العقد، لانه تلف المعقود عليه قبل القبض، فان مات بعدما أتى بجميع الاركان وقبل المبيت والرمى سقط الفرض لانه أتى بالاركان، ويجب في تركته الدم لما بقى كما يجب ذلك في حج نفسه.

وان مات بعد الاحرام وقبل أن يأتي بالاركان فهل يجوز أن يبنى غيره على علمه؟ فيه قولان، قال في القديم: يجوز لانه عمل تدخله النيابة فجاز البناء عليه كسائر الاعمال.

وقال في الجديد: لا يجوز، وهو الصحيح، لانه عبادة يفسد أولها بفساد آخرها فلا تتأدى بنفسين كالصوم والصلاة، فان قلنا لا يجوز البناء فان كانت الاجارة على عمل الاجير بنفسه بطلت، لانه فات المعقود عليه ويستأجر المستأجر من يستأنف الحج.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 84)

________________________________________

وان كانت الاجارة على حج في الذمة تبطل، لان المعقود عليه لم يفت بموته، فان كان وقت الوقوف باقيا استؤجر من تركته من يحج، وان فات وقت الوقوف فللمستأجر ان يفسخ لانه تأخر حقه فثبت له الفسخ.

وان قلنا: يجوز البناء على فعل الاجير: فان كانت الاجارة على فعل الاجير بنفسه، بطلت لان حجه فات بموته، فان كان وقت الوقوف باقيا أقام المستأجر من يحرم بالحج ويبنى عمل الاجير، وان كان بعد فوات وقت الوقوف أقام من يحرم بالحج ويتم.

وقال أبو إسحاق: لا يجوز للبانى أن يحرم بالحج، لان الاحرام بالحج في غير أشهر الحج لا ينعقد، بل يحرم بالعمرة ويتم، والصحيح هو الاول لانه لا يجوز ان يطوف في العمرة ويقع عن الحج، وقوله: ان الاحرام بالحج لا ينعقد في غير أشهر الحج لا يصح، لان هذا بناء على إحرام حصل في أشهر الحج، وان كانت الاجارة على حج في الذمة استؤجر من تركه الاجير من يبنى على إحرامه على ما ذكرناه.

 

(فصل)

ومتى انفسخ العقد بالهلاك أو بالرد بالعيب أو بتعذر المنفعة بعد استيفاء بعض المنفعة قسم المسمى على ما استوفى وعلى ما بقى، فما قابل المستوفى استقر، وما قابل الباقي سقط، كما يقسم الثمن على ما هلك من المبيع وعلى ما بقى، فإذا كان ذلك مما يختلف رجع في تقويمه إلى أهل الخبرة، وان كان العقد على الحج فمات الاجير أو أحصر نظرت، فان كان بعد قطع المسافة وقبل الاحرام فَفِيهِ وَجْهَانِ

(أَحَدُهُمَا)

وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ: انه لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ الْأُجْرَةِ بِنَاءُ عَلَى قوله في الام: إن الاجرة لا تقابل قطع المسافة وهو الصحيح، لان الاجرة في مقابلة الحج وابتداء الحج من الاحرام وما قبله من قطع المسافة تسبب إلَى الْحَجِّ وَلَيْسَ بِحَجٍّ فَلَمْ يَسْتَحِقَّ فِي مُقَابَلَتِهِ أُجْرَةً كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَخْبِزَ لَهُ فَأَحْضَرَ الْآلَةَ

وَأَوْقَدَ النَّارَ وَمَاتَ قَبْلَ أن يخبز.

 

(وَالثَّانِي)

وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ وَأَبِي بكر الصيرفى أنه يستحق من مِنْ الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ مَا قَطَعَ مِنْ الْمَسَافَةِ بناء على قوله في الاملاء أن الاجرة تقابل قطع المسافة والعمل لان الحج لا يتأدى الا بهما فقسطت الاجرة عليهما.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 85)

________________________________________

وان كان بعد الفراغ من الاركان وقبل الرمى والمبيت ففيه طريقان، أحدهما يلزمه أن يرد من الاجرة بقدر ما ترك قولا واحدا لانه ترك بعض ما استؤجر عليه فلزمه رد بدله، كما لو استؤجر على بناء عشرة أذرع فبنى تسعة، ومنهم من قال: فيه قولان

(أحدهما)

يلزمه لما ذكرناه

(والثانى)

لا يلزمه لان ما دخل على الحج من النقص بترك الرمى والمبيت جبره بالدم، فصار كما لو لم يتركه، وان كان بعد الاحرام وقبل أن ياتي بباقى الاركان ففيه قولان (احدهما) لا يستحق شيئا كما لو قال من رد عبدى الابق فله دينار فرده رجل إلى باب البلد ثم هرب

(والثانى)

انه يستحق بقدر ما علمه وهو الصحيح، لانه عمل بعض ما استؤجر عليه فاشبه إذا استؤجر على بناء عشرة اذرع فبنى بعضها ثم مات.

فإذا قلنا: انه يستحق بعض الاجرة فهل تقسط الاجرة على العمل والمسافة أو على العمل دون المسافة؟ على ما ذكرناه من القولين.

 

(فصل)

وان اجر عبدا ثم اعتقه صح العتق لانه عقد على منفعة فلم يمنع العتق كما لو زوج امته ثم اعتقها، ولا تنفسخ الاجارة كما لا ينفسخ النكاح، وهل يرجع العبد على مولاه بالاجرة؟ فيه قولان، قال في الجديد: لا يرجع وهو الصحيح، لانها منفعة استحقت بالعقد قبل العتق فلم يرجع ببدلها بعد العتق

كما لو زوج امته ثم اعتقها، وقال في القديم: يرجع لانه فوت بالاجارة ما ملكه من منفعته بالعتق، فوجب عليه البدل.

فان قلنا يرجع بالاجرة كانت نفقته على نفسه لانه ملك بدل منفعته فكانت نفقته عليه، كما لو أجر نفسه بعد العتق، وان قلنا: لا يرجع بالاجرة ففى منفعته وجهان.

 

(أحدهما)

انها على المولى، لانه كالباقي على ملكه بدليل أنه يملك بدل منفعته بحق الملك، فكانت نفقته عليه.

 

(والثانى)

أنها في بيت المال لانه لا يمكن ايجابها على المولى، لانه زال ملكه عنه، ولا على العبد لانه لا يقدر عليها في مدة الاجارة، فكانت في بيت المال.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 86)

________________________________________

(الشرح) إذَا مَاتَ الْأَجِيرُ فِي أَثْنَاءِ الْحَجِّ فَلَهُ احوال: ١ - يموت بعد الشروع في الاركان وقبل الفراغ منها.

٢ - أَنْ يَمُوتَ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي السَّفَرِ وَقَبْلَ الاحرام.

٣ - أن يموت بعد الفراغ من الاركان وقبل الفراغ من باقى الاعمال.

فأما الاولى وهى الموت بعد الشروع وقبل الفراغ من الاركان ففى استحقاق الاجرة قولان مشهوران أوردهما المصنف هنا

(أَحَدُهُمَا)

لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ الْمَقْصُودُ فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ: مَنْ رَدَّ ضالتي فَلَهُ دِينَارٌ فَرَدَّهُ إلَى بَابِ الدَّارِ ثُمَّ هربت أو ماتت فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا، وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْمُصَنِّفِ، ووافقه النووي والاصحاب يستحق بقدر عمله، لقيامه بجزء مما استؤجر له فوجب له بقدره كمن استؤجر لقطع عشرة اميال فقطع بعضها أو بناء عَشْرَةِ أَذْرُعِ فَبَنَى بَعْضَهَا ثُمَّ مَاتَ فَإِنَّهُ يستحق بقدره بخلاف الجعالة فانها ليست عقدا لازما، ولكنها التزام بشرط فان لم يوجد الشرط تاما فانه لا يلزمه شئ كالطلاق المعلق، ونقل النووي عن الشيخ أبى حامد والاصحاب القول الاول وهو نص الشافعي في القديم، والثانى

نصه في الجديد والام وهو الاصح.

وسواء مات بعد الوقوف بعرفة أَوْ قَبْلَهُ فَفِيهِ الْقَوْلَانِ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ.

وحكى الرافعى وجها شاذا أنه يستحق بعده، ثم في استحقاقه إذا قلنا به هل يكون على الاعمال والمسافة معا أم على الاعمال فقط؟ قولان، أصحهما: على الاعمال والمسافة جميعا عند الاكثرين، وممن صححه الرافعى، وأصحهما عند المصنف وطائفة على الاعمال فقط، وفى المسألة طريق آخر ساقه النووي عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ إنْ قَالَ: اسْتَأْجَرْتُكَ لِتَحُجَّ عَنِّي قُسِّطَ عَلَى الْعَمَلِ فَقَطْ، وَإِنْ قَالَ: لِتَحُجَّ مِنْ بَلَدِ كَذَا قُسِطَ عَلَيْهِمَا جميعها، وحمل القولين على هذين الحالين.

وأما الحال الثانية: وهى أن يموت قبل الاحرام وبعد الشروع في السفر، ففيه وجهان مشهوران الصحيح ومنصوص الشافعي فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ: لَا يستحق شيئا من الاجرة لانه لم يقم بشئ من أعمال الحج، وليست المسافة بسبب الحج من الحج كما لو أجر خبازا ليخبز له فاستحضر أدواته

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 87)

________________________________________

وأوقد تنوره ثم مات قبل أن يخبز فلا استحقاق له: وساق النووي تعليلا لغير المصنف بأنه لم يحصل شيئا من المقصود.

والوجه الثاني وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ: يَسْتَحِقُّ مِنْ الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ مَا قَطَعَ من المسافة.

وَحَكَى الرَّافِعِيُّ وَجْهًا ثَالِثًا عَنْ أَبِي الْفَضْلِ ابن عَبْدَانَ أَنَّهُ إنْ قَالَ: اسْتَأْجَرْتُكَ لِتَحُجَّ مِنْ بلد كذا استحق بقسطه، ثم في البناء على فعل الاجير نظر، إنْ كَانَتْ إجَارَةُ عَيْنٍ انْفَسَخَتْ وَلَا بِنَاءَ لِوَرَثَةِ الْأَجِيرِ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ، وَهَلْ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَبْنِيَ؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ السَّابِقَانِ فِي الْفَرْعِ قَبْلَهُ فِي جَوَازِ الْبِنَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى الذِّمَّةِ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَجُوزُ الْبِنَاءُ فَلِوَرَثَةِ الْأَجِيرِ أَنْ يَسْتَأْجِرُوا مَنْ يَسْتَأْنِفُ الْحَجَّ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ، فَإِنْ أَمْكَنَهُمْ

فِي تِلْكَ السَّنَةِ لِبَقَاءِ الوقت فذاك، وان تأخر إلى القابل ثبت الخيار في فسخ الاجارة، فان جوزنا البناء فلورثة الاجير أن يبنوا.

وأما الحال الثالثة: وهى موتة قبل الفراغ من الاعمال بعد أدائه الاركان فينظر، ان كان قد فات وقتها أو لم يفت ولم نجوز البناء يجبر الباقي بالدم من مال الاجير، وفى رد شئ من الاجرة الخلاف فِيمَنْ أَحْرَمَ بَعْد مُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ وَلَمْ يَعُدْ إليه وجبره بالدم، الْمَذْهَبُ وُجُوبُ الرَّدِّ وَإِنْ جَوَّزْنَا الْبِنَاءَ وَكَانَ الوقت متسعا فان كانت الاجارة على العين انفسخت في الباقي من الاعمال، ووجب رد ما يقابلها مِنْ الْأُجْرَةِ، وَيَسْتَأْجِرُ الْمُسْتَأْجِرُ مَنْ يَرْمِي وَيَبِيتُ، ولا حاجة إلى الاحرام لان الرمى والمبيت يؤديان بعد التحلل، ولا يلزم بذلك دم ولا شئ من الاجرة، هكذا ذكره المتولي وغيره، والله تعالى أعلم بالصواب.

قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

وان أجر عينا ثم باعها من غير المستأجر ففيه قولان، أحدهما: أن البيع باطل لان يد المستأجر تحول دونه فلم يصح البيع، كبيع المغصوب من غير الغاصب، والمرهون من غير المرتهن، والثانى: يصح لانه عقد على المنفعة فلم يمنع صحة البيع، كما لو زوج أمته ثم باعها ولا تنفسخ الاجارة كما لا ينفسخ النكاح في بيع الامة المزوجة.

وان باعها من المستأجر صح البيع قولا واحدا

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 88)

________________________________________

لانه في يده لا حائل دونه فصح بيعها منه، كما لو باع المغصوب من الغاصب، والمرهون من المرتهن، ولا تنفسخ الاجارة بل يستوفى المستأجر المنفعة بالاجارة لان الملك لا ينافى الاجارة، والدليل عليه أنه يجوز أن يستأجر ملكه من المستأجر، فإذا طرأ عليها لم يمنع صحتها، وإن تلفت المنافع قبل انقضاء المدة انفسخت الاجارة ورجع المشترى بالاجرة لما بقى على البائع.

 

(فصل)

فإن أجر عينا من رجل ثم مات أحدهما لم يبطل العقد، لانه عقد لازم فلا يبطل بالموت مع سلامة المعقود عليه كالبيع، فإن أجر وقفا عليه ثم مات ففيه وجهان.

 

(أحدهما)

لا يبطل لانه أجر ما يملك إجارته فلم يبطل بموته كما لو أجر ملكه ثم مات فعلى هذا يرجع البطن الثاني في تركه المؤجر المدة الباقيه لان المنافع في المدة الباقيه حق له، فاستحق أجرتها.

 

(والثانى)

تبطل لان المنافع بعد الموت حق لغيره فلا ينفذ عقده عليها من غير إذن ولا ولايه، ويخالف إذا أجر ملكه ثم مات، فان الوارث يملك من جهة الموروث: فلا يملك ما خرج من ملكه بالاجارة والبطن الثاني يملك غلة الوقف من جهة الواقف، فلم ينفذ عقد الاول عليه، وإن أجر صبيا في حجره أو أجر ماله ثم بلغ ففيه وجهان.

أحدهما: لا يبطل العقد لانه عقد لازم عقده بحق الولاية فلا يبطل بالبلوغ كما لو باع داره، والثانى يبطل لانه بان بالبلوغ أن تصرف الولى إلى هذا الوقت والصحيح عندي في المسائل كلها أن الاجارة لا تبطل وبالله التوفيق.

(الشرح) قال الماوردى في الحاوى الكبير: فإذا بيعت الدار المستأجرة فذلك ضربان.

أحدهما: أن تباع على المستأجر فالبيع جائز والاجارة بحالها، ويصير جامعا بين ملك المنفعة بالاجارة والرقبه بالبيع، والفرق بنى أن يرثها المستأجر فتبطل الاجارة وبين أن يبتاعها فلا تبطل أنه بالارث صار قائما مقام المؤجر فلم يجز له عقد على نفسه، وهو بالبيع لا يقوم مقام البائع إلا فيما سمى بالعقد.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 89)

________________________________________

والضرب الثاني أن تباع على أجنبي غير المستأجر، ففى البيع قولان: أحدهما

أنه باطل والاجارة لحالها، لان يد المستأجر ممنوعة بحق فصارت أسوأ حالا من المغصوب الذى يمنع يد المشترى منه بظلم.

والقول الثاني وهو الصحيح أن البيع صحيح والاجارة لازمة لان ثبوت العقد على المنفعة لا يمنع من بيع الرقبة كالامة المزوجة، فعلى هذا ان كان المشترى عالما بالاجرة فلا خيار له والاجرة للبائع لانه قد ملكها بعقده.

وان كان غير عالم فله الخيار بين المقام والفسخ.

اه قلت: وقد نص أحمد رضى الله عنه على صحة البيع سواء باعها من المستأجر أو من غيره.

وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

وقال في الآخر: ان باعها لغير المستأجر لم يصح البيع، لان يد المستأجر حائلة تمنع التسليم إلى المشترى فمنعت الصحة كما في المغصوب.

فإذا ثبت هذا فان المشترى يملك مسلوب المنفعة إلى حين انقضاء الاجارة، ولا يستحق تسليم العين الا حينئذ، لان تسليم العين انما يراد لاستيفاء نفعها، ونفعها انما يستحقه إذا انقضت الاجارة فيصير هذا بمنزلة من اشترى عينا في مكان بعيد، فانه لا يستحق تسليمها الا بعد مضى مدة يمكن احضارها فيها، كالمسلم إلى وقت لا يستحق تسلم المسلم فيه الا في وقته، فان لم يعلم المشترى بالاجارة فله الخيار بين الفسخ وامضاء البيع بكل الثمن.

لان ذلك عيب ونقص.

وعلى هذا إذا اشتراها المستأجر صح البيع أيضا: لانه يصح بيعها لغيره فله أولى لان العين في يده، وهل تبطل الاجارة؟ لا تبطل الاجارة عندنا قولا واحدا.

وعند أحمد وأصحابه وجهان:

(أحدهما)

وهو المذهب عندنا عدم البطلان لانه تملك المنفعة بعقد ثم ملك الرقبة المسلوبة بعقد آخر فلم يتنافيا، كما يملك الثمرة بعقد ثم يملك الاصل بعقد آخر، ولو أجر الموصى بالمنفعة مالك الرقبة صحت الاجارة، فدل على أن ملك

المنفعة لا ينافى العقد على الرقبة.

وكذلك لو استأجر المالك العين المستأجرة من مستأجرها جاز.

فعلى هذا يكون الاجر باقيا على المشترى وعليه الثمن ويجتمعان للبائع كما لو كان المشترى غيره

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 90)

________________________________________

والوجه الثاني: تبطل الاجارة فيما بقى من المدة لانه عقد على منفعة العين فبطل ملك العاقد للعين كالنكاح، فإنه لو تزوج أمة ثم اشتراها بطل نكاحه.

قالوا ولان ملك الرقبة يمنع ابتداء الاجارة فمنع استدامتها كالنكاح، فعلى هذا يسقط عن المشترى الاجر فيما بقى من الاجارة، كما لو بطلت الاجارة بتلف العين، وإن كان المؤجر قد قبض الاجر كله حسب عليه باقى الاجر من الثمن والله تعالى أعلم.

(فرع)

قال المزني: قال الشافعي ولا يفسخ بموت أحدهما إذا كانت الدار قائمة وليس الوارث بأكثر من الموروث الذى عنه ورثوا.

اه فإذا ثبت هذا فان عقد الاجارة لازم لا ينفسخ بموت المؤجر ولا المستأجر وبه قال مالك واحمد واسحاق.

وقال أبو حنيفة وسفيان والليث بن سعد: الاجارة تبطل بموت المؤجر والمستأجر استدلالا بأن عقود المنافع تبطل بموت العاقد كالنكاح والمضاربة والوكالة، ولان الاجارة تفتقر إلى مؤجر ومواجر فلما بطلت بتلف المواجر بطلت بتلف المؤجر، وتحريره قياسا أنه عقد اجارة يبطل بتلف المواجر فوجب ان يبطل بتلف المؤجر قياسا عليه إذا أجر نفسه، ولان زوال ملك المؤجر عن رقبة المواجر يوجب فسخ الاجارة قياسا عليه إذا باع ما أجره برضى المستأجر، ولان منافع الاجارة انما تستوفى بالعقد والملك، وقد زال ملك المؤجر بالموت وان كان عاقدا.

والوارث لا عقد عليه وان صار مالكا، فصارت منتقلة من العاقد إلى من ليس بعاقد، فوجب أن يبطل لتنافى اجتماع

العقد والملك.

ودليلنا هو ان ما لزم من عقود المعاوضات المحضة لم تنفسخ بموت أحد المتعاقدين كالبيع، فان قيل ينتقض بموت من أجر نفسه لم يصح لان العقد انما يبطل بتلف المعقود عليه لا بموت العاقد، ألا تراه لو كان حيا فزمن بطلت الاجارة، وان كان العاقد حيا، ولان السيد قد يعاوض على بضع أمته بعقد النكاح كما يعاوض على خدمتها بعقد الاجارة.

فلما لم يكن موته مبطلا للعقد على بضعها لم يبطل بالعقد على استخدامها.

ويتحرر من هذا الاعتلال قياسان:

(أحدهما)

أنه عقد لازم على منافع ملكه فلم يبطل بموته كالنكاح على أمته

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 91)

________________________________________

(والثانى)

أنه أحد منفعتي الامة فلم يبطل بموت السيد كالمنفعة الاخرى، ولان المنافع قد تنتقل بالمعاوضة كالاعيان فجاز أن تنتقل بالارث كالاعيان.

ويتحرر من هذا الاعتلال قياسان:

(أحدهما)

أن ما صح أن ينتقل بعوض صح أن تنقل به المنافع في الاجارات ولان بالموت يعجز عن إقباض ما استحق تسليمه بعقد الاجارة فلم يبطل بعد العقد كالجنون والزمانة، ولانه عقد لا يبطل بالجنون فلم يبطل بالموت كالبيع، ولان منافع الاعيان مع بقاء ملكها قد يستحق بالرهن تارة وبالاجارة أخرى.

فلما كان ما تستحق منفعته بارتهانه إذا انتقل ملكه بالموت لم يوجب بطلان رهنه وجب أن يكون ما استحقت منفعته بالاجارة إذا انتقل ملكه بالموت لم يوجب بطلان إجارته، وقد استدل الشافعي بهذا في الام.

ولان الوارث إنما يملك بالارث ما كان يملكه الموروث، والموروث إنما كان يملك الرقبة دون المنفعة فلم يجز أن يصير الوارث مالكا للرقبة والمنفعة، ولان إجارة الوقف لا تبطل بموت موجره بوفاق أبى حنيفة.

وإن قال بعض

أصحابنا: تبطل، فكذلك إجارة الملك لا تبطل بموت موجره كالوقف وأما الجواب عن قياسه على النكاح والمضاربة مع انتقاضه بالوقف فهو أنه إن رده إلى النكاح، فالنكاح لم يبطل بالموت، وانما انقضت مدته بالموت فصار كانقضاء مدة الاجارة.

وان رده إلى المضاربة والوكالة فالمعنى فيهما عدم لزومهما في حال الحياة، وجواز فسخهما بغير عذر، وليست الاجارة كذلك للزومهما في حال الحياة.

وأما الجواب عن قياسه على انهدام الدار، فهو أن المعنى فيه فوات المعقود عليه قبل قبضه.

وأما الجواب عن قياسه على ما إذا باع ما أجر برضى المستأجر فهو غير مسلم الاصل لان الاجارة لا تبطل بالبيع عن رضاه كما لا تبطل بالبيع عن سخطه، وإنما البيع مخطب في إبطاله ثم ينتقص على أصله بعتق العبد المواجر قد زال ملك

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 92)

________________________________________

سيده عن رقبته مع بقاء الاجارة عليها، فكذلك إذا زال بالبيع والموت.

وأما الجواب عن استدلاله بأن المنافع تستوفى بعقد وملك وهذا مفترق بالموت، فهو أن اجماعهما يعتبر عند العقد ولا يعتبر فيما بعد كما لو أعتق أو باع ولا يمتنع أن يستوفى من يد الوارث ما لم يعاقد عليه كما يستوفى منه ثمن ما اشتراه الموروث ويقبض منه أعيان ما ترك الموروث، لان الموروث قد ملك عليه ذلك بعقده فلم يملكه الوارث بموته.

فأما قول الشافعي: فان قيل: فقد انتفع المكترى بالثمن قيل: كما لو أسلم في متاع لوقت فانقطع ذلك أو ابتاع متاعا غائبا ببلد ودفع الثمن فهلك المتاع رجع بالثمن وقد انتفع به البائع فهذا سؤال أورده الشافعي، وقد اختلف أصحابنا في مراده فقال أبو إسحاق المروزى: أراد به الرد على من اجل الاجره ومنع من

حلولها لئلا ينتفع المكرى بالاجرة قبل انتفاع المكترى بالمنفعة، وقد تنهدم الدار فتفوت المنفعة فقال الشافعي: مثل هذا ليس يمتنع كما أن بائع السلم قد يتعجل مقتضى الثمن وينتفع به وقد يهلك المسلم فيه عند محله فيسترجع ثمن ما انتفع به البائع دون المشترى، وكما يقبض غائب عنه فيتلف قبل قبضه فيرد ثمنه بعد الانتفاع به.

وقال أبو العباس بن سريج: يحتمل أن يريد به الرد على من أبطل الاجاره بموت المؤجر لئلا ينتفع المؤجر بالاجرة ويلزم وارثه تسليم المنفعة فأجاب عنه بما ذكرنا من الجوابين.

وقال أبو حامد الاسفرايينى: انما أراد به ان انهدام الدار وموت العبد في تضاعيف المدة يبطل الاجاره فيما بقى ويوجب أن يرد من الاجره بقسطها، وان انتفع المكرى بها ولم ينتفع المكترى بما قابلها فأجاب بما ذكرنا من انتفاع البائع بثمن المسلم فيه وتلف العين الغائبة.

وقال المزني: هذا تجويز بيع الغائب، وعنه جوابان

(أحدهما)

أنه محمول على أحد قوليه

(والثانى)

أنه محمول على بيع غائب قدراه: فإذا ثبت أن اجارة الملك لا تبطل بموت المؤجر والمستأجر انتقل الكلام إلى اجارة الوقف، فإن أجر ولا حق له في غلته صحت اجارته ولم تبطل بموته

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 93)

________________________________________

لانه لم يؤجل ملكه وإنما ناب عن غيره، وإن أجره من يستحق غلته ويستوجب أجرته لكونه وقفا عليه فقد اختلف أصحابنا في بطلان الاجارة بموته على وجهين

(أحدهما)

وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أن الاجارة قد بطلت بموته وانتقال المنفعة إلى غيره، وفرق بين المالك والوقف بأن وارث الملك يملك عن المؤجر فلم يملك ما خرج عن ملك المؤجر، وليس كذلك الوقف، لان مؤجره يملك منفعته مدة حياته، فإذا فقد انقطع ملكه وانتقل إلى من بعده بشرط

الوقف بالارث.

(والوجه الثاني) وهو الاظهر: الاجارة لا تبطل لان مؤجره وال قد أجره في حق نفسه وحق من بعده بولايته، فإذا انقضى حقه بموته صحت إجارته في حق من بعده بولايته، فإذا كان قد استوفى الاجرة استرجع من تركته أجرة ما بقى من المدة بعد موته.

وإذا استأجر الرجل من أبيه دارا سنة ودفع إليه الاجرة ثم مات الاب نظرت فان لم يكن له غير هذا الابن المستأجر فقد سقط حكم الاجارة لانه صار مالكا للدار والمنفعة إرثا فامتنع بقاء عقده على المنفعة، فان لم يكن على أبيه دين فقد صارت الدار مع التركة إرثا، وإن كان على أبيه دين ضرب مع الغرماء بقدر الاجرة، لانها صارت بانفساخ الاجارة بالارث دينا على الاب فساوى الغرماء فيها، فلو كان للاب ابن آخر انفسخت الاجارة في نصف الدار وهو حصة المستأجر ولزمت في حصة الابن الآخر ورجع المستأجر منهما بنصف الاجره في تركة أبيه لانها صارت دينا عليه.

فإذا أجر الاب أو الوصي صبيا ثم بلغ في الصبى في مدة الاجارة رشيدا لاجارة لازمة لا تنفسخ ببلوغه وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 94)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله تعالى:

* (باب تضمين المستأجر والاجير)

* إذا تلفت العين المستأجرة في يد المستأجر من غير فعله لم يلزمه الضمان، لانه عين قبضها ليستوفى منها ما ملكه، فلم يضمنها بالقبض كالمرأة في يد الزوج، والنخلة التى اشترى ثمرتها، وإن تلفت بفعله نظرت فان كان بغير عدوان كضرب الدابة وكبحها باللجام للاستصلاح لم يضمن لانه هلك من فعل مستحق فلم يضمنه كما لو هلك تحت الحمل، وان تلفت بعدوان كالضرب من غير حاجة لزمه الضمان،

لانه جناية على مال الغير لزمه ضمانه.

 

(فصل)

وان اكترى ظهرا إلى مكان فجاوز به المكان فهلك نظرت، فان لم يكن معه صحابه لَزِمَهُ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مَا كَانَتْ مِنْ حِينِ جاوز به المكان إلى أن تلف لانه ضمنه باليد من حين جاوز فصار كالغاصب، وان كان صاحبه معه نظرت، فان هلك بعد نزوله وتسليمه إلى صاحبه لم يضمن، لانه ضمنه باليد فبرئ بالرد كالمغصوب إذا رده إلى مالكه، وان تلف في حال السير والركوب ضمن، لانه هلك في حال العدوان، وفى قدر الضمان قولان.

 

(أحدهما)

نصف قيمته، لانه تلف من مضمون وغير مضمون، فكان الضمان بينهما نصفين، كما لو مات من جراحته وجراحة مالكه.

 

(والثانى)

أنه تقسط القيمة على المسافتين، فما قابل مسافة الاجارة سقط، وما قابل الزيادة يجب، لانه يمكن تقسيطه على قدرهما فقط بناء على القولين في الجلاد إذا ضرب رجلا في القذف احدى وثمانين فمات، وان تعادل اثنان ظهرا استأجراه وارتدف معهما ثالث من غير اذن فتلف الظهر ففيه ثلاثه أوجه.

(أحدها) أنه يجب على المرتدف نصف القيمة، لانه هلك من مضمون وغير مضمون.

 

(والثانى)

يجب عليه الثلث، لان الرجال لا يوزنون فقسط الضمان على عددهم.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 95)

________________________________________

(والثالث) أنه يقسط على أوزانهم، فيجب على المرتدف ما يخصه بالوزن لانه يمكنه تقسيطه بالوزن فقسط عليه.

 

(فصل)

وان استأجر عينا واستوفى المنفعة وحبسها حتى تلفت، فإن كان حبسها لعذر لم يلزمه الضمان، لانه أمانة في يده فلم يضمن بالحبس لعذر كالوديعة

وان كان لغير عذر فإن قلنا لا يجب الرد قبل الطلب لم يضمن كالوديعة قبل الطلب، وان قلنا يجب ردها ضمن كالوديعة بعد الطلب

(فصل)

وان تلفت العين التى استؤجر على العمل فيها نظرت، فإن كان التلف بتفريط بأن استأجره ليخبز له فأسرف في الوقود أو ألزقه قبل وقته أو تركه في النار حتى احترق ضمنه لانه هلك بعدوان فلزمه الضمان.

وان استؤجر على تأديب غلام فضربه فمات ضمنه، لانه يمكن تأديبه بغير الضرب، فإذا عدل إلى الضرب كان ذلك تفريطا منه فلزمه الضمان.

وان كان التلف بغير تفريط، نظرت، فإن كان العمل في ملك المستأجر بأن دعاه إلى داره ليعمل له، أو كان العمل في دكان الاجير والمستأجر حاضر، أو اكتراه ليحمل له شيئا وهو معه لم يضمن، لان يد صاحبه عليه فلم يضمن من غير جناية.

وان كان العمل في يد الاجير من غير حضور المستأجر نظرت، فان كان الاجير مشتركا، وهو الذى يعمل له ولغيره، كالقصار الذى يقصر لكل أحد والملاح الذى يحمل لكل أحد ففيه قولان:

(أحدهما)

يجب عليه الضمان، لما روى الشعبى عن أنس رضى الله عنه قال: استحملني رجل بضاعة فضاعت من بين متاعى.

فضمنيها عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه.

وعن خلاس بن عمرو أن عليا رضى الله عنه كان يضمن الاجير.

وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن على كرم الله وجهه أنه كان يضمن الصباغ والصواغ وقال لا يصلح الناس الا ذلك.

ولانه قبض العين لمنفعته من غير استحقاق فضمنها كالمستعير، والثانى: لا ضمان عليه، وهو قول المزني، وهو الصحيح.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 96)

________________________________________

قال الربيع: كان الشافعي رحمه الله يذهب إلى أنه لا ضمان على الاجير، ولكنه لا يفتى به لفساد الناس، والدليل عليه أنه قبض العين لمنفعته ومنفعة المالك فلم يضمنه كالمضارب.

وإن كان الاجير منفردا وهو الذى يعمل له ولا يعمل لغيره، فقد اختلف أصحابنا فيه، من قال: هو كالاجير المشترك وهو المنصوص، فان الشافعي رحمه الله قال: والاجراء كلهم سواء، فيكون على قولين لانه منفرد باليد فأشبه الاجير المشترك، ومنهم من قال: لا يجب عليه الضمان قولا واحدا لانه منفرد بالعمل فأشبه إذا كان عمله في دار المستأجر.

فإن قلنا إنه أمين فتعدى فيه ثم تلف ضمنه بقيمته أكثر ما كانت من حين تعدى إلى أن تلف، لانه ضمن بالتعدي فصار كالغاصب، وان قلنا انه ضامن لَزِمَهُ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مَا كَانَتْ مِنْ حِينِ الْقَبْضِ إلَى حِينِ التَّلَفِ كالغاصب.

ومن أصحابنا من قال: يلزمه قيمته وقت التلف كالمستعير.

وليس بشئ

(فصل)

وان عمل الاجير بعض العمل أو جميعه ثم تلف نظرت فان كان العمل في ملك صاحبه أو بحضرته وجبت له الاجرة أنه تحت يده فكل ما عمل شيئا صار مسلما له، وان كان في يد الاجير فان قلنا انه أمين لم يستحق الاجرة لانه لم يسلم العمل، وان قلنا انه ضامن استحق الاجرة لانه يقوم عليه معمولا فيصير بالتضمين مسلما للعمل فاستحق الاجرة

(فصل)

وان دفع ثوبا إلى خياط وقال: ان كان يكفيني لقميص فاقطعه فقطعه ولم يكفه لزمه الضمان، لانه أذن له بشرط فقطع من غير وجود الشرط فضمنه.

وان قال: أيكفينى للقميص؟ فقال نعم، فقال اقطعه فقطعه فلم يكفه لم يضمن لانه قطعه بإذن مطلق.

(الشرح) الاخبار الواردة في هذه الفصول كرواية الشعبى عن أنس وخبر

خلاس بن عمرو ففى الام.

وقد روى الشافعي خبر جعفر الصادق قال: أخبرنا بذلك ابراهيم بن أبى يَحْيَى عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عليا ضمن الغسال

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 97)

________________________________________

والصباغ وقال: لا يصلح الناس الا بذلك.

وقد أعلها الشافعي كما سيأتي في شرح الفصل.

أما الاحكام، فان الدابة إذا لم يكن صاحبها معها لزم المكترى قيمتها كلها، وان كان معها فتلفت في يد صاحبها لم يضمنها المكترى لانها تلفت في يد صاحبها أشبه ما لو تلفت بعد مدة التعدي، وان تلفت بفعل تحت الراكب ففيه قولان.

 

(أحدهما)

يلزمه نصف قيمتها لانها تلفت بفعل مضمون وغير مضمون أشبه ما لو تلفت بجراحته وجراحة مالكها.

 

(والثانى)

تقسط القيمة على المسافتين، فما قابل مسافة الاجارة سقط ووجب الباقي، ونحو هذا قول أبى حنفيه فانه قال: من اكترى جملا لحمل تسعة فحمل عشرة فتلف فعلى المكترى عشر قيمته، وموضع الخلاف في لزوم كمال القيمة إذا كان صاحبها مع راكبها أو تلفت في يد صاحبها.

فأما إذا تلفت حال التعدي ولم يكن صاحبها مع راكبها فلا خلاف في ضمانها بكمال قيمتها لانها تلفت في يد عادية فوجب ضمانها كالمخصوبة، وكذلك إذا تلفت تحت الراكب أو تحت حمله وصاحبها معها، لان اليد للراكب وصاحب الحمل، بدليل أنهما لو تنازعا دابة أحدهما راكبها أو له عليها حمل والآخر آخذ بزمامها لكانت للراكب ولصاحب الحمل، ولان الراكب متعد بالزيادة وسكوت صاحبها لا يسقط الضمان.

كمن جلس إلى انسان فحرق ثيابه وهو ساكت ولانها ان تلفت بسبب تعبها فالضمان على المتعدى، كمن ألقى حجرا في سفينة موقرة فغرقت.

فأما ان تلفت في يد صاحبها بعد نزول الراكب عنها فينظر، فان كان تلفها بسبب تعبها بالحمل والسير فهو كما لو تلفت تحت الحمل والراكب.

وان تلفت بسبب آخر من افتراس سبع أو سقوط في هوة ونحو ذلك فلا ضمان فيها لانها لم تتلف في يد عادية ولا بسبب عدوان.

واختلف أصحاب أحمد في الضمان فظاهر كلام الخرقى وجوب قيمتها إذا تلفت سواء تلفت في الزيادة أو بعد ردها إلى المسافة، وسواء كان صاحبها مع المكترى

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 98)

________________________________________

أو لم يكن.

وهذا ظاهر مذهب فقهاء المدينة السبعة فيما رواه الاثرم بإسناده عن أبى الزناد وقال: ربما اختلفوا في الشئ فأخذنا بقول أكثرهم وأفضلهم رأيا، فكان الذى وعيت عنهم على هذه الصفة: أن من اكترى دابة إلى بلد ثم جاوز ذلك إلى بلد سواه، فإن الدابة إن سلمت في ذلك كله أدى كراءها وكراء ما بعدها وإن تلفت في تعديها ضمنها وأدى كراءها الذى تكاراها به.

وهذا هو قول الشافعي والحكم وابن شبرمة وأحمد.

وقال القاضى من الحنابلة: إن كان المكترى نزل عنها وسلمها إلى صاحبها ليمسكها أو يسقيها فتلفت فلا ضمان على المكترى، وإن هلكت والمكترى راكب عليها أو حمله عليها فعليه ضمانها.

وقال أبو الخطاب من الحنابلة أيضا: إن كانت يد صاحبها عليها احتمل أن يلزم المكترى جميع قيمتها، واحتمل أن يلزمه نصف قيمتها.

ولنا أن ما نقلنا عن الشافعي رضى الله عنه في ضرب الدابة ونخسها مما مضى في شرح هذه الفصول كاف في توضيح المذهب.

وقال الشافعي أيضا في اختلاف العراقيين: وإذا تكارى الرجل الدابة إلى موضع فجاوزه إلى غيره فعليه كراء الموضع الذى تكاراها إليه الكراء الذى

تكاراها به، وعليه من حين تعدى إلى أن ردها كراء مثلها من ذلك الموضع.

وإذا عطبت لزمه الكراء إلى الموضع الذى عطبت فيه وقيمتها، وهذا مكتوب في كتاب الاجارات.

قال الشافعي رضى الله عنه: الاجراء كلهم سواء، فإذا تلف في أيديهم شئ من غير جنايتهم فلا يجوز أن يقال فيه الا واحد من قولين

(أحدهما)

أن يكون كل من أخذ الكراء على شئ كان ضامنا له يؤديه على السلامة أو يضمنه أو ما نقصه.

ومن قال هذا القول فينبغي أن يكون من حجته أن يقول: الامين هو من دفعت إليه راضيا بأمانته لا يعطى أجرا على شئ مما دفعت إليه، واعطائي هذا الاجر تفريق بينه وبين الامين الذى أخذ ما استؤمن عليه بلا جعل، أو يقول قائل: لا ضمان على أجير بحال من قبل أنه انما يضمن من تعدى فأخذ

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 99)

________________________________________

ما ليس له أو أخذ الشئ على منفعة له فيه، اما يتسلط على اتلافه كما يأخذ سلفا فيكون مالا من ماله فيكون ان شاء ينفقه ويرد مثله.

واما مستعير سلط على الانتفاع بما أعير فيضمن، لانه أخذ ذلك لمنفعة نفسه لا لمنفعة صاحبه فيه.

وهذان معا نقص على المسلف والمعير أو غير زيادة له، والصانع والاجير من كان ليس في هذا المعنى فلا يضمن بحال الا ما جنت يده كما يضمن المودع ما جنت يده.

وليس في هذا سنة أعلمها ولا أثر يصح عند أهل الحديث عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وقد روى فيه شئ عن عمر وعلى وليس يثبت عند أهل الحديث عنهما ولو ثبت عنهما لزم من يثبته أن يضمن الاجراء من كانوا فيضمن أجير الرجل وحده والاجير المشترك والاجير على الحفظ والرعى وحمل المتاع والاجير على الشئ يصنعه لان عمر ان كان ضمن الصناع فليس في تضمينه لهم معنى الا أن يكون ضمنهم بأنهم أخذوا أجرا على ما ضمنوا فكل من كان أخذ أجرا فهو في معناهم.

وان كان على رضى الله عنه ضمن القصار والصائع، فكذلك كل صانع.

وكل من أخذ أجرة.

وقد يقال للراعي صناعته الراعية، وللحمال صناعته الحمل للناس، ولكنه ثابت عن بعض التابعين ما قلت أولا من التضمين أو ترك التضمين.

ومن ضمن الاجير بكل حال فكان مع الاجير ما قلت مثل أن يستحمله الشئ على ظهره أو يستعمله الشئ في بيته أو غير بيته، وهو حاضر لماله أو وكيل له بحفظه فتلف ماله بأى وجه ما تلف به إذا لم يجن عليه جان فلا ضمان على الصانع ولا على الاجير.

وكذلك ان جنى عليه غيره فلا ضمان عليه، والضمان على الجاني.

اه كلام الشافعي رضى الله عنه (فرع)

إذا ترك الاجير ما يلزمه عمله بلا عذر فتلف ما استؤجر عليه ضمنه والاجير على ضربين: خاص ومشترك، فالخاص هو الذى يقع العقد عليه في مدة معلومة يستحق المستأجر نفعه في جميعها، كرجل استؤجر لخدمة أو عمل في بناء أو خياطة أو رعاية يوما أو شهرا سمى خاصا لاختصاص المستأجر بنفعه في تلك المدة دون سائر الناس، والمشترك الذى يقع العقد معه على عمل معين كخياطة ثوب وبناء حائط وحمل شئ إلى مكان معين، أو على عمل في مدة

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 100)

________________________________________

لا يستحق جميع نفعه فيها كالكحال والطبيب، سمى مشتركا لانه يتقبل أعمالا لاثنين أو ثلاثة أو أكثر لاشتراكهم في منفعته، فالاجير المشترك ضامن لما جنت يده إلا إذا كان المستأجر حاضرا في دكان الاجير وقت العمل كانت يده عليه فيكون كالاجير الخاص لم يضمن من غير جناية ويجب له أجر عمله، فكلما عمل شيئا صار مسلما إليه.

وذهب مالك إلى ما ذهب إليه الاصحاب.

وذهب أحمد إلى أنه لا فرق بين كونه في ملك نفسه أو ملك مستأجره أو كان صاحب العمل حاضرا عنده أو غائبا عنه قياسا على الطبيب والختان إذا جنت يداهما

ضمنا مع حضور المطيب والمختون فأما الاجير الخاص فهو الذى يستأجره مدة فلا ضمان عليه ما لم يتعد.

قال قال أحمد في رواية مهنا في رجل أمر غلامه أن يكيل لرجل بزرا فسقط الرطل من يده فانكسر لا ضمان عليه، فقيل: أليس هو بمنزلة القصار؟ قال لا، القصار مشترك.

قيل: فرجل اكترى رجلا يحرث له على بقرة فكسر الذى يحرث به؟ قال لا ضمان عليه.

قلت وهذا ظاهر مذهب الشافعي ومذهب مالك وأبى حنيفة وأصحابه، وللشافعي قول آخر أن جميع الاجراء يضمنون، والقول الاول أظهر.

قال الربيع: هذا مذهب الشافعي وإن لم يبح به.

وروى ذلك عن عطاء وطاوس وزفر لانها عين مقبوضة بعقد الاجارة فلم تصر مضمونة كالعين المستأجرة.

وما تلف بتعدى الخباز الذى يسرف في الوقود أو يلزقه قبل أوانه من حيث التخمر المطلوب عند خبزه، أو يتركه بعد وقته حتى يحترق، فانه يضمن في كل ذلك.

(فرع)

إذا دفع إلى خياط ثوبا فقال: إن كان يقطع قميصا فاقطعه، فقال هو يقطع، وقطعه فلم يكف فعليه ضمانه.

وإن قال: انظر هذا يكفيني قميصا؟ قال نعم.

قال اقطعه، فقطعه فلم يكفه لم يضمن، وبهذا قال أحمد وأصحاب الرأى.

وقال أبو ثور: لا ضمان عليه في المسألتين لانه لو كان غره في الاولى لكان قد غره في الثانية.

أفاده ابن قدامة في المغنى.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 101)

________________________________________

دليلنا أنه إنما أذن له في الاولى بشرط كفايته فقطعه بدون شرطه.

وفى الثانية أذن له من غير شرط فافترقا، ولم يجب عليه الضمان في الاولى لتغريره، بل لعدم الاذن في قطعه، لان إذنه مقيد بشرط كفايته فلا يكون إذنا في غير ما وجد فيه

الشرط بخلاف الثانية.

والله أعلم بالصواب.

 

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

واختلف أصحابنا فيما يأخذ الحمامى، هل هو ثمن الماء أو أجرة الدخول والسطل وحفظ الثياب، فمنهم من قال هو ثمن الماء وهو متطوع بحفظ الثياب ومعير للسطل، فعلى هذا لا يضمن الثياب إذا تلفت وله عوض السطل إذا تلف.

ومنهم من قال هو أجرة الدخول والسطل وحفظ الثياب، فعلى هذا لا يضمن الداخل السطل إذا هلك لانه مستأجر، وهل يضمن الحمامى الثياب؟ فيه قولان لانه أجير مشترك.

 

(فصل)

وان استأجر رجلا للحج فتطيب في إحرامه أو لبس، وجبت الفدية على الاجير، لانه جناية لم يتناولها الاذن فوجب ضمانها، كما لو استأجره ليشترى له ثوبا فاشتراه ثم خرقه.

وإن أفسد الحج صار الاحرام عن نفسه، لان الفاسد غير مأذون فيه فانعقد له كما لو وكله في شراء عبد فاشترى أمة، فإن كان العقد على حجه في هذه السنة انفسخ، لانه فات المعقود عليه، وإن كان على حج في الذمة ثبت له الخيار، لانه تأخر حقه، فإن استأجر للحج من ميقات فأحرم من ميقات آخر لم يلزمه شئ لان المواقيت المنصوص عليها متساوية في الحكم، وإن كان بعضها أبعد من بعض، فإذا ترك بعضها إلى بعض لم يحصل نقص يقتضى الجبران.

وإن أحرم دون الميقات لزمه دم، لانه ترك الاحرام من موضع يلزمه الاحرام منه، فلزمه دم كما لو ترك ذلك في حجه لنفسه، فإن استأجره ليحرم من دويرة أهله فأحرم دونه لزمه دم، لانه وجب عليه ذلك بعقد الاجارة فصار كما لو لزمه في حجه لنفسه بالشرع أو بالنذر فتركه.

وهل يلزمه أن يرد من الاجرة بقسطه؟ قال في القديم يهرق دما وحجه تام

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 102)

________________________________________

وقال في الام: يلزمه أن يرد من الاجرة بقدر ما ترك، فمن اصحابنا من قال يلزمه قولا واحدا، والذى قاله في القديم ليس فيه نص أنه لا يجب.

ومنهم من قال فيه قولان وهو الصحيح

(أحدهما)

لا يلزمه لان النقص الذى لحق الاحرام جبره بالدم فصار كما لو لم يترك

(والثانى)

انه يلزمه لان ترك بعض ما استؤجر عليه فلزمه رد بدله، كما لو استأجره لبناء عشرة أذرع فبنى تسعة، فعلى هذا يرد ما بين حجه من الميقات وبين حجه من الموضع الذى أحرمه منه فإن استأجره ليحرم بالحج من الميقات فأحرم من الميقات بعمرة عن نفسه ثم أحرم بالحج عن المستأجر من مكة لزمه الدم لترك الميقات، وهل يرد من الاجرة بقدر ما ترك؟ على ما ذكرناه من الطريقين، فإن قلنا يلزمه ففيه قولان قال في الام: يرد بقدر ما بين حَجَّةٍ مِنْ الْمِيقَاتِ وَحَجَّةٍ مِنْ مَكَّةَ، لِأَنَّ الحج من الاحرام وما قبله ليس من الحج.

وقال في الاملاء: يلزمه أن يرد ما بين حجه من بلده وبين حجه من مكة.

لانه جعل الاجرة في مقابلة السفر والعمل وجعل سفره لنفسه، ويخالف المسألة قبلها لان هناك سافر للمستأجر، وإنما ترك الميقات.

وان استأجره للحج فحج عنه وترك الرمى أو المبيت لزمه الدم كما يلزمه لحجه وهل يرد من الاجرة بقسطه؟ على ما ذكرناه فيمن ترك الاحرام من الميقات.

(الشرح) لا تتوقف منفعة الحمام على مجرد وجود الماء، وإنما المطلوب تبليط الحمام وعمل الابواب والبزل وهى الثقوب والفتحات التى يأتي منها الماء أو النور ومجرى الماء.

وما كان لاستيفاء المنافع كالحبل والدلو والبكرة فعلى المكترى.

وإن احتاج المكترى للتمكن من الانتفاع إلى تنقية الكف والبالوعة فعلى المكرى، وان امتلات بفعل المكترى فعليه تفريغها، وهذا

مذهب الشافعي وأحمد رضى الله عنهما.

وقال أبو ثور: هو على رب الدار، لان به يتمكن من الانتفاع، فأشبه مالو اكترى وهى ملآى.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 103)

________________________________________

وقال أبو حنيفة: القياس أنه على المكترى والاستحسان أنه على رب الدار لان عادة الناس ذلك.

وإذا انقضت الاجارة وفى الحمام قمامة من فعله فعليه رفعه.

وهو مذهب الشافعي وأبى ثور وأصحاب الرأى.

قال الشمس الرملي: نعم دخول الحمام بأجرة جائز بالاجماع مع الجهل بقدر المكث وغيره، لكن الاجرة في مقابلة الآلات لا الماء، فعليه ما يغرف به الماء غير مضمون على الداخل، وثيابه غير مضمونة على الحمامى إن لم يستحفظه عليها ويجيبه إلى ذلك، ولا يجب بيان ما يستأجره له في الدار لقرب التفاوت من السكنى ووضع المتاع، ومن ثم حمل العقد على المعهود في مثلها من سكانها، ولم يشترط عدد من يسكن اكتفاء بما اعتيد في مثلها (فرع)

إذا استأجر رجلا للحج فارتكب ما يوجب الفدية، كمس الطيب ولبس المخيط في الاحرام، فعلى الاجير الفدية من ماله، فإن أفسد أعمال الحج انقلب الْحَجُّ إلَيْهِ فَيَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ فِي مَالِهِ وَالْمُضِيُّ في فاسده والقضاء، وهذا هو الذى قطع الجمهور بصحته وتظاهرت عليه نصوص الشافعي.

وفى قَوْلٌ آخَرُ أَنَّهُ لَا يَنْقَلِبُ وَلَا يَفْسُدُ وَلَا يَجِبُ الْقَضَاءُ، بَلْ يَبْقَى صَحِيحًا وَاقِعًا عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لِلْمُسْتَأْجِرِ فَلَا تَفْسُدُ بفعل غيره.

وبهذا القول قال المزني.

ولكن المذهب الاول.

قال الشافعي رضى الله عنه: الْوَاجِبُ عَلَى الْأَجِيرِ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ الْمِيقَاتِ الواجب بالشرع أو الشرط اه.

فَإِنْ أَحْرَمَ مِنْهُ فَقَدْ فَعَلَ وَاجِبًا، وَإِنْ أحرم قبله

فقد زاد خيرا كما قال أبو حامد الاسفرايينى وغيره.

أما إذا عدل الاجير عن الميقات المعتبر إلى طريق آخر مِثْلُ الْمُعْتَبَرِ أَوْ أَقْرَبُ إلَى مَكَّةَ فَطَرِيقَانِ أَصَحُّهُمَا وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي الْأُمِّ وَبِهِ قَطَعَ البندنيجى والجمهور أنه لا شئ عليه.

وحكى القاضى حسين والبغوى وغيرهما فيه وجهين ساقهما النووي في الحج أصحهما أنه لا شئ عليه لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمِيقَاتِ الْمُعْتَبَرِ.

وَالثَّانِي أَنَّهُ كمن ترك الميقات وأحرم بعده.

وهذا القول الثاني يعتبر الشرط في تعيين المكان.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 104)

________________________________________

أما إذا اتفقا على تعيين موضع آخَرَ، فَإِنْ كَانَ أَقْرَبَ إلَى مَكَّةَ مِنْ الشرعي فالشرط فاسد يفسد الاجارة إذ لا يجوز لمريد النسك تجاوز الميقات دون إحرام وإن كان أبعد كدويرة أهله فيلزم الاجير الاحرام منها وفاء بالشرط، فان جاوزها ثم أحرم فهل يلزمه الدم؟ فيه وجهان (أصحهما) كما هو منصوص: عليه الدم لانه جاوز الميقات المشروط فأشبه مجاوزة الميقات الشرعي

(والثانى)

لا دم، فَإِنْ قُلْنَا لَا يَلْزَمُهُ الدَّمُ وَجَبَ حَطُّ قسط من الاجرة.

قال الشيخ أبو حامد والاصحاب: إن تَرَكَ نُسُكًا لَا دَمَ فِيهِ كَالْمَبِيتِ وَطَوَافِ الْوَدَاعِ إذَا قُلْنَا: لَا دَمَ فِيهِمَا لَزِمَهُ رد شئ من الاجرة بقسطه بلا خلاف فإن لزمه بفعل محظور كاللبس والقلم والطيب لم يحط عنه شئ من الاجرة بلا خلاف.

نقل الغزالي وغيره الاتفاق عليه فإذا اسْتَأْجَرَهُ لِلْقِرَانِ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَتَارَةً يَمْتَثِلُ وتارة يعدل، فإن امتثل فعلى من يجب دم القران؟ وجهان (أصحهما) على المستاجر، ولو شرطاه على الاجير فقد نص الشافعي على فساد الاجارة لجمعه بين مجهول الصفة وهو الدم، وبين الاجارة.

فإذا قلنا بالاصح إنه على الاجير، فان كان معسرا فعليه الصوم الايام الثلاثة في الحج، لان الذى في الحج منهما هو الاجير وعلى المستاجر الاجرة بكمالها.

هذا وقد أفرد الامام النووي رضى الله عنه في كتاب الحج من المجموع فصلا عن الاجير أو في والله تعالى أعلم بالصواب.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 105)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله تعالى:

* (باب اختلاف المتكاريين)

* إذا اختلف المتكاريان في مقدار المنفعة أو قدر الاجرة ولم تكن بينة تحالفا لانه عقد معاوضة فأشبه البيع وإذا تحالفا كان الحكم في فسخ الاجارة كالحكم في البيع، لان الاجارة كالبيع، فكان حكمها في الفسخ كالحكم في البيع، فان اختلفا في التعدي في العين المستأجرة فادعاه المؤجر وأنكره المستأجر، فالقول قول المستأجر، لان الاصل عدم العدوان، والبراءة من الضمان، فان اختلفا في الرد فادعاه المستأجر وأنكره المؤجر، فالقول قول المؤجر أنه لم يرد عليه، لان المستاجر قبض العين لمنفعته، فلم يقبل قوله في الرد كالمستعير، وان اختلف الاجير المشترك والمستاجر في رد العين فادعى الاجير انه ردها وانكر المستاجر فان قلنا: ان الاجير يضمن العين بالقبض لم يقبل قوله في الرد، لانه ضامن فلم يقبل قوله في الرد كالمستعير والغاصب.

وان قلنا: انه لا يضمن العين بالقبض فهل يقبل قوله في الرد؟ فيه وجهان كالوكيل يجعل: وقد مضى توجيههما في الوكالة، وان هلكت العين فادعى الاجير انها هلكت بعد العمل، وانه يستحق الاجرة وانكر المستاجر، فالقول قول المستاجر، لان الاصل عدم العمل وعدم البدل.

 

(فصل)

وان دفع ثوبا إلى خياط فقطعه قباء ثم اختلفنا فقال رب الثوب:

امرتك ان تقطعه قميصا فتعديت بقطعه قباء فعليك ضمان النقص.

وقال الخياط بل امرتي ان اقطعه قباء فعليك الاجرة، فقد حكى الشافعي رحمه الله في اختلاف العراقيين قول ابن أبى ليلى أن القول قول الخياط.

وقول أبى حنيفة رحمه الله عليه ان القول قول رب الثوب.

ثم قال: وهذا اشبه، وكلاهما مدخول.

وقال في كتاب الاجير والمستاجر: إذا دفع إليه ثوبا ليصبغه احمر نصبغه اخضر فقال: امرتك ان تصبغه احمر، فقال الصباغ: بل امرتني ان اصبغه اخضر، انهما يتحالفان.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 106)

________________________________________

واختلف اصحابنا فيه على ثلاث طرق، فمنهم من قال: فيه ثلاثة اقوال (احدهما) ان القول قول الخياط، لانه ماذون له في القطع فكان القول قوله في صفته

(والثانى)

ان القول قول رب الثوب، كما لو اختلفا في اصل الاذن (والثالث) انهما يتحالفان وهو الصحيح، لان كل واحد منهما مدع ومدعى عليه لان صاحب الثوب يدعى الارش والخياط ينكره، والخياط يدعى الاجرة وصاحب الثوب ينكره فتحالفا كالمتابعين إذا اختلفا في قدر الثمن.

ومن اصابنا من قال: المسألة على القولين المذكورين في اختلاف العراقيين وهو قول أبى العباس وأبى اسحاق وأبى على بن أبى هريرة والقاضى أبى حامد.

ومن اصحابنا من قال: هو على قول واحد انهما يتحالفان، وهو قول أبى حامد الاسفرايينى لان الشافعي رحمه الله ذكر القولين الاولين، ثم قال وكلاهما مدخول فان قلنا: ان القول قول الخياط فحلف لم يلزمه ارش النقس، لانه ثبت بيمينه انه ماذون له فيه، وهل يستحق الاجرة؟ فِيهِ وَجْهَانِ.

 

(أَحَدُهُمَا)

وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ انه لا يستحق الاجرة، لان قوله قبل في سقوط الغرم لانه منكر.

فاما في الاجرة فانه مدع فلم يقبل قوله.

 

(وَالثَّانِي)

وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: ان له الاجرة لانا قبلنا قوله في الاذن، فعلى هذا هل يجب المسمى أو اجرة المثل فيه وجهان احدهما يجب المسمى لانا قبلنا قوله انه اذن له فوجب ما اقتضاه

(والثانى)

يجب له اجرة المثل لانا إذا قبلنا قوله لم نامن ان يدعى الفا واجرة مثله درهم.

(وان قلنا) ان القول قول صاحب الثوب فحلف لم تجب الاجرة لانه فعل ما لم يؤمن فيه ويلزمه ارش القطع لانه قطع ما لم يكن له قطعه.

وفى قدر الارش قولان (احدهما) يلزمه ما بين قيمته مقطوعا وصحيحا لانا حكمنا انه لم يؤذن له في القطع فلزمه ارش القطع

(والثانى)

يلزمه ما بين قيمته مقطوعا قميصا وبين قيمته مقطوعا قباء، لانه قد اذن له في القطع، وانما حصلت المخالفة في الزيادة فلزمه ارش الزيادة، فان لم يكن بينهما تفاوت لم يلزمه شئ وإذا قلنا: انهما يتحالفان فتحالفا لم تجب الاجرة، لان التحالف يوجب رفع العقد، والخياطة من غير عقد لا توجب الاجرة وهل يجب ارش القطع فيه قولان

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 107)

________________________________________

(احدهما) يجب، لان كل واحد منهما حلف على ما ادعاه ونفى ما ادعى عليه فبرئا كالمتبايعين

(والثانى)

انه يجب ارش النقص لانا حكمنا بارتفاع العقد بالتحالف، فإذا ارتفع العقد حصل القطع من غير عقد فلزمه ارشه.

ومتى قلنا انه يستحق الاجرة لم يرجع بالخيوط، لانه اخذ بدلها، فان قلنا: لا يستحق الاجرة فله ان ياخذ خيوطه، لانه عين ماله فكان له ان ياخذه (الشرح) قال الشافعي رضى الله عنه: وإذا اختلف الرجلان في الكراء وتصادقا في العمل تحالفا، وكان للعامل اجر مثله فيما عمل، قال وإذا اختلفا في الصفة فقال: امرتك ان تصبغه اصفر أو تخيط قميصا فخطته قباء.

وقال الصانع عملت ما قلت لى، تحالفا وكان على الصانع ما نقص الثوب ولا اجر له، وان

زاد الصبغ فيه كان شريكا بها زاد الصبغ في الثوب، وان نقصت منه فلا ضمان عليه ولا اجره له.

وقال الربيع: الذى ياخذ به الشافعي في هذا ان القول قول رب الثوب وعلى الصانع ما نقص الثوب، وان كان نقصه شيئا لانه مقر باخذ الثوب صحيحا ومدع على انه امره بقطعه أو صبغه كما وصفت فعليه البينة بما قال، فان لم يكن بينة حلف رب الثوب ولزم الصانع ما نقصته الصنعة، وان كانت زادت الصنعة فيه شيئا كان الصانع شريكا بها ان كانت عينا قائمة فيه مثل الصبغ، ولا ياخذ من الاجرة شيئا، فان لم تكن عين قائمة فلا شئ له.

وقال في اختلاف العراقيين: وإذا اختلف الاجير والمستاجر في الاجرة، فان ابا حنيفة كان يقول: القول قول المستاجر مع يمينه إذا عمل العمل وبهذا ياخذ.

وكان ابن أبى ليلى يقول: القول قول الاجير فيما بينه وبين اجرة مثله، الا ان يكون الذى ادعى اقل فيعطيه اياه، وان لم يكن عمل العمل تحالفا وترادا في قول أبى حنيفة.

وينبغى كذلك في قول ابن أبى ليلى.

وقال أبو يوسف بعد: إذا كان شيئا متقاربا قبلت قول المستاجر واحلفته، وإذا تفاوت لم أقبل وجعلت العمل اجر مثله إذا حلف.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 108)

________________________________________

فلو اعطاه ثوبا ليخيطه بعد قطعه فخاطه قباء وقال امرتني بقطعه قباء، فقال بل قميصا فالاظهر تصديق المالك بيمينه، لانه منكر اذنه له في قطعه قباء، إذ هو المصدق في اصل الاذن فكذا في صفته والقول الثاني: يتحالفان، وانتصر الاسنوى له نقلا ومعنى، ونبه على انهما لو اختلفا قبل القطع تحالفا اتفاقا، وكل ما وجب التحالف مع بقائه وجب مع تغير احواله، فعلى هذا يبدا بالمالك كما حكاه الرملي، ونقل عن الاستوى المنع

منه بل يبدا بالخياط لانه بائع المنفعة.

قال النووي: ولا اجرة عليه - يعنى المؤجر - بعد حلفه، وعلى الخياط ارش النقص لما ثبت من عدم الاذن، والاصل الضمان، وهو ما بين قيمته مقطوعا قميصا ومقطوعا قباء كما رجحه السبكى.

ولان اصل القطع ماذون فيه، وان رجح الاسنوى كابن أبى عصرون.

وجزم به القونوى والبارزي وغيرهما من شراح الحاوى وغيره انه مابين قيمته صحيحا ومقطوعا لانتفاء الاذن من اصله ولا يقدح في ترجيح الاول عدم الاجرة له، إذ لا تلازم بينها وبين الضمان، وللخياط نزع خيطه، وعليه ارش نقص النزع ان حصل، كما قاله الماوردى والرويانى في البحر، وله منع المالك من شد خيط فيه بجره مكانه.

هكذا افاده الشمس الرملي في النهاية.

ويمكننا ان نستلخص مما مضى من اقاويل انهما إذا اختلفا في قدر الاجر فقال اجرتنيها سنة بدينار، قال بل بدينارين تحالفا، ويبدا بيمين الاجر، وهو قول الشافعي واحمد، لان الاجارة نوع من البيع، فإذا تحالفا قبل مضى شئ من المدة فسخا العقد ورجع كل واحد منهما في ماله، وان رضى احدهما بما حلف عليه الآخر قر العقد، وان فسخا العقد بعد المدة أو شئ منها سقط المسمى ووجب اجر المثل، كما لو اختلفا في المبيع بعد تلفه وهذا قول احمد واصحابه، وبه قال أبو حنيفة ان لم يكن عمل العمل، وان كان عمله فالقول قول المستاجر لانه منكر للزيادة في الاجر والقول قول المنكر فإذا عرفنا ان الاجارة نوع من المبيع عرفنا انهما يتحالفان عند اختلافهما في العوض كالبيع، وكما قبل ان يعمل العمل عند أبى حنيفة.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 109)

________________________________________

وقال ابن أبى موسى: القول قول المالك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: إذا

اختلف المتبايعان فالقول قول البائع وقال الشافعي في اول اختلاف العراقيين: إذا اسلم الرجل إلى الخياطة ثوبا فخاطه قباء فقال رب الثوب: امرتك بقميص.

وقال الخياط امرتني بقباء، فان ابا حنيفة رحمه الله كان يقول: القول قول الخياط في ذلك، ولو ان الثوب ضاع من عند الخياط ولم يختلف رب الثوب والخياط في عمله فان ابا حنيفة قال: لا ضمان عليه ولان على القصار والصباغ، وما اشبه ذلك من العمال الا فيما جنت ايديهم، بلغنا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه انه قال: لا ضمان عليهم، وكان ابن أبى ليلى يقول: هم ضامنون لما هلك عندهم وان لم تجن ايديهم فيه.

وقال أبو يوسف: هم ضامنون الا ان يجئ شئ غالب.

وقال الشافعي: وثابت عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ أَنَّهُ قَالَ: لا ضمان على صانع ولا على اجير، فاما ما جنت ايدى الاجراء، والصناع فلا مسألة فيه فهم ضامنون كما يضمن المستودع ما جنت يده، ولان الجناية لا تبطل عن احد، وكذلك لو تعدوا ضمنوا.

قال الربيع: الذى يذهب إليه الشافعي فيما رايت انه لا ضمان على الصانع الا ما جنت ايديهم، ولم يكن يبوح بذلك خوفا من الضياع.

اه، يعنى خوفا من ان يتمادى الصناع في الاهمال فيفضى ذلك إلى ضياع اموال الناس بفشو التلف بين اصحاب الحرف

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

إذا استاجر صانعا على عمل من خياطة أو صباغة فعمل فهل له ان يحبس العين على الاجرة؟ فيه وجهان (احدهما) لا يجوز لانه لم يرهن العين عنده فلم يجز له احتباسها، كما لو استاجره ليحمل له متاعا فحمله ثم اراد ان يحبس المتاع على الاجرة

(والثانى)

يجوز لان عمله ملكه فجاز له حبسه على العوض

كالمبيع في يد البائع.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 110)

________________________________________

(فصل)

وإن دفع ثوبا إلى رجل فخاطه ولم يذكر له أجرة فقد اختلف أصحابنا فيه اربعة أوجه.

أحدها: أنه تلزمه الاجرة، وهو قول المزني رحمه الله، لانه استهلك عمله فلزمه أجرته.

والثانى: أنه إن قال له: خطه لزمه، وإن بدأ الرجل فقال: أعطني لاخيطه لم تلزمه وهو قول أبى إسحاق لانه إذا أمره فقد ألزمه بالامر، والعمل لا يلزم من غير أجرة فلزمته، وإذا لم يأمره لم يوجد ما يوجب الاجرة فلم تلزم.

والثالث: أنه إذا كان الصانع معروفا بأخذ الاجرة على الخياطة لزمه، وإذا لم يكن معروفا بذلك لم يلزمه، وهو قول أبى العباس، لانه إذا كان معروفا بأخذ الاجرة صار العرف في حقه كالشرط، وإن لم يكن معروفا لم يوجد ما يقتضى الاجرة من جهة الشرط ولا من جهة العرف.

والرابع: وهو المذهب: أنه لا يلزمه بحال، لانه بذل ماله من غير عوض فلم يجب له العوض، كما لو بذل طعامه لمن أكله، وان نزل رجل في سفينة ملاح بغير اذنه فحمله فيها إلى بلد لزمه الاجرة، لانه استهلك منفعة موضعه من السفينة من غير اذن فلزمه أجرتها، وان نزل فيها عن اذنه ولم يذكر الاجرة، فعلى ما ذكرناه من الوجوه الاربعة في الخياطة، وبالله التوفيق.

(الشرح) قال الماوردى في الحاوى الكبير: وليس لمؤجر الارض أن يحتبس الارض على المستأجر على دفع الاجرة، ولا للجمال أن يحبس ما استؤجر على حمله من المبتاع ليأخذ الاجرة لانه في يده أمانة وليس برهن.

فأما الصانع المستأجر على عمل من خياطة أو صباغة هل له احتباس ما بيده من العمل على

أجرته؟ فيه وجهان.

أحدهما: ليس له ذاك قياسا على ما ذكرنا، والثانى: له ذاك لان عمله ملك له كالبائع، فإذا حبس الصانع الثوب بعد عمله على استيفاء الاجر فتلف ضمنه، لانه لم يرهنه عنده، ولا اذن له في امساكه، فلزمه الضمان كالغاصب، وبهذا قال أصحاب أحمد كما أفاده ابن قدامة.

(فرع)

إذا عمل الصانع عملا لغيره بإذنه كأن دفع ثوبا إلى قصار ليقصره

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 111)

________________________________________

أو إلى خياط ليخيطه ففعل ولم يذكر أحدهما أجرة فلا أجرة له لتبرعه، ولانه لو قال: أسكني دارك شهرا فأسكنه لم يستحق عليه أجرة بالاجماع كما في البحر والاوجه كما بحثه الاذرعى وجوبها في قن ومحجور سفه لانهما غير أهل للتبرع ومثلهما غير المكلف بالاولى.

قال النووي: وقيل: له أجرة مثله، وقيل: أن كان معروفا بذلك العمل بالاجرة فله والا فلا وقد يستحسن اه.

وصورة المسألة إذا دفع ثوبه إلى خياط أو قصار ليخيطه أو يقصره من غير عقد ولا شرط ولا تعريض بأجر مثل أن يقول: خذ هذا فاعمله وأنا أعلم أنك انما تعمل بأجر، وكان الخياط والقصار متوفرين على ذلك وقد عرف عنهما الاجر الذى يأخذانه، وكان لصاحب الدكان لافتة سجل فيها أسعار أجرته كما يفعل الكواءون والحلاقون والخياطون والساعاتيون كان ذلك يجرى مجرى الافهام الذى هو شرط عندنا في صحة الاجارة.

وعند أصحاب أحمد أن العرف الجارى بذلك يقوم مقاوم القول فصار كنقد البلد، ولان شاهد الحال يقتضيه فصار كالتعيريض، إذا عرف هذا فإن في المسألة أربعة أوجه.

 

(أحدهما)

وهو قول المزني يستحق الاجر مطلقا لانه استهلك عمله فلزمه عوضه

والثانى: التفريق بين طلب رب الثوب منه أن يخيطه وبين أن يطلب من رب الثوب أن يخيطه له، فإذا قال له رب الثوب خط هذا لى فقد كلفه بعمل له ما يقابله من الاجر فيلزمه لانه يأمره بالعمل والعمل لا يلزم بغير أجرة، وإذا قال الخائط أعطني هذا الثوب لاخيطه لك لم تلزمه أجرته وهو قول أبى اسحاق المروزى، حيث لم يأمره فليس ثم ما يوجب له الاجرة (والثالث) وهو قول أبى العباس بن سريج، وهو الذى أخذ به أحمد واصحابه، وذكره النووي في المنهاج بصيغة التمريض بقوله: وقيل وهو أنه إذا كان الصانع معروفا بأخذ الاجرة على الخياطة لزمه، والا لم يلزمه لان العرف يجرى مجرى الشرط (والرابع) وهو الظاهر من المذهب أنه لا أجرة لن كمن قدم طعامه لمن يأكل فليس له أن يطلب ثمنه.

وخص المصنف والاصحاب السفينة إذا نزلها أو شحن فيها متاعة بغير اذن

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 112)

________________________________________

الملاح فإنه يلزمه عوض استهلاك منفعة موضعه من السفينة.

وقال الشمس الرملي وقد يستحسن ترجيحه لوضوح مدركه وهو يقصد أن يكون الصانع معروفا بأخذ الاجرة إذ هو العرف، وهو يقوم مقام اللفظ كثيرا، ونقل عن الاكثرين، والمعتمد الاول، فإن ذكر أجرة استحقها قطعها إن صح العقد، وإلا فأجرة المثل، وأما إذا عرض كأرضيك أو لا أخيبك أو ترى ما تحبه أو يسرك أو أطعمك فتجب أجرة المثل، نعم في الاخيرة يحسب على الاجير ما أطمعه إياه كما هو ظاهر، وقد تجب من غير تعريض بها كما في عامل الزكاة اكتفاه بثبوتها بالنص فكأنها مسماة شرعا، وكعامل مساقاة عمل ما ليس بلازم له بإذ المالك اكتفاء بذكر المقابل له في الجملة.

قال: ولا يستثنى وجوبها على داخل الحمام أو راكب السفينة مثلا من غير إذن لاستيفائه المنفعة من غيرب أن يصرفها صاحبها إليه

بخلافه بإذنه، وسواء في ذلك أسيسر السفينة بعلم مالكها أم لا.

وقول ابن الرفعة في المطلب لعله فيما إذا لم يعلم به مالكها حين سيرها، وإلا فيشبه أن يكون كما لو وضع متاعة على دابة غيره فسيرها مالكها، فإنه لا أجرة على مالكه، ولا ضمان مردود، فقد فرق العراقى بينهما بأن راكب السفينة بغير إذن غاصب للبقعة التى هو فيها ولو لم يسير، بخلاف واضع متاعه على الدابة لا يصير غاصبا لها بمجرد وضع متاعة، ويفرق أيضا بأن مجرد العلم لا يسقط الاجرة ولا الضمان، فإن السكوت على إتلاف المال لا يسقط الضمان، وهو علم وزيادة، ومالك الدابة بسبيل من إلقاء المتاع قبل تسييرها بخلافه في راكب السفينة اه.

قال الرملي الصغير في النهاية وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 113)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله تعالى:

* (باب الجعالة)

* يجوز عقد الجعالة وهو أن يبذل الجعل لمن عمل له عملا من رد ضالة ورد آبق وبناء حائط وخياطة ثوب وكل ما يستأجر عليه من الاعمال، والدليل عيله قوله تعالى (ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم) وروى أبو سعيد الخدرى (أن ناسا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أتو احيا من أحياء العرب فلم يقروهم، فبينما هم كذلك إذ لدغ سيد أولئك فقالوا هل فيكم راق فقالوا لم تقرونا فلا نفعل أو تجعلوا لنا جعلا فجعلوا لهم قطيع شاء فجعل رجل يقرأ بام القرآن ويجمع بزاقة ويتفل فبرا الرجل فأتوهم بالشاء فقالوا: لا نأخذها حتى نَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسألوا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذلك فضحك وقال: ما أدراك إنها رقية؟ خذوها واضربوا إلى فيها بسهم ولان الحاجة تدعو إلى ذلك من رد ضالة وآبق وعمل لا يقدر عليه فجاز كالاجارة والمضاربة.

 

(فصل)

ويجوز ان يعقد لعامل غير معين للآية، ولانه قد يكون له عمل

ولا يعرف من يعمله، فجاز من غير تعيين، وروى المزني في المختصر عن الشافعي رحمه الله في المنثور انه قال إذا قال أول من يحج عنى فله مائة فحج عنه رجل أنه يستحق المائة.

وقال المزني: ينبغى أن يستحق أجرة المثل لانه اجازة فلم تصح من غير تعيين، وهذا خطا، لان ذلك جعالة، وقد بينا ان الجعالة تجوز من غير تعيين العامل.

 

(فصل)

وتجوز على عمل مجهول للآية، ولان الحاجة تدعو إلى ذلك فجاز مع الجهالة كالمضاربة، ولا تجوز الا بعوض معلوم، لانه عقد معاوضة فلا تجوز بعوض مجهول كالنكاح، فان شرط له جعلا مجهولا فعمل استحق أجرة المثل، لان كل عقد وجب المسمى في صحيحه وجب المثل في فاسده، كالبيع والنكاح.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 114)

________________________________________

(فصل)

ولا يستحق العامل الجعل الا بإذن صاحب المال، فأما إذا عمل له عملا من غير إذنه بأن وجد له آبقا فجاء به، أو ضالة فردها إليه، لم يستحق الجعل لانه بذل منفعته من غير عوض، فلم يستحق العوض، فان عمل باذنه ولم يشرط له الجعل، فعلى الاوجه الاربعة التى ذكرناها في الاجارة، فان اذن له وشرط له الجعل فعمل استحق الجعل، لانه استهلك منفعته بعوض فاستحق العوض كالاجير، فان نادى فقال: من رد عبدى فله دينار فرده من لم يسمع النداء لم يستحق الجعل لانه متطوع بالرد من غير بدل، فان أبق عبد لرجل فنادى غيره ان من رد عبد فلان فله دينار، فرده رجل وجب الدينار على المنادى، لانه ضمن العوض فلزمه، فان قال في النداء: قال فلان: من رد عبدى فله دينار فرده رجل لم يلزمه المنادى، لانه لم يضمن.

وانما حكى قول غيره.

 

(فصل)

ولا يستحق العامل الجعل الا بالفراغ من العمل، فان شرط له

جعلا على رد الآبق فرده إلى باب الدار ففر منه أو مات قبل ان يسلمه لم يستحق شيئا من الجعل، لان المقصود هو الرد، والجعل في مقابلته ولم يوجد منه شئ، وان قال: من رد عبدى الآبق من البصرة فله دينار وهو ببغداد فرده رجل من واسط استحق نصف الدينار، لانه رد من نصف الطريق، وان رده من أبعد من البصرة لم يستحق اكثر من الدينار، لانه لم يضمن له لما زاد شيئا.

وان أبق له عبدان فقال من ردهما فله دينار، فرد رجل أحدهما استحق نصف الجعل، لانه عمل نصف العمل.

وان قال: من رد عبدى فله دينار، فاشترك في رده اثنان اشتركا في الدينار، لانهما اشتركا في العمل فاشتركا في الجعل وان قال لرجل: ان رددت عبد فلك دينار، وقال لآخر: ان ردته فلك ديناران، فاشتركا في الرد استحق كل واحد منهما نصف ما جعل له، وان جعل لاحدهما دينارا وللآخر ثوبا مجهولا فرداه استحق صاحب الدينار نصف دينار وصاحب الثوب نصف أجرة المثل، لان الدينار جعل صحيح، فاستحق نصفه، والثوب جعل باطل فاستحق نصف اجرة المثل، وان قال لرجل ان رددت عبدى فلك دينار فشاركه غيره في رده، فان قال: شاركته معاونة له كان الدينار للعامل

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 115)

________________________________________

لان العمل كله له فكان الجعل كله له، وان قال شاركته لاشاركه في الجعل كان للعامل نصف الجعل، لانه عمل نصف العمل، ولا شئ للشريك لانه لم يشرط له شيئا.

(الشرح) هي بتثليث الجيم عند ابن مالك وغيره.

واقتصر النووي والجوهري والفيومى صاحب المصباح على كسرها، وابن الرفعة في الكفاية والمطالب على فتحها، وهى لغة اسم لما يجعله الانسان لغيره على شئ يفعله، وكذا الجعل والجعيلة، وأما تعريفها شرعا فهو التزام عوض معلوم على عمل معين معلوم أو

مجهول بمعين أو مجهول.

وقد أورد المصنف الجعالة عقب الاجارة، وكذلك فعل النووي في الروضة وصاحب الشرح، لان التلازم بين الاجارة والجعالة واضح، لانها عقد على عمل، إلا أن أكثر المصنفين في الفقه جعلوها بعد اللقطة، لانها طلب النقاط الدابة الضالة.

وقد استدل المصنف على انها من العقود الجائزة بقوله تعالى (ولمن جاء به حمل بعير) واعتبر الرملي سوقه الاية استئناسا وليس استدلالا، وعلل ذلك الشبراملسى في حاشيته على النهاية هذه العبارة بان شرع من قبلنا ليس شرعا لنا وان ورد في شرعنا ما يقرره.

اما الحديث الذى ساقه المصنف عن أبى سعيد فقد رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه، وأتم هذه الطرق جميعا رواية البخاري ولفظها (انطلق نفر مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سفرة سافروها حتى نزلوا على حى من احياء العرب فاستضافوهم فابوا ان يضيفوهم، فلدغ سيد ذلك الحى فسعوا له بكل شئ، لا ينفعه شئ، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا لعلهم ان يكون عندهم بعض شئ، فاتوهم فقالوا: يا ايها الرهط إن سيدنا لدغ وسعينا له بكل شئ لا ينفعه فهل عند احد منكم من شئ؟ قال بعضهم إنى والله لا رقى لكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا فما انا براق لكم حتى تجعلوا لنا جعلا، فصالحوهم على قطيع من غنم فانطلق يتفل عليه، ويقرأ الحمد لله

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 116)

________________________________________

رب العالمين، فكانما نشط من عقال، فانطلق يمشى وما به قلبة، قال فاوفواهم جعلهم الذى صالحوهم عليه، فقال بعضهم: اقتسموا، فقال الذى رقى: لا تفعلوا حتى ناتى النبي صلى الله عليه وسلم فنذكر له الذى كان، فننظر الذى

يامرنا، فقدموا على النبي صلى الله عليه واسلم فذكروا له ذلك فقال: وما يدريك انه رقية؟ ثم قال: قد اصبتم واضربوا إلى معكم سهما، وضحك النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ رَوَى البخاري رواية عن ابن عباس بلفظ (أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مروا بماء فيهم لديغ أو سليم فعرض لهم رجل من اهل الماء فقال: هل فيكم من راق فان الماء رجلا لديغا أو سليما، فانطلق رجل منهم فقرا بفاتحة الكتاب على شاء، فجاء بالشاء إلى اصحابه فكرهوا ذلك وقالوا: اخذت على كتاب الله اجرا؟ حتى قدموا المدينة فقالوا: يا رسول الله اخذ على كتاب الله اجرا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ان احق ما أخذتم عليه اجرا كتاب الله) قوله (فاستضافوهم) في رواية للترمذي انهم ثلاثون رجلا.

وقد روى الحاكم رواية أبى سعيد الخدرى على انه هو الرقى، وهى على شرط مسلم.

قال الزركشي: ويستنبط منه جواز الجعالة على ما ينتفع به المريض من داوء أو رقبة وان لم يذكروه.

وهو متجه ان حصل به تعب والا فلا اخذا مما ياتي.

على ان الاجماع منعقد على جوازها لما تدعو إليه الحاجة من ضالة، أو عمل لا يقدر عليه ولا يجد من يتطوع به، ولا تصح الاجارة عليه لجهالة، فجاز ان يجعل له جعلا كالاجارة والقراض.

واركان الجعالة اربعة: صيغة ومتعاقدان وعمل وعوض.

ولما كان الجعل لا يستحق الا باذن صاحب المال كالاجارة، فانه فارق الاجارة في استحاقه بالعمل، اما الاجارة فانها تستحق بالعقد، لانه لو قال: من رد على ضالتي فله درهم قبلها بطل، هكذا افاده الغزالي في كتاب الدور، وعدم اشتراط قبضه في المجلس مطلقا، ويشترط في المللتزم للجعل مالكا أو غيره ان يكون مطلق التصرف كما في الاجارة فلا يصح بالتزام الصبى أو المحجور عليه للسفه أو

المجنون.

كما يشترط في العامل المعين اهلية العمل بان يكون قادرا عليه ولا

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 117)

________________________________________

تشترط الحرية وغير المكلف، وان يقوم بالعمل باذن وبغير اذن، كما قال ذلك السبكى خلافا لابن الرفعة في اشتراط اذن السيد، ويخرج بذلك العاجز عن العمل كالصغير والضعيف إذا غلبهما العمل، فاشبه استئجار الاعمى للحراسة.

هكذا افاده الزركشي وابن العماد ونقل المزني ان الشافعي نص في المنشور أَنَّهُ إذَا قَالَ الْمَعْضُوبُ: مَنْ حَجَّ عَنَى فَلَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ، فَحَجَّ عَنْهُ إنْسَانٌ اسْتَحَقَّ الْمِائَةَ.

قَالَ الْمُزَنِيّ: يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَحِقَّ أُجْرَةَ الْمِثْلِ، لِأَنَّ هَذَا إجَارَةٌ فَلَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ الْأَجْرِ.

هَذَا كَلَامُ الشَّافِعِيِّ وَالْمُزَنِيِّ، والمسألة التى ساقها المصنف بذكر النووي رضى الله عنه ان للاصحاب فيها ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ الصَّحِيحُ وُقُوعُ الْحَجِّ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ ويستحق الاجرة المسماة.

وبهذا نص الشافعي واختاره النووي، لِأَنَّهُ جَعَالَةٌ وَلَيْسَ بِإِجَارَةٍ.

وَالْجَعَالَةُ تَجُوزُ عَلَى عمل مجهول، فمن باب اولى المعلوم،

(وَالثَّانِي)

وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيّ: أَنَّهُ يَقَعُ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ وَيَسْتَحِقُّ الْأَجِيرُ أُجْرَةَ الْمِثْلِ لَا الْمُسَمَّى.

وقد حَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ مُعْظَمَ الْإِصْحَابِ مَالُوا إلى هذا.

قال النووي.

وَلَيْسَ كَمَا قَالَ.

وَهَذَا الْقَائِلُ يَقُولُ: لَا تَجُوزُ الْجَعَالَةُ عَلَى عَمَلٍ مَعْلُومٍ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ.

(وَالثَّالِثُ) أَنَّهُ يَفْسُدُ الْإِذْنُ وَيَقَعُ الْحَجُّ عَنْ الْأَجِيرِ، لِأَنَّ الْإِذْنَ غَيْرُ مُتَوَجِّهٍ إلَى إنْسَانٍ بِعَيْنِهِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ: وَكَّلْتُ مَنْ أَرَادَ بَيْعَ دَارِي فِي بَيْعِهَا.

فَالْوَكَالَةُ بَاطِلَةٌ وَلَا يَصِحُّ تَصَرُّفُ الْبَائِعِ اعْتِمَادًا عَلَى هَذَا التَّوْكِيلِ.

وَهَذَا الْوَجْهُ حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ.

وذكر امام الحرمين ان شيخ وَالِدَهُ أَبَا مُحَمَّدٍ أَشَارَ إلَيْهِ فَقَالَ: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَحْكُمَ بِفَسَادِ الْإِذْنِ، وَهَذَا الْوَجْهُ ضَعِيفٌ جِدًّا بَلْ بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ وَالْمَذْهَبِ

وَالدَّلِيلِ.

فَإِذَا قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ وَالْمَنْصُوصِ.

فَقَالَ مَنْ حج عنى فَلَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَسَمِعَهُ رَجُلَانِ وَأَحْرَمَا عَنْهُ.

قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْأَصْحَابُ: إنْ سَبَقَ إحْرَامُ أَحَدِهِمَا وَقَعَ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ الْقَائِلِ وَيَسْتَحِقُّ السَّابِقُ المائة.

واحرام الثاني يقع عَنْ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَصَارَ كَمَنْ عَقَدَ نِكَاحَ أُخْتَيْنِ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ.

وَلَوْ قَالَ مَنْ حَجَّ عَنِّي فَلَهُ مائة دينار فحج عَنْهُ رَجُلَانِ.

أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 118)

________________________________________

وَقَعَ إحْرَامُ السَّابِقِ بِالْإِحْرَامِ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ الْقَائِلِ وله عليه المائة.

ولو احراما معا وقع حج كل منهما عن نفسه ولا شئ لهما على القائل، لانه لَيْسَ فِيهَا أَوَّلٌ.

وَلَوْ كَانَ الْعِوَضُ مَجْهُولًا بأن قال: من حج عنى فله ثوب أو دراهم أو ناقة وقع الحج عن القائل بأجرة المثل.

(فرع)

استدل المصنف من قوله تعالى (ولمن جاء به) على جواز عقدها لغير المعين، كما في المثال الذى سبق فيمن يحج عنه، كما استدل بالآية أيضا على جوازها على عمل مجهول.

وكذلك لو قال: من رد ضالتي من سامعي ندائى فله كذا فرده من علم ندائه ولم يسمع منه لم يستحق، هكذا أفاده الماوردى وصرح بمثله القاضى حسين.

قال الاذرعى، وقول القاضى فان رده بنفسه أو بعده استحق، يفهم عدم الاستحقاق إذا استقل العبد بالرد.

قال النووي، ولو قال أجنبي من رد عبد زيد فله كذا استحقه الراد على الأجنبي.

قال الرملي استحقه الراد العالم به على الأجنبي لانه التزمه فصار كخلع الأجنبي، وكما لو التمس إلقاء متاع غيره في البحر لخوف الهلاك وعليه ضمانه.

إذا ثبت هذا فان العامل بلا إذن لا يستحق الجعالة، لانه لو أذن لشخص

فعمل غيره فلا شئ له ولو كان معروفا برد الضال بعوض لانه لم يلتزم عوضا له فوقع عمله تبرعا.

وقال الشبراملسى عند قوله (فلو عمل أحد بلا إذن فقال ومن ذلك ما جرت به العادة في قرى مصرنا من أن جماعة اعتادوا حراسة الجرين نهارا وجماعة اعتادوا حراسته ليلا، فان اتفقت معاقدتهم على شئ من أهل الجرين أو من بعضهم باذن الباقين لهم في العقد استحق الحارسون ما شرط لهم ان كانت الجعالة صحيحة وإلا فأجرة المثل وأما ان باشروا الحراسة بلا إذن من أحد اعتمادا على ما سبق من دفع أرباب الزرع للحارس سهما معلوما عندهم لم يستحقوا شيئا.

وليس كما لو التزم الثمن في شراء غيره أو الثواب في هبة غيره، لانه عوض تمليك فلا يتصور وجوبه على غير من حصل له الملك، والجعل ليس عوض تمليك.

واستشكل ابن الرفعة هذه بأنه لا يجوز لاحد وضع يده على مال غيره بقول

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 119)

________________________________________

الأجنبي بل يضمنه فكيف يستحق الاجرة.

وأجيب بأنه لا حاجة إلى الاذن في ذلك لان المالك راض به قطعا، أو بأن صورة ذلك أن يأذن المالك لمن شاء في الرد والتزم الأجنبي بالجعل، أو يكون للاجنبي ولاية على المالك، وقد يصور أيضا بما إذا ظنه العامل المالك أو عرفه وظن رضاه.

وظاهر كلام المصنف أنه يلزمه العوض المذكور وإن لم يقل على.

قال الرملي: وهو كذلك فقد قال الخوارزمي في الكافي: ولو قال الفضولي: من رد عبد فلان فله على دينار، أو قال فله دينار، فمن رده استحق على الفضولي ما سمى.

وصرح به ابن يونس في شرح التعجيز، فانه صور المسألة بما إذا قال على ثم قال وألحق الائمة به قوله فله كذا.

وإن لم يقل عليه، لان ظاهره التزام.

ولو قال أحد الشريكين في رقيق: من رد رقيقي فله كذا فرده شريكه فيه استحق

الجعل.

وصورة المسألة إذا لم يكن القائل ولى المالك.

فأما إذا كان وليه وقال ذلك عن محجوره على وجه المصلحة بحيث يكون الجعل قدر أجرة مثل ذلك العمل أو أقل استحقه الراد في مال المالك بمقتضى قول وليه، ويعلم مما تقرر أنه لا يتعين على العامل المعين العمل بنفسه.

فلو قال لشخص معين: إن رددت على ضالتي فلك كذا لم يتعين عليه السعي بنفسه، بل له أن يستعين بغيره، فإذا حصل الفعل استحق الاجرة.

قاله الغزالي في البسيط قال الرملي: وحاصله أن توكيل العامل المعين غيره في الرد كتوكيل الوكيل فيجوز له أن يوكله فيما يعجز عنه وعلم به القائل أو لا يليق به كما يستعين به، وتوكيل غير المعين بعد سماعه النداء غيره، كالتوكيل في الاحتطاب والاستقاء ونحوهما فيجوز، فعلم أن العامل المعين لا يستنيب فيها إلا إن عذر وعلم به الجاعل حال الجعالة.

اه (فرع)

تصح الجعالة على عمل مجهول كما ذكر ذلك المصنف لان الجهالة احتملت في القراض لحصول زيادة، فاحتمالها في رد الحاصل أولى، وهو مقيد كما أفاده جمع بما إذا عسر ضبطه لا كبناء حائط فيذكر محله وطوله وسمكه وارتفاعه وما يبنى به، وخياطة ثوب فيصفه كالاجارة.

أما صحتها على المعلوم فأولى.

ومثال ذلك قوله: من رد على ضالتي من مكان كذا فله كذا، وهذا هو الاصح.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 120)

________________________________________

(والثانى)

المنع للاستغناء عنه بالاجارة، وقد عرفت أنه لا بد من كون العمل فيه كلفة أو مؤنة، كرد آبق أو ضال، أو أداء حج أو خياطة ثوب أو تعليم علم أو حرفة، أو إخبار فيه غرض وصدق فيه، فلو رد من هو بيده ولا كلفة فيه فلا شئ له، إذ مالا كلفة فيه لا يقابل بعوض فلو قال من دلنى على مالى فله كذا فدله غير من هو بيده استحق، لان الغالب

أنه تلحقه مشقة.

قال الاذرعى ويجب أن يكون هذا فيما إذا بحث عنه بعد جعل المالك.

أما البحث السابق والمشقة السابقة قبل الجعل فلا عبرة بهما ويلزم عدم التوقيت في الجعالة.

لانه لو قال من رد على ضالتي إلى شهر كذا فله كذا لو يصح كما في القراض، لان تقدير المدة مخل بمقصود العقد، فقد لا يظفر به فيها فيضيع سعيه ولا يحصل الغرض، سواء أضم إليه من محل كذا أم لا، وغير واجب على العامل.

فلو قال من دلنى على مالى فله كذا فدله من المال في يده لم يستحق شيئا لان ذلك واجب عليه شرعا، فلا يأخذ عليه عوضا.

وكذا لو قال من رد مالى فله كذا فرده من هو في يده ويجب عليه رده.

وقضيته أنه لو كان الدال أو الراد غير مكلف استحق.

وقد أفتى الامام النووي كما حكى ذلك صاحب نهاية المحتاج فيمن حبس ظلما فبذل مالا لمن يتكلم في خلاصه بجاهه وغيره بأنها جعالة مباحة، وأخذ عوضها حلال، ونقله عن جماعه، ثم قال وفى ذلك كلفة تقابل بأجرة عرفا (قلت) فإذا كان العرف هو الذى يبنى عليه حد الاباحة والمنع في الجعالة فمقتضى العرف الذى نعلمه اليوم أن ذلك رشوة، فإذا كان صاحب جاه يستطيع أن يرفع ظلما وقع على إنسان بجاهه وجب عليه العمل على رفعه، وبذلك تبطل الجعالة، لانها لا تكون إلا عوضا عما لا يجب على العامل.

ومقتضى النصيحة والعمل لاحقاق الحق الذى يلزمه كل مسلم يمنع هذه الصورة التى أفتى بها النووي رحمه الله تعالى.

ولانهم قالوا إن السعي والعمل وبذلك المجهود هي مع حصول المقصود توجب

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 121)

________________________________________

الجعالة، وجعلو إخبار الطبيب للمريض بدوائه عملا تافها لا جهد فيه ولا سعى

فلا يستحق عليه جعلا، فكيف بمن له جاه يمكن أن يؤثر به في رفع ظلم أو قضاء مصلحة بدون مشقة أو جهد أو سعى إلا أن يتفوه بكلمة هل يحل له أن يأخذ جعالة؟ إن قياس المذهب والبناء على أصله يمنع ذلك.

ولا أعلم في ذلك خلاف في الاصل الذى بنينا عليه، لانه يستمد قوته من قوله صلى الله عليه وسلم (الحلال بين والحرام بين) ويشترط لصحة العقد كون الجعل مالا معلوما لانه عوض كالاجرة والمهر ولانه عقد جوز للحاجة، ولا حاجة لجهالة العوض بخلاف العمل، ولان جهالة العوض تفوت مقصود العقد إذ لا يرغب أحد في العمل مع جهالة العوض، ويحصل العلم بالمشاهدة إن كان معينا، وبالوصف إن كان في الذمة.

فلو قال: من رد ضالتي فله ما حملت، وكان ما تحمله معروفا كسرجها ولجامها أو شيئا آخر تنقله ضلت به وكان معروفا للعامل، واستشكل ابن الرفعة اعتبار الوصف في المعين لانهم منعوه في البيع والاجارة وغيرهما.

قال البلقينى: ويمكن الفرق بدخول التخفيف هنا فلم يشدد فيها بخلاف نحو البيع، وقياسه صحته فله نصفه إن علم، وإن لم يعرف محله وهو أوجه الوجهين.

وما قاسه عليه الرافعى من استئجار المرضعة بنصف الرضيع بعد الفطام أجاب عنه في الكفاية بأن الاجرة المعينة تملك بالعقد فجعلها جزءا من الرضيع بعد الفطام يقتضى تأجيل ملكه، وهنا إنما تملك بتمام فلا مخالفة لمقتضى العقد ولا عمل يقع في مشترك، كذا أفاده الرملي (فرع)

إذا قال: من رد على ضالتي من بلد كذا فرده من جهه ذلك البلد لكن من أبعد منه فلا زيادة له لتبرعه بها.

أما إذا قال: من رده من بلد كذا فرده من أقرب منه فلا يستحق الاقسطه من الجعل، لانه جعل كل الجعل

في مقابلة العمل، فبعضه في مقابلة بعضه، فإن رده من نصف الطريق استحق نصف الجعل.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 122)

________________________________________

فإذا كانت الطريق غير متساوية في الحزونة والسهولة بأن كان النصف الذى قطعه يمكن أن تكون أجرته ضعف أجرة النصف الآخر استحق الثلثين من الجعل، فإن كان من البلد أو من مسافة مثل مسافته ولو من جهة أخرى استحق المسمى.

ولو رد من البلد المعين، ورأى المالك في نصف الطريق فدفعه إليه استحق نصف الجعل.

ولو قال: من رد على ضالتي فله كذا، فرد احدهما استحق نصف الجعل، استوت قيمة الضالتين أو اختلفت.

ولو قال لرجلين ان رددتما ضالتي فلكما كذا فرد أحدهما احداهما استحق الربع أو كليهما استحق النصف أو رداهما استحقا المسمى.

ولو قال أول من يرد ضالتي فله كذا فرداها استحقا المسمى مناصفة لوصفهما بالاوليه في الرد.

ولو قال لكل واحد من ثلاثة ردها ولك دينار، فردوها جميعا استحق كل واحد منهم ثلث دينار توزيعا بالحصص على الرؤوس، هذا إذا عمل كل منهم لنفسه ليأخذ الدينار.

أما لو قال: أعنت صاحبي فلا شئ له ويقتسمان في الدينار، أو قال اثنان ذلك أخذ الثالث الدينار وحده ولا شئ لهما وللآخر جميع المشروط، فان شاركهم رابع فلا شئ له.

أما إذا قصد بمعاونته المالك أو أخذ الجعل منه فلكل واحد من الثلاثة ربع المشروط، فان أعانا أحدهما فلكل واحد من الاثنين ربع المشروط وللمعاون

بفتح الواو النصف، فان شرط لاحدهم جعلا مجهولا، ولكل من الآخرين دينارا فردوه فله ثلث أجرة المثل ولهما ثلثا المسمى.

وهكذا قال النووي إذا اشترك اثنان في رده اشتركا في الجعل.

ولو التزم جعلا لمعين فشاركه غيره في العمل ان قصد اعانته فله كل الجعل.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 123)

________________________________________

وهنا يقول صاحب النهاية: لان قصد الملتزم الرد ممن التزم له بأى وجه أمكن فلم يقصر لفظه على المخاطب وحده بخلاف ما مر فيما إذا أذن لمعين فرد نائبه مع قدرته، لان المالك لم يأذن فيه اصلا.

ولا شئ للمعين إلا إن التزم له المخاطب أجرة، ويؤخذ من كلامهم هنا، وفى المساقاة كما أفاده السبكى جواز الاستنابة في الامامة والتدريس وسائر الوظائف التى تقبل النيابة، أي ولو بدون عذر فيما يظهر، ولو لم يأذن الواقف إذا استناب مثله أو خيرا منه، ويستحق المستنيب جميع المعلوم، وان أفتى ابن عبد السلام والنووي بأنه لا يستحقه واحد منهما، إذ المستنيب لم يباشر والنائب لم يأذن له الناظر، فلا ولاية له، وما نازع به الاذرعى من كون ذلك سببا لفتح باب أكل أرباب الجهالات مال الوقف دائما مما أرصد للمناصب الدينية، واستنابة من لا يصلح أو يصلح بنذر يسير.

قال غيره: وهكذا جرى فلا حول ولا قوه إلا بالله مردود باشتراط كونه مثله أو خيرا منه.

ولو قال لواحد: إن رددته فلك دينار.

وقال لآخر: إن رددته أرضيك، أو أحلى بالحلوى فمك، فرداه، فللاول نصف الدينار، وللآخر نصف أجرة مثل عمله.

وينقسم العقد باعتبار لزومه وجوازه إلى ثلاثة أقسام: (أحدها) لازم من الطرفين قطعا كالبيع والاجارة والسلم والصلح والحواله

والمسافاة والهبة لغير الفروع بعد القبض والخلع، ولازم من أحدهما قطعا، ومن الاخر على الاصح وهو النكاح فإنه لازم من جهة المرأة قطعا، ومن جهة الزوج على الاصح، وقدرته على الطلاق ليست فسخا.

(ثانيها) لازم من أحد الطرفين جائز من الاخر قطعا كالكتابة، والرهن وهبة الاصول للفروع بعد القبض والضمان والكفالة.

(ثالثها) جائز من الطرفين كالشركة والوكالة والعارية والوديعة، وكذا الجعل له قبل فراغ العمل.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 124)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

ويجوز لكل واحد منهما فسخ العقد لانه عقد على عمل مجهول بعوض، فجاز لكل واحد منهما فسخه كالمضاربة، فإن فسخ العامل لم يستحق شيئا لان الجعل يستحق بالفراغ من العمل، وقد تركه فسقط حقه، وإن فسخ رب المال، فان كان قبل العمل لم يلزمه شئ، لانه فسخ قبل أن يستهلك منفعة العامل فلم يلزمه شئ، كما لو فسخ المضاربة قبل العمل، وإن كان بعدما شرع في العمل لزمه أجرة المثل لما عمل، لانه استهلك منفعته بشرط العوض فلزمه أجرته، كما لو فسخ المضاربة بعد الشروع في العمل.

 

(فصل)

وتجوز الزيادة والنقصان في الجعل قبل العمل، فان قال: من رد عبدى فله دينار، ثم قال: من رده فله عشره، فرده رجل استحق عشرة، وان قال: من رد عبدى فله عشرة، ثم قال: من رده فله دينار، استحق الدينار، لانه مال بذل في مقابلة عمل في عقد جائز فجائز والزيادة والنقصان فيه قبل العمل كالربح في المضاربة.

 

(فصل)

وإن اختلف العامل ورب المال فقال العامل: شرطت لى الجعل

وأنكر رب المال، فالقول قول رب المال، لان الاصل عدم الشرط وعدم الضمان، وان اختلفا في عين العبد فقال السيد: شرطت الجعل في رد غيره.

وقال العامل: بل شرطت الجعل في رده، فالقول قول المالك، لان العامل يدعى عليه شرط الجعل في عقد، الاصل عدمه، فكان القول فيه قوله، وان اختلفا في قدر الجعال تحالفا كما قلنا في البيع، فإذا تحالفا رجع إلى أجرة المثل كما رجع في البيع بعد هلاك السلعة إلى قيمة العين.

وان اختلف العامل والعبد فقال العامل: أنا رددته.

وقال العبد جئت بنفسى وصدقة المولى، فالقول قول المولى مع يمينه، لان الاصل عدم الرد، وعدم وجوب الجعل، وبالله التوفيق.

(الشرح) قلنا: ان العقود منها الجائز من الطرفين كالشركة والوكالة والعارية

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 125)

________________________________________

والوديعة (والجعالة قبل الفراغ من العمل) ومن ثم يجوز لاى منهما الفسخ قبل تمام العمل، لانه عقد جائز من الطرفين، أما من جهة الجاعل فمن حيث إنها تعلن استحقاق بشرط فأشبهت الوصية.

وأما من جهة العامل فلان العمل فيها مجهول، وما كان كذلك لا يتصف باللزوم كالفراض، وإنما يتصور الفسخ من العامل في الابتداء إذا كان معينا بخلاف غيره فلا يتصور فسخه إلا بعد شروعه في العمل، والمراد بالفسخ رفع العقد ورده، وخرج بقوله: قبل العمل، ما بعده، فإنه لا أثر للفسخ، لان الجعل قد لزم واستقر، وعلم من جوازها انفساخها بموت أحد المتعاقدين أو جنونه أو إغمائه.

فلو مات المالك بعد الشروع في العمل فرده إلى وارثه استحق قسط ما عمله في الحياة من المسمى.

وإن مات العامل فرده وارثه استحق القسط منه أيضا، فإن فسخ قبل الشروع

أو فسخه العامل بعد الشروع فلا شئ له، لانه لم يعمل شيئا في الاولى، ولان الجعل إنما يستحق في الثانية بتمام العمل، وقد فوته باختياره.

وان فسخ المالك بعد الشروع في العمل فعليه أجرة المثل لما مضى في الاصح لان جوازه يقتضى التسلط على رفعه، وإذا ارتفع لم يجب المسمى كسائر الفسوخ لكن عمل العامل وقع محترما فلا يحبط بفسخ غيره فرجع إلى بدله وهو أجرة المثل كالاجارة إذا فسخت بعيب.

والثانى: لا شئ للعامل كما لو فسخ بنفسه، ولا فرق على هذا القول بين أن يكون ما صدر من العامل لا يحصل به مقصود أصلا كرد الضال إلى بعض الطريق أو يحصل به بعضه كما لو قال: ان علمت ابني القرآن فلك كذا ثم منعه من تعليمه ولا يشكل ما رجحوه هنا كما يقول الرملي من استحقاق أجرة المثل بقولهم: إذا مات العامل أو المالك في أثناء العمل حيث ينفسخ ويجب القسط من المسمى لان الجاعل أسقط حكم المسمى في مسئلتنا بفسخه بخلافه في تلك، وما فرق به بعض الشراح من أن العامل في الانفساخ تمم العمل بعده ولم يمنعه المالك منه

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 126)

________________________________________

بخلافه في الفسخ، محل نظر، إذ لا أثر له في الفرق بين خصوص الوجوب من المسمى تارة، ومن أجرة المثل أخرى كما هو ظاهر للمتأمل.

(فرع)

ويجوز للمالك أن يزيد وينقص في العمل وفى الجعل ولو من غير جنسه ونوعه قبل الفراغ كالمبيع في زمن الخيار، سواء ما قبل الشروع في العمل أو بعده، لانه عقد جائز، فلو قال: من رد ضالتي فله عشرة، ثم قال من ردها فله خمسة أو عكس فالاعتبار بالاخير من قوليه، أما بعد الشروع ففائدته وجوب أجرة المثل له، لان النداء الاخير فسخ للاول، والفسخ في أثناء العمل يقتضى

الرجوع إلى أجرة المثل، ومحله قبل الشروع أن يعلم العامل بالتغيير، فإن لم يعلم به فيما إذا كان معينا ولم يعلن به الملتزم فيما إذا كان غير معين، هكذا أفاده في النهاية.

وقال الغزالي في الوسيط: ينقدح أن يقال: يستحق أجرة المثل وهو الراجح وقال الماوردى والرويانى وأقره السبكى: يستحق الجعل الاول، كما أقر ذلك البلقينى وغيره، فعلى الاول لو عمل من سمع النداء الاول خاصة، ومن سمع النداء الثاني استحق الاول نصف أجرة المثل والثانى نصف المسمى الثاني، وعلى قول الماوردى والرويانى والسبكي والبلقيني للاول نصف الجعل الاول وللثاني نصف الثاني.

أما التغيير بعد الفراغ فلا يؤثر، لان المال قد لزم، ويتوقف لزوم الجعل على تمام العمل، ولهذا قال النووي: ولو مات الآبق في بعض الطريق أو هرب فلا شئ للعامل.

قال الشراح: لانه لم يرده والاستحقاق معلق بالرد، ويخالف موت أجير الحج في أثناء العمل فإنه يستحق من الاجرة بقدر ما عمله في الاصح لان القصد بالحج الثواب، وقد حصل للمحجوج عنه الثواب بالبعض، والقصد هنا الرد ولم يوجد، ولو لم يجد المالك سلم المردود إلى الحاكم واستحق الجعل، فإن لم يكن حاكم أشهد واستحقه، ويجرى ذلك في سائر ما يتلف من محال الاعمال.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 127)

________________________________________

(فرع)

إذا اختلف المالك والعامل فقد قال النووي رضى الله عنه يصدق المالك بيمينه إذا أنكر شرط الجعل أو سعى العامل اه.

والاول كأن يقول: ما شرطت الجعل، أو شرطته في شئ آخر.

والثانى كأن يقول: لم ترده أنت وانما رده غيرك، أو عادت الضالة بنفسها

من غير سعى منك، لان الاصل عدم الرد والشرط وبراءة ذمته، فلو اختلفا بعد الاستحقاق في قدر الجعل أو جنسه أو صفته أو في قدر العمل كأن قال شرطت مائة على رد ضالتين فقال العامل بل على رد هذا فقط تحالفا، وللعامل أجرة المثل كما في القراض والاجارة ن كل هذا إذا اختلفا بعد الفراغ من العمل والتسليم، أو قبل الفراغ فيما إذا وجب للعامل قسطه من العمل الذى عمله وجعالة، فان كان العمل مضبوطا مقدرا فاجارة ولو احتاج إلى تردد غير مضبوط فجعالة والمراد أنه يجوز عقد الاجارة في الشق الاول دون الثاني، ويد العامل على المأخوذ إلى رده يد أمانة.

ولو رفع يده عنه وخلاه بتفريط كأن خلاه بمضيعة ضمنه لتقصيره، وان خلاه بلا تفريط كأن خلاه عند الحاكم لم يضمنه ونفقته على مالكه، فان انفق عليه مدة الرد فمتبرع الا ان أذن له الحاكم فيه أو أشهد عند فقده ليرجع، والله تعالى أعلم بالصواب.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 128)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله تعالى:

 

‌كتاب السبق والرمى

 

تجوز المسابقة والمناضلة لما روى ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سابق بين الخيل، المضمرة منها، من الحفيا إلى ثنية الوداع.

وما لم يضمر منها من ثنية الوداع إلى مسجد بنى زريق وروى أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت له ناقه يقال لها العضباء لا تسبق، فجاء أعرابي على قعود له فسبقها، فشق ذلك على المسلمين، فقالوا يا رسول الله سبقت العضباء، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنه حق على الله أن لا يرتفع من هذه القذرة شئ إلا وضعه.

وروى سلمة بن الاكوع قال: أتى عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ

نترامى فقال (حسن هذا لعبا، ارموا يا بنى اسماعيل، فإن أباكم كان راميا، ارموا وأنا مع ابن الادرع، فكف القوم أيديهم وقسيهم وقالوا غلب يا رسول الله من كنت معه، قال ارموا وأنا معكم جميعا) فإن كان ذلك للجهاد فهو مندوب إليه لما رَوَى عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول على المنبر (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) إلا إن القوة هي الرمى.

قالها ثلاثا وروى عقبة بْنِ عَامِرٍ قَالَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول (ارموا واركبوا، ولان ترموا أحب إلى من أن تركبوا، وليس من اللهو إلا ثلاثة، ملاعبة الرجل أهله، وتأديبه فرسه، ورميه بقوسه.

ومن علمه الله الرمى فتركه رغبة عنه فنعمة كفرها، وان الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنة صانعه المحتسب فيه الخير، والرامي، ومنبله)

(فصل)

ويجوز ذلك بعوض لما روى أنه سئل عثمان رضى الله عنه أكنتم تراهنون عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ نعم.

راهن رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فرس له فجاءت سابقة فهش لذلك وأعجبه، والرهن

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 129)

________________________________________

لا يكون إلا على عوض، ولان في بذل العوض فيه تحريضا على التعلم والاستعداد للجهاد.

 

(فصل)

ويجوز أن يكون العوض منهما، ويجوز أن يكون من أحدهما ويجوز أن يبذله السلطان من بيت المال، ويجوز أن يكون من رجل من الرعية لانه إخراج مال لمصلحة الدين فجاز من الجميع كارتباط الخيل في سبيل الله، ولا يجوز إلا على عوض معلوم إما معينا أو موصوفا في الذمة، لانه عقد معاوضة فلم يجز إلا على عوض معلوم كالبيع، ويجوز على عوض حال ومؤجل لانه

عوض يجوز أن يكون عينا ودينا فجاز أن يكون حالا ومؤجلا كالثمن في البيع،

(فصل)

فإن كان العوض من أحدهما أو من السلطان أو من رجل من الرعية فهو كالجعالة، وان كان منهما ففيه قولان

(أحدهما)

أنه يلزم كالاجارة وهو الصحيح لانه عقد من شرط صحته أن يكون العوض والمعوض معلومين فكان لازما كالاجارة

(والثانى)

أنه لا يلزم كالجعالة، لانه عقد يبذل العوض فيه على ما لا يوثق به فلم يلزم كالجعالة.

فان قلنا إنه كالاجارة كان حكمهما في الرهن والضمين حكم الاجارة وحكمهما في خيار المجلس، وخيار الشرط حكم الاجارة، ولا يجوز لواحد منهما فسخه بعد تمامه، ولا الزيادة ولا النقصان بعد لزومه، كما لا يجوز ذلك في الاجارة.

وإن قلنا إنه كالجعالة كان حكمه في الرهن والضمان حكم الجعالة، وقد مضى ذلك في كتاب الرهن والضمان، فأما الفسخ والزيادة والنقصان فإن كان قبل الشروع فيه أو بعد الشروع فيه وهما متكافئان فلكل واحد منهما أن يفسخ ويزيد وينقص، لانه عقد جائز لا ضرر على أحد في فسخه والزيادة والنقصان فيه.

وان كانا غير متكافئين نظرت، فإن كان الذى له الفضل هو الذى يطلب الفسخ أو الزيادة جاز، لانه عقد جائز لا ضرر على صاحبه في الفسخ والزيادة فيه، فملك الفسخ والزيادة فيه.

وان كان الذى عليه الفضل هو الذى يطلب الفسخ أو الزيادة ففيه وجهان

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 130)

________________________________________

(أحدهما)

له ذلك، لانه عقد جائز فملك فسخه والزيادة فيه

(والثانى)

ليس له لانا لو جوزنا ذلك لم يسبق أحد أحدا، لانه متى لاح له أن صاحبه يغلب فسخ أو طلب الزيادة فيبطل المقصود.

(الشَّرْحُ) حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ متفق عليه عند الشيخين، ورواه أحمد وأبو داوود والترمذي والنسائي وابن ماجه بلفظ (سابق رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الخيل فأرسلت التى ضمرت منها وأمدها الحفياء إلى ثنية الوداع، والتى لم تضمر أمدها ثنية الوداع إلى مسجد بنى زريق) وزاد البخاري قال، قال سفيان (من الحفياء إلى ثنية الوداع خمسة أميال أو ستة.

ومن ثنية الوداع إلى مسجد بنى زريق ميل.

وروى أحمد وأبو داود وابن ماجه وصححه عَنْ ابْنُ عُمَرَ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم سابق بين الخيل وفضل القرح في الغاية) أما حديث أنس بن مالك فقد رواه أحمد والبخاري بلفظ (كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ناقة تسمى العضباء، وكانت لا تسبق، فجاء أعرابي على قعود له فسبقها فاشتد ذلك على المسلمين وقالوا: سبقت العضباء فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إن حقا على الله أن لا يرفع شيئا من الدنيا إلا وضعه) أما حديث سلمة بن الاكوع فقد أخرجه أحمد والبخاري بلفظ (مَرَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نفر من أسلم ينتضلون بالسوق فقال: ارموا يا بنى اسماعيل فإن أباكم كان راميا، ارموا وأنا مع بنى فلان، قال فأمسك أحد الفريقين بأيديهم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما لكم لا ترمون؟ قالوا كيف نرمى وأنت معهم؟ فقال ارموا وأنا معكم) وفى رواية عند ابن حبان والبزار عن أبى هريرة في مثل هذه القصة (وأنا مع ابن الادرع وعند الطبراني من حديث حمزة بن عمرو الاسلمي (وأنا مع محجن بن الادرع) وفى رواية (وأنا مع جماعتكم) وفى رواية للطبراني: أنهم قالوا من كنت معه فقد غلب، وكذا في رواية ابن اسحاق) أما حديث عقبه بن عامر الجهنى فقد رواه أحمد ومسلم، ولفظه (سمعت

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 131)

________________________________________

رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: واعدوا لهم ما استطعتم من قوة.

ألا إن القوة الرمى، الا ان القوة الرمى، الا ان القوة الرمى.

وفيهما عنه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عيله وسلم (من علم الرمى ثم تركه فليس منا) وعنه ايضا عند احمد واصحاب السنن مرفوعا (ان الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر نفر الجنة، صانعه الذى يحتسب في صنعه الخير، والذى يجهز به في سبيل الله.

والذى يرمى به في سبيل الله.

وقال ارموا واركبوا.

فان ترموا خير لكم من ان تركبوا.

وقال كل شئ يلهو به ابن آدم باطل الا ثلاثا: رميه عن قوسه وتاديبه فرسه، وملاعبته اهله، فانهن من الحق، وفى اسناده خالد بن زيد أو ابن يزيد فيه مقال.

وقال فيه ابن حجر في التقريب: خالد ابن زيد أو بن يزيد الجهنى عن عقبة في الرمى، مقبول من الثالثة.

قلت: وبقية اسناده ثقات، وقد اخرجه الترمذي وابن ماجه من غير طريقة.

واخرجه ايضا ابن حبان، وفى رواية ابى داود زيادة (ومن ترك الرمى بعدما علمه فانها نعمة تركها) وفى هذا الاحاديث وغيرها مما سياتب في موضعه دليل على جواز المسابقة ومشروعيتها على جعل وعلى غير جعل، فان كان الجعل من غير المتسابقين كالامام يجعله للسابق جائزة جاز أو من احدهما جاز عند الجمهور.

وكذا إذا كان معهما ثالث محلل بشرط ان لا يخرج من عنده شيئا ليخرج العقد عن صورة القمار وعلى تفصيل سيأتي في موضعه.

وقد وقع الاتفاق على جواز المسابقة بغير عوض لكن قصرها مالك والشافعي على الخف والحافر والنصل، وخصه بعض العلماء بالخبل.

واجازه

عطاء في كل شئ.

وقد حكى عن ابى حنيفة ان عقد المسابقة على مال باطل.

وحكى عن مالك ايضا انه لا يجوز ان يكون العوض من غير الامام، وحكى ايضا عن مالك وابن الصباغ وابن خيران انه لا يصح بذل المال من جهتهما وان دخل المحلل.

وروى عن احمد بن حنبل انه لا يجوز السبق على الفيلة، وروى عن اصحابنا انه يجوز

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 132)

________________________________________

على الاقدام مع العوض.

وقوله (ضمرت)) لفظ البخاري التى اضمرت والتى لم تضمر بسكون الضاد المعجمة والمراد به ان تعلف الخيل حتى تسمن وتقوى ثم يقلل علفها (بقدر القوت) وتدخل بيتا وتغشى بالجلال حتى يحمى فتعرق، فإذا جف عرقها خف لحمها وقويت على الجرى) هكذا في الفتح والنهاية.

وزاد في الصحاح اربعين يوما.

وقوله (الحفياء) بفتح فسكون بعد ياء ممدودة وقد تقصر.

وحكى الحازمى تقديم الياء على الفاء، وحكى القاضى عياض ضم اوله وخطاه.

وقوله (ثنية الوداع (١)) من منعطفات الجبال قرب المدينة، وكانوا يودعون الحاج منها.

وقوله (قعود) بفتح القاف، وهو ما استحق الركوب من الابل وقال الجوهرى: هو البكر حتى يركب، واقل ذلك ان يكون ابن سنتين إلى ان يدخل في السادسة فيسمى جملا.

وقال الازهرى: لا يقال الا للذكر، ولايقال للانثى قعودة، وانما يقال لها قلوص.

قال وقد حكى الكسائي في النوادر قعودة للقلوص وكلام الاكثر على غيره.

وقال الخليل بن احمد: القعود من الابل ما يقتعده الراعى لحمل متاعه.

قوله (تسمى العضاء) بفتح العين وسكون الضاد المعجمة ومد.

قوله (وكانت لا تسبق) زاد البخاري: قال حميد: أو لا تكاد تسبق.

شك منه وهو

موصول باسناده الحديث المذكور كما قاله ابن حجر.

وقوله ان لا يرفع شيئا الخ فر رواية موسى بن اسماعيل: ان لا يرتفع.

وكذلك في رواية للبخاري، وفى

________________________________________

(١) يزعم بعض من لم يرزق نعمة التمحيص والتحقيق أن الرسول صلى الله عليه وسلم دخل المدينة منها في الهجرة إليها، وقابله أهلها بقولهم (طلع البدر علينا من ثنيات الوداع) وهذا غير صحيح لانه صلى الله عليه وسلم إنما دخلها من ثنية بنى النجار وهذه في الجنوب وتلك في شمال المدينة.

وإنما قيلت هذه الانشودة من جارية نذرت أن تضرب بين يديه فقال لها: إن كنت نذرت فافعلي، فأخذت تضرب بالدف بين يديه وهى تغنى بها.

هكذا رواها أبو داود وساقها النووي في كتاب النذور من المجموع، أنها قيلت وهو عائد من غزاة تبوك.

ولم يرد أنها قيلت في الهجرة من طريق معتبر.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 133)

________________________________________

رواية للنسائي (أن لا يرفع شئ نفسه في الدنيا) ولم اطلع على رواية في طرق الحديث فيه لفظ (القذر) والله اعلم فإذا عرف ان السبق والرمى قد ثبتا بالنسبة المستفيضة عرف ايضا انهما ثبتا بالاجماع، والسبق والرماية عنصران فارهان من عناصر مكونات المرء المسلم القوى.

وقد بلغ من حرص النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ يهتم اصحابه رضوان الله عليهم بهما حرصا جعله يحضر مبارياتهم ويشترك فيها ويحث على حضورها ويقول صلى الله عليه وسلم (احضروا الهدف فان الملائكة تحضره، وان بين الهدفين لروضة من رياض الجنة) قال المارودى في الحاوى الكبير: فإذا ثبت جواز السبق والرمى فهو مندوب إليه ان قصده به أهبة الجهاد، ومباح ان قصد به غيره، لانه قد يكون عدة للجهاد ويجوز أخذ العوض في المسابقة والمناضلة منهم ومن السلطان على ما سنصفه.

وحكى عن ابى حنيفة انه منع من اخذ العوض عليه بكل حال، فمن متأخرى اصحابنه من انكره من مذهبه وجعله موافقا.

وقال مالك: ان اخرجه السلطان من بيت المال جاز، وان أخرجه المتسابقون المتناضلون لم يجز، استدلالا بأمرين

(أحدهما)

انه اخذ عوض على لعب فاشبه اخذه على اللهو والصراع

(والثانى)

انه أخذ مال على غير بدل فاشبه القمار.

وَدَلِيلُنَا إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لا سبق الا في خف أو حافر أو نصل.

فلما استثناه في الاباحة دل على اختصاصه بالعوض، ولولا العوض لما احتاج إلى الاستثناء لجواز جميع الاستباق بغير عوض.

اه وقول المصنف: لما روى انه سئل عثمان رضى الله عنه الخ.

يؤخذ على المصنف فيه أمور: (أحدها) انه ساق الحديث بقوله روى بصيغة التمريض، والحديث رواه احمد في مسنده والدارمى في سننه والدارقطني والبيهقي، ولفظ احمد باسناده إلى انس وقيل له (أكنتم تراهنون عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم؟ أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 134)

________________________________________

صلى الله عليه وسلم يراهن؟ قال: نعم والله لقد راهن على فرس يقال له: سبحة فسبق الناس فبهش (١) لذلك واعجبه) ورواية الدارمي والدارقطني والبيهقي عن ابى لبيد قال: اتينا انس بن مالك واخرج نحوه البيهقى من طريق سليمان بن حزم عن حماد بن زيد أو سعيد بن زيد عن واصل مولى ابى عتبة قال حدثنى موسى بن عبيد قال كنا في الحجر بعدما صلينا الغداة فما اسفرنا إذا فينا عبد الله بن عمر فجعل يستقر بنا رجلا رجلا ويقول: صليت يا فلان حتى قال: أين صليت يا أبا عبيد؟ فقلت: ههنا، فقال: بخ لخ، ما يعلم صلاة افضل عند الله من صلاة الصبح جماعة

يوم الجمعة، فسألوه: أكنتم تراهنون عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نعم، لقد راهن على فرس يقال لها سبحة فجاءت سابقة) ثانيها: انه قال سئل عثمان ورواية احمد السؤال كان موجها إلى أنس.

ورواية الدارمي والدارقطني والبيهقي من حديث ابى لبيد قال: اتينا أنس بن مالك، واخرج نحوه البيهقى من طريق سليمان بن حزم التى اوردناها متصلة مسندة إلى ابن عمر وليس في شئ منها سئل عثمان رضى الله عنه.

ثالثها.

رواية بعض الفاظ الخبر بالمعنى كقوله.

فهش لذلك بحذف الباء، وقد تكون هذه الاخيرة من أخطاء النساخ أو الطباعين.

أما بعد فإذا صح جواز السبق بعوض وغير عوض فهو بغير عوض من العقود الجائزة دون اللازمة، وان كان معقودا على عوض ففى لزومه قولان.

 

(أحدهما)

انه من العقود اللازمة كالاجارة، ليس لواحد منهما فسخه بعد تمامه الا عن تراض منهما بقسمته، ولا يدخله خيار الثلاث، وفى دخول خيار المجلس فيه وجهان كالاجارة، فان شرعا في السبق والرمى سقط خيار المجلس فيه لان الشروع في العمل رضى بالامضاء.

(والقول الثاني) انه من العقود الجائزة دون اللازمة كالجعالة، وبه قال أبو حنيفة، وبكون كل واحد من المتسابقين قبل الشروع في السبق وبعد الشروع فيه بالخيار ما لم يستقر السبق وينبرم، فان شرط فيه اللزوم بطل.

________________________________________

(١) بهش بالباء الموحدة والشين المعجمة أي هش وفرح.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 135)

________________________________________

فإن قيل بلزومه على القول الاول فدليله شيئان.

 

(أحدهما)

أنه عقد ومن شرط صحته أن يكون معلوم العوض والمعوض، فوجب أن يكون لازما كالاجارة طردا والجعالة عكسا.

 

(والثانى)

أن ما أفضى إلى إبطال المقصود بالعقد كان ممنوعا منه في العقد، وبقاء خياره فيه مفض إلى إبطال المقصود به، لانه إذا توجه السبق على أحدهما وفسخ لم يتوصل إلى سبق ولم يستحق فيه عوض، والعقد موضوع لاستقراره واستحقاقه فنافاه الخيار وضاهأه اللزوم.

فإن قيل بجوازه على القول الثاني فدليله شيئان أحدهما أن ما صح من عقود المعاوضات إذا قابل غير موثوق بالقدرة عليه عند استحقاقه كان من المعقود الجائزة دون اللازمة كالجعالة طردا، لانه لا يثق بالغلبة في السبق والرمى كما لا يثق بوجود الضالة في الجعاله، وعكسه الاجاره، متى لم يثق بصحة العمل منه لم يصح العقد، والثانى أن ماكان إطلاق العوض فيه موجبا لتعجيل استحقاقه كان جائزا ولا يكون لازما وحاصل ذلك أن المسابقة إذا كانت بين اثنين أو فريقين لم تخل إما أن يكون العوض منهما أو من غيرهما نظرت، فان كان من الامام جاز سواء كان من ماله أو من بيت المال، لان في ذلك مصلحة وحثا على تعلم الجهاد ونفعا للمسلمين، وإن كان غير إمام جاز له بذل العوض من ماله، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد.

وقال مالك: لا يجوز بذل العوض من غير الامام، لان هذا مما يحتاج إليه للجهاد، فاختص به الامام كتولية الولايات وتأمير الامراء ولصحة العقد على السبق بالاعواض خمسة شروط.

(أحدها) التكافؤ فيما يسبقان عليه، وفيما يتكافآن به وجهان، أحدهما: وهو الظاهر من مذهب الشافعي وما عليه جمهور أصحابه، أن التكافؤ بالتجانس فيسابق بين فرسين أو بغلين أو حمارين أو بعيرين ليعلم بعد التجانس أيهما السابق ولا يجوز أن يسابق بين فرس وبغل، ولا بين حمار وبعير، لان تفاضل الاجناس

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 136)

________________________________________

معلوم، وأنه لا يجرى البغل في شوط الفرس على ما سيأتي قريبا.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أن التكافؤ في الاستباق غير معتبر بالتجانس.

(والشرط الثاني) الاستباق عليها مركوبة لتنتهي إلى غايتها بتدبير راكبها فان شرط إرسالها لتجرى مسابقة بأنفسها لم يجز وبط العقد عليها لانها تتنافر بالارسال ولا تقف على غاية السبق، وإنما يصح ذلك في الاستباق بالطيور إذا قيل بجواز الاستباق عليها لما فيه من الهداية إلى قصد الغاية، وأنها لا تتنافر في طيرانها.

(والشرط الثالث) أن تكون الغاية معلومه لانها مستحقه في عقد معاوضه فان وقع العقد على إجراء الفرسين حتى يسبق أحدهما الآخر لم يجز لامرين، أحدهما: جهالة الغاية.

والثانى: لانه يفضى ذلك لاجرائهما حتى يعطبا ويتلفا.

(والشرط الرابع) أن تكون الغاية التى يمتد إليها شوطهما يحتملها الفرسان ولا ينقطعان فيها، فان طالت عن انتهاء الفرسين إليها الا عن انقطاع وعطب بطل العقد لتحريم ما أفضى إلى ذلك.

(والشرط الخامس) أن يكون العوض فيه معلوما كالاجور والاثمان ن فان أخرجه غير المتسابقيه جاز أن يتساويا فيه ويتفاضلا، لان الباذل للسبق مخير بين القليل والكثير، فجاز أن يكون مخير بين التساوى في التفضيل، ويجوز أن يتماثل جنس العوضين وان لم يختلف.

قال الشافعي رضى الله عنه: والاسباق ثلاثه سبق يعطيه الوالى أو الرجل غير الوالى من ماله متطوعا به، وذلك مثل أن يسبق بين الخيل من غايه إلى غايه فيجعل للسابق شيئا معلوما وان شاء جعل للمصلى، والثالث والرابع والذى يليه بقدر ما رأى، فما جعل لهم كان على ما جعل لهم، وكان مأجورا عليه أن يؤدى فيه وحلالا لمن أخذه.

 

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

وتجوز المسابقه على الخيل والابل بعوض، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (لا سبق الا في نصل أو خف أو حافر) ولان

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 137)

________________________________________

الخيل تقاتل عليها العرب والعجم والابل تقاتل عليها العرب فجازت المسابقة عليها بالعوض واختلف قوله في البغل والحمار، فقال في أحد القولين تجوز المسابقة عليهما بعوض لحديث أبى هريرة، ولانه ذو حافر أهل فجازت المسابقة عليهما بعوض كالخيل

(والثانى)

لا تجوز لانه لا يصلح للكر والفر، فأشبه البقر واختلف أصحابنا في المسابقة على الفيل بعوض، فمنهم من قال: لا تجوز، لانه لا يصلح للكر والفر.

ومنهم من قال: تجوز لحديث أبى هريرة، ولانه ذو خف يقاتل عليه فأشبه الابل.

واختلفوا في المسابقة على الحمام، فمنهم من قال لا تجوز المسابقة عليها بعوض وهو المنصوص لحديث أبى هريرة، ولانه ليس من آلات الحرب فلم تجز المسابقة عليه بعوض، ومنهم من قال تجوز لانه يستعان به على الحرب في حمل الاخبار فجازت المسابقة عليه بعوض كالخيل.

واختلفوا في سفن الحرب كالزبازب والشذوات، فمنهم من قال تجوز، وهو قول أبى العباس، لانها في قتال الماء كالخيل في قتال الارض، ومنهم من قال لا تجوز، لان سبقها بالملاح لا بمن يقاتل فيها واختلفوا في المسابقة على الاقدام بعوض، فمنهم من قال تجوز لان الاقدام في قتال الرجالة كالخيل في قتال الفرسان، ومنهم من قال لا تجوز، وهو المنصوص لحديث أبى هريرة، ولان المسابقة بعوض أجيزت ليتعلم بها ما يستعان به في الجهاد، والمشى بالاقدام لا يحتاج إلى التعلم

واختلفوا في الصراع، فمنهم من قال يجوز بعوض، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صارع يزيد بن ركانه على شاء فصرعه، ثم عاد فصرعه، ثم عاد فصرعه، فأسلم ورد عليه الغنم.

ومنهم من قال: لا يجوز.

وهو المنصوص لحديث أبى هريرة، ولانه ليس من آلات القتال.

وحديث يزيد بن ركانة محمول على أنه فعل ذلك ليسلم، ولانه لما أسلم رد عليه ما أخذ منه.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 138)

________________________________________

(الشرح) حديث ابى هريرة أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، ولم يذكر فيه ابن ماجه: أو نصل، وأخرجه أيضا الشافعي والحاكم من طرق وصححه ابن القطان وابن حبان وابن دقيق العبد، وحسنه الترمذي وأعله يحيى بن سعيد القطان بالوقف، ورواه الطبراني وأبو الشيخ من حديث ابن عباس.

وأما حديث يزيد بن ركانة فقد رواه أبو داود بلفظ (عن محمد بن على بن ركانة أن ركانة صارع النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم) وفى إسناده أبو الحسن العسقلاني وهو مجهول.

وأخرجه أيضا الترمذي من حديث العسقلاني أيضا عن أبى جعفر محمد بن ركانة وقال: غريب وليس إسناده بالقائم.

وروى أبو داود في المراسيل عن سعيد بن جبير قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بالبطحاء فأتى عليه يزيد بن ركانة أو ركانة بن يزيد ومعه عير له فقال له: يا محمد هل لك أن تصارعني؟ فقال ما تسبقني أي ما تجعله لى من السبق قال: شاة من غنمي، فصارعه فصرعه فأخذ الشاة، فقال ركانة: هل لك في العود؟ ففعل ذلك مرارا، فقال يا محمد ما وضع جنبى أحد إلى الارض، وما أنت بالذى تصرعنى فأسلم ورد النبي صلى الله عليه وسلم عليه غنمه

قال الحافظ بن حجر: إسناده صحيح إلى سعيد بن جبير إلا أن سعيدا لم يدرك ركانة، قال البيهقى وروى موصولا وفى كتاب السبق لابي الشيخ من رواية عبيد الله بن يزيد المصرى عن حماد عن عمر بْنِ دِينَارٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مطولا.

ورواه أبو نعيم في معرفة الصحابة من حديث أبى أمامة مطولا، وإسنادهما ضعيف وروى عبد الرزاق عن معمر عن يزيد بن أبى زياد، وأحسبه عن عبد الله ابن الحارث قال (صارع النبي صلى الله عليه وسلم أبا ركانة في الجاهلية وكان شديدا ن فقال شاة بشاة، فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عاودني في اخرى، فصرعه النبي صلى الله علهى وسلم، فقال عاودني، فصرعه صلى الله عليه وسلم الثالثة، فقال أبو ركانة: ماذا أقول لاهلي؟ شاة أكلها ذئب! وشاة نشزت فما أقول في الثالثة؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا كنا لنجمع عليك أن نصرعك فنغرمك خذ غنمك) هكذا وقع فيه: أبو ركانة والصواب ركانه.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 139)

________________________________________

أما ألفاظ الفصل فقوله: لا سبق هو بفتح الباء.

المال الذى يسابق عليه، والنصل هو السهم، والخف للابل، والحافر للفرس والبغل والحمار، الظلف لسائر البهائم، والمخلب للطير، وقله كالزبازب جمع زبزب نوع من السفن منها الصغير والكبير والاول سريع خفيف، وكذك الشذوات وكلا اللفظين أعجمى أما الاحكام فقد فسر الشافعي رضى الله عنه حديث أبى هريرة بقوله: والخف الابل والحافر الخيل والنصل كل سهم أو ما يشابهه.

وقال في موضع ان الحافر الخيل والبغال والحمير لانها تركب للجهاد كالابل ويلقى عليها العدو كالخيل وقد شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حرب هوازن على بغلته الشهباء فصار في الحافر قولان.

فأما النصل فالمراد به السهم المرمى به عن قوس، وان كان النصل اسما لحديدة السهم فالمراد جميع السهم، فهذه الثلاثة هي التى نص عليها النبي صلى الله عليه وسلم في جواز السبق بها، فاختلف قول الشافعي فيها فقال: يحتمل معنيين.

أحدهما أنها رخصة مستثناة من جمله محظورة لانه أخرج باستثنائه ما خالف حكم أصله، فعلى هذا لا يجوز أن يقاس على هذه الثلاثة غيرها، ويكون السبق مقصورا على التى تضمنها الخبر وهى الخف، والخف الابل وحدها والحافر وفيه قولان.

 

(أحدهما)

الخيل وحدها

(والثانى)

الخيل والبغال والحمير، والنصل وهو السهام ويكون السبق بما عداها محظورا.

والقول الثاني في المعنيين أن النص على الثلاثة أصل مبتدأ ورد الشرع ببيانه وليس بمستثنى، وان خرج مخرج الاستثناء لان المراد به التوكيد دون الاستثناء فعلى هذا يقاس على كل واحد من الثلاثة ما كان في معناها كما قيس على الستة في الربا ما وافق معناها، وعليه يكون التفريع، فيقاس على الخف السبق بالفيله لانها ذوات أخفاف كالابل، وهى في ملاقاة العدو أنكى من الابل.

وهل يقاس عليها السبق بالسفن والطيارات البحرية التى أطلقوا عليها الزبازب والشذوات أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 140)

________________________________________

(أحدهما)

وهو قول ابن سريج يجوز السبق عليها لانها معدة لجهاد العدو في البحر وحمل ثقله كالابل في البر.

(والوجه الثاني) لا يجوز السبق عليها لان سبقها بقوة ملاحها دون المقاتل فيها، فأما بالزواريق الكبار والمراكب الثقال التى لم تجر العادة في لقاء العدو بمثلها فغير جائز على الوجهين معا هكذا أفاده الماوردى في الحاوى، فأما كون الحافر بالخيل والبغال والحمير نصا في أحد القولين لا نقلا من اسم الحافر

عليها وقياسا في القول الثاني لانها ذوات حوافر كالخيل وفى معناها، واختلف أصحابنا هل يقاس عليها السبق بالاقدام أم لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ.

 

(أَحَدِهِمَا)

وَبِهِ قَالَ أَبُو حنيفة: تجوز المسابقة بالاقدام بعوض وبغير عوض لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استبق هو وعائشة على أقدامهما، ولان السعي من قتال الرجالة كالخيل في قتال الفرسان.

والوجه الثاني وهو الظاهر من مذهب الشافعي أن المسابقة بالاقدام لا تجوز مطلقا عند الماوردى في الحاوى ويشمل ما كان بغير عوض أو بعوض لانه سبق على فعلها من غير آلة فاشبه الطفرة والوثبة، ولان السبق على ما يستفاد بالتعليم ليكون باعثا على معاطاته، والسعى لا يستفاد بالتعليم، وقيد المصنف عدم الجواز على المذهب والمنصوص أنه ما كان بعوض.

قال الماوردى: فعلى هذا ان قيل: ان المسابقة بالاقدام لا تجوز فالمسابقة بالسباحة أولى أن لا تجوز، وان قيل بجوازها على الاقدام ففى جوازها بالسباحة وجهان

(أحدهما)

تجوز كالاقدام لان أحدهما على الارض والآخر في الماء.

(والوجه الثاني) أنها لا تجوز بالسباحه وان جازت بالاقدام لان الماء مؤثر في السباحه والارض غير مؤثرة في السعي أه.

وهذا كلام من لا يعرف قواعد السباحه وكونها علما ومهارة ولها قواعد لا تتأتى الا بالتعلم والتمرس مع لياقة البدن وقوته حتى تكون المهارة والتفوق والسبق.

وقد تطورت أسباب الاعداد للجهاد فكان منها الضفادع البشريه الذين يغوصون في أعماق البحار ليدمروا السفن الحربيه وقلاع الثغور، وهى أنكى

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 141)

________________________________________

على الاعداء من ركوب الخيل والحمير.

ولولا مهارة عساكر الاسلام وجند القرآن في علوم البحار وأولها إتقان السباحة ما تسنى للصحابة أن ينتصروا على

الروم في معركه ذات الصوارى في الاسكندرية ولا طرقوا بأيديهم القوية أبواب القسطنطينية على عهد معاوية وكانت قيادة الاسطول لولده يزيد.

وأما السبق بالصراع أو المصارعة فقد كانت تقوم عند السلف على قوة البدن وعلى إحسان القبض على الخصم وإلقائه أرضا وهى في زماننا هذا تقوم على أضرب منها الحرة والرومانية واليابانية، ولكل نوع منها أسلوبه في صرع الخصم، وهى تهدف جميعا إلى إحسان القبض على الخصم وإجباره على أن يتخذ وضعا ببدنه يعجز معه عن المقاومة.

وقد اختلف أصحابنا في السبق بالصراع على وجهين:

(أحدهما)

وهو مذهب أبى حنيفة أنه جائز لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه خرج إلى الابطح في قصة يزيد بن ركانة، وقد مضى تخريج طرقها وبيان وجه الحق فيها وهى روايات بمجموعها وإن لم يصح منها واحدة إلا أنها تنهض للاحتجاج.

والوجه الثاني وهو ظاهر مذهب الشافعي، والمنصوص عنه أنه لا يجوز، فالسبق على المشابكه بالايدي لا تجوز.

وإن قيل بجوازه في الصراع ففى جوازه بالمشابكة وجهان كالسباحة.

ومنها اختلاف أصحابنا في السبق بالحمام وجهان، وهو نوع من الحمام الذكى الصبور الذى يعبر البحار ويقطع الفيافي والقفار حتى يصل إلى غايته بسرعة فائقة يحمل الاخبار والكتب، وكان لامراء الاسلام وقواد الجيوش أبراج لتلقى هذه الحمائم فيفضون كتبها بأنفسهم، فمن جيش يطلب النجدة إلى قائد يعلن هزيمة عدوه، فكان لهذا الحمام أثره وفعله، وهو سلاح من أسلحة الجيوش كالبرق وسلاح الاشارة، فالوجه الاول يجوز لانها تؤدى أخبار المجاهدين بسرعة.

والوجه الثاني: لا يجوز لانها لا تؤثر في جهاد العدو.

وأما السبق بنطاح الكباش ونقار الديكة، فهو أسفه أنواع السبق وهو باطل لا يختلف أحد من أهل العلم

في عدم جوازه.

والله أعلم بالصواب

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 142)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

وتجوز المسابقة بعوض على الرمى بالنشاب والنبل، وكل ماله نصل يرمى به كالحراب والرانات لحديث أبى هريرة، ولانه يحتاج إلى تعلمه في الحرب فجاز أخذ العوض عليه، ويجوز على رمى الاحجار عن المقلاع، لانه سلاح يرمى به فهو كالنشاب وأما الرمح والسيف والعمود ففيه وجهان، أحدهما تجوز المسابقه عليها بعوض لانه سلاح يقاتل به فأشبه النشاب، والثانى لا تجوز لان القصد بالمسابقة التحريض على تعلم ما يعد للحرب، والمسابقة بهذه الآلات محاربه لا مسابقه، فلم تجز لسبق على أن يرمى بعضهم بعضا بالسهم

(فصل)

وأما كرة الصولجان ومداحاة الاحجار ورفعها من الارض، والمشابكة والسباحه واللعب بالخاتم والوقوف على رجل واحدة وغير ذلك من اللعب الذى لا يستعان به على الحرب، فلا تجوز المسابقة عليها بعوض، لانه لا يعد للحرب، فكان أخذ العوض فيه من أكل المال بالباطل.

 

(فصل)

وإن كانت المسابقه على مركوبين فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لا تجوز الا على مركوبين من جنس واحد كالفرسين والبعيرين، فإن سابق بين فرس وبعير أو فرس وبغل لم يجز لان تفاضل الجنسين معلوم، وأنه لا يجرى البغل في شروط الفرس كما قال الشاعر: إن المذرع لا تغنى خؤولته كالبغل يعجز عن شوط المحاضير ويجوز أن يسابق بين العتيق والهجين، لان العتيق في أول شوطه أحد وفى آخره ألين، والهجين في أول شوطه ألين وفى آخره أحد.

فربما صارا عند الغاية متكافئين.

ومنهم من قال، وهو قول أبى إسحاق انه يعتبر التكافؤ بالتقارب في

السبق، فإن تقارب جنسان كالبغل والحمار جاز، لانه يجوز أن يكون كل واحد منهما سابقا والآخر مسبوقا، وإن تباعد نوعان من جنس كالهجين والعتيق والبختي والنجيب لم يجز، لانه يعلم أن أحدهما لا يجرى في شوط الآخر.

قال الشاعر: إن البراذين إذا أجريتها مع العتاق ساعة أعنيتها، فلا معنى للعقد عليه

(فصل)

ولا تجوز إلا على مركوبين معينين لان القصد معرفة جوهرهما، ولا يعرف ذلك إلا بالتعيين.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 143)

________________________________________

(الشرح) السلاح نوعان نوع يفارق اليد ونوع لا يفارق اليد، فكل سلاح فارق يد صاحبه كالسهام والحراب ومقاليع الاحجار وقسى البندق ورصاصة فهو جائز بالاتفاق، أما ما لا يفارق يد صاحبه من السيوف والرماح والاعمدة فقد اختلف أصحابنا فيها على وجهين.

أحدهما: يجوز كالمفارق ليده، لان جهاد العدو بها.

والوجه الثاني: لا يجوز، لانه يكون بذلك محاربا لا مسابقا، فأما السبق بالمداحى وأكرة الصولجان وما ذكره المصنف من أنواع اللعب فعلى الوجه الذى ذكره المصنف لا وجه غيره، وفرق الماوردى بين السبق بالمداحى وهى إحداث حفرة يلقون بأحجار مستديرة فيها فمن وقع حجره فيها فقد قمر وبين الدحو بالحجر الثقيل أو رفعه من الارض لاختبار القوة والارتياض بها وهو في رياضة حمل الاثقال فيكون السبق عليه كالسبق على الصراع فيكون على وجهين.

(فرع)

عرفت فيما أسلفنا في الفصل قبلة أن لصحة السبق على الاعواض المبذولة خمسة شروط.

أحدها: التكافؤ فيما يسبقان عليه وفيما يتكافآن به وجهان، أحدهما: وهو الظاهر من المذهب وما عليه جمهور الاصحاب أن التكافؤ بالتجانس، فيسابق بين

فرسين أو بغلين أو حمارين أو بعيرين ليعلم بعد التجانس أيهما السابق، ولا يجوز أن يسابق بين فرس وبغل، ولا بين حمار وبعير، لان تفاضل الاجناس معلوم، وأنه لا يجرى البغل في شوط الفرس كما قال الشاعر في البيت الذى ساقه المصنف والمذرع وهو الذى أمه أشرف من أبيه كما يقول الفرزدق: إذا باهلي عنده حنظليه

* له ولد منها فذاك المذرع وإنما سمى البغل مذرعا بالعلامتين المستديرتين السوداوين في ذراعيه الاماميتين ورثهما من الحمار، والمحاضير السريعة العدو واحدها محضار، والعتيق عربي الابوين، والهجين عربي الاب أعجمى الام، والبختي إبل بطيئة العدو، والنجيب الحسن الخلق السريع وانجبته استخلصته، ولكن يجوز السبق بين عتاق الخيل

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 144)

________________________________________

وهجانها لان جميعها جنس، والعتيق في أول الشوط احد من الهجين، والهجين في أول الشوط ألين وفى آخره أحد فربما صار عند الغاية متكافئين، وهذا وجه

(والثانى)

وهو قول أبى إسحاق المروزى: أن التكافؤ في الاستباق غير معتبر بالتجانس، وإنما هو معتبر بأن يكون كل واحد من المستبقين يجوز أن يكون سابقا ويجوز أن يكون مسبوقا، فإن جوز ذلك بين فرس وبغل أو بين بعير وحمار جاز السبق بينهما، وإن علم يقينا أن أحدهما يسبق الآخر عند الاختيار لم يجز السبق بينهما، ولو علم ذلك بين فرسين عتيق وهجين، أو بين بعيرين عربي وبختى لم يجز السبق بينهما، وكذلك لو اتفق الفرسان في الجنس، واختلفا في القوة والضعف فيمنع من الاستباق بينهما وهما من جنس واحد، وتجوز بينهما وهما من جنسين مختلفين اعتبارا بالجواهر دون التجانس.

والشرط الثاني من الشروط الخمسه: الاستباق عليها مركوبة لتنتهي إلى غايتها بتدبير راكبها، فإن شرط إرسالها لتجرى مسابقة بأنفسها لم يجز، وبطل العقد

عليها لانها تتنافر بالارسال، ولا تقف على غاية السبق، وإنما يصح ذلك في الاستباق بالطيور - إذا قيل بجواز الاستباق عليها لما فيه من الهداية إلى قصد الغاية وانها لا تتنافر في طيرانها، وبقية الشروط مضى ذكرها إجمالا، والله تعالى أعلم بالصواب.

 

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

ولا تجوز إلا على مسافة معلومة الابتداء والانتهاء لحديث ابْنِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم سابق بين الخيل المضمرة من الحفياء إلى ثنية الوداع وما لم يضمر منها من ثنية الوداع إلى مسجد بنى زريق، ولانهما إذا تسابقا على إجراء الفرسين حتى يسبق أحدهما الآخر إلى غير غاية لم يؤمن أن لا يسبق أحدهما الاخر إلى أن يعطبا، ولا يجوز أن يكون اجراؤه الا بتدبير الراكب لانهما إذا جريا لانفسهما تنافرا ولم يقفا على الغاية، وان تسابقا على أن من سبق صاحبه بخمسة أقدام فأكثر كان السبق له، فقد قال أبو على الطبري في الافصاح: يجوز ذلك عندي لانهما يتحاطان ما تساويا فيه، وينفرد

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 145)

________________________________________

أحدهما بالقدر الذى شرطه، فجاز كما يجوز في الرمى أن يتناضلا على أن يتحاطا ما تساويا فيه، ويفضل لاحدهما عدد.

قال أبو على الطبري: ورأيت من أصحابنا من منع ذلك وأبطله ولا أعرف له وجها.

 

(فصل)

وإن كان المخرج للسبق هو السلطان أو رجل من الرعية لم يخل إما أن يجعله للسابق منهم أو لبعضهم أو لجميعهم، فإن جعله للسابقه بأن قال: من سبق منكم فله عشرة جاز، لانه يجتهد كل واحد منهم أن يكون هو السابق ليأخذ السبق فيحصل المقصود، فإن سبق واحد منهم استحق العشرة لانه سبق، وإن سبق إثنان أو ثلاثة وجاءوا مكانا واحدا اشتركوا في العشرة لانهم اشتركوا في

السبق، فإن جاءوا كلهم مكانا واحدا لم يستحق واحد منهم لانه لم يسبق منهم أحد، وإن جعله لبعضهم بأن جعله للمجلى والمصلى ولم يجعل للباقى جاز، لان كل واحد منهم يجتهد أن يكون هو المجلى أو المصلى ليأخذ السبق فيحصل المقصود وإن جعله لجميعهم نظرت، فإن سوى بينهم بأن قال: من جاء منكم إلى العاية فله عشرة لم يصح، لان القصد من بذلك العوض هو التحريض على المسابقة وتعلم الفروسية، فإذا سوى بين الجميع عليم كل واحد منهم أنه يستحق السبق تقدم أو تأخر فلا يجتهد في المسابقة فيبطل المقصود وإن شرط للجميع وفاضل بينهم بأن قال للمجلى وهو الاول مائة، وللمصلى وهو الثاني خمسون، وللتالى وهو الثالث أربعون، وللبارع وهو الرابع ثلاثون وللمرتاح وهو الخامس عشرون، وللحظى وهو السادس خمسة عشر، وللعاطف وهو السابع عشرة، وللرمل وهو الثامن ثمانية، وللطيم وهو التاسع خمسة.

وللسكيت وهو العاشر درهم، وللفسكل وهو الذى يجئ بعد الكل نصف درهم ففيه وجهان (أحدهما يجوز لان كل واحد منهم يجتهد ليأخذ الاكثر

(والثانى)

لا يجوز لان كل واحد منهم يعلم انه لا يخلوا من شئ تقدم أو تأخر، فلا يجتهد في المسابقة، وان جعل للاول عشرة وللثالث خمسه وللرابع اربعة ولم يجعل للثاني شيئا فييه وجهان (احدهما) يصح ويقوم الثالث مقام الثاني.

والرابع مقام الثالث، لان الثاني بخروجه من السبق يجعل كان لم يكن

(والثانى)

انه يبطل، لانه فضل الثالث والرابع على من سبقهما.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 146)

________________________________________

(الشرح) حديث ابن عمر مضى تخريجه في اول هذه الفصول وشرحنا غريبه وطريقة.

اما الاحكام فانه يشترط في المسابقة بالحيوان تحديد المسافة وان يكون لابتداء عدوهما واخره غاية لا يختلفان فيها، لان الغرض معرفة أسبقهما،

ولا يعلم ذلك الا بتساويهما في الغاية، ولان احدهما قد يكون مقصرا في أول عدوه سريعا في انتهائه.

وقد يكون عكس ذلك فيحتاج إلى غاية تجمع حاليه أو احواله.

ومن الخيل ما هو أصبر والقارح أصبر من غيره وقد روى أبو داود في سننه عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم (سبق بين الخيل وفضل القرح في الغاية) وسبق بين الخيل المضمرة من الحفياء إلى ثنية الوداع، وذلك ستة أميال أو سبعة، وبين التى لم تضمر من الثنية إلى مسجد بنى زريق، وذلك ميل أو نحوه.

فان استيفاء بغير غاية لينظرا أيهما يقف أولا لم يجز، لانه يؤدى إلى أن لا يقف احدهما حتى ينقطع فرسه ويتعذر الاشهاد على السبق فيه ويشترط في المسابقة إرسال الفرسين أو البعيرين دفعة واحدة، فان ارسل احدهما قبل الاخر أو لا لم يجز هذا في المسابقة بعوض لانه قد لا يدركه مع كونه اسرع منه لبعد ما بينهما، ويكون عند اول المسافة من يشاهد ارسالهما ويرتبهما، وعند الغاية من يضبط السابق منهما لئلا يختلفا في ذلك.

وقول الشافعي: الاسباق جمع سبق - بفتح الباء - وهو العوض المخرج في المسابقة - وهو باسكان الباء - مصدر سبق من المسابقة اما السبق الاول الذى يراه الشافعي، وهو الذى يخرجه غير المتسابقين فيجوز، سواء اخرجه الامام من بيت المال أو أخرجه غير الامام من ماله.

وكلام مالك من عدم جوازه لغير الامام فاسد من وجهين

(أحدهما)

ان ما فيه معونه على الجهاد جاز ان يفعله غير الائمه كارتباط الخيل واعداد السلاح.

 

(والثانى)

ان ما جاز أن يخرجه الامام من بيت مال المسلمين جاز ان يتطوع به كل واحد من المسلمين كبناء المساجد والقناطر

فإذا صح جوازه جاز أن يختص به السابق وحده دون غيره، كقول الباذل

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 147)

________________________________________

إذا كان المتسابقون عشرة فقد جعلت للسباق منكم عشرة وهذا جائز، فايهم جاء سابقا لجماعتهم استحق العشرة كلها ولا شئ لمن بعده، وان كانوا متفاضلين، في السبق، فلو سبق اثنان من الجماعة فجاءا معا وتأخر الباقون اشترك الاثنان في العشرة لتساويهما في السبق فاستويا في الاخذ، ولو سبق خمسة اشتركوا في الاخذ كذلك.

ولو سبق تسعة وتاخر واحد اشتركوا في العشرة دون المتأخر منهم، ولو جاءوا جميعا غرضا واحدا لم يتأخر عنهم واحد منهم فلا شئ لهم لانه ليس فيهم سابق ولا مسبوق.

والقسم الثاني: ان يبذله لجماعة منهم ولا يبذله لجميعهم، كان بذل الاول عوضا والثانى عوضا ولكل واحد منهم في اللغة إذا تقدم على غيره خاص.

فيقال للسابق الاول المجلى والثانى المصلى والثالث التالى والرابع البارع والخامس المرتاح والسادس الحظى والسابع العاطف والثامن المؤمل والتاسع الطيم والعاشر السكيت، وليس لما بعد العاشر اسم، الا الذى يجئ آخر الخيل كلها، ويقال له الفسكل.

قال الجاحظ: كانت العرب تعد السوابق ثمانية ولا تجعل لما جاوزها حظا، فأولها السابق ثم المصلى ثم المقفى ثم التالى ثم العاطف ثم المذمر ثم البارع ثم اللطيم.

قال الثعالبي: وكانت العرب تلطم الاخر ان كان له حظ.

وقال أبو عكرمة: اخبرنا ابن قادم معن الفراء انه ذكر في السوابق عشرة اسماء لم يحكها احد غيره وهى: السابق ثم المصلى ثم المسلى ثم التالى ثم المرتاح ثم العاطف ثم الحظى ثم المؤمل ثم اللطيم ثم السكيت.

وقد جاء في الحاوى الكبير للماوردى هذه الاسماء التى ذكرها المصنف مع

جعل المؤمل بدل المرمل، وهو ما يوافق رواية الفراء هنا، فإذا بذل لبعض دون بعض فعلى ضربين: (احدهما) ان يفاضل بين السابق والمسبوق فيجعل للاول الذى هو المجلى - وقد اشنق اسمه من الجلاء - قال ابى بطال: قال المطرزى: يحتمل ان يكون من جلاء الهموم - عشرة، ويجعل للثاني الذى هو المصلى - لان جفلته على صلى السابق وهي منخره، والصلوان عظمان عن يمين الذنب وشماله - تسعة،

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 148)

________________________________________

والثالث الذى هو التالى - أي التابع - خمسة والرابع الذى هو البارع - أي الفائق كما يقال لمن فاق اصحابه في العلم: بارع - اربعة، والخامس الذى هو المرتاح - من راح يراح راحة إذا فحلا أو إذا نشط وجف - ثلاثة، فان هذا جائز لانه قد منع المسبوقين وفاضل بين السابقين فحصل التحريض في طلب التفاضل وخشبة المنع ويتفرع على هذا ان يجعل للسابق عشرة، وللمصلى خمسة ولا يجعل لمن بعدهم شيئا فيكون السابق أو المجلى خمسة والمصلى واحدا الخمسة السابقين بالعشرة لكل واحد درهمان وينفرد المصلى بالخمسة وان صار بها افضل من السابقين لانه اخذ الزيادة لتفرده، بدرجته، ولم ياخذ لتفضيل اصل درجته، وقد كان يجوز ان يشاركه غيره في درجته فيقل سهمه عن سهم من بعده.

ثم على هذا القياس إذا جعل للثاني شيئا ثالثا فحصل في كل درجة انفراد أو اشتراك وجب ان يختص المنفرد بسبق درجته، ويشترك المشتركون بسبق درجتهم.

والضرب الثاني: ان يستوى فيهم بين سابق ومسبوق، كانه يجعل للسابق عشرة وللمصلى عشرة وفاضل بين بقية الخمسة.

وهذا جائز لان مقتضى التحريض ان يفاضل بين السابق والمسبوق، فإذا تساويا فيه بطل مقصوده فلم يجز، وكان

السبق في حق المصى الذى سوى بينه وبين سابقه باطلا، ولم يبطل في حق الاول بطلانه في حق من عداه وجهان بناء على اختلاف الوجهين في الذى بطل السبق في حقه هل يستحق على الباذل اجرة مثله أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ (أَحَدُهُمَا) وَهُوَ قَوْلُ ابى اسحاق المروزى انه لا اجرة له على الباذل، لان منعه عائد عليه لا على الباذل.

فعلى هذا يكون السبق في حق من بعده باطلا لانه يجوز ان يفضلوا به على من سبقهم.

والوجه الثاني هو قول ابى على الطبري انه له على الباذل اجرة مثله لان من استحق المسمى في العقد الصحيح استحق اجرة المثل في العقد الفاسد اعتبارا بكل واحد من عقدى الاجارة والجعالة.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 149)

________________________________________

فعلى هذا يكون السبق في حق من بعده صحيحا، ولكل واحد منهم ما سمى له، وان كان اكثر من اجرة من بطل السبق في حقه، لانه لا يجوز ان يفضلوا عليه إذا كان مستحقا بالعقد.

وهذا مستحق بغيره ويتفرع على هذا إذا جعل للاول عشرة ولم يجعل للثاني شيئا، وجعل للثالث خمسة وللرابع ثلاثة ولم يجعل بعدهم شيئا، فالثاني خارج من السبق لخروجه من البدل.

وفى قيام من بعده مقامه وجهان: (احدهما) يقوم الثالث مقام الثاني، ويقوم الرابع مقام الثالث لانه يصير وجوده بالخروج من السبق كعدمه، فعلى هذا يصح السبق فيها بالمسمى لهما بعد الاول.

والوجه الثاني: انهم يترتبون على التسمية ولا يكون خروج الثاني منهم بالحكم مخرجا له من البدل.

فعلى هذا يكون السبق فيهما باطلا لتفضيلهما على السابق لهما، وهل يكون لهما اجرة مثلهما ام لا؟ على ما ذكرنا من الوجهين:

والقسم الثالث: ان يبذل العوض لجماعتهم ولا يخلى اخرهم من عوض فينظر فان سوى فيهم بين سابق ومسبوق كان السبق باطلا.

وكان الحكم فيه على ما قدمنا وان لم يساو بين السابق والمسبوق، وفضل كل سابق على كل مسبوق حتى يجعل متاخرهم اقلهم سهما ففى السبق وجهان: (احدهما) انه جائز اعتبارا بالتفضيل في السبق، فعلى هذا ياخذ كل واحد منهم ما سمى له.

والوجه الثاني: ان السبق باطل لانهم قد تكافأوا في الاخذ وان تفاضلوا فيه، فعلى هذا هل يكون باطلا في حق الاخر وحده؟ فيه وجهان: (احدهما) انه باطل في حقه وحده لان بالتسمية له فسد السبق والوجه الثاني: ان يكون باطلا في حقوق جماعتهم، لان اول العقد مرتبط باخره، وهل يستحق كل واحد منهم اجرة مثله ام لا؟ على الوجهين المذكورين فهذا حكم السبق الاول.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 150)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

فان كان المخرج للسبق هما المتسابقان نظرت، فان كان معهما محلل وهو ثالث على فرس كفء لفرسيهما صح العقد، وان لم يكن معهما محلل فالعقد باطل لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (من ادخل فرسا بين فرسين وهو لايامن ان يسبق فلا باس ومن ادخل فرسا بين فرسين وقد امن ان يسبق فهو قمار) ولان مع المحلل لا يكون قمارا، لان فيهم من ياخذ إذا سبق ولا يعطى إذا سبق وهو المحلل، ومع عدم المحلل ليس فيهم الا من ياخذ إذا سبق، ويعطى إذا سبق، وذلك قمار، وان كان المحلل اثنين أو اكثر جاز، لان ذلك ابعد من القمار، وان كانت المسابقة بين حزبين كان حكمهما في

المحلل حكم الرجلين، لان القصد من دخول المحلل الخروج من القمار، وذلك يحصل بالمحلل الواحد مع قلة العدد وكثرته.

واختلف اصحابنا في دخول المحلل فذهب اكثرهم إلى ان دخول المحلل لتحليل السبق لكل من سبق منهم، وذهب أبو على بن خيران إلى ان دخوله لتحليل السبق لنفسه وان ياخذ إذا سبق، ولا يأخذان إذا سبقا، لانا لو قلنا: انهما إذا سبقا أخذا حصل فيهم من يأخذ مرة ويعطى مرة، وهذا قمار، والمذهب الاول لانا بينا ان بدخول المحلل خرجا من القمار، لان في القمار ليس فيهم الا من يعطى مرة وياخذ مرة، وبدخول المحلل قد حصل فيهم من يأخذ ولا يعطى فلم يكن قمارا، فان تسابقوا نظرت فان انتهوا إلى الغاية معا احرز كل واحد منهما سبقه لانه لم يسبقه احد، ولم يكن للمحلل شئ لانه لم يسبق واحدا منهما، وان سبق المخرجان احرز كل واحد منها سبقه لانهما تساويا في السبق ولا شئ للمحلل لانه مسبوق، وان سبقهما المحلل اخذ سبقهما لانه سبقهما، وان سبق احد المخرجين وتاخر المحلل والمخرج الاخر احرز السابق سبق نفسه.

وفى سبق المسبوق وجهان المذهب انه للسابق المخرج لانه انفرد بالسبق، وعلى مذهب ابن خيران يكون سبق المسبوق لنفسه لانه لا يستحقه السابق المخرج

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 151)

________________________________________

على قوله ولا يستحقه المحلل لانه لم يسبق، وان سبق المحلل واحد المخرجين احرز السابق سبق نفسه، وفى سبق المسبوق وجهان المذهب انه بين المخرج السابق والمحلل، وعلى مذهب ابن خيران يكون سبقه للمحلل، وان سبق احد المخرجين ثم جاء المحلل ثم جاء المخرج الاخر ففيه وجهان المذهب ان سبق المسبوق للمخرج السابق بسبقه، وعلى مذهب ابن خيران يكون للمحلل دون السابق، وان سبق احد المخرجين ثم جاء المخرج الثاني، ثم جاء المحلل ففيه وجهان المذهب ان سبق

المسبوق للسابق، وعلى مذهب ابن خيران يكون للمسبوق لان المخرج السابق لا يستحقه والمحلل لم يسبق فبقى على ملك صاحبه.

 

(فصل)

وان كان المخرج للسبق احدهما جاز من غير محلل لان فيهم من ياخذ ولا يعطى وهو الذى لم يخرج فصار كما لو كان السبق منهما وبينهما محلل، فان تسابقا فسبق المخرج احرز السبق، وان سبق الاخر اخذ سبقه وان جاءا معا احرز المخرج السبق لانه لم يسبقه الاخر.

(الشرح) حديث ابى هريرة رواه احمد وابو داود وابن ماجه، واخرجه ايضا الحاكم وصححه والبيهقي ورواه ابن حبان باسناده وصححه.

وقال الطبراني في الصغير: تفرد به سعيد بن بسير عن قتادة عن سعيد بن المسيب وتفرد به عنه الوليد وتفرد به عنه هشام بن خالد، ورواه ايضا أبو داود عن محمود بن خالد عن الوليد لكنه ابدل قتادة بالزهرى، ورواه أبو داود وغيره ممن تقدم من طريق سفيان بن حسينن عن الزهري وسفيان ضعيف في الزهري، وقد رواه معمر وشعيب وعقيل عن الزهري عن رجال من اهل العلم، كذا قال ابو داود وقال: هذا أصح عندنا.

وقال أبو حاتم: احسن احواله ان يكون موقوفا على سعيد بن المسيب، فقد رواه يحيى بن سعيد عنه وهو كذلك في الموطأ عن سعيد من قوله، وقال ابن ابى خيثمة: سالت ابن معين فقال: هذا باطل، وضرب على ابى هريرة.

وحكى أبو نعيم في الحيلة انه من حديث الوليد عن سعيد بن عبد العزيز.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 152)

________________________________________

قال الدارقطني: والصواب سعيد بن بشير كما عند الطبراني والحاكم.

وحكى الدارقطني في العلل ان عبيد بن شربك رواه عن هشام بن عمار عن الوليد عن سعيد عن الزهري.

قال الحافظ: وقد رواه عبدان عن هشام، اخرجه ابن عدى مثل ما قال عبيد وقال: انه غلط قال: فتبين بهذا ان الغلط فيه من هشام، وذلك انه تغير حفظه اما الاحكام: فقد قال الشافعي رضى الله عنه والسبق الثاني من الاساق ان يجمع شيئين وذلك مثل الرجلين يريدان ان يستبقا بفرسيهما ولا يريد كل منهما ان يسبق صاحبه ويخرجان سبقين، ولا يجوز الا بمحلل، وهو ان يجعل بينهما فرس ولايجوز حتى يكون كفؤا لفرسيهما لا يا منان ان يسبقهما.

قلت: هذا هو السبق الثاني وهو ان يستبق الرجلان ويخرج كل واحد منهما سبقا من ماله ياخذه السابق منهما، وهذا لا يصح حتى يوكلا بينهما محللا لا يخرج شيئا، وياخذ ان سبق ولا يعطى ان سبق لنص ومعنى.

اما النص فهو حديث ابى هريرة الذى مضى تخريجه.

واما المعنى فهو ان اباحة السبق معتبرة بما خرج عن معنى القمار هو الذى لا يخلو الداخل فيه من ان يكون غانما ان اخذ أو غارما ان اعطى فإذا لم يدخل بينهما محلل كانت هذه بحالها فكان قمارا، وإذا دخل بينهما محلل غير مخرج ياخذ ان سبق ولا يعطى ان سبق خرج عن معنى القمار فحل، وهذا الداخل يسمى محللا، لان العقد صح به فصار حلالا ويسميه اهل السبق ميسرا، ويصح العقد به باربعة شروط.

احدها: ان يكون فرسه كفؤا لفريسهما أو اكفا منهما لايامنان ان يسبقهما فان كان فرسه ادون من فرسيهما وهما يا منان ان يسبقهما لنصر الحديث، ولان دخوله مع العلم بانه لا يسبق غير مؤثر من اخذ السبق.

والشرط الثاني: ان يكون المحلل غير مخرج لشئ وان قل، فان اخرج شيئا خرج من حكم المحلل وصار في حكم المستبق.

والشرط الثالث: ان ياخذ ان سبق، فان شرط ان لا يأخذ لم يصح.

والشرط الرابع: ان يكون فرسه معينا عند العقد لدخوله فيه كما يلزم تعيين

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 153)

________________________________________

فرس المستبقين، وان كان غير معين بطل، فإذا صح العقد بالمحلل على استكمال شروطه فمذهب الشافعي وما عليه جمهور أصحابه أن المحلل دخل ليحلل العقد، ويحلل العقد الاخر فيأخذ إن سبق ويؤخذ به إن سبق.

وقال أبو على بن خيران: إن المحلل دخل للتحلل للعقد ويأخذ ولا يؤخذ به وهذا خطأ لان التحريض المقصود باستفراه الخيل ومعاطاه الفروسية غير موجود إذا لم يوخذ بالسبق شئ فيصير مانعا من السبق، وإذا أخذ به صار باعثا عليه وحافزا له، وهذا يتضح في التفريعات الاتية، والله اعلم بالصواب.

 

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

ويطلق الفرسان من مكان واحد في وقت واحد لما روى الحسن أو خلاس عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لعلى: يا على قد جعلت اليك هذه السبقة بين الناس، فخرج على كرم الله وجهه فدعا بسراقة ابن مالك فقال: يا سراقة إنى قد جعلت اليك ما جعل النبي صلى الله عليه وسلم في عنقي من هذه السبقة في عنقك، فإذا اتيت الميطان فصف الخيل ثم ناد ثلاثا هل مصلح للجام أو حامل لغلام أو طارح لجل، فإذا لم يجبك أحد فكبر ثلاثا ثم خلها عند الثالثة يسعد الله بسبقه من يشاء من خلقه) فإن كان بينهما محلل وتنازعا في مكانه جعل بينهما، لانه أعدل وأقطع للتافر وإن اختلف المتسابقان في اليمين واليسار أقرع بينهما لانه لا مزية لاحدهما على الاخر ولا يجلب ورواءه لما روى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: من أجلب على الخيل يوم الرهان فليس منا، قال مالك: الجلب أن يجلب وراء الفرس حين يدنو أو يحرك وراءه الشسن.

ليستحث به السبق.

 

(فصل)

وأما ما يسبق به فينظر فيه فان شرط في السبق أقداما معلومة لم يستحق السبق بما دونها لانه شرط صحيح فتعلق الاستحقاق به وإن أطلق نظرت فان تساوى المركوبان في طول العنق اعتبر السبق بالعنق أو بالكند، فان سبق أحدهما بالعنق أو ببعضه أو بالكتد أو ببعضه فقد سبق، وان اختلفا في العنق

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 154)

________________________________________

اعتبر السبق بالكتد لانه لا يختلف، وإن سبق أطولهما عنقا بقدر زيادة الخلقة لم يحكم له بالسبق لانه يسبق بزيادة الخلقة لا بجودة الجرى

(فصل)

وإن عثر أحد الفرسين أو ساخت قوائمه في الارض أو وقف لعلة أصابته فسبقه الاخر لم يحكم للسابق بالسبق لانه لم يسبق بجودة الجرى ولا تأخر المسبوق لسوء جريه.

 

(فصل)

وإن مات المركوب قبل الفراغ بطل العقد، لان العقد تعلق بعينه وقد فات بالموت فبطل كالمبيع إذا قبل القبض.

وإن مات الراكب، فان قلنا: انه كالجعالة بطل العقد بموته، وان قلنا: إنه كالاجارة لم يبطل وقام الوارث فيه مقامه.

 

(فصل)

وإن كان العقد على الرمى لم يجز بأقل من نفسين، لان المقصود معرفة الحذق، ولا يبين ذلك بأقل من اثنين، فان قال رجل لاخر: ارم عشرا وناضل فيها خطأك بصوابك، فان كان صوابك أكثر فلك دينار لم يجز، لانه بذل العوض على أن يناضل نفسه.

وقد بينا أن ذلك لا يجوز، وإن قال ارم عشرة فإن كان صوابك أكثر فلك دينار، ففيه وجهان:

(أحدهما)

يجوز لانه بذل له العوض على عمل معلوم لا يناضل فيه نفسه فجاز

(والثانى)

لا يجوز لانه جعل العوض في مقابلة الخطأ والصواب، والخطأ لا يستحق به بدل.

(الشرح) حديث على رواه الدارقطني واخرجه البيهقي بإسناد الدارقطني وقال: هذا إسناد ضعيف ولفظه كاملا هكذا (يا على قد جعلت اليك هذه السبقة بين الناس، فخرج على فدعا سراقة بن مالك فقال: يا سراقة إنى قد جعلت اليك ما جعل النبي صلى الله عليه وسلم في عنقي من هذه السبقة في عنقك، فإذا أتيت الميطان - قال أبو عبد الرحمن: والميطان مرسلها من الغاية - فصف الخيل ثم ناد: هل من مصلح للجام أو حامل لغلام أو طارح لجل، فإذا لم يجبك أحد فكبر ثلاثا ثم خلها عند الثالثة يسعد الله بسبقه من شاء من خلقه.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 155)

________________________________________

وكان على يقعد عند منتهى الغاية ويخط خطا ويقيم رجلين متقابلين عند طرف الخط طرفه بين ابهامى أرجلهما وتمر الخيل بين الرجلين ويقول إذا خرج احد الفرسين على صحابه بطرف أذنيه أو أذن أو عذار فاجعلوا السبقة له، فإن شككنما فاجعلا سبقهما نصفين، فإذا قرنتم ثنتين فاجعلوا الغاية من غاية أصغر الثنتين ولا جلب ولا جنب ولا شغار في الاسلام) .

أما غريبة فقوله (هذه السبقة) فهى بضم السين وإسكان الباء هو الشئ الذى يجعله المتسابقان بينهما يأخذه من سبق منهما.

قال في القاموس: السبقة بالضم الخطر يوضع بين أهل السباق والجمع أسباق.

قوله (فإذا أتيت الميطان) بكسر الميم.

قال في القاموس: والميطان بالكسر الغاية.

قوله (فصف الخيل) هي خيل الحلبة.

قال في القاموس.

الحلبة بالفتح هي الدفعة من الخيل في الرهان، وخيل تجتمع للسباق من كل أوب.

قوله (ثم ناد الخ) فيه استحباب التأني قبل ارسال خيل الحلبة، وتنبيههم على إصلاح ما يحتاج إلى إصلاحه، وجعل علامه على الارسال من تكبير أو غيره، وتأمير أمير يفعل ذلك.

وأما حديث ابن عباس فقد أخرجه أبو يعلى بإسناد صحيح بلفظ (ليس منا

من أجلب على الخيل يوم الرهان، وأخرجه الطبراني بلفظ (لا جلب في الاسلام) وفى إسناده أبو شيبة ضعيف، والمراد بالجلب في الرهان أن يأتي برجل يجلب على فرسه أي يصيح عليه يستحثه بالازعاج حتى يسبق، والجنب أن يجنب فرسا إلى فرسه حتى إذا فتر المركوب تحول إلى المجنوب.

وقال ابن الاثير: له تفسيران ثم ذكر معنى في الرهان ومعنى في الزكاة، وقد مضى معناه في الزكاة من كتاب الزكاة أما الاحكام: فإن السبق يحصل في الخيل بالرأس إذا تماثلت الاعناق، فإن اختلفا في طول العنق أو كان ذلك في الابل اعتبر السبق بالكتف لان الاعتبار بالرأس متعذر، فإن طويل العنق قد يسبق رأسه لطول عنقه لا لسرعة عدوه، وقد مضى لنا تفصيل ذلك، وهو مذهب الشافعي وأحمد.

وقال الثوري: إذا سبق أحدهما بالاذن كان سابقا ولا يصح لان أحدهما قد يرفع رأسه ويمد الاخر عنقه فيكون سابقا بأذنه لذلك لا لسبقه، وان شرطا

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 156)

________________________________________

السبق بأقدام معلومة كثلاثة أو أكثر أو أقل لم يصح على أحد القولين عند أصحابنا والثانى: يصح ويتخاطان ذلك كما في الرمى.

قال الماوردى في الحاوى الكبير: وإذا استقرت بينهما مع المحلل في الجرى فيختار أن يكون في الموضع الذى ينتهى إليه السبق، وهو غاية المدى قصب قد غرزت في الارض يسميها العرب قصب السبق ليحرزها السابق منهم فيتلقفها حتى يعلم بسبقه الدانى والقاصى فيسقط الاختلاف، وربما كر بها راجعا يستقبل بها المسبوقين إذا كان مفضلا في السبق مباهيا في الفروسية.

(فرع)

قال الشافعي رضى الله عنه: والسبق أن يسبق أحدهما صاحبه وأقل السبق أن يسبق أحدهما صاحبه بالهادي أو بعضه أو الكتد أو بعضه اه.

فالسبق ضربان.

أحدهما: أن يكون معتبرا بأقدام مشروطة كاشتراطهما السبق بعشرة أقدام ولا يتم السبق الا بها ولو سبق أحدهما بتسعة أقدام لم يكن سابقا في استحقاق

البدل، وان كان سابقا في العمل.

والضرب الثاني: أن يكون مطلقا بغير شرط فيكون سابقا بكل قليل وكثير.

قال الشافعي رضى الله عنه: أقل السبق أن يسبق بالهادي أو بعضه أو الكتد أو بعضه، فأما الهادى فهو العنق، وأما الكتد ويقال بفتح التاء وكسرها والفتح أشهر، وفيه تأويلان.

أحدهما: أنه الكتف.

والثانى: أنه ما بين أصل العنق والظهر، وهو مجتمع الكتفين في موضع السنام من الابل، فجعل الشافعي رضى الله عنه أقل السبق السبق بالهادي والكتد.

وقال الاوزاعي: أقل السبق بالرأس وقال المزني: أقل السبق بالاذن استدلالا بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: بعثت والساعة كفرسي رهان كاد أحدهما أن يسبق الآخر باذنه: قال الماوردى ردا على المزني: المقصود بهذا الخبر ضرب المثل على وجه المبالغة وليس بحد لسبق الرهان كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (من بنى لله بيتا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة) وان كان بيت لا يبنى كمفحص القطاة وانما لم يعتبر بالاذن كما قال المزني، ولا بالرأس كما قال الاوزاعي، لان من الخيل ما يزجى أذنه ورأسه فيطول، ما يرفعه فتقصر، فلم يدل واحد منهما على التقديم اه.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 157)

________________________________________

وإذا سقط اعتبارهما ثبت اعتبار الهادى والكتد، ولو اعتبر السبق بأيديهما فأيهما تقدمت يداه وهو السابق كان عندي أصح، لان السعي بهما والجرى عليهما لكن الشافعي اعتبر بالهادي والكتد.

فأما السبق بالكتد فمتحقق سواء اتفق الفرسان في الطول والقصر أو تفاضلا وأما السبق بالهادي وهو العنق فلا يخلو حال الفرسين أن يتساويا فيه أو يتفاضلا في طوله أو قصره، فإن سبق بالعنق أقصرهما عنقا، وإن سبق بالعنق

أطولهما عنقا لم يكن سابقا إلا أن يتصاف السابق بكتده، لان سبقه بعنقه إنما كان لطوله لا لزيادة جريه.

فإن قيل: فإن كان السبق بالكتد صحيحا مع اختلاف الخلقة فلم اعتبر بالعنق التى يختلف حكمها باختلاف الخلقة؟ قيل: لان السبق بالكتد يتحققه القريب دون البعيد، والسبق بالعنق يتحققه القريب والبعيد، وربما دعت الضرورة إليه ليشاهده شهود السبق فشهدوا به للسابق شهودا يستوقفون عند الغاية ليشهدوا للسابق على المسبوق، فلو سبق أحدهما عند الغاية بهاديه أو كتده ثم جريا بعد الغاية فتقدم المسبوق بعدها على السابق بهاديه أو كتده كان السبق لمن سبق عند الغاية دون من سبق بعدها، لان ما يجاوز الغاية غير داخل في العقد فلم يعتبر وهكذا لو سبق أحدهما قبل الغاية ثم سبقه الآخر عند الغاية كان السبق لمن سبق عند الغاية دون من سبق قبلها لاستقرار العقد على السبق إليها.

(فرع)

إذا عثر أحد الفرسين أو ساخت قوائمه في الارض فسبق الاخر لم يحتسب له بالسبق، لان العثرة أخرته.

ولو كان العاثر هو السابق احتسب سبقه، لانه إذا سبق مع العثرة كان بعدها أسبق، ولو وقف أحد الفرسين بعد الجرى حتى وصل الاخر إلى غايته كان مسبوقا إن وقف لغير مرض، ولا يكون مسبوقا إن وقف لمرض.

فأما إن وقف قبل الجرى لم يكن مسبوقا، سواء وقف لمرض أو غير مرض لانه بعد الجرى مشارك.

(فرع)

قال الشافعي رضى الله عنه: والنضال فيما بين الاثنين يسبق أحدهما

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 158)

________________________________________

الاخر.

والثالث بينهما المحلل كهو في الخيل لا يختلفان في الاصل فيجوز فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا جَازَ فِي الاخر، ويرد فيهما ما يرد في الاخر ثم يتفرعان، فإذا

أختلفت عللهما اختلفا.

اه أما السبق فاسم يشتمل على المسابقة بالخيل حقيقة وعلى المسابقة بالرمي مجازا ولكل واحد منهما اسم خاص فتختص الخيل بالرهان ويختص الرمى بالنضال: فأما قولهم: سبق فلان بتشديد الباء فمن أسماء الاضداد يسمى به من أخرج مال السبق، ويسمى به من أحرز مال السبق.

وقد مضى حكم السباق بالخيل.

فأما السباق بالنضال فهما في الاباحة سواء، والخلاف فيهما واحد، وقد تقدم الدليل عليهما، وقد ذكر الشافعي ها هنا كلاما اشتمل على أربعة فصول: أحدها قوله: والنضال فيما بين الرماة كذلك في السبق والعلل، يريد بهذا أمرين

(أحدهما)

جواز النضال بالرمي كجواز السباق بالخيل

(والثانى)

اشتراكهما في التعليل لارهاب العدو بهما لقوله تعالى (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) والفصل الثاني: قوله يجوز في كل واحد منهما ما يجوز في الاخر، يريد بهذا أن الاسباق في النضال ثلاثة كما كانت الاسباق في الخيل ثلاثة (أحدها) أن يخرج الوالى مال السبق فيجوز كجوازه في الخيل

(والثانى)

أن الخيل ثلاثة: أحدهما أن يخرج الوالى مال السبق فيجوز كجوازه في الخيل.

والثانى: أن يخرجه المتناضلان فلا يجوز حتى يدخل بينهما محلل يكون رميه كرميهما أو أرمى منهما، كما لا يجوز في الخيل إلا محلل يكون فرسه كفؤا لفرسيهما أو أكفأ، والثالث: أن يخرجه أحد المناضلين فيجوز كما يجوز في الخيل إذا أخرجه أحد المتسابقين والفصل الثالث: قوله ثم يتفرعان، يريد به أمرين

(أحدهما)

أن الاصل في سباق الخيل الفرس والراكب تبع.

والاصل في النضال الرامى والالة تبع.

لان المقصود في سباق الخيل فراهة الفرس، ولو أراد أن يبدله بغيره لم يجز،

ويجوز أن يبدل الراكب بغيره.

والمقصود في النضال حذق الرامى، ولو أراد أن يستبدل بغيره لم يجز،

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 159)

________________________________________

ويجوز أن يبدل آلة بغيرها.

والثانى: أن في النضال من تفريع المرمى بالمبادرة والمحاطة ما لا يتفرع في سباق الخيل.

والفصل الرابع قوله: فإذا اختلفت عللهما اختلفا، يريد به أنه لما كان المقصود في سباق الخيل الفرس دون الراكب لزم تعيين الفرس ولم يلزم تعيين الراكب، ومتى مات الفرس بطل السبق، ولا يبطل بموت الراكب إن لم يكن هو العاقد.

وفى بطلانه بموت العاقد قولان:

(أحدهما)

لا يبطل بموته إذا قيل إنه كالاجارة

(والثانى)

يبطل بموته إذا قيل إنه كالجعالة.

ولما كان المقصود في النضال الرامى دون الالة لزم تعيين الرامى ولم يلزم تعيين الالة، وبطل النضال إذا مات الرامى، ولم يبطل إذا انكسر القوس، فقد اختلف حكمهما كما اختلفت عللهما.

والله أعلم بالصواب إذا ثبت هذا فإن الرمى لا يجوز إلا بين اثنين فأكثر، فإذا قال رجل لآخر ارم هذا السهم فإن أصبت به فلك درهم، قال أحمد وأصحابه: صح ذلك جعالة ولم يصح نضالا لانه بذل مالا له في فعل له فيه غرض صحيح ولم يكن هذا نضالا لان النضال يكون بين نفسين فأكثر على أن يرموا جميعا ويكون الجعل لبعضهم إذا كان سابقا.

وإن قال: إن أصبت فلك درهم وإن أخطأت فعليك درهم لم يصح لانه قمار.

وإن قال: ارم عشرة إسهم فان كان صوابك أكثر من خطئك فلك درهم ففيه وجهان

(أحدهما)

أنه بذل له العوض على عمل معلوم لم يناضل فيه نفسه فجاز

(والثانى)

أنه لا يجوز، لانه جعل العوض في مقابلة الخطأ والصواب.

وقال الماوردى: إذا قال أحدهما لصاحبه أو لغيره: ارم بسهمك هذا فإن أصبت به فلك درهم جاز واستحق الدرهم إن أصاب.

ولجوازه علتان (إحداهما) أنه قد أجابه إلى ما سأل فالتزم له ما بذل، وهذا قول ابن أبى هريرة (والثانية) أنه تحريض في طاعة فلزم البذل عليها كالمناضلة وقال أبو إسحاق المروزى: وهذا بذل مال على عمل وليس بنضال، لان النضال لا يكون الا بين اثنين فأكثر.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 160)

________________________________________

وقال الشافعي رضى الله عنه، ولو قال له: ارم عشرة أرشاق، فإن كان صوابك أكثر فلك كذا لم يجز أن يناضل نفسه.

وقد اختلف أصحابنا في صورة هذه المسألة على وجهين.

 

(أحدهما)

أن المزني حذف منها ما قد ذكره الشافعي في كتاب الام فقال فيه، ولو قال له: ناضل نفسك وارم عشرة أرشاق، فإن كان صوابك أكثر من خطئك فلك كذا لم يجز أن يناضل نفسه، فحذف المزني قوله: ناضل نفسك.

وأورد باقى كلامه وحكمه على هذه الصورة باطل باتفاق أصحابنا واختلفوا في تعليله فقال أبو إسحاق، وهو الظاهر من تعليل الشافعي: انه جعله مناضلا لنفسه، والنضال لا يكون الا بين اثنين فأكثر فاستحال نضال نفسه فبطل.

وقال آخرون: بل علة بطلانه أنه ناضل على خطئه لصوابه بقوله: ان كان صوابك أكثر من خطئك والخطأ لا يناضل عليه ولا به والوجه الثاني: ان المسألة مصورة على ما أورده المزني ههنا ولم يذكر فيه نضال نفسه وقال له: ارم عشرة أرشاق، فعلى هذا يكون في صحته وجهان من اختلاف العلتين:

 

(أحدهما)

انه صحيح ويستحق ما جعل له التعليل الاول، لانه بذل مال على عمل لم يناضل فيه نفسه.

والوجه الثاني: أنه باطل للتعليل الثاني أنه مناضل على خطئه وصوابه ويتفرع على هاتين المسألتين ثالثة، واختلف فيها أصحابنا بأيها تلحق؟ على وجهين، وهو أن يقول: ناضل وارم عشرة أرشاق، فان كان صوابك أكثر فلك كذا فيوافق المسألة الاولى في قوله ناضل، وتوافق المسألة الثانية في حذف قوله: ناضل نفسك، وأحد الوجهين وهو قول أبى اسحاق المروزى أنها في حكم المسألة الاولى في البطلان لاجل قوله: ناضل، والنضال لا يكون الا بين اثنين فصار كقوله: ناضل نفسك، والوجه الثاني أنها في حكم المسألة الثانية في حمل صحتها على وجهين من اختلاف العلتين إذا سقط قوله: نفسك، صار قوله ناضل، يعنى ارم على نضال، والنضال المال، فصار كالابتداء بقوله: ارم عشرة أرشاق.

والله أعلم

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 161)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

ولا يجوز إخراج السبق إلا على ما ذكرناه في المسابقة من إخراج العوض منهما أو من غيرهما، وفى دخول المحلل بينهما.

 

(فصل)

ولا يصح حتى يتعين المتراميان، لان المقصود معرفة حذقهما، ولا يعلم ذلك إلا بالتعيين، فإن كان أحدهما كثير الاصابة والاخر كثير الخطأ، ففيه وجهان

(أحدهما)

لا يجوز لان نضل أحدهما معلوم فيكون الناضل منهما كالأخذ للمال من غير نضال وذلك من أكل المال بالباطل

(والثانى)

لا يجوز لان أخذ المال منه يبعثه على معاطاة الرمى والحذق فيه.

 

(فصل)

ولا يصح إلا على آلتين متجانستين فان عقد على جنسين بأن يرمى أحدهما بالنشاب والاخر بالحراب لم يجز، لانه لا يعلم فضل أحدهما على

الاخر في واحد من الجنسين، وان عقد على نوعين من جنس بأن يرمى إحدهما بالنبل والاخر بالنشاب أو يرمى أحدهما على قوس عربي والاخر على قوس فارسي جاز، لان النوعين من جنس واحد يتقابان، فيعرف به حذقهما، فإن أطلق العقد في موضع العرف فيه نوع واحد حمل العقد عليه، وإن لم يكن فيه عرف لم يصح حتى يبين، لان الاغراض تختلف باختلاف النوعين، فوجب بيانه، وإن عقد على نوع فأراد أن ينتقل إلى نوع آخر لم تلزم الاجابة إليه، لان الاغراض تختلف باختلاف الانواع، فإن من الناس من يرمى بأحد النوعين أجود من رميه بالنوع الاخر، وان عقد على قوس بعينها فأراد أن ينتقل إلى غيرها من نوعها جاز، لان الاغراض لا تختلف باختلاف الاعيان، فإن شرط على أنه لا يبدل فهو على الاوجه الثلاثة فيمن استأجر ظهرا ليركبه على أن لا يركبه مثله وقد بيناها في كتاب الاجارة.

 

(فصل)

ولا يجوز إلا على رشق معلوم وهو العدد الذى يرمى به لانه إذا لم يعرف منتهى العدد لم يبين الفضل.

ولم يظهر السبق.

 

(فصل)

ولا يجوز إلا على إصابة عدد معلوم، لانه لا يبين الفضل

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 162)

________________________________________

إلا بذلك فإن شرط اصابة عشرة من عشرة أو تسعة من عشرة ففيه وجهان.

أحدهما.

يصح لانه قد يصيب ذلك فصح العقد كما لو شرط اصابة ثمانية من عشرة والثانى: لا يصح لان اصابة ذلك تندر وتتعذر فبطل المقصود بالعقد.

(الشرح) ذكرنا فيما مضى من أحكام المسابقة أنه لا يجوز اخراج السبق الا على ما تراضيا عليه، وكما يقول الامام الشافعي رضى الله عنه: ويخرج كل واحد منهما ما تراضيا عليه ويتواضعانه على يدى رجل يثقان به أو يعينانه، ولصحة العقد بينهما مع دخول المحلل أربعة شروط.

 

(أحدهما)

ان يكون العوض معلوما اما معينا أو موصوفا، فإن كان مجهولا لم يصح، لان الاعواض في العقود لا تصح الا معلومة.

(والشرط الثاني) أن يتساويا في جنسه ونوعه وقدره فإن تفاضلا أو اختلفا لم يصح، لانهما لما تساويا في العقد وجب أن يتساويا في بذله.

(والشرط الثالث) تعيين الفرس في السباق.

والرابع أن يكون مدى سبقهما معلوما اما بالابتداء والانتهاء كالاجارة المعينه، واما مذروعا بذراع مشهور كالاجارة المضمونه.

فإذا صح العقد بينهما على الشروط المعتبرة وفى المحلل الداخل بينهما لم يخل حالهما في مال السبق من ثلاثة أحوال.

أحدهما: أن يتفقا على تركه في أيديهما ويثق كل واحد منهما بصاحبه فيحملان على ذلك ولا يلزم اخراج مال السبق من أحدهما الا بعد أن يصير مسبوقا فيؤخذ باستحقاقه، والحالة الثانية: أن يتفقا على أمين فيؤخذ مال السبق منهما ويوضع على يده ويعزل مال كل واحد منهما على حدته، فإن سبق أحدهما سلم إليه ماله ومال المسبوق، فان سبق المحلل سلم إليه مال السبقين ولم يكن للامين أجرة على السابق ولا على المسبوق الا عن شرط، فإن كانت له أجرة في عرف المتسابقين ففى حمله على عرفهم فيه مع عدم الشرط وجهان من اختلافهم فيمن استعمل خياطا فعمل بغير شرط هل يستحق أجرة مثله هل يستحق أجرة مثله أم لا؟ على وجهين.

 

(أحدهما)

أن الامين يستحق أجرة مثله إذا حكم للصانع بالاجرة، ويكون

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 163)

________________________________________

على المستبقين لا يختص بها السابق منهما لانها أجرة على حفظ المالين، والثانى أنه لا أجرة له وإن جرى العرف إلا أن يحكم للصانع بالاجرة، والحال الثالثة أن يختلفا على الامين فيخرج الحاكم لهما أمينا يقطع تنازعهما.

إذا ثبت هذا فقد قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَلَا يَجُوزُ السبق إلا معلوما، كما يجوز في البيع.

قال الماوردى: وهذا صحيح، يريد بالسبق المال المخرج في العقد فلا يصح معه العقد حتى يكون معلوما من وجهين إما بالتعيين كاستباقهما على عين مشاهد، وإما بالصفة كاستباقهما على مال في الذمة، لانه من عقود المعاوضات كالبيع والاجارة، فإن تسابقا على ما يتفقان عليه أو على ما يحكم به زيد كان باطلا للجهالة به عند العقد.

ولو تسابقا وتناضلا على مثل ما يسابق أو يناضل به زيد وعمرو، فان كان ذلك بعد علمهما بقدره صح، وان كان قبل علمهما بقدره بطل، ولو كان لاحدهما في ذمة الاخر قفيز من حنطة فتناضلا عليه، فان كان القفيز مستحقا من سلم لم يصح، لان المعاوضة على السلم قبل قبضه لا تصح، وان كان عن غصبه صح، لان المعاوضة عليه قبل قبضه تصح.

وان كان من قرض فعلى وجهين من الوجهين في صحة المعاوضة عليه قبل قبضه ولو تناضلا على دينار الا دانقا صح، ولو تناضلا على دينار الا درهما لم يصح لانه يكون بالاستثناء من جنسه معلوما وبالاستثناء من غير جنسه مجهولا، ولو تناضلا على دينار معجل وقفيز حنطه مؤجل صح، لانه على عوضين: حال ومؤجل، ولو تناضلا على ان يأخذ الناضل دينارا ويعطى درهما لم يجز، لان الناضل من شرطه أن يأخذ ولا يعطى.

ولو تناضلا على دينار بذله أحدهما، فان نضل دفعه وان شرط لم يرم أبدا أو شهرا كان العقد فاسدا لانه قد شرط فيه الامتناع وهو مندوب إليه فبطل، وإذا تناضلا وقد فسد العقد بما ذكرنا فنضل احدهما، فان كان الناضل باذل المال فلا شئ على المنضول، وان كان الناضل غير الباذل ففى استحقاقه لاجرة مثله

على الباذل وجهان على ما مضى.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 164)

________________________________________

قال الشافعي رضى الله عنه: وإذا سبق احد الرجلين الاخر على ان يجعلا بينهما قرعا معروفا خواسق أو حوابى فهو جائز.

اه قلت: نعلم من اقوال الامام الشافعي رضى الله عنه ان عقد الرمى معتبر بشروط.

احدهما ان يكون الراميان متعينين، لان العقد عليهما، والمقصود به حذقهما، فان لم يتعينا بطل العقد، سواء وصفا أو لم يوصفا، كما لو أطلق في السبق الفرسان، فان لم يتعينا كان باطلا، ولا يلزم تعيين الآلة، ولكل واحد منهما ان يرمى عن أي قوس شاء، وبأى سهم أحب، فان عينت الآلة لم يتعين وبطلت في التعين.

ولو قيل: ويرمى عن هذين القوسين لم يؤثر في العقد وجاز لهما الرمى عنها ولغيرهما، وان قيل: على ان لا يرمى الا عن هذين القوسين كان فاسدا لانه على الوجه الاول صفة وعلى الوجه الثاني شرط.

أما قوله (ولا يصح الا على آلتين متجانستين) فقد قال الشافعي رضى الله عنه: ولا يصلح ان يمنع الرجل أن يرمى بأى نبل أو قوس شاء إذا كانت من صنف القوس التى سابق عليها.

قلت: وأنواع القسى تختلف باختلاف أنواع الناس فللعرب قسى وسهام وللعجم قسى وسهام، وقيل إن أول من صنع القسى العربية ابراهيم الخليل عليه السلام، وأول من صنع الفارسية النمرود.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب القوس العربية ويأمر بها ويكره الفارسية وينهى عنها، ورأى رجلا يحمل قوسا فارسية فقال: ملعون حاملها عليكم بالقسى العربية وسهامها، فانه سيفتح عليكم بها.

قال الماوردى: وليس هذا منه محمولا على الحظر المانع، وفى تأويله.

ثلاثة

أوجه (أحدها) ليحفظ به آثار العرب، ولا يعدل الناس عنها رغبة في غيرها، فعلى هذا يكون الندب إلى تفضيل القوس العربية باقيا.

والوجه الثاني: انه أمر بها لتكون شعار المسلمين حتى لا يتشبهوا باهل الحرب من المشركين فيقتلوا، فعلى هذا يكون الندب إلى تفضيلها مرتفاعا لانها قد فشت في عامة المسلمين.

(والثالث) ما قاله عطاء انه لعن من قاتل المسلمين بها.

فعلى هذا لا يكون

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 165)

________________________________________

وذلك ندبا إلى تفضيل العربية عليها، ويكون نهيا عن قتال المسلمين بها وبغيرها.

وخصها باللعن لانها كانت انكى في المسلمين من غيرها، وقد رمى عنها الصحابة والتابعون في قتال المشركين، وان كان الِاقْتِدَاءُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوسه لمن قوى رميه عنها أحب الينا.

فان كان بالفارسية أرمى كانت به أولى، ويكون الندب منهما إلى ما هو به أرمى.

اه فإذا تقرر ذلك فلا يخلو حال المتناضلين في عقد نضالهما من خمسة أحوال: أحدها أن يشترطا فيه الرمى عن القوس العربية، فعليهما أن يتناضلا بالعربية، وليس لاحدهما العدول عنها لاجل الشرط، فان تراضيا معا بالعدول إلى الفارسية جاز (الثانية) أن يشترطا فيه الرمى عن القوس الفارسية فعليهما ان يتناضلا بها وليس لاحدهما العدول إلى العربية، فان تراضيا بالعدول جاز (الثالثة) أن يشترطا أن يرمى أحدهما عن القوس العربية ويرمى الاخر عن القوس الفارسية فهذا جائز.

وان اختلفت قوساهما، لان مقصود الرمى حذق الرامى والالة تبع.

(الرابعة) أن يشترطا ان يرمى كل واحد منهما عما شاء من قوس عربية أو فارسية، فيجوز لكل واحد ان يرمى عن أي القوسين شاء قبل الشروع في

الرمى وبعده.

فان أراد أحدهما منع صاحبه من خياره لم يجز، سواء تماثلا فيها أو اختلفا (الخامسة) أن يطلقا العقد من غير شرط، فان كان للرماة عرف في احد القوسين حمل عليه، وجرى العرف في العقد المطلق مجرى الشرط في العقد المقيد.

وان لم يكن للرماة فيه عرف معهود فهما بالخيار فيما اتفقا عليه من أحد القوسين إذا كانا فيها متساويين، لان مطلق العقد يوجب التكافؤ، وان اختلفا لم يقرع بينهما لانه أصل في العقد، وقيل لهما ان اتفقتما والا فسخ العقد بينكما.

والشرط الثالث: أن يكون عدد الاصابة من الرشق معلوما ليعرف به الفاضل عن المفضول، وأكثر ما يجوز ان تشترط فيه ما نقص من عدد الرشق المشروط بشئ وان قل ليكون متلافيا للخطأ الذى يتعذر ان يسلم منه المتناضلان، فقد كان معروفا عندهم ان أحذق الرماة من يصيب ثمانية من العشرة، فان شرط أصابة الجميع من الجميع بطل لتعذره غالبا، وان شرطا إصابة ثمانيه من العشرة جاز

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 166)

________________________________________

فان شرطا إصابة تسعة من العشرة ففيه وجهان

(أحدهما)

يجوز لبقاء سهم الخطأ والوجه الثاني: لا يجوز لان اصابتها نادرة.

فأما أقل ما يشترط في الاصابة فهو ما يحصل فيه القاصر.

وهو ما زاد على الواحد.

وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى بطلان اشتراط إصابة تسعة من عشرة.

واختلف أصحابنا في تأويل هذا على وجهين

(أحدهما)

تأويلها أن يشترطا إصابة تسعة من عشرة فيبطل على ما ذكرناه من أحد الوجهين

(والثانى)

تأويلها أن يشترطا أن يكون الرشق عشرة والاصابة محتسبة من تسعة دون العاشر فيبطل وجها واحدا لاستحقاق الاصابة من جميع الرشق به، فان أغفلا عدد الاصابة وعقداه على أن يكون الناضل منهما أكثرهما إصابة ففيه وجهان

(أحدهما)

من التعليلين في اشتراط فعله في سباق الخيل إذا عقداه إلى غير غاية ليكون السابق

من تقدم في أي غاية كانت، وهو باطل في الخيل لعلتين (إحداهما) ان من الخيل من يقوى جريه في ابتدائه ويضعف في انتهائه، ومنها ما هو بضده، فعلى هذا يكون النضال على كثرة الاصابة باطلا، لان من الرماة من تكثر إصابته في الابتداء وتقل في الانتهاء ومنهم من هو بضده.

والتعليل الثاني: ان اجراء الخيل إلى غير غاية مفض إلى انقطاعها، فعلى هذا يجوز النضال على كثرة الاصابة لانه مفض إلى انقطاع الرماة.

 

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

ولا يجوز الا ان يكون مدى الغرض معلوما، لان الاصابة تختلف بالقرب والبعد، فوجب العلم به، فان كان في الموضع غرض معلوم المدى فاطلق العقد جاز وحمل عليه، كما يجوز ان يطلق الثمن في البيع في موضع فيه نقد واحد وان لم يكن فيه غرض معلوم المدى لم يجز العقد حتى يبين، فان أطلق العقد بطل كما يبطل البيع بثمن مطلق في موضع لا نقد فيه، ويجوز ان يكون مدى الغرض قدرا يصيب مثلهما في مثله في العادة، ولا يجوز ان يكون قدرا لا يصيب مثلهما في مثله، وفيما يصيب مثلهما في مثله نادرا وجهان:

(أحدهما)

يجوز لانه قد يصيب مثلهما في مثله، فإذا عقدا عليه بعثهما العقد

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 167)

________________________________________

على الاجتهاد في الاصابة

(والثانى)

لا يجوز لان اصابتهما في مثله تندر فلا يحصل المقصود، وقدر أصحابنا ما يصاب منه بمائتين وخمسين ذراعا، وما لا يصاب بما زاد على ثلثمائة وخمسين ذراعا، وفيما بينهما وجهان، فإن تراميا على غير غرض على أن يكون السبق لابعدهما رميا ففيه وجهان

(أحدهما)

يجوز لانه يمتحن به قوة الساعد، ويستعان به على قتال من بعد من العدو

(والثانى)

لا يجوز لان الذى يقصد بالرمي هو الاصابة، فأما الابعاد فليس بمقصود فلم يجز أخذ

العوض عليه.

 

(فصل)

ويجب أن يكون الغرض معلوما في نفسه فيعرف طوله وعرضه وقدر انخفاضه وارتفاعه من الارض، لان الاصابة تختلف باختلافه، فان كان العقد في موضع فيه غرض معروف فأطلق العقد حمل عليه كما يحمل البيع بثمن مطلق في موضع فيه نقد متعارف على نقد البلد، وان لم يكن فيه غرض وجب بيانه، والمستحب أن يكون الرمى بين غرضين، لما روى عبد الدائم بن دينار قال: بلغني أن ما بين الهدفين روضة من رياض الجنه.

وعن عقبه بن عامر أنه كان يرمى بين غرضين بينهما أربعمائة.

وعن ابن عمر أنه كان يختفى بين الغرضين وعن أنس أنه كان يرمى بين الهدفين، ولان ذلك أقطع للتنافر وأقل للتعب (الشرح) خبر: ما بين الهدفين الخ سبق أن سقناه في الحث على الرمى نقلا عن المصنف وغيره من الفقهاء، كابن قدامه في المغنى، وقد أعضله ولم يوضح، وأبناء دينار ثلاثة: عبد الله.

ومالك.

وعمرو، وليس فيهم من اسمه عبد الدائم، بل ليس في رواة السنة من اسمه عبد الدائم فضلا عن أن يكون ابن دينار وذكر الماوردى في الحاوى الخبر مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من طريق ابن دينار مبهما، والخبر ساقه صاحب الترغيب والترهيب في الترغيب في الرمى.

وقد أخرجه صاحب مسند الفردوس من طريق ابن أبى الدنيا باسناده عن مكحول عن أبى هريرة يرفعه (تعلموا الرمى فان ما بين الهدفين روضة من رياض الجنة) وفى اسناده ضعف وانقطاع.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 168)

________________________________________

أما خبر عقبة بن عامر فهو ثابت من سيرته أنه لم يثبت عن أحد غيره الرمى إلى أربعمائة ذراع وهو أحد ولاة مصر بعد عمرو وتوفى في آخر خلافة معاوية روى عنه من الصحابة جابر وابن عباس وأبو أمامة ومسلمة بن مخلد ورواته من

التابعين لا يحصون، وقد غلط ابن الخياط عندما قال: إنه قتل شهيدا في معركة النهروان، ومعركة النهروان كانت سنة ثمان وثلاثين وقد كان بعد ذلك واليا على مصر بعد سنة خمسين: أما الاحكام: فإن الشرط الرابع من شروط الرمى أن تكون المسافة بين موقف الرامى والهدف معلومة، لان الاصابة تكثر مع قرب المسافة وتقل مع بعدها فلزم العلم بها وأبعد ما في العرف ثلاثمائة ذراع، وأقلها ما يحتمل أن يصاب وأن لا يصاب، فإن أغفلا مسافة الرمى فلها ثلاثة أحوال.

(إحداها) ان لا يكون للرماة هدف منصوب ولا لهم علف معهود فيكون العقد باطلا للجهاله.

(والثانية) أن يكون للرماة الحاضرين هدف منصوب وللرماة فيه موقف معروف فيصح العقد ويكون متوجها إلى الهدف الحاضر من الموقف المشاهد، والرماة يسمون موقف الوجه.

(والثالثة) أن لا يكون لهم هدف منصوب ولكن لهم عرف معهود، ففيه وجهان، أصحهما يصح العقد مع الاطلاق، ويحملان فيه على العرف المعهود كما يحمل إطلاق الاثمان على غالب النقد المعهود، والوجه الثاني: أن العقد باطل، لان حذق الرماة يختلف فاختلف لاجله حكم الهدف فلم يصح حتى يوصف.

(والشرط الخامس) الذى تضمنه هذان الفصلان من كلام المصنف أن يكون الغرض أو الهدف معلوما لانه المقصود بالاصابة، أما الهدف فهو تراب يجمعونه أو حائط بيت، وقد قيل من صنف فقد استهدف لانه يرمى بالاقايل من الحاسدين والناقضين وأما الغرض فهو جلد أو شن بال ينصب في الهدف ويختص بالاصابة وربما جعل في الغرض دارة كالهلال تختص بالاصابة ممن يحمله الغرض وهى الغاية في المقصود من حذق الرماة، وإذا كان كذلك فالعلم بالغرض يكون من

ثلاثة أوجه.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 169)

________________________________________

أحدها: موضعه من الهدف في ارتفاعه وانخفاضه لان الاصابة في المنخفض أكثر منها في المرتفع.

والثانى: قدر الغرض في ضيقه وسعته، لان الاصابة في الواسع أكثر منها في الضيق، وأوسع الاغراض في عرف الرماة ذراع وأقله أربع أصابع.

والثالث قدر الدارة من الغرض إن شرطت الاصابة فيها.

 

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

ويجب أن يكون موضع الاصابة معلوما، وأن الرمى إلى الهدف وهو التراب الذى يجمع أو الحائط الذى يبنى أو إلى الغرض، وهو الذى ينصب في الهدف، أو الشن الذى في الغرض، أو الدارة التى في الشن أو الخاتم الذى في الدارة، لان الغرض يختلف باختلافها، فإن أطلق العقد حمل على الغرض، لان العرف في الرمى إصابه الغرض فحمل العقد عليه، ويجب أن تكون صفة الرمى معلومه من القرع وهو إصابه الغرض أو الخزق وهو أن يثقب الشن أو الخسق وهو الذى يثقبه، ويثبت فيه، أو المرق وهو الذى ينفذ منه، أو الخرم وهو أن يقطع طرف الشن ويكون بعض السهم في الشن وبعضه خارجا منه، لان الحذق لا يبين إلا بذلك، فإن أطلق العقد حمل على القرع، لانه هو المتعارف فحمل مطلق العقد عليه، فإن شرط قرع عشرة من عشرين وأن يحسب خاسق كل واحد منهما بقارعين جاز لانهما يتساويان فيه، وإن أصاب أحدهما تسعه قرعا وأصاب الاخر قارعين وأربعة خواسق فقد نضله لانه استكمل العشرة بالخواسق.

 

(فصل)

واختلف أصحابنا في بيان حكم الاصابة أنه مبادرة أو محاطه أو حوابى، فمنهم من قال: يجب بيانه، فإن أطلق العقد لم يصح، لان حكمهما يختلف

وأغراض الناس فيها لا تتفق فوجب بيانه، ومنهم من قال: يصح ويحمل على المبادرة لان المتعارف في الرمى هو المبادرة، واختلفوا في بيان من يبتدئ بالرمي، فمنهم من قال: يجب فإن أطلق العقد بطل، وهو المنصوص، لان ذلك موضوع على نشاط القلب وقوة النفس، ومتى قدم أحدهما انكسر قلب الاخر

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 170)

________________________________________

وساء رميه، فلا يحصل مقصود العقد، ومنهم من قال: يصح لان ذلك من توابع العقد ويمكن تلافيه بما تزول به التهمة من العرف أو القرعة، فإذا قلنا: إنه يصح ففى البادئ وجهان.

 

(أحدهما)

إن كان السبق من أحدهما قدم، لان له مزية بالسبق، وإن كان السبق منهما أقرع بينهما لِأَنَّهُ لَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخِرِ.

 

(وَالثَّانِي)

لا يبدأ أحدهما إلا بالقرعة لان أمر المسابقة موضوع على أن لا يفضل أحدهما على الآخر بالسبق، فإن كان الرمى بين غرضين فبدأ أحدهما من أحد الغرضين بدأ الاخر من الغرض الاخر، لانه أعدل وأسهل فان كانت البداية لاحدهما فبدأ الاخر ورمى لم يحسب له إن أصاب ولا عليه ان أخطأ لانه رمى بغير عقد فلم يعتد به، وان اختلفا في موضع الوقوف كان الامر إلى من له البداية لانه لما ثبت له السبق ثبت له اختيار المكان فإذا صار الثاني إلى الغرض الثاني صار الخيار في موضع الوقوف إليه ليستويا، وان طلب أحدهما استقبال الشمس والاخر استدبارها أجيب من طلب الاستدبار لانه أوفق للرمي.

(الشرح) لغات الفصل فيها قوله: الشن وهو جلد بال ينصب في الهدف.

أما الدارة فهى قطعة على شكل نصف دائرة، والقرع باسكان الراء من باب نفع يقال: قرع السهم القرطاس إذا أصابه، والقرع بفتحتين السبق والندب الذى يستبق عليه.

وأما الاحكام: فإن المصنف ذكر هنا الشرط وهو أن يكون محل الاصابة معلوما، هل هو في الهدف أو في الغرض أو في الدارة، لان الاصابة في الهدف أوسع، وفى الغرض أوسط وفى الدارة أضيق، وإن أغفل ذلك كان جميع الغرض محلا للاصابة لان ما دونه تخصيص، وما زاد عليه فهو بالغرض مخصوص، فإن كانت الاصابة مشروطة في الهدف سقط اعتبار الغرض، ولزم وصف الهدف طوله وعرضه، وإن شرطت الاصابة في الغرض سقط اعتبار الهدف ولزم وصف الغرض، وإن شرطت الاصابة في الدارة سقط اعتبار الغرض ولزم وصف الدارة.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 171)

________________________________________

(فرع)

والشرط السابع: أن تكون الاصابة موصوفه بقرع أو خرق أو خسق فالقارع ما أصاب الغرض ولم يؤثر فيه، والخارق ما ثقب الغرض ولم يثبت فيه، والخاسق ما ثبت في الغرض بعد أن ثقب، ولا يحتسب بالقارع في الخرق والخسق، وتحتسب بالخارق في القرع ولا يحتسب به في الخسق، ويحتسب بالخاسق في القرع والخرق وينطلق على جميع هذه الاصابات اسم الخواصل وهو جمع خصال فإن أغفل هذا الشرط كانت الاصابة محمولة على القرع لان ما عداه زيادة.

(فرع)

والشرط الثامن أن يكون حكم الاصابة معلوما، هل مبادرة أو محاطه لان حكم كل واحد منهما مخالف لحكم الاخر، والمبادرة أن يبادر أحدهما إلى استكمال إصابته من أقل العددين على ما سيأتي، والمحاطة أن يحط أقل الاصابتين من أكثرهما ويكون الباقي بعدها هو العدد المشروط على ما سنشرحه، فان أغفلا ذلك ولم يشترطاه فسد العقد إن لم يكن للرماة عرف معهود، وفى فساده إن كان لهم عرف معهود وجهان على ما تقدم.

(فرع)

قال الشافعي رضى الله عنه: وقد رأيت من الرماة من يقول: صاحب

السبق أولى أن يبدأ وللمسبق لهما أن يبدأ أيهما شاء، ولا يجوز في القياس عندي إلا أن يتشارطا.

أما اشتراط الابتداء فهو معتبر في الرمى دون السبق لانهما في السبق يتساويان في الجرى معا لا يتقدم أحدهما على الاخر، وأما الرمى فلا بد أن يبتدئ به أحدهما قبل الاخر ولا يرميان معا لاختلاط رميهما ولما يخاف من تنافرهما، فان شرطا في العقد البادى منهما بالرمي كان أحقهما بالابتداء سواء كان المبتدئ مخرج المال أو غير مخرجه، فإن أراد بعد استحقاقه التقدم أن يتأخر لم يمنع لان التقدم حق له وليس بحق عليه، وان أغفل في العقد اشتراط البادئ بالرمي ففى العقد قولان.

 

(أحدهما)

وهو اختبار الشافعي في هذا الموضع أن العقد باطل لان للبداية تأثيرا في قوة النفس وكثرة الاصابة فصارت مقصودة فبطل العقد باغفالها.

(والقول الثاني) أن العقد صحيح، وإن أغفلت فيه البداية، وقد حكا الشافعي عن بعض فقهاء الرماة لانه من توابع الرمى الذى يمكن تلافيه بما تزول التهمه

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 172)

________________________________________

فيه من الرجوع إلى عرف أو قرعة، فعلى هذا إن كان مخرج المال أحدهما كان هو البادئ بالرمي اعتبارا بالعرف وفيه، وجه آخر أنه يقرع بينهما، فإن كانا مخرجين للمال أقرع بينهما لتكافئهما وهل يدخل المحلل في قرعتهما أو يتأخر عنهما على وجهين

(أحدهما)

يتأخر ولا يدخل في القرعة إذا قيل: إن مخرج المال يستحق التقدم (والوجه الثاني) يدخل في القرعة ولا يتأخر إذا قبل: إن مخرج المال لا يتقدم إلا بالقرعة.

قال الشافعي رضى الله عنه: وقد جرت الرماة أن يكون الرامى الثاني يتقدم على الاول بخطوة أو خطوتين أو ثلاث وهذا معتبر بعرف الرماة وعادتهم فإن كانت مختلفة فيه، يفعلونه تارة ويسقطونه أخرى سقط اعتباره ووجب

التساوى فيه، وإن كانت عادتهم جارية لا يختلفون فيها ففى لزوم اعتباره بينهما وجهان.

أحدهما: لا يعتبر لوجوب تكافئهما في العقد فلم يجز أن يتقدم أحدهما على الاخر بشئ لانه يصير مصيبا بتقدمه لا لحذقه.

والوجه الثاني: يعتبر ذلك فيها، لان العرف في العقود كإطلاق الاعيان، فعلى هذا إن لم يختلف عرفهم في عدد الاقدام حملا على العرف في عددها ليكون القرب بالاقدام في مقابلة قوة النفس تقدم أحدهما على الاخر بما لا يستحق لم يحتسب له بصوابه واحتسب عليه بخطئه.

وقال الشافعي رضى الله عنه: وأيهما بدأ من وجه بدأ صاحبه من الاخر.

قال الماوردى: عادة الرماة في الهدف مختلفة على وجهين وكلاهما جائز، فمنهم من يرمى بين هدفين متقابلين فيقف أحد الحزبين في هدف يرمى منه إلى الهدف الاخر ويقف الحزب الاخر في الهدف المقابل فيرمى إلى الهدف الاخر اه.

(قلت) والحكمة في ان يتقدم أحدهما الاخر وان لا يرميا سويا هو أن التساوى في الرمى مفض إلى الاختلاف في الاصابة حيث لا يعرف من المصيب منهما ومن ثم توجه ما مضى من أقوال وبهذا كله أخذ أحمد وأصحابه.

فإذا تشاحا في موضع الوقوف، فان كان ما طلبه أحدهما أولى مثل أن يكون في أحد الموقفين يستقبل الشمس أو ريحا تؤذيه باستقبالها ونحو ذلك، والاخر يستدبرها قدم قول من طلب استدبارها لانه العرف في الرمى وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 173)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

ويجوز أن يرميا سهما سهما وخمسا خمسا، وان يرمى كل واحد منهما جميع الرشق، فان شرطا شيئا من ذلك حملا عليه، وإن أطلق العقد تراسلا سهما لان العرف فيه ما ذكرناه، وان رمى أحدهما أكثر مما له لم يحسب له

ان أصاب، ولا عليه ان أخطا لانه رمى من غير عقد فلم يعتد به.

 

(فصل)

ولا يجوز أن يتفاضلا في عدد الرشق ولا في عدد الاصابة ولا في صفة الاصابة ولا في محل الاصابة، ولا أن يحسب قرع أحدهما خسقا ولا أن يكون في يد أحدهما من السهام اكثر مما في يد الاخر في حال الرمى، ولا أن يرمى أحدهما والشمس في وجهه لان القصد أن يعرف حذقهما، وذلك لا يعرف مع الاختلاف، لانه إذا نضل أحدهما كان النضل بما شرط لا بجودة الرمى، فان شرط شيئا من ذلك بطل العقد، لانه في أحد القولين كالاجارة، وفى الثاني كالجعالة، والجميع يبطل بالشرط الفاسد.

وهل يجب للناضل في الفاسد أجرة المثل؟ فيه وجهان أحدهما لا تجب.

وهو قول ابى اسحاق لانه لا يحصل المسبوق منفعة بسبق السابق فلم تلزمه أجرته

(والثانى)

تجب، وهو الصحيح، لان كل عقد وجب المسمى في صحيحه وجب عوض المثل في فاسده كالبيع والاجارة

(فصل)

وان شرط على السابق ان يطعم أصحابه من السبق بطل الشرط لانه شرط ينافى مقتضى العقد فبطل، وهو يبطل العقد المنصوص انه يبطل لانه تمليك مال شرط فيه يمنع كمال التصرف، فإذا بطل الشرط بطل العقد، كما لو باعه سلعة بالف على ان يتصدق بها.

وقال أبو إسحاق: يحتمل قولا آخر لا يبطل، كما قال فيمن أصدق امرأته الفين على أن تعطى أباها ألفا أن الشرط باطل، ويصح الصداق، فإذا قلنا بالمنصوص سقط المستحق، وهل يرجع الساق بأجرة المثل؟ على الوجهين.

(الشرح) إذا شرطا في العقد شرطا حملا فيه على موجب الشرط وان خالف العرف لان الشرط أحق من العرف، فان شرطا أن يرميا سهما وسهما أو شرطا

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 174)

________________________________________

أن يرميا خمسا وخمسا، أو شرطا أن يواصل كل واحد منهما رمى جميع رشقه رمى كل واحد منهما عدد ما أوجب الشرط، فان زاد عليه لم يحسب به مصيبا ولا مخطئا لخروجه عن موجب العقد، وان اغفل ولم يشترط في العقد لم يبطل العقد باغفاله لامكان التكافؤ فيه واعتبر فيها عرف الرماة لانه يجرى بعد الشرط مجرى الشرط، فان كان عرف الرماة جاريا بأحد الثلاثة المجوزة من الشرط صار كالمستحق بالشرط، وان لم يكن للرماة عرف لاختلافه بينهم رميا سهما وسهما، ولم يزد كل واحد منهما على سهم واحد حتى يستنفدا جميع الرشق.

لان قرب المعاودة إلى الرمى احفظ لحسن الصنيع، فان رمى أحدهما أكثر من سهم فان كان قبل استقرار هذا الترتيب كان محتسبا به مصيبا ومخطئا، وان كان بعد استقراره لم يحتسب به مصيبا ولا مخطئا، لانه قبل الاستقرار يجوز وبعد الاستقرار ممنوع.

وهذا الذى ذكرناه هو الشرط التاسع من شروط الرمى.

قال في الحاوى الكبير: يذكر المبتدئ منهما بالرمي وكيفية الرمى هل يتراميان سهما وسهما أو خمسا وخمسا ليزول التنازع ويعمل كل واحد منهما على شرطه، فان اغفل ذكر المبتدئ منهما بالرمي ففى العقد قولان

(أحدهما)

انه باطل

(والثانى)

جائز وفى المبتدئ وجهان

(أحدهما)

مخرج المال

(والثانى)

من قرع، وان اغفل عددما يرميه كل واحد منهما في يديه فالعقد صحيح ويحملان على عرف الرماة ان لم يختلف، فان اختلف عرفهم رميا سهما وسهما.

قلت: وقد مضى ذكر الشرط العاشر، وهو المال المخرج في النضال ويسمى الحظر ويجب ذكره، فان كان مجهلا ففى استحقاقه لاجرة مثله إذا نضل وجهان (فرع)

ولا يجوز ان يتناضلا على أن تكون إصابة أحدهما قرعا وإصابة الاخر خسقا، لان المقصود بالعقد معرفة احذقهما بالرمي، كما لا يجوز أن

يتفاضلا على ان تكون اصابة أحدهما خمسة من عشرين واصابة الاخر عشرة من عشرين لما فيه من التفاضل الذى لا يعلم به الاحذق قال الشافعي رضى الله عنه: وهو متطوع باطعامه إياه، وما نضله فله أن يحرزه ويتموله ويمنعه منه ومن غيره، وهو عندي كرجل كان له على رجل دينار

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 175)

________________________________________

فاسلفه الدينار ورده عليه أو أطعمه به فعليه دينار كما هو، وقال أيضا: ومستحق سبقه يكون ملكا له يكون لقضائه عليه كالدين يلزمه ان شاء أطعم أصحابه، وان شاء تموله.

قلت: وهذا صحيح إذا نضل الرامى ملك مال النضال وكذلك في السبق وصار كسائر أمواله، فان كان عينا استحق أخذها، وان كان دينا استوجب قبضه ولم يلزمه أن يطعم اصحابه، من أهل النضال والسباق.

وحكى الشافعي عن بعض فقهاء الرماة ان عليه أن يطعم أصحابه ولا يجوز ان يتملكه، وهذا فاسد، لانه لا يخلو اما ان يكون كمال الاجارة أو مال الجعالة لان عقده متردد بين هذين العقدين، والعوض في كل واحد منهما مستحق يتملكه مستحقه ولا يلزمه مشاركة غيره فبطل ما قاله المخالف فيه، فعلى هذا إن مطل به المنضول قضى به الحاكم عليه وحبسه فيه وباع عليه ملكه.

وان مات أو أفلس ضرب به مع غرمائه ويقدم به على ورثته.

وقال الشافعي رضى الله عنه: ولو شرط أن يطعم السبق أصحابه كان فاسدا.

وقد ذكرنا ان مال السبق يملكه الناضل ولا يلزمه ان يطعم أصحابه، فان شرط عليه في العقد أن يطعم أصحابه ولا يملكه كان الشرط فاسدا، لانه ينافى موجب العقد، وفى فساد العقد وجهان

(أحدهما)

وهو الظاهر من المذهب ان العقد يفسد بفساد الشرط كالبيع.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وبه قال أبو حنيفة ان العقد صحيح لا يفسد بفساد هذا الشرط، لان نفعه لا يعود على مشترطه، وكان وجوده كعدمه

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

وإذا تناضلا لم يخل أما أن يكون الرمى مبادرة أو محاطة أو حوابى فان كان مبادرة، وهو ان يعقد على اصابة عدد من الرشق وان من بدر منهما إلى ذلك مع تساويهما في الرمى كان ناضلا، فان كان العقد على اصابة عشرة من ثلاثين نظرت - فإن أصاب أحدهما عشرة من عشرين، وأصاب الاخر تسعة

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 176)

________________________________________

من عشرين، فالاول ناضل لانه بادر إلى عدد الاصابة، وان أصاب كل واحد منهما عشرة من عشرين لم ينضل واحد منهما ويسقط رمى الباقي، لان الزيادة على عدد الاصابة غير معتد بها، وان أصاب الاول تسعة من عشرين وأصاب الاخر خمسة من عشرين فالنضال بحاله، لانه لم يستوف واحد منهما عدد الاصابة فيرميان، فان رمى الاول سهما وأصاب فقد فلج وسقط رمى الباقي، وان رمى الاول خمسة فأخطأ في جميعها ورمى الثاني فاصاب في جميعها، فان الناضل هو الثاني ويسقط رمى ما بقى من الرشق، لان الاول أصاب تسعة من خمسة وعشرين.

وأصاب الثاني عشرة من خسمة وعشرين.

وان أصاب الاول تسعة من تسعة عشر وأصاب الاخر ثمانية من تسعة عشر فرمى البادئ سهما فاصاب فقد نضل، ولا يرمى الثاني ما بقى من رشقه لانه لا يستفيد به نضلا ولا مساواة، لان الباقي من رشقه سهم وعليه إصابة سهمين، فإن أصاب كل واحد منهما تسعة من عشرة ثم رمى البادئ فأصاب جاز للثاني أن يرمى، لانه ربما يصيب فيساويه.

 

(فصل)

وان كان الرمى محاطة وهو أن يعقدا على أصابة عدد من الرشق وان يتحاطا ما استويا فيه من عدد الاصابة ويفضل لاحدهما عدد الاصابة فيكون ناضلا نظرت، فان كان العقد على اصابة خمسة من عشرين فأصاب كل واحد منهما خمسة من عشرة لم ينضل أحدهما الاخر، لانه لم يفضل هل عدد من الاصابة ويرميان ما تبقى من الرشق، لانه يرجو كل واحد منهما أن ينضل، فان فضل لاحدهما بعد تساويهما في الرمى واسقاط ما استويا فيه عدد الاصابة لم يخل - أما أن يكون قبل إكمال الرشق أو بعده - فان كان بعد إكمال الرشق بان رمى أحدهما عشرين وأصابها، ورمى الاخر فأصاب خمسة عشر، فالاول هو الناضل، لانه يفضل هل بعد المحاطه فيما استويا فيه عدد الاصابة، وان كان قبل كمال الرشق وطالب صاحب الاقل صاحب الاكثر برمى باقى الرشق نظرت، فان لم يكن له فائدة مثل أن يرمى الاول خمسة عشر وأصابها، ورمى الثاني خمسة عشر فأصاب خمسة، لم يكن له مطالبته لان أكثر ما يمكن أن يصيب فيما بقى له وهو خمسة، ويبقى للاول خمسه فينضله، بها، وان كان له فيه فائدة بأن يرجو

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 177)

________________________________________

أن ينضل بأن يرمى أحدهما أحد عشر فيصيب ستة ويرمى الاخر عشرة.

فيصيب واحدا، ثم يرمى صاحب الستة فيخطئ فيما بقى له من الرشق.

ويرمى صاحب الواحد فيصيب في جميع ما بقى له فينضله بخمسه أو يساويه بأن يرمى أحدهما خمسة عشر.

فيصيب منها عشرة ويرمى الاخر خمسة عشر فيصيب منها خمسه.

ثم يرمى صاحب العشرة فيخطئ في الجميع ويرمى صاحب الخمسه فيصيب فيساويه أو يقلل اصابته بأن يصيب أحدهما أحد عشر من خمسة عشر ويصيب الاخر سهمين من خمسة عشر ثم يرمى صاحب الاحد ما بقى له من رشقه فيخطئ في الجميع ويرمى صاحب السهمين فيصيب في الجميع فيصير له

سبعة ويبقى لصاحبه أربعة.

فهل لاقلهما إصابة مطالبة الاخر بإكمال الرشق؟ فيه وجهان

(أحدهما)

ليس له مطالبته لانه بدر إلى الاصابة مع تساويهما في الرمى بعد المحاطة فحكم له بالسبق

(والثانى)

له مطالبته لان مقتضى المحاطة إسقاط ما استويا فيه من الرشق.

وقد بقى من الرشق بعضه

(فصل)

وإن كان العقد على حوابى وهو أن يشترطا إصابة عدد من الرشق عليه أن يسقط ما قرب من إصابة أحدهما ما بعد من إصابة الاخر: فمن فضل له بعد ذلك مما اشترطا عليه من العدد كان له السبق.

فان رمى أحدهما فأصاب من الهدف موضعا بينه وبين الغرض قدر شبر حسب له، فان رمى الآخر فأصاب موضعا بينه وبين الغرض قدر أصبع حسب له وأسقط ما رماه الاول فإن عاد الاول ورمى فأصاب الغرض أسقط ما رماه صاحبه.

وان أصاب أحدهما الشن وأصاب الاخر العظم الذى في الشن فقد قال الشافعي رحمه الله: من الرماة من قال: انه تسقط الاصابة من العظم ما كان أبعد منه.

قال الشافعي رحمه الله: وعندي أنهما سواء.

لان الغرض كله موضع الاصابة فان استوفيا الرشق ولم يفضل أحدهما صاحبه بالعدد الذى اشترطاه فقد تكافأ وان فضل أحدهما صاحبه بالعدد أخذ السبق.

وحكى عن بعض الرماة أنهما إذا أصابا أعلى الغرض لم يتقايسا.

قال والقياس أن يتقايسا لان أحدهما أقرب إلى الغرض من الاخر فأسقط الاقرب الابعد.

كما لو أصابا أسفل الغرض أو جنبه.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 178)

________________________________________

(الشرح) أما غريب هذه الفصول فقد مضى شرح المبادرة والمحاطة والحوابى أما قوله: فلج من الفلوج وبابه خرج فيقال: فلج فلوجا أي ظفر بما يريد، وقوله: نضل أن فاز عليه بالمراماة

أما الاحكام فقد قال الشافعي رضى الله عنه: وإن كان رميهما مبادرة فبلغ تسعة عشر من عشرين رمى صاحبه بالسهم الذى يراسله ثم رمى الثاني فإن أصاب بسهمه ذلك فلج عليه، وإن لم يرم الاخر بالسهم، لان المبادرة أن يفوت أحدهما الاخر وليس كالمماثلة.

قال المزني: وهذا عندي غلط لا ينضله حتى يرمى صاحبه بمثله، قد ذكرنا أن الرمى ضربان محاطة ومبادرة فالمبادرة صورتها أن أن يتناضلا على إصابة عشرة من ثلاثين مبادرة فيكون الرشق ثلاثين سهما والاصابة المشروطة منها عشرة أسهم فأيهما بدر إلى إصابتها من أقل العددين فيه نضل وسقط رمى الرشق، وان تكافئا في الاصابة من عدد متساو سقط رمى الثاني وليس منهما فاضل.

وبيانه أن يصيب أحدهما عشرة من عشرين وقد رماها الثاني فنقص منها، ولا يرميان بقية الرشق لحصول النضل، فلو أصاب كل واحد منهما عشرة من عشرين لم يكن منهما ناضل ولا منضول وسقط رمى الباقي من الرشق، لان زيادة الاصابة فيه غير مفيدة لنضل.

ولو أصاب أحدهما خمسة من عشرين وأصاب الاخر تسعة من عشرين فالنضال بحاله، لان عدد الاصابة لم يستوف، فيرميان من بقية الرشق ما يكمل به اصابة أحدهما عشرة، فإن رمى الاول سهما فأصاب فقد فلج على الثاني ونضل وسقط رمى الثاني، ولو رمى الاول خمنسة فأخطأ في جميعها ورمى الثاني خمسة فأصاب في جميعها صار الثاني ناضلا وسقط رمى الثاني من الرشق، لان الاول أصاب تسعة من خمسة وعشرين وأصاب الثاني عشرة من خمسة وعشرين ثم على هذا الاعتبار.

فأما مسألة الكتاب فصورتها أن يتناضلا على اصابة عشرة من ثلاثين مبادرة فيصيب البادئ منهما تسعة من تسعة عشر ويصيب الاخر ثمانية من تسعة عشر

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 179)

________________________________________

ثم يرمى البادئ منهما سهما آخر يستكمل به العشرين فيصيب فيصير به ناضلا، ويمنع الاخر من رمى السهم الاخر الذى رماه الثاني لانه لا يستفيد به نضالا ولا مساواة، لان الثاني له من العشرين سهم واحد وعليه إصابتان.

ولو رمى فأصابه بقيت عليه إصابة يكون بها منضولا فلم يكن لرميه معنى يستحقه بالعقد.

فلذلك منع منه.

ولو كان كل واحد منهما قد أصاب تسعة من تسعة عشر ثم رمى المبادى وأصاب كان للمبدأ أن يرمى بجواز أن يصيب فيكافئ فأما المزني فظن أن الشافعي منع المبدأ أن يرمى بالسهم الباقي في هذه المسألة فتكلم عليه وليس كما ظن بل أراد منعه في المسألة المتقدمة للتعليل المذكور.

(فرع)

قال الشافعي رضى الله عنه: وإن اشترطا محاطة فكل ما أصاب أحدهما واصاب الاخر مثله أسقطا العددين ولا شئ لواحد منهما ويستأنفان.

وإن أصاب أقل من صاحبه حط مثله حتى يخلص له ذلك العدد الذى شرطه فينضله به.

قد ذكرنا أن النضال على ضربين محاطة ومبادرة.

فبدأ الشافعي رضى الله عنه بذكر المحاطة في الام وإن جعلها المصنف هنا بعد المبادرة، لان الغالب من النضال في زمانه كان محاطة والغالب في بلد الشيخ أبى إسحاق كان المبادرة، وقد قيل إن الشافعي كان راميا يصيب من العشرة ثمانية في الغالب، وهى عادة حذاق الرماة فإذا عقدا سبق النضال على اصابة خمسة من عشرين محاطة ورماية وجب أن يحط أقل الاصابتين من أكثرهما وينظر في الباقي بعد الحط، فإن كان خمسة فهو القدر المشروط فيصير صاحبه به ناضلا.

وان كان الباقي أقل من خمسة لم ينضل، وان كان أكثر اصابة لنقصانه من العدد المشروط، وإذا كان كذلك لم يخل حالهما بعد الرمى من أحد أمرين: اما أن يتساويا في الاصابة أو يتفاضلا،

فان تساويا في الاصابة فأصاب كل واحد منهما عشرا عشرا أو خمسا خمسا قال الشافعي فلا شئ لواحد منهما ويستأنفان.

فاختلف أصحابنا في قوله: ويستأنفان على وجهين حَكَاهُمَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَحَدُهُمَا يستأنفان الرمى بالعقد الاول، لان عقد المحاطة ما أوجب حط الاقل

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 180)

________________________________________

من الاكثر وليس مع التساوى عقد حط.

فخرج من عقد المحاطة.

فلذلك استأنفا الرمى ليصير ما يستأنفانه من عقود المحاطة.

والوجه الثاني: أن أراد بها يستأنفان عقدا مستجدا ان أحبا، لان العقد الواحد لا يلزم فيه اعادة الرمى مع التكافؤ، كما لا يلزم في الخيل اعادة الجرى مع التكافؤ.

قال الماوردى: والذى أراه وهو عندي الاصح أن ينظر فان تساويا في الاصابة قبل الرشق استأنفا الرمى بالعقد الاول، وان تساويا فيه بعد استكمال الرشق استأنفا بعقد مستحدان أحبا لانها قبل استكمال الرشق في بقايا أحكام العقد، وبعد استكماله قد نقصت جميع أحكامه.

فان تفاضلا في الاصابة لم يخل تفاضلهما فيها من أقسام ثلاثة: ١ - أن يفضل ولا ينضل بما فضل.

وهو أن يشترطا إصابة خمسة من عشرين محاطه فيصيب أحدهما عشرة أسهم ويصيب الاخر ستة أسهم، فتحط الستة من العشرة يكون الباقي منها أربعه فلا ينضل، لان شرط الاصابة خمسة وهكذا لو أصاب أحدهما خمسة عشر واصاب الاخر أحد عشر لم ينضل الفاضل لان الباقي له بعد الحط أربعة، ثم على هذا الاعتبار ان كان الباقي أقل من خمسة.

٢ - أن ينضل بما فضل بعد استيفاء الرشق.

وهو أن يصيب أحدهما

خمسة عشر من عشرين، ويصيب الاخر عشرة من عشرين فينضل الفاضل لانك إذا أسقطت من اصابته عشرة كان الباقي بعدها خمسة، وهو عدد النضل.

وهكذا لو أصاب أحدهما عشرة وأصاب الاخر خمسة كان الفاضل ناضلا، لانك إذا أسقطت الخمسة من اصابته كان الباقي بعدها خمسة، وهو عدد الاصابات.

وهكذا لو كان الباقي بعد الحط أكثر من خمسة، ثم على هذا الاعتبار.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 181)

________________________________________

٣ أن ينضل بما فضل قبل استيفاء الرشق وهو أن يصيب أحدهما عشرة من خمسة عشر، ويصيب الآخر خمسة من خمسة عشر ويكون الباقي من الاكثر خمسة، وهو عدد النضل، فهل يستقر النضال بهذا قبل استيفاء الرشق أم لا؟ على وجهين.

أحدهما: يستقر النضل ويسقط باقى الرشق، لان مقصوده معرفة الاحذق وقد عرف.

والوجه الثاني: وهو الاظهر، أنه لا يستقر النضل بهذه المبادرة إلى العدد حتى يرميا بقية الرشق، لان العقد قد تضمنها، وقد يجوز أن يصيب المفضول جميعها أو أكثرها ويخطئ الفاضل جميعها أو أكثرها.

وعلى هذا يكون التفريع فإذا رميا بقية الرشق وهو الخمسة الباقيه، فإن أصاب المفضول جميعها وأخطأ الفاضل جميعها فقد استويا ولم ينضل واحد منهما، لان إصابة كل واحد منهما عشرة، وإن أصاب الفاضل وأخطأ المفضول جميعها استقر فضل الفاضل لانه أصاب خمسه وعشرين، وأصاب المفضول خمسه من عشرين فكان الباقي بعد الحط عشرة، هي أكثر من شرطه، فلو أصاب الفاضل من الخمسة الباقيه سهما وأصاب المفضول سهمين لم ينضل الفاضل لان عدد إصابته أحد عشر سهما وعدد

إصابة المفضول سبعه إذا حطت من تلك الاصابة كان الباقي أربعه والشرط أن تكون خمسه، فلذلك لم ينضل وإن فضل.

فلو أصاب الناضل سهمين والمنضول سهمين صار الفاضل ناضلا، لانه أصاب اثنى عشرة وأصاب المنضول سبعه يبقى للناضل بعد الحط خمسه، ولو أصاب أحدهما سبعه من عشرة وأصاب الاخر سهمين من عشرة فإذا رميا بقية السهام فإن أصاب المفضول جميعها وأخطأ الفاضل جميعها صار الاول ناضلا والثانى منضولا، لان الاول له سبعه والثانى له اثنا عشر يبقى له بعد الحط خمسه، ولو أصاب الاول جميعها وأصاب الثاني جميعها كان الاول ناضلا لان إصابته سبعة عشر وإصابة الثاني اثنا عشر، فإن أخطأ الاول في سهم من بقية الرشق لم يفضل ولم ينضل، ولو أصاب اثنى عشر من خمسة عشر وأصاب الاخر سهمين من

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 182)

________________________________________

خمسة عشر استقر النضل وسقط بقية الرشق وجها واحدا، لان المنضول لو أصاب جميع الخمسه الباقيه من الرشق حتى استكمل بما تقدم سبعه كان منضولا، لان الباقي للفاضل بعد حطها خمسه فلم يستفد ببقية الرمى أن يدفع عن نفسه النضل فسقط، ثم على هذا الاعتبار.

(فرع)

قول المصنف: وإن كان العقد على حوابى.

فإن الحوابى نوع من أنواع الرمى وهم فيه أبو حامد الاسفرايينى فجعله صفه من صفات السهم وسماه حوابى بإثبات الياء فيه وحذفها وأنه السهم الواقع دون الهدف ثم يحبو إليه حتى ينضل به مأخوذا من حبو الصبى.

وهذا نوع من الرمى المزدلف يفترقان في الاسم لان المزدلف أحد والحوابى أضعف ويستويان في الحكم على ما سيأتي، والذى قاله سائر أصحابنا أن الحوابى نوع من الرمى، وأن أنواع الرمى ثلاثه: المحاطه والمبادرة والحوابى وقد ذكرنا المحاطه والمبادرة.

فأما الحواب فهو أن يحتسب بالاصابة في الشن، وإن أصاب أحدهما الهدف على شبر من الشن فاحتسب به ثم أصاب الاخر الهدف فتر من الشن احتسب به وأسقط إصابة الشبر لانها أبعد، ولو أصاب أحدهما خارج الشن واحتسب به وأصاب الاخر في الشن احتسب به وأسقط إصابة خارج الشن، ولو أصاب أحدهما الشن فاحتسب به وأصاب الاخر الدارة التى في الشن فاحتسب به وأصاب الاخر العظم الذى في دارة الشن احتسب وأسقط إصابة الدارة فيكون كل قريب مسقطا لما هو أبعد منه، فهذا نوع من الرمى ذكره الشافعي في كتاب الام وذكر مذاهب الرماة فيه وفرع عليه، ولم يذكره المزني إما لاختصاره، وإما لانه غير موافق لرأيه لضيقه وكثره خطره، لانه يثبت الاصابة بعد إثباتها، والمذهب كما ذكر المصنف جوازه لامرين.

 

(أحدهما)

أنه نوع معهود في الرمى فأشبه المحاطه والمبادرة.

 

(والثانى)

أنه أبعث على التمرن على الحذق، والتمرس بمعاطاة الدقة في التصويب والتسديد فصح، فإذا كان كذلك في جواز النضال على إصابة الحواب وكان عقدهما على إصابة خمسه من عشرين فلها إذا تناضلا ثلاثة أحوال.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 183)

________________________________________

١ - أن يقصرا عن عدد الاصابة.

٢ - أن يستوفيا عدد الاصابة.

٣ - أن يستوفيها أحدهما ويقصر الاخر عنها.

فأما الاول كأن يصيب كل منهما أقل من خمسة فقد ارتفع حكم العقد بنقصان الاصابة من العد والمشروط من غير أن يكون فيها ناضل أو منضول ولا اعتبار بالقرب والبعد مع نقصان العدد.

وأما الثانية من استيفائهما معا عدد الاصابة فيصيب كل منهما خمسة فصاعدا، فيعتبر حينئذ حال القرب والبعد، فإنهما

لا يخلو أمرهما من: (أ) أن تكون الاصابات في الهدف، وقد تساوت في القرب من الشن، وليست بعضها بأقرب إليه من بعض فقد تكافئا ; وليس فيهما ناضل ولا منضول وهكذا لو تقدم لكل واحد منهما سهم كان أقرب إلى الشن من باقى سهامه وتساوى السهمان المتقدمان في القرب من الشن كانا سواء لا ناضل فيهما ولا منضول، فإن تقدم لاحدهما سهم وللآخر سهمان وتساوت السهام الثلاثة في قربها من الشن ففيه وجهان.

أحدهما: أن المتقرب بسهمين ناضل للمتقرب بسهم لفضله في العدد.

والثانى أنهما سواء لا ناضل فيهما ولا منضول، لان النضال الحواب موضوع على القرب دون زيادة العدد.

(ب) أن تكون سهام أحدهما أقرب إلى الشن من سهام الاخر، فأقربهما إلى الشن هو الناضل، وأبعدهما من الشن هو المنضول، وهكذا لو تقدم لاحدهما سهم واحد فكان أقرب إلى الشن من جميع سهام الاخر أسقط به سهام صاحبه ولم يسقط به سهام نفسه، وكان هو الناضل بسهم الاقرب.

(ج) أن تكون سهام أحدهما في الهدف وسهام الاخر في الشن فيكون المصيب في الشن هو الناضل والمصيب في الهدف منضول.

وهكذا لو كان لاحدهما سهم واحد في الشن وجميع سهام الاخر خارج الشن كان المصيب في الشن هو الناضل بسهمه الواحد، وقد أسقط به سهام صاحبه ولم يسقط به سهام نفسه، وإن كانت أبعد إلى الشن من سهام صاحبه

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 184)

________________________________________

(د) أن تكون سهامهما جميعا صائبة في الشن، ولكن سهام أحدهما أو بعضهما في الدارة وسهام الآخر خارج الدارة وإن كان جميعا في الشن ففيه وجهان.

 

(أحدهما)

وقد حكاه الشافعي عن بعض الرماة أن المصيب في الدارة ناضل والمصيب خارج الدارة منضول قطب الاصابة.

(والوجه الثاني) وإليه أشار الشافعي في اختياره أنهما سواء وليس منهما ناضل ولا منضول، لان جميع الشن محل الاصابة.

وأما الحال الثالثة: وهو أن يستوفى أحدهما إصابة الخمس ويقصر الاخر عنها فهذا على ضربين.

أحدهما: أن يكون مستوفى الاصابة أقرب سهاما إلى الشن أو مساويا صاحبه، فيكون ناضلا والمقصر منضولا.

والثانى: أن يكون المقصر في الاصابة أقرب سهاما من المستوفى لها، فليس فيهما ناضل ولا منضول، لان المستوفى قد سقطت سهامه ببعدها، والمقصر قد سقطت سهامه بنقصانها، والله تعالى أعلم بالصواب.

 

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

وإن كان النضال بين حزبين جاز.

وحكى عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قال: لا يجوز لانه يأخذ كل واحد منهم بفعل غيره، والمذهب الاول لما رويناه في أول الكتاب من حديث سلمة بن الاكوع، وينصب كل واحد من الحزبين زعيما يتوكل لهم في العقد، ولا يجوز أن يكون زعيم الحزبين واحدا، كما لا يجوز أن يكون وكيل المشترى والبائع واحد، ولا يجوز إلا على حزبين متساويى العدد لان القصد معرفة الحذق، فإذا تفاضلا في العدد فضل أحدهما الاخر بكثرة العدد لا بالحذق وجودة الرمى، ويجب أن يتعين الرماة كما قلنا في نضال الاثنين، ولا يجوز أن يتعينوا إلا بالاختيار، فإن اقترع الزعيمان على أن من خرجت عليه قرعة أحدهما كان معه لم يجز، لانه ربما أخرجت القرعة الحذاق لاحد الحزبين والضعفاء للحزب الاخر، فإن عدل بين الحزبين في القوة والضعف بالاختيار، ثم اقترع الزعيمان على أن من خرجت قرعته على أحد الحزبين كان معه لم يجز،

لانه عقد معاوضة فلم يجز تعيين المعقود عليه فيه بالقرعة كالبيع.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 185)

________________________________________

ويجب أن يكون على عدد من الرشق معلوم، فأن كان عدد كل حزب ثلاثة اعتبر أن يكون عدد الرشق له ثلث صحيح كالثلاث والستين، وإن كانوا أربعة اعتبر أن يكون عدد الرشق له ربع صحيح كالاربعين والثمانين، لانه إذا لم يفعل ذلك بقى سهم ولا يمكن اشتراك جماعة في سهم واحد، فإن خرج في أحد الحزبين من لا يحسن الرمى بطل العقد فيه، لانه ليس بمحل في العقد وسقط من الحزب الاخر بإزائه واحد، كما إذا بطل البيع في أحد العبدين سقط ما في مقابلته من الثمن وهل يبطل العقد في الباقي من الحزبين؟ فيه قولان بناء على تفريق الصفقة.

فإن قلنا: لا يبطل في الباقي ثبت للحزبين الخيار في فسخ العقد، لان الصفقة تبعضت عليهم بغير اختيارهم، فان اختاروا البقاء على العقد وتنازعوا فيمن يخرج في مقابلته من الحزب الاخر فسخ العقد، لانه تعذر إمضاؤه على مقتضاه ففسخ.

ومن أصحابنا من قال: يبطل في الجميع قولا واحدا، لان من في مقابلته من الحزب الاخر لا يتعين، ولا سبيل إلى تعيينه بالقرعة، فبطل في الجميع.

فإن نضل أحد الحزبين الاخر ففى قسمة المال بين الناضلين وجهان.

أحدهما: تقسم بينهم بالسوية كما يجب على المنضولين بينهم بالسوية، فعلى هذا إن خرج فيهم من لم يصب استحق.

والثانى: تقسم بينهم على قدر إصاباتهم لانهم استحقوا بالاصابة فاختلف باختلاف الاصابة، ويخالف ما لزم المنضولين، فإن ذلك وجب بالالتزام والاستحقاق بالرمي، فاعتبر بقدر الاصابة، فعلى هذا إن خرج فيهم من لم يصب لم يستحق شيئا، وبالله التوفيق.

(الشرح) الاحكام: قال الشافعي رضى الله عنه: إذا اقتسموا ثلاثة وثلاثة

فلا يجوز أن يقترعوا وليقسموا قسما معروفا.

قلت: إذا صح هذا فالنضال ضربان: أفراد وأحزاب، فأما نضال الافراد فقد مضى في فصول الكتاب.

وأما نضال الاحزاب فهو أن يناضل حزبان يدخل في كل واحد منهما جماعة يتقدم عليهم أحدهم فيعقد النضال على جميعهم فهذا يصح على شروطه، وهو منصوص الشافعي وعليه جماعة أصحابه وجمهورهم.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 186)

________________________________________

وحكى عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ لَا يصح لان كل واحد يأخذ بفعل غيره وهذا فاسد لانهم إذا اشتركوا صار فعل جميعهم واحدا فاشتركوا في موجبه لاشتراكهم في فعله مع ورود السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم برواية أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم مر بقوم يرمون فقال: ارموا وأنا مع بنى الاذرع، فأمسك القوم قسيهم وقالوا: يا رسول الله من كنت معه غلب، فقال: ارموا وأنا معكم كلكم فدل على أنهم كانوا حزبين مشتركين ولان مقصود النضال التحريض على الاستعداد للحرب والجهاد، وهو بالاحزاب والمجموعات أشد تحريضا وأكثر اجتهادا، وأدعى إلى التنسيق بين افراد الجماعة وربطهم بالنظام والقيادة، وتلك لعمر الله أعظم أسباب النصر في الجهاد.

فإذا ثبت جوازه في الحزبين بجوازه بين الاثنين فلصحته خمسه شروط: (أحدها) أن يتساوى عدد الحزبين، ولا يفضل أحدهما على الاخر فيكونوا ثلاثة وثلاثة، أو خمسة وخمسة أو أقل أو أكثر، فان فضل أحدهما على الآخر برجل بطل العقد لان مقصوده معرفة أحذق الحزبين، فإذا تفاضلوا تغالبوا بكثرة العدد لا بحذق الرمى.

(الثاني) أن يكون العقد عليهم باذنهم، فان لم يأذنوا فيه لم يصح، لانه عقد معاوضه متردد بين الاجارة والجعالة، وكل واحد منهما لا يصح إلا باذن واختيار

فان عقد عليهم من لم يستأذنهم بطل (والثالث) أن يعينوا على متولى العقد منهم فيكون فيه متقدما عليهم ونائبا عنهم، فان لم يعينوا واحدا منهم لم يصح العقد عليهم لانه توكيل فلم يصح إلا بالتعيين، ويختار أن يكون زعيم كل حزب أحذقهم وأطوعهم، لان صفة الزعيم في العرف أن يكون متقدما في الصناعة، مطاعا في الجماعة، فان تقدموه في الرمى وأطاعوه في الاتباع جاز، وان تقدمهم في الرمى ولم يطيعوا في الاتباع لم يجز، لان أهم خصائص الزعيم أن يكون مطاعا، فإذا أمر ولم يتبعه أحد فلا يجوز العقد عليه.

(والرابع) أن يكون زعيم كل واحد من الحزبين غير زعيم الحزب الاخر

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 187)

________________________________________

لتصح نيابته عنهم في العقد عليهم مع الحزب الاخر، فان كان زعيم الحزبين واحدا لم يصح كما لا يصح أن يكون الوكيل في العقد بائعا ومشتريا.

والشرط الخامس وهو مسألة الكتاب أن يتعين رماة كل حزب منهما قبل العقد باتفاق ومراضاة، فان عقده الزعيمان عليهم ليقترعوا على من يكون في كل حزب لم يصح، مثال ذلك: أن يكون الحزبان ثلاثة وثلاثة، فيقول الزعيمان نقترع عليهم فمن حرجت قرعتي عليه كان معى، ومن خرجت قرعتك عليه كان معك، فهذا لا يصح لامرين.

أحدهما: أنهم أصل في عقد فلم يصح عقده على القرعة كابتياع أحد العينين بالقرعة والثانى: أنه ربما أخرجت القرعة حذاقهم لاحد الحزبين، وضعفاءهم للحزب الآخر، فخرج عن مقصود التحريض في التناضل، فان عدلوا بين الحزبين في الحذق والضعف قبل العقد على أن يقترع الزعيمان على كل واحد من الحزبين بعد العقد لم يصح التعليل الاول من كونهم في العقد أصلا دون التعليل الثاني من اجتماع الحذاق في أحد الحزبين، لانهم قد رفعوه بالتعديل، فإذا ثبت تعينهم قبل

العقد بغير قرعة تعينوا فيه بأحد أمرين، إما بالاشارة إليهم إذا حضروا، وإن لم يعرفوا، وإما باسمائهم إذا عرفوا، فان تنازعوا عند الاختيار قبل العقد فعدلوا إلى القرعة في التقدم بالاختيار جاز لانها قرعة في الاختيار وليست بقرعة في العقد، فإذا قرع أحد الزعيمين اختار من الستة واحدا ثم اختار الزعيم الثاني واحدا، ثم دعا الزعيم الاول فاختار ثانيا واختار الزعيم الثاني ثانيا، ثم عاد الاول فاختار ثالثا، وأخذ الاخر الثالث الباقي.

ولم يجز أن يختار الاول الثلاثة في حال واحدة لانه لا يختار إلا الاحذق، فيجتمع الحذاق في حزب والضعفاء في حزب فيعدم مقصود التناضل من التحريض.

(فرع)

فإذا تكاملت الشروط الخمسه في عقد النضال بين الحزبين لم يخل حالهم في مال السبق من ثلاثة أقسام.

أحدها: أن يخرجها أحد الحزبين دون الاخر، فهذا يصح سواء انفرد زعيم الحزب باخراجه أو اشتركوا فيه، ويكون الحزب المخرج للسبق معطيا إن كان

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 188)

________________________________________

منضولا وغير آخذ إن كان ناضلا ن ويكون الحزب الآخر آخذا إن كان ناضلا وغير معط إن كان منضولا، وهذا يغنى عن المحلل لانه محلل.

والقسم الثاني: أن يكون الحزبان مخرجين، ويختص باخراج المال زعيم الحزبين فهذا يصح ويغنى عن محلل، لان مدخل المحلل ليأخذ ولا يعطى، ورجال كل حزب يأخذون ولا يعطون، فإذا نضل أحد الحزبين أخذ زعيمهم مال نفسه، وقسم مال الحزب المنضول بين أصحابه، فان كان الزعيم راميا معهم شاركهم في مال السبق، وإن لم يرم معهم فلا حق له فيه، لانه لا يجوز أن يتملك مال النضال من لم يناضل، وصار معهم كالامين والشاهد، فان رضخوا له بشئ منه عن طيب أنفسهم جاز وكان قطوعا، فان شرط عليهم أن يأخذ معهم بطل الشرط ولم

يبطل به العقد لانه ليس بينه وبين أصحابه عقد يبطل بفساد شرطه، وإنما العقد بين الحزبين وليس لهذا الشرط تأثير فيه.

والقسم الثالث: أن يخرجا المال ويشترك أهل كل حزب في إخراجه، فهذا لا يصح حتى يدخل بين الحزبين حزب ثالث يكون محللا يكافئ كل حزب في العدد والرمى يأخذ ولا يعطى كما يعتبر في إخراج المتناضلين المال أن يدخل بينهما محلل ثالث يأخذ ولا يعطى.

فإذا انعقد النضال بين الحزبين على ما وصفنا اشتمل الكلام بعد تمامه بالمال المسمى فيه على ثلاث مسائل.

(إحداها) في حكم المال المخرج في كل حزب، ولهم فيه حالتان.

احداهما: أن لا يسموا قسط كل واحد من جماعتهم فيشتركوا في التزامه بالسوية على أعدادهم من غير تفاضل فيه لاستوائهم في التزامه، فان كان زعيمهم راميا معهم دخل في التزامه كأحدهم كما يدخل في الاخذ معهم، فان لم يكن راميا لم يلزم معهم كما لا يأخذ معهم.

والثانية: أن يسموا قسط كل واحد منهم في التزام مال السبق فهو على ضربين أن يتساوى في التسمية فيصح، لانه موافق لحكم الاطلاق.

والضرب الثاني: أن يتفاضلوا فيه، ففى جوازه وجهان

(أحدهما)

لا يجوز لتساويهم في العقد فوجب أن يتساووا في الالتزام.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 189)

________________________________________

(والثانى)

يجوز لانه عن اتفاق لم يتضمنه فيما بينهم عقد فاعتبر فيه التراضي فان شرطوا أن يكون المال بينهم مقسطا على صواب كل واحد منهم وخطئه لم يجز لانه على شرط مستقبل مجهول غير معلوم فبطل ولا يؤثر بطلانه في العقد لانه ليس فيما بينهم عقد وكانوا متساوين فيه.

المسألة الثانية في حكم نضالهما وفيما يحتسب به من الصواب والخطأ، والمعتبر فيه أن يكون عدد الرشق ثلاثين أو ستين أو تسعين أو عددا يكون له ثلث صحيح، ولا يجوز أن يكون عدد الرشق خمسين ولا سبعين ولا مائة، لانه ليس له ثلث صحيح.

وان كان عدد الحزب أربعة كان عدد الرشق أربعين أو ماله ربع صحيح، ولا يجوز أن يكون عدد الرشق ما ليس له ربع صحيح، وهكذا ان كان عدد الحزب خمسة وجب أن يكون عدد الرشق ماله خمس صحيح لانه إذا لم ينقسم عدد الرشق على عدد الحزب الا بكسر يدخل عليهم لم يصح التزامهم له لان اشتراكهم في رمى السهم لا يصح، فأما عدد الاصابة المشروطة فيجوز أن لا ينقسم على عددهم لان الاعتبار فيها باصابتهم لا باشتراكهم، فإذا استقر هذا بينهم لزعيم كل حزب باصابات كل واحد من أصحابه واحتسب عليه خطأ كل واحد منهم سواء تساوى رجال الحزب في الاصابة وهو نادر أو تفاضلوا فيها وهو الغالب، فإذا جمعت الاصابتان والمشروط فيها اصابة خمسين من مائة لم يخل مجموع الاصابتين من ثلاثة أحوال.

أحدها: أن يكون المجموع من اصابة كل حزب خمسين فصاعدا، فليس فيهما منضول، وان تفاضلا في النقصان من الخمسين.

والحال الثانية: أن مجموع اصابة كل منهما أقل من خمسين، فليس فيهما منضول لتساويهما في النقصان.

والحال الثالثة: أن يكون مجموع اصابة احداهما خمسين فصاعدا، ومجموع اصابة الاخر أقل من خمسين فمستكمل الخمسين هو الناضل، وان كان أحدهم في

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 190)

________________________________________

الاصابة مقلا فالمقصور عن الخمسين هو المنضول، وإن كان أحدهم في الاصابة

مكثرا فيصير مقلل الاصابة آخذا ومكثرها معطيا، لان حزب المقلل ناضل وحزب المكثر منضول.

المسألة الثالثة في حكم المال إذا استحقه الحزب الناضل.

فيقسم بين جميعهم وفى قسمته بينهم وجهان:

(أحدهما)

أنه مقسوم بينهم بالسوية مع تفاضلهم في الاصابة لاشتراكهم في العقد الذى أوجب تساويهم فيه.

والوجه الثاني: أنه يقسم بينهم على قدر إصاباتهم لانهم بالاصابة قد استحقوه فلا يكافئ مقل الاصابة مكثرها.

وخالف التزام المنضولين حيث تساووا فيه مع اختلافهم في الخطأ، لان الالتزام قبل الرمى فلم يعتبر بالخطأ والاستحقاق بعد الرمى، فصار معتبرا بالصواب.

فعلى هذا لو أخطأ واحد من أهل الحزب الناضل في جميع سهامه ففى خروجه من الاستحقاق وجهان:

(أحدهما)

يستحق معهم وإن لم يصب إذا قيل بالوجه الاول: انه مقسوم بينهم بالسوية لا على قدر الاصابة.

والوجه الثاني أنه يخرج بالخطأ من الاستحقاق ويقسم بين من عداه إذا قيل بالوجه الثاني إنه مقسوم بينهم على قدر الاصابة ويقابل هذا أن يكون في الحزب المنضول من أصاب بجميع سهامه.

ففى خروجه من التزام المال وجهان.

 

(أحدهما)

يخرج من التزامه إذا قيل بخروج المخطئ من استحقاقه والوجه الثاني: لا يخرج من الالتزام ويكون فيه أسوة من أخطا إذا قيل بدخول المخطئ في الاستحقاق، وأنه فيه أسوة من أصاب.

والله أعلم بالصواب

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 191)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله تعالى:

 

(باب بيان الاصابة والخطأ في الرمى)

إذا عقد على إصابة الغرض فأصاب الشن أو الجريد الذى يشد فيه الشن أو العرى وهو السير الذى يشد به الشن على الجريد، حسب له.

لان ذلك كله من الغرض، وإن أصاب العلاقة ففيه قولان

(أحدهما)

يحسب له، لانه من جملة الغرض، ألا ترى أنه إذا مد امتد معه فأشبه العرى

(والثانى)

لا يحسب لان العلاقة ما يعلق به الغرض.

فأما الغرض فهو الشن وما يحيط به، وإن شرط اصابة الخاصرة وهو الجنب من اليمين واليسار فأصاب غيرهما لم يحسب له.

لانه لم يصب الخاصرة.

وان شرط إصابة الشن فأصاب العروة - وهو السير أو العلاقة - لم يحسب لان ذلك كله غير الشن، فإن أصاب سهما في الغرض - فان كان السهم متعلقا بنصله وباقيه خارج الغرض - لم يحسب له ولا عليه، لان بينه وبين الغرض طول السهم، ولا يدرى لو لم يكن هذا السهم هل كان يصيب الغرض أم لا يصيب؟ وان كان السهم قد غرق في الغرض إلى فوقه حسب له، لان العقد على اصابة الغرض، ومعلوم انه لو لم يكن هذا لكان يصيب الغرض.

فان خرج السهم من القوس فهبت ريح فنقلت الغرض إلى موضع آخر فأصاب السهم موضعه حسب له وان أصاب الغرض في الموضع الذى انتقل إليه حسب عليه في الخطأ لانه أخطأ في الرمى، وانما أصاب بفعل الريح لا بفعله.

وان رمى وفى الجو ريح ضعيفة فارسل السهم مفارقا للغرض وأمال يده ليصيب مع الريح فأصاب الغرض، أو كانت الريح خلفه فنزع نزعا قريبا ليصيب مع معاونة الريح فأصاب حسب له، لانه أصاب بفراهته وحذقه، وان أخطأ حسب عليه، لانه أخطأ بسوء رميه، ولانه لو أصاب مع الريح لحسب له، فإذا أخطأ معها حسب عليه.

وان كانت الريح قوية لا حيلة له فيها لم يحسب له إذا أصاب، لانه لم يصب بحسن رميه، ولا يحسب عليه إذا أخطأ لانه لم يخطئ بسوء رميه، وانما أخطأ

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 192)

________________________________________

بالرمي في غير وقته، وان رمى من غير ريح فثارت ريح بعد خروج السهم من القوس فأخطأ لم يحسب عليه، لانه لم يخطئ بسوء رميه، وانما أخطأ بعارض الريح.

وان أصاب فقد قال بعض أصحابنا: فيه وجهان بناء على القولين في إصابة السهم المزدلف، وعندي انه لا يحسب له قولا واحدا لان المزدلف انما أصاب الغرض بحدة رميه ومع الريح لا يعلم انه أصاب برميه، وان رمى سهما فأصاب الغرض بغوقه لم يحسب له لان ذلك من أسوأ الرمى وأردئه

(فصل)

وان انكسر القوس أو انقطع الوتر، أو أصابت يده ريح فرمى وأصاب حسب له، لان اصابته مع اختلال الالة أدل على حذقه، فان أخطأ لم يحسب عليه في الخطأ لانه لم يخطئ بسوء رميه وانما أخطأ بعارض.

وان أغرق السهم فخرج من الجانب الاخر نظرت، فان أصاب حسب له لان اصابته مع الاغراق أدل على حذقه، وان أخطأ لم يحسب عليه.

ومن أصحابنا من قال: يحسب عليه في الخطأ لانه اخطا في مد القوس، والمنصوص هو الاول، لان الاغراق ليس من سوء الرمى، وانما هو لمعنى قبل الرمى فهو كانقطاع الوتر وانكسار القوس، وان انكسر السهم بعد خروجه من القوس وسقط دون الغرض لم يحسب عليه في الخطأ لانه انما لم يصب لفساد الالة لسوء الرمى، وان أصاب بما فيه النصل حسب له لان اصابته مع فساد الالة ادل على حذقه، وان أصابه بالموضع الاخر لم يحسب له لانه لم يصب، ولم يحسب عليه لان خطأه لفساد الالة لا لسوء الرمى.

 

(فصل)

وان عرض دون الغرض عارض من انسان أو بهيمة نظرت

فان رد السهم ولم يصل لم يحسب عليه لانه لم يصل للعارض لا لسوء الرمى وان نفذ السهم وأصاب حسب له، لان إصابته مع العارض أدل على حذقه.

وحكى أن الكسعى كان راميا فخرج ذات ليلة فرأى ظبيا فرمى فأنفذه وخرج السهم فأصاب حجرا وقدح فيه نارا فرأى ضوء النار فظن أنه أخطأ فكسر القوس وقطع إبهامه، فلما أصبح رأى الظبى صريعا قد نفذ فيه سهمه فندم فضربت به العرب مثلا وقال الشاعر: ندمت ندامة الكسعى لما

* رأت عيناه ما صنعت يداه

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 193)

________________________________________

وان رمى فعارضه عارض فعثر به السهم وجاوز الغرض ولم يصب فَفِيهِ وَجْهَانِ

(أَحَدُهُمَا)

وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ انه يحسب عليه في الخطأ، لانه أخطأ بسوء الرمى لا للعارض، لانه لو كان للعارض تأثير لوقع سهمه دون الغرض فلما جاوزه ولم يصب دل على انه أخطأ بسوء رميه فحسب عليه في الخطأ.

 

(والثانى)

انه لا يحسب عليه لان العارض قد يشوش الرمى فيقصر عن الغرض وقد يجاوزه.

وان رمى السهم فأصاب الارض وازدلف فأصاب الغرض ففيه قولان

(أحدهما)

يحسب لانه أصاب الغرض بالنزعة التى أرسلها وما عرض دونها من الارض لا يمنع الاحتساب كما لو عرض دونه شئ فهتكه وأصاب الغرض

(والثانى)

لا يحسب له، لان السهم خرج عن الرمى إلى غير الغرض وانما اعانته الارض حتى ازدلف عنها إلى الغرض فلم يحسب له، وان ازدلف ولم يصب الغرض ففيه وجهان

(أحدهما)

يحسب عليه في الخطأ لانه انما ازدلف بسوء رميه لان الحاذق لا يزدلف سهمه

(والثانى)

لا يحسب عليه لان الارض تشوش السهم وتزيله عن سننه فإذا أخطأ لم يكن من سوء رميه (الشرح) قال الشافعي رضى الله عنه: ولو أغرق أحدهما السهم من

يده ولم يبلغ الغرض كان له أن يعود من قبل العارض فأما إغراق السهم فهو أن يزيد في مد القوس لفضل قوته حى يستغرق السهم فيخرج من جانب الوتر المعهود إلى جانب الاخر، فان من أجناس القسى والسهام ما يكون مخرج السهم منها عن يمين الرامى جاريا على ابهامه فيكون اغراقه أن يخرج السهم باستيفاء المد إلى يساره جاريا على سبابته، فيكون اغراقه ان يخرج السهم باستيفاء المد إلى يساره جاريا على سبابته، ومنها ما يكون مخرجه على يسار الرامى جاريا على سبابته فيكون اغراقه أن يخرج على يمينه جاريا على ابهامه، فإذا أغرق السهم قال الشافعي: لم يكن اغراقه من سوء الرمى وانما هو لعارض فلا يحتسب عليه ان أخطأ به، وفيه عندي نظر، لانه إذا لم يمد القوس بحسب الحاجة حتى زاد فيه فأغرق أو نقص فقصر كان بسوء الرمى أشبه، فإذا أخطأ بالسهم المغرق لم يحتسب عليه على مذهب الشافعي، وان أصاب به احتسب له لان الاصابة به مع المحلل أدل على حذق الرامى من الاصابة مع الاستقامة

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 194)

________________________________________

وقال الشافعي رضى الله عنه: ولو أرسله مفارقا للشن فهبت ريح فصرفته إليه ن أو مقصر فأسرعت به فأصاب حسب مصيبا ولا حكم للريح اه.

إننا نعلم أن للريح تأثير في تغيير مجرى السهم عن جهته، وحذاق الرماة يعرفون مخرج السهم عن القوس هل هو مصيب أو مخطئ؟ فإذا خرج السهم فغيرته الريح فهو على ضربين.

 

(أحدهما)

أن يخرج مفارقا للشن فتعدل به الريح إلى الشن فيصيب أو يكون مقصرا عن الهدف فهبته الريح حتى أصاب فتعتبر حال الريح، فان كانت ضعيفة كان محسوبا في الاصابة لاننا على يقين من تأثير الرمى وفى شك من تأثير الريح، وإن كانت الريح قوية نظر، فإن كانت موجودة عند الارسال كان محسوبا في

الاصابة لانه قد اجتهد في التحرز من تأثير الريح وحسب حسابها بتحريف سهمه فأصاب باجتهاده ورميه، وإن حدثت الريح بعد إرسال السهم ففى الاحتساب به وجهان تخريجا من اختلاف قوليه في الاحتساب بإصابة المزدلف.

أحدهما: يحتسب به مصيبا إذا احتسبت إصابة المزدلف.

والوجه الثاني: لا يحتسب مصيبا ولا مخطئا، إذا لم يحتسب باصابة المزدلف.

(والضرب الثاني) أن يخرج السهم موافقا للهدف فتعدل به الريح حتى يخرج عن الهدف فيعتبر حال الريح، فان كانت طارئة بعد خروج السهم عن القوس ألغى السهم ولم يحتسب به في الخطأ، لان التحرز من حدوث الريح غير ممكن، فلم يذهب إلى سوء الرمى، وإن كانت الريح موجودة عند خروج السهم نظر فيها فان كانت قوية لم يحتسب به في الخطأ لانه أخطا في اجتهاده الذى يتحرز به من الريح، ولم يخطئ في سوء الرمى.

وإن كانت الريح ضعيفة ففى الاحتساب به في الخطأ وجهان.

أحدهما: يكون خطأ لاننا على يقين من تأثير الرمى وفى شك من تأثير الريح.

والثانى لا يكون محسوبا في الخط لان الريح تفسد صنيع المحسن، وإن قلت كما تفسده إذا كثرت فإذا أزالت الريح الشن عن موضعه إلى غيره لم يخل حال السهم بعد زوال الشن من ثلاثة أحوال.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 195)

________________________________________

١ - أن يقع في غير الشن وفى غير موضعه الذى كان فيه فيحتسب به مخطئا لانه وقع في غير محل الاصابة قبل الريح وبعدها.

٢ - أن يقع في الموضع الذى كان فيه الشن في الهدف فيحتسب مصيبا لوقوعه في محل الاصابة.

٣ - أن يقع في الشن بعد زواله عن موضعه، فهذا على ضربين.

أحدهما:

أن يزول الشن عن موضعه بعد خروج السهم فتحتسب به في الخطأ لوقوعه في غير محل الاصابة عند خروج السهم.

والضرب الثاني: أن يخرج السهم بعد زوال الشن عن موضعه وعلم الرامى بزواله فينظر في الموضع الذى صار فيه، فان كان خارجا من الهدف لم يحتسب به مصيبا ولا مخطئا لخروجه عن محل الصواب والخطأ، وان كان مماثلا لموضعه من الهدف احتسب به مصيبا، لانه قد صار محلا للاصابة، والله تعالى أَعْلَمُ.

(فَرْعٌ)

قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وكذلك لو انقطع وتره أو انكسر قوسه فلم يبلغ الغرض، أو عرض دونه دابة أو إنسان فأصابه أو عرض له في يده ما لا يمر السهم معه كان له أن يعود به.

قلت: إذا انقطع وتره أو انكسر قوسه فقصر وقع السهم وأخطأ لم يحتسب عليه، لانه لم يخطئ لسوء رميه، ولكن لنقص آلته، ولو أصاب به كان محسوبا من اصابته لانه أدل على حذقة، وهكذا لو عرض دون الهدف عارض من بهيمة أو انسان وقع السهم فيه ومنع من وصوله إلى الهدف لم يحتسب عليه وأعيد السهم إليه، فان خرق السهم الحائل ونفذ فيه حتى وصل إلى الهدف فأصاب كان محسوبا من إصابته لانه بالاصابة مع هذا العارض أشد وأرمى، ويسمى هذا السهم مارقا.

وقد كان الكسعى في العرب راميا وقصته كما ساقها المصنف على وجهها، والكسعى هو محارب بن قيس من كسيعه، وقيل: هو من بنى محارب من قحطان واسمه عامر بن الحارث، وقد قال عن نفسه أو قيل بلسان حاله فيما جرت عليه عادة القصاص من تسجيل الاخبار بالشعر على لسان أصحابها:

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 196)

________________________________________

ندمت ندامة لو أن نفسي

* تطاوعني إذن لقطعت خمسى

تبين لى سفاه الرأى منى

* لعمر أبيك حين كسرت قوسى وهكذا لو عرض للرامي علة في يده أو أخذته ريح في يديه ضعف بها عن مد قوسه لم يحتسب عليه إن قصر أو أخطا، لانه لعارض يمنع وليس من سوء رمى أو قلة حذق.

قال الشافعي رضى الله عنه: فأما إن جاز السهم وأجاز من وراء الناس فهذا سوء رمى وليس بعارض غلب عليه فلا يرد إليه.

يقال: جاز السهم إذا مر في أحد جانبى الهدف ويسمى خاصر وجمعه خواصر، لانه في أحد الجانبين مأخوذ من الخاصرة لانها في جانبى الانسان، ويقال: أجاز السهم إذا وقع وراء الهدف، فإذا جاز السهم وسقط في جانب الهدف أو أجاز فوقع وراء الهدف كان محسوبا من خطئة، لانه منسوب إلى سوء رميه، وليس بمنسوب إلى عارض في يديه أو إليه.

وقال أبو على بن أبى هريرة: الجائز أن يقع في الهدف عن أحد جانبى الشن فعلى هذا إن كانت الاصابة مشروطة في الشن كان الجائز مخطئا، وإن كانت مشروطة في الهدف كان الجائز مصيبا، ويجوز أن يشترطا أن تكون إصابة سهامها جائزة فيحتسب بالجائز ولا يحتسب بغير الجائز.

قال الشافعي رضى الله عنه: ولو كان الشن منصوبا فمرق منه كان عندي خاسقا، ومن الرماة من لا يحتسبه إذا لم يثبت فيه.

أما السهم المارق فهو أن ينفذ في الشن وهو منصوب فوق الهدف ويخرج منه فيقع وراء الهدف فيحتسب به في القارع، فأما الخاسق ففى الاحتساب به قولان أحدهما: وهو منصوص الشافعي أنه يحتسب به خاسقا اعتبارا بالمعنى وأنه زائد على الخسق فيؤخذ فيه معنى الخسق.

والقول الثاني حكاه الشافعي عن بعض الرماة أنه لا يحتسب به خاسقا اعتبارا بالاسم لانه يسمى مارقا ولا يسمى خاسقا، فمن

أصحابنا من أثبت هذا القول للشافعي، ومنهم من نفاه عنه، لانه أضافه إلى غيره ولا يكون مخطئا، وإن لم يحتسب خاسقا لا يختلف فيه أصحابنا.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 197)

________________________________________

وأما السهم المزدلف فهو أن يقع على الارض ثم يزدلف منها بحمولته وحدته فيصير في الهدف، ففى الاحتساب به مصيبا قولان.

أحدهما: يحتسب به مصيبا لانه بحدة الرمى أصاب، والقول الثاني: ليس بمصيب لخروجه من الرامى إلى غير الهدف، وإنما أعادته الارض حين ازدلف عنها في الهدف.

قال أبو إسحاق المروزى: ومن أصحابنا من لم يخرج المزدلف على قولين، وحمله على اختلاف حالين باعتبار حاله عند ملاقاة الارض، فإن ضعفت حموته بعد ازدلافه ولانت كان محسوبا في الاصابة، وإن قويت وصار بعد ازدلافه أحد لم يحتسب به مصيبا، ويجوز أن يتناضلا على مروق السهم ولا يجوز أن يتناضلا على ازدلافه، لان مروق السهم من فعل الرامى، وازدلافه من تأثير الارض.

فعلى هذا في الاحتساب به مخطئا إذا لم يحتسب به مصيبا وجهان.

أحدهما: يكون مخطئا لانه من سوء الرمى.

والثانى: لا يكون مخطئا ما أصاب ويسقط الاعتداد به مصيبا ومخطئا، والله تعالى أعلم بالصواب.

 

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

وان كان العقد على اصابة موصوفة نظرت، فإن كان على القرع فأصاب الغرض وخزق أو خسق أو مرق حسب له لان الشرط هو الاصابة ; وقد حصل ذلك في هذه الانواع.

 

(فصل)

وان كان الشرط هو الخسق نظرت، فان أصاب الغرض وثبت فيه ثم سقط حسب له، لان الخسق هو أن يثبت وقد ثبت فلم يؤثر زواله بعد ذلك كما لو ثبت ثم نزعه انسان، فان ثقب الموضع بحيث يصلح لثبوت السهم لكنه لم

يثبت ففيه قولان.

 

(أحدهما)

أنه يحسب له، لان الخسق ان يثقب بحيث يصلح لثبوت السهم وقد فعل ذلك، ولعله لم يثبت لسعة الثقب أو لغلظ لقيه.

 

(والثانى)

وهو الصيح: انه لا يحسب له لان الاصل عدم الخسق، وانه لم يكن فيه من القوة ما يثبت فيه فلم يحسب له، وان كان الغرض ملصقا بالهدف فأصابه السهم ولم يثبت فيه، فقال الرامى: قد خسق الا أنه لم يثبت فيه لغلظ

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 198)

________________________________________

لقيه من نواة أو حصاة.

وقال رسيله: لم يخسق نظرت، فإن لم يعلم موضع الاصابة من الغرض فالقول قول الرسيل، لان الاصل عدم الخسق، وهل يحلف؟ ينظر فيه فإن فتش الغرض فلم يكن شئ يمنع من ثبوته لم يحلف، لان ما يدعيه الرامى غير ممكن، وإن كان هناك ما يمنع من ثبوته حلف، لان ما يدعيه الرامى غير ممكن.

وإن علم موضع الاصابة ولم يكن فيه ما يمنع من ثبوته فالقول قول الرسيل من غير يمين، لان ما يدعيه الرامى غير ممكن، وإن كان فيه ما يمنع الثبوت ففيه وجهان

(أحدهما)

أن القول قول الرامى، لان المانع شهد له

(والثانى)

أن القول قول الرسيل لان الاصل عدم الخسق، والمانع لا يدل على أنه لو لم يكن لكان خاسقا، ولعله لو لم يكن مانع لكان هذا منتهى رميه فلا يحكم له بالخسق بالشك، وإن كان في الشن خرق أو موضع بال فوقع فيه السهم وثبت في الهدف نظرت، فان كان الموضع الذى ثبت فيه في صلابة الشن اعتد به، لانا نعلم أنه لو كان الشن صحيحا لثبت فيه، وإن كان دون الشن في الصلابة كالتراب والطين الرطب لم يعتد له ولا عليه، لانا لا نعلم أنه لو كان صحيحا هل كان يثبت فيه أم لا؟ فيرد إليه السهم حتى يرميه.

وإن خرمه وثبت ففيه قولان

(أحدهما)

يعتد به لان الخسق هو أن يثبت النصل وقد ثبت

(والثانى)

لا يعتد به لان الخسق أن يثبت السهم في جميع الشن ولم يوجد ذلك، فان مرق السهم فقد قال الشافعي رحمه الله: هو عندي خاسق ومن الرماة من لا يحتسبه، فمن أصحابنا من قال: يحتسب له قولا واحدا وما حكاه عن غيره ليس بقول له.

لان معنى الخسق قد وجد وزيادة، ولانه لو مرق والشرط القرع حسب فكذلك إذا مرق والشرط الخسق وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: فِيهِ قَوْلَانِ

(أَحَدُهُمَا)

يحسب له لما ذكرناه

(والثانى)

لا يحسب له لان الخسق أن يثبت، وما ثبت، ولان في الخسق زيادة حذق وصنعة من نزع القوس بمقدار الخسق، والتعليل الاول أصح، لان هذا يبطل به إذا مرق والشرط القرع، وإن أصاب السن ومرق وثبت في الهدف

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 199)

________________________________________

ووجد على نصله قطعة من الشن والهدف دون الشن في الصلابة فقال الرامى هذا الجلد قطعة سهمي بقوته، وقال الرسيل بل كان في الشن ثقبة وهذه الجلدة كانت قد انقطعت من قبل فحصلت في السهم فالقول قول الرسيل لان الاصل عدم الخسق.

 

(فصل)

إذا مات أحد الراميين أو ذهبت يده بطل العقد، لان المقصود معرفة حذقه، وقد فات ذلك فبطل العقد كما لو هلك المبيع، وان رمدت عينه أو مرض لم يبطل العقد لانه يمكن استيفاء المعقود عليه بعد زوال العذر، وان أراد أن يفسخ فان قلنا انه كالجعالة كان حكمه حكم الفسخ من غير عذر، وقد بيناه في أول الكتاب، وإن قلنا إنه كالاجارة جاز أن يفسخ، لانه تأخر المعقود عليه فملك الفسخ كما يملك في الاجارة، وإن أراد أحدهما أن يؤخر الرمى للدعة فان قلنا انه كالاجارة أجبر عليه كما أجبر في الاجارة، وان قلنا انه كالجعالة

لم يجبر كما لا يجبر في الجعالة (الشرح) قال الشافعي رضى الله عنه: ولو تشارطا المصيب، فمن أصاب الشن ولم يخرق حسب له لانه مصيب قلت: فإذا تشارطا الاصابة احتسب كل مصيب من قارع وخارق وخاسق، لان جميعها مصيب.

وهكذا لو تشارطا الاصابة قرعا احتسب بالقارع وبالمارق وبالخاسق لانه زيادة على القرع.

ولو تشارطا الخواصر احتسب بكل مصيب لان اصابة الخواصر مشتمل على كل مصيب من قارع وخارق وخاسق.

فأما الخواصر فهو ما أصاب جانب الشن، فان شرطا في الرمى لم يحتسب الا به، وان لم يشترطاه احتسب به مع كل مصيب في الشن إذا كانت الاصابة مشروطة في الشن.

وقال الشافعي رضى الله عنه: ولو تشارطا الخواسق والشن ملصق بالهدف فأصاب ثم رجع فزعم الرامى أنه خسق ثم رجع لغلظ لقيه من حصاة أو غيرها وزعم المصاب عليه أنه لم يخسق، وانما قرع ثم رجع فالقول قوله مع يمينه الا أن تقوم بينة فيؤخذ بها

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 200)

________________________________________

واشتراط الخسق إنما يكون في إصابة الشن دون الهدف، وقد ذكرنا أن الشن وهو جلد ينصب في الهدف تمد أطرافه بأوتار أو خيوط تشد في أوتاد منصوبة في الهدف المبنى، وربما كان ملصقا بحائط الهدف، وربما كان بعيدا منه بنحو من شبر أو ذراع، وهو أبعد ما ينصب، وخسق الشن إذا كان بعيدا من الهدف أوضح منه إذا كان ملصقا به.

فإذا رمى والشن ملصق بالهدف فأصاب الشن ثم سقط بالاصابة خسق فزعم الرامى أنها خسق، ولقى غليظا في الهدف من حصاة أو نواة فرجع وهو خاسق،

وزعم المرمى عليه أنه قرع فسقط ولم يخسق فلهما ثلاثة أحوال: (أحدها) أن يعلم صدق الرامى في قوله بغير يمين، لان الحال شاهدة بصدقه والحال الثانية: أن يعلم صدق المرمى عليه في إنكاره إما بأن لا يرى في الشن خسقا، وإما بأن لا يرى في الهدف غلظا، فالقول قوله ولا يمين عليه، لان الحال شاهدة بصدقه والحال الثالثة: أن يحتمل صدق المدعى وصدق المنكر لان هل في الشن خواسق أم لا، فإن كانت بينة حمل عليها، وإن عدمت البينة فالقول قول المنكر مع يمينه ولا يحتسب به مصيبا، وفى الاحتساب به مخطئا وجهان:

(أحدهما)

يحتسب به في الخطأ إذا لم يحتسب به في الاصابة لوقوف الرامى بين صواب وخطأ.

والوجه الثاني.

لا يحتسب به في الاصابة، لان الاصابة لا يحتسب بها إلا مع اليقين، وكذلك لا يحتسب بالخطأ إلا مع اليقين، فإن نكل المنكر عن اليمين أحلف الرامى.

فإذا حلف احتسب بإصابته قال الشافعي رحمه الله: وإن كان الشن باليا فأصاب موضع الخسق فصار في الهدف فهو مصيب.

وهذا معتبر بالشن والهدف ولهما ثلاثة أحوال

(أحدهما)

أن يكون الهدف أشد من الشن لانه مبنى قد قوى واشتد فإذا وصل السهم إليه من ثقب في الشن

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 201)

________________________________________

ثبت في الهدف الذى هو أقوى من الشن كان ثبوته في الشن الاضعف أجدر.

وهو الذى أراده الشافعي فيحتسب به خاسقا والحال الثانية أن يكون الشن أقوى من الهدف وأشد لانه جلد متين والهدف تراب ثائر أو طين فلا يحتسب به مصيبا ولا مخطئا، أما الاصابة فلجواز

أن لا يخسق الشن.

وأما الخطأ فلعدم ما خسقه مع بلى الشن والحال الثالثة: أن يتساوى الشن والهدف في القوة والضعف فلا يحتسب به مخطئا، وفى الاحتساب به مصيبا وجهان:

(أحدهما)

يحتسب من اصابة الخسق لان ثبوته في الهدف قائم مقام ثبوته في الشن عند تساويهما.

والوجه الثاني: لا يحتسب في اصابة الخسق ويحتسب في اصابة القرع على الاحوال كلها.

وإن صادف السهم في ثقب في الغرض قد ثبت في الهدف مع قطعة من الغرض، فقال الرامى: خسقت، وهذه الجلدة قطعها سهمي لشدة الرمية فأنكر صاحبه وقال: بل هي كانت مقطوعة، فإن علم أن الغرض كان صحيحا حكم بقول الرسيل لان الاصل عدم الخسق.

وقال أحمد وأصحابه القول قول الرامى إذا كان الغرض صحيحا.

(فرع)

قال الشافعي رضى الله عنه: وإذا أراد المستبق أن يجلس ولا يرمى وللمستبق فضل له، فسواء قد يكون له الفضل فينضل وعليه الفضل فينضل.

إلى آخر ما قال.

قلت: إذا جلس أحد المتناضلين عن الرمى فله حالتان: احدهما أن يريد به تأخير الرمى عن وقته فلا يخلو أن يكون فيه معذورا أو غير معذور، فإن كان له عذر وطلب التأخير أخر ولم يجبر على التعجيل، سواء قيل بلزومه كالاجارة أو بجوازه كالجعالة، لانه ليس بأوكد من فرض الجمعة التى يجوز التأخر عنها بالعذر وأعذاره في تأخير الرمى ما أثر في نفسه من مرض أو شدة حر أو برد أو أثر في رميه من شدة ريح أو مطر أو أثر في أهله من موت أو حادث نزل أو أثر في ماله من جائحة طرقت أو خوف طرأ.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 202)

________________________________________

وإن لم يكن له تأخير الرمى عذر: والثمن به الدعة إلى وقت آخر ففى إجباره على التعجيل قولان.

 

(أحدهما)

يجبر عليه إذا قيل بلزومه كالاجارة.

 

(والثانى)

لا يجبر على تعجيله إذا قيل بجوازه كالجعالة.

أما الحال الثانية: كأن يريد بالجلوس عن الرمى فسخ العقد فلا يخلو أن يكون معذورا في الفسخ أو غير معذور، فإن كان معذورا في الفسخ وأعذار الفسخ أضيق وأغلظ من أعذار التأخير وهى ما اختصت نفسه من العيوب المانعة من صحة رمية وهى ضربان.

 

(أحدهما)

مالا يرجى زواله كشلل يده أو ذهاب بصره فالفسخ واقع بحدوث هذا المانع وليس يحتاج إلى فسخه بالقول.

(والضرب الثاني) ما يرجى زواله كمرض يده أو رمد عينيه أو علة جسده فلا ينفسخ العقد بحدوث هذا المانع بخلاف الضرب الاول لامكان الرمى بعد زواله ويكون الفسخ بالقول، وذلك معتبر بحال صاحبه، فإن طلب تعجيل الرمى فله الفسخ لتعذر التعجيل عليه، ويكون استحقاق هذا الفسخ مشتركا بينه وبين صاحبه، ولكل واحد منهما فسخ العقد به.

وأن أجاب صاحبه إلى الانظار بالرمي إلى زوال المرض فهل يكون عذره في الفسخ باقيا؟ أم لا؟ على وجهين.

أحدهما: يكون باقيا في استحقاق الفسخ لئلا تكون ذمته مرتهنة بالعقد.

والوجه الثاني: أن عذر الفسخ قد زال بالانتظار، وليس للمنظر أن يرجع في هذا الانظار، وان جاز له أن يرجع في الانتظار بالديون لان ذلك عن عيب رضى به، وجرى مجرى الانظار بالاعسار، وان لم يكن لطالب الفسخ عذر في الفسخ، فإن قيل بلزوم العقد كالاجارة لم يكن له الفسخ وأخذ به جبرا، فإن امتنع منه حبس عليه كما يحبس بسائر الحقوق إذا امتنع منها فإن طال به الحبس وهو على امتناعه عزر حتى يجيب.

فان قيل بجواز العقد كالجعالة فله الفسخ قبل الرمى وبعد الشروع فيه وقبل ظهور الغلبة، فان ظهرت الغلبة لاحدهما، فان كانت لطالب الفسخ، فله الفسخ وان كانت لغيره ففى استحقاقه للفسخ قولان مضيا.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 203)

________________________________________

أحدهما: لا يستحقه بعد ظهورها لتفويت الاغراض بعد ظهورها والقول الثاني - وهو الذى نص عليه الشافعي هاهنا - له الفسخ لما علل به من أنه قد يكون له الفضل فينضل، ويكون عليه الفضل فينضل.

(مسألة) إذا عرفت أن الرمى مما يلزم المسلمين حذقه والتمرس عليه لقهر الاعداء وجهادهم لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، وعرفت أن السهام والنبال من أسلحة النضال قد استحالت في أعصرنا إلى أسلحة نارية منها ما يصيب بالتوجيه كرشاش بور سعيد واللانكستر والبرتا، ومنها ما يصيب بالتسديد أو التصويب الدقيق كالبندقية حكيم واللى أنفيلد والتوميجن، ومنها ما يعطى مخروطا ناريا باللمس الهين ويسمى آليا، ومنها ما يعطى القذيفة بالضغط بالاصبع ويسمى منفردا، وقليل من حذاق الرماية الذين يستطيعون أن يجعلوا الآلي منفردا، وهو أمر يفتقر إلى قدرة على ضبط حركة الاصبع وسيطرة على لمس الزناد، والفرق بين هذه الآلات والآلات السابقة لا يختلف في حكمه إلا بمقدار ما يراعى من قوة الرمى وبعد ما ترميه الآلات الحديثة ومدى تأثيرها.

وقد سن النبي صلى الله عليه وسلم الاخذ بآلات غير المسلمين حين حاصر الطائف بالمجانيق، ووجه الصحابة رضوان الله عليهم إلى صناعتها وصناعة الضبور وهى نوع من المدافع البدائية التى تطورت صناعتها حتى بلغت في عصرنا هذا الصاروخ عابر القارات، ويحتسب في الرماية بتلك القذائف دورة الارض حول نفسها ودورتها السنوية وقانون الجاذبية وهو تحتاج إلى معادلات رياضية وحساب دقيق

لنصل إلى أهدافها في قلاع الاعداء فتدمرها تدميرا.

وقد أخرج الشيخان والحاكم وصححه والشافعي وأحمد والنسائي وابن حبان عن عبد الله بن مغفل أن رسول لله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (نَهَى عَنْ الْخَذْفِ وقال إنها لا تصيد صيدا ولا تنكأ عدوا ولكنها تكسر السن وتفقأ العين) .

فقد وجهنا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى ما فيه الاثر الاقوى والاغلاظ البالغ والسلاح الحاسم لارهاب العدو.

فإذا ثبت هذا فان الرماية بالبندقية وغيرها من المستحدثات من فروض الكفايات التى تتأصل بها عزة الامة وتحمى بها حوزتها

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 204)

________________________________________

وتعلى بها رايتها وعلى ولى الامر أن يحرض من وهب من قوة البنية وخفة الحركة وحدة البصر ونور الايمان من ينهض به ويتوفر عليه حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، والله تعالى أعلم بالصواب وهو حسبنا ونعم الوكيل.

 

قال المصنف رحمه الله تعالى:

 

كتاب احياء الموات يستحب احياء الموات لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (مَنْ أحيا أرضا ميتة فله فيها أجر، وما أكله العوافي منها فهو له صدقه) وتملك به الارض لما روى سعيد بن زيد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قال (من أحيا أرضا ميتة فهى له) ويجوز ذلك من غير اذن الامام للخبر، ولانه تملك مباح فلم يفتقر إلى اذن الامام كالاصطياد.

 

(فصل)

وأما الموات الذى جرى عليه الملك وباد أهله ولم يعرف مالكه ففيه ثلاثة أوجه.

(أحدها) أنه يملك بالاحياء لما روى طاوس إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (عادى الارض لله ولرسوله، ثم هي لكم بعد) ولانه ان كان في دار الاسلام

فهو كاللقطه التى لا يعرف مالكها، وان كان في دار الحرب فهو كالركاز.

 

(والثانى)

لا يملك لانه ان كان في دار الاسلام فهو لمسلم أو لذمى أو لبيت المال، فلا يجوز احياؤه وان كان في دار الحرب جاز أن يكون لكافر لا يحل ماله أو لكافر لم تبلغه الدعوة، فلا يحل ماله، ولا يجوز تملكه.

(والثالث) أنه ان كان في دار الاسلام لم يملك، وان كان في دار الحرب ملك، لان ما كان في دار الاسلام فهو في الظاهر لمن له حرمة، وما كان في دار الحرب فهو في الظاهر لمن لا حرمة له.

ولهذا ما يوجد في دار الحرب يخمس وما يوجد في دار الاسلام يجب تعريفه، وان قاتل الكفار عن أرض ولم يحيوها ثم ظهر المسلمون عليها ففيه وجهان

(أحدهما)

لا يجوز أن تملك بالاحياء، بل هي

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 205)

________________________________________

غنيمة بين الغانمين، لانهم لما منعوا عنها صاروا فيها كالمتحجرين، فلم تملك بالاحياء

(والثانى)

أنه يجوز أن تملك بالاحياء لانهم لم يحدثوا فيها عمارة فجاز أن تملك بالاحياء كسائر الموات.

 

(فصل)

وما يحتاج إليه المصلحة العامر من المرافق كحريم البئر وفناء الدار والطريق ومسيل الماء لا يجوز احياؤه لانه تابع للعامر فلا يملك بالاحياء ولانا لو جوزنا احياءها أبطلنا الملك في العامر على أهله وكذلك ما بين العامر من الرحاب والشوارع ومقاعد الاسواق لا يجوز تملكه بالاحياء لان الشرع قد ورد بإحياء الموات وهذا من جملة العامر ولانا لو جوزنا ذلك ضيقنا على الناس في أملاكهم وطريقهم وهذا لا يجوز.

 

(فصل)

ويجوز احياء كل من يملك المال لانه فعل يملك به فجاز من كل من يملك المال كالاصطياد ولا يجوز للكافر أن يملك بالاحياء في دار الاسلام ولا للامام أن يأذن له في ذَلِكَ.

لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (موتان

الارض لله ولرسوله ثم هي لكم منى) فجمع الموتان وجعلها للمسلمين، فانتفى أن يكون لغيرهم، ولان موات الدار من حقوق الدار والدار للمسلمين، فكان الموات لهم كمرافق المملوك لا يجوز لغير المالك إحياؤه، ولا يجوز للمسلم أن يحيى الموات في بلد صولح الكفار على المقام فيه، لان الموات تابع للبلد، فإذا لم يجز تملك البلد عليهم لم يجز تملك مواته.

(الشرح) حديث جابر رواه أحمد والترمذي وصححه بلفظ (من أحيا أرضا فهى له) وفى لفظ عند احمد وابى داود (من أحاط حائطا على أرض فهى له) ولاحمد وابى داود والطبراني والبيهقي وصححه ابن الجارود من رواية سمرة بن جندب رواه عنه الحسن وفى سماع الحسن من سمرة خلاف معروف بين المحدثين تكلمنا عليه في غير ما موضع، وأخرجه النسائي وابن حبان بنحوه.

أما حديث سعيد بن زبد فقد رواه احمد وابو داود والترمذي بلفظ (من أحيا أرضا ميتة فهى له، وليس لعرق ظالم حق) وأخرجه أيضا النسائي، وحسنه

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 206)

________________________________________

الترمذي وأعله بالارسال ورجح الدارقطني إرساله وقد مضى الاختلاف في الصحابي الذى رواه غير سعيد بن زيد.

أما سعيد بن زيد فهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، كنيته أبو الأعور، وهو قرشي عدوى من السابقين الاولين البدريين، ممن رضى الله عنهم ورضوا عنه، شهد المشاهد كلها، وشهد حصار دمشق وفتحها، وأول من ولى على دمشق في الاسلام: له حديثان في الصحيحين، وانفرد البخاري له بحديث، روى عنه ابن عمر وابو الطفيل وعمرو بن حريث وعروة وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وعبد الله بن ظالم وطائفة.

وأبوه زيد بن عمر بن نفيل، مات قبل الاسلام على النجاة، لانه خرج يطلب الدين القيم حتى مات.

واخبر النبي صلى الله عليه

وسلم انه يبعث امة وحده يوم القيامة.

وهو ابن عم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وقال ابن عبد البر: هذا الحديث مسنده صحيح متلقى بالقبول عند الفقهاء في المدينة وغيرها.

أما الاحكام فقد قال الشافعي رضى الله عنه: بلاد المسلمين شيئان: عامر وموات، فالعامر لاهله كل ما صلح به العامر ان كان مرفقا لاهله من طريق وفناء ومسيل ماء أو غيره فهو كالعامر في ان لا يملك على أهله الا بإذنهم.

اه والموات هو الارض الخراب الدارسة تسمى ميتة ومواتا وموتانا بفتح الواو والموتان بضم الميم وسكون الواو والموت الذريع، ورجل موتان القلب بفتح الميم وسكون الواو لا بصيرة له ولا فهم.

إذا عرف هذا فان الموات شيئان: موات قد كان عامرا لاهله معروفا في الاسلام ثم ذهبت عمارته فصار مواتا، فذلك كالعامر لاهله لا يملك عليهم الا بإذنهم

(والثانى)

ما لم يملكه احد من أهل الاسلام يعرف ولا عمارة في الجاهلية أو لم يملك، فذلك الموات الذى قال فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ أحيا مواتا فهو له) وروى وهب بن كيسان عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال (من أحيا أرضا ميتة فهى له وله فيه أجر وما أكلت العوافي منها فهو له صدقة، والعوافي جمع عاف وهو طالب الفضل.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 207)

________________________________________

وقد روى أحمد والبخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (من عمر أرضا ليست لاحد فهو أحق بها) وعن اسمر بن مضرس قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فبايعته فقال: من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له.

قال فخرج الناس يتعادون يتخاطئون) أي يتسابقون عدوا يخططون

في الارض تمهيدا لتعميرها.

وروى ابن ابى مليكة عن عروة قال: أشهد أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى أن الارض أرض الله والعباد عباد الله.

ومن أحيا مواتا فهو أحق به.

جاءنا بهذا عن النبي صلى الله عليه وسلم الذين جاؤوا بالصلوات عنه) والحديث بهذه المثابة لا يكون مرسلا على القول الصحيح بناء على الاصل في ان الصحابة كلهم عدول، فإذا قال التابعي الثقة أشهد انه جاءني عن النبي صلى الله عليه وسلم به الذين جاءوا بالصلوات عنه وهو يعنى الصحابة.

فقد ارتفع الارسال وبقيت الجهالة، والجهالة بالصحابى لا تقدح في الحديث، اللهم الا إذا ثبت ولو مرة واحدة ان عروة التبس عليه أمر تابعي معاصر بإسلامه للنبى صلى الله عليه وسلم فظنه صحابنا، ولكن إذا عرفنا ان عروة لا يشك في تثبته وعلمه باحوال الصحابة والذى تربى في بيت النبوة والخلافة.

فابوه ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم، وجده لامه أبو بكر رضى الله عنه.

وخالته أم المؤمنين، وأخوه أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير.

وروى الشافعي عن سفيان عن طاوس إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (عمارة الارض لله ولرسوله ثم هي لكم منى) ولان ما لم يجر عليه ملك نوعان أرض وحيوان، فلما ملك الحيوان إذا ظهر عليه بالاصياد ملك موات الارض إذا ظهر عليه بالاحياء وقوله في حديث الفصل عن طاوس إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (عادى الارض) نسبة إلى عاد رجل من العرب الاولى، وهم العرب البائدة، وبه سميت قبيلة قوم هود، ويقال للملك القديم عادى كأنه نسبة إليه لتقدمه، وبئر عادية كذلك، وعادى الارض ما تقادم ملكه.

وقد جاء حديث طاوس في الام وعندد المصنف هنا هكذا مرسلا.

وقد رواه هكذا سعيد بن منصور في سننه وابو عبيد في الاموال، فإذا تقرر جواز الاحياء قال الشافعي: بلاد المسلمين شيئان عامر وموات، وانما خص بلاد المسلمين بما

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 208)

________________________________________

ذكره من قسمي العامر والموات، وان كانت بلاد الشرك أيضا عامرا ومواتا، لما ذكره من ان عامر بلاد المسلمين لاهله لا يملك عليه الا بإذنهم.

وعامر بلاد الشرك قد يملك عليهم قهرا وغلبة بغير إذنهم.

وإذا كان كذلك بدأنا بذكر العامر من بلاد المسلمين ثم بمواتهم.

أما العامر فلاهله الذى قد ملكوه بأحد أسباب التمليك وهى ثمانية: ١ - الميراث ٢ - المعاوضات ٣ - الهبات ٤ - الوصايا ٥ - الوقف ٦ - الصدقات ٧ - الغنيمة ٨ - الاحياء.

فإذا ملك عامرا من بلاد المسلمين بأحد هذه الاسباب الثمانية صار مالكه له ولحريمه ومرافقيه من بناء وطريق ومسيل ماء وغير ذلك من مرفق العامر التى لا يستغنى العامر عنها فلا يجوز ان يملك ذلك على أهل العامر باحياء ولا غيره فمن أحياه لم يملكه.

وقال داود بن على: حريم العامر كسائر الموات من أحياه فقد ملكه استدلالا بقوله صلى الله عليه وسلم (من أحيا أرضا مواتا فهى له) وهذا خطأ لان حريم العامر قد كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ثم على عهد خلفائه مقرا على اهله لم يتعرض أحد لاحيائه عما انتهوا إليه، ولانه لو جاز احياء حريم العامر لبطل العامر على أهله وسقط الانتفاع به، لانه يفضى إلى ان يبنى الرجل دارا يسد بها باب جاره فلا يصل الجار إلى منزله.

وما ادى إلى هذا من الضرر وكان ممنوعا منه، وليس الحريم مواتا فيصح استدلال داود عليه.

واما الموات فضربان: أحدهما ما لم يزل على قديم الدهر مواتا لم يعمر قط.

فهذا هو الموات جاء في الحديث ان من أحياها فهى له، فان أحياه ذمى لم يملكه وقال أبو حنيفة: يملكه الذمي بالاحياء كالمسلم، استدلالا بِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ أحيا أرضا مواتا فهى له) ولانها أعيان مباحة فجاز أن يستوى في تملكها المسلم والذمى كالصيد والحطب، ولان من يملك بالاصطياد والاحتطاب

صح أن يملك بالاحياء كالمسلم، ولانه سبب من أسباب التمليك فوجب أن يستوى فيه المسلم والذمى كالبيع، ودليلنا حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ثُمَّ هي لكم منى) فوجه الخطاب للمسلمين وأضاف ملك الموات إليهم فدل على اختصاصهم بالحكم.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 209)

________________________________________

ولان النبي صلى الله عليه قال (لا يجتمع في جزيرة العرب دينان) اشارة إلى إجلائهم حتى أجلاهم عمر رضى الله عنه من الحجاز، فلما أمر بإزالة أملاكهم الثابتة فأولى أن يمنعوا من أن يستبيحوا أملاكا محدثة، لان استدامة الملك أقوى من الاستحداث، فإذا لم يكن لهم الاقوى فالاضعف أولى، ولان من لم يقر في دار الاسلام الا بجزية منع من الاحياء كالمعاهد، ولان كل ما لم يملكه الكافر قبل عقد الجزية لم يملكه بعد عقد الجزية وأصله نكاح المسلمة.

ولانه نوع تمليك ينافيه كفر الحربى فوجب أن ينافيه كفر الذمي كالارث من مسلم فأما الجواب عن حديث (من أحيا أرضا مواتا فهى له) فهو أن هذا الخبر وارد في بيان ما يقع به الملك.

وقوله (ثم هي لكم) وارد في بيان من يقع له الملك فصار المفسر في كل واحد منهما فيما قصد له قاضيا على صاحبه، فصار الخبران في التقدير كقوله (من أحيا أرضا مواتا من المسلمين فهى له) وأما الجواب عن قياسهم على الصيد والحطب فهو أنه منتقض بالغنيمة حيث لم يستو المسلم والذمى فيها مع كونها أعيانا مباحة، ثم لو سلم من النقض لكان المعنى في الصيد والحطب أن لا ضرر على المسلم فيه إذا أخذه الكافر، وليس كذلك الاحياء.

لذلك لم يمنع المعاهد من الاصطياد والاحتطاب وان منع من الاحياء، فكان المعنى الذى فرقوا به في المعاهد بين إحيائه واصطياده (وفرقنا في الذمي بين إحيائه واصطياده، وهو الجواب عن قياسهم الثاني ويكون المعنى

في المسلم فضيلته بدينه واستقراره في دار الاسلام بغير حرمة مباينة لصغار الذمة فاستعلى على من خالف الملة.

وأما الجواب عن قياسهم على البيع فهو إنه منتقض بالزكاة لانها سبب من أسباب التمليك الذى يختص بها المسلم دون الذمي.

ولما لم يجز في الاحياء أن يملك به المعاهد لم يملك به الذمي.

وقال أحمد بعدم الفرق بين المسلم والذمى وقد مضى الرد على ذلك.

والضرب الثاني من الموات ما كان عامرا ثم خرب فصار بالخراب مواتا فذلك ضربان، أحدهما ان كان جاهليا لم يعمر في الاسلام فهذا على ضربين أحدهما أن يكون قد خرب قبل الاسلام حتى صار مواتا مندرسا كأرض عاد وتبع ومدن طيبة ومنف وبابل وآشور وبعلبك فهذه إذا أعلن أيلولتها إلى بيت

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 210)

________________________________________

مال المسلمين وملكت الدولة التى من حقها أن تكون لها الولاية عليها لعرضها للاعتبار عملا بقوله تعالى (أفلم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم، كانوا أشد منهم قوة وآثارا في الارض، وعمروها أكثر مما عمروها) إلى آخر ما ورد في القرآن الكريم من آيات الحث على السياحة والسير إلى الآثار للاعتبار والاتعاظ، كان إحياؤها معلقا بإذن السلطان، بل إن السلطان إذا أحياها بصيانتها وإقامة الحراس عليها وتمهيد طرقها وتيسير سبل الوصول إليها بسبب ما تحويه من تواريخ من كانوا يعمرونها من الدارسين والبائدين كان هذا إحياء لها على هذا النحو، وصارت ملكا عاما لا يختص به أحد، وذلك أصله قوله صلى الله عليه وسلم (عادى الارض لله ولرسوله ثم هي لكم منى) والضرب الثاني: ما كان باقى العمارة إلى وقت الاسلام ثم خرب وصار مواتا قبل أن يصير من بلاد الاسلام فهذا على ثلاثة أقسام

(أحدهما)

أن يرفع أربابه أيديهم عنه قبل القدرة عليه فهذا يملك بالاحياء كالذى لم يزل مواتا (والقسم الثاني) أن يتمسكوا به إلى حين القدرة

عليه فهذا يكون في حكم عامرهم لا يملك بالاحياء.

(والقسم الثالث) أن يجهل حاله فلا يعلم هل رفعوا أيديهم عنه قبل القدرة عليه أم لا، ففى جواز تملكه بالاحياء وجهان كالذى جهل حاله من الركاز.

والضرب الثاني: ما كان في الاصل عامرا من بلاد الاسلام ثم خرب حتى ذهبت عمارته، واندرست آثاره، فصار مواتا.

فقد اختلف الفقهاء في جواز تملكه بالاحياء على ثلاثة مذاهب، فمذهب الشافعي منها أنه لا يجوز أن يملك بالاحياء سواء عرف إربابه أو لم يعرفوا.

وقال أبو حنيفة: إن عرف أربابه فهو على ملكهم لا يملك بالاحياء وإن لم يعرفوا ملك بالاحياء استدلالا بعموم الحديث (من أحيا أرضا مواتا فهى له) وحقيقة الموات ما صار بعد الاحياء مواتا من العامر فزال عن حكم العامر كالجاهلي.

ولانه موات فجاز احياؤه كسائر الموات.

وقال مالك: يصير كالموات الجاهلي يملكه من أحياه سواء عرف أربابه أم لم يعرفوا.

وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبِ نفس منه) وهذا مال مسلم.

وروى عروة عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (من أحيا أرضا ميتة ليست لاحد فهو أحق بها)

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 211)

________________________________________

فجعل زوال الملك عن الموات شرطا في جواز ملكه بالاحياء.

ودل على أن ما جرى عليه ملك لم يجز أن يملك بالاحياء.

وروى أسامة بن مضرس قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له مال، فخرج الناس يتعادون يتخاطون) وهذا نص ولانها أرض استقر عليها ملك أحد المسلمين فلم يجز أن تملك بالاحياء كالتى بقيت آثارها عند مالك، وكالتى تعين أربابها عند إبى حنيفة، ولان ما صار مواتا من عامر المسلمين لم يجز إحياؤه بالتملك كالاوقاف والمساجد.

وأما استدلالهم بقوله صلى الله عليه وسلم (من أحيا أرضا مواتا فهى له) فهو دليل عليهم، لان الاول قد إحياها، فوجب أن يكون أحق بها من الثاني لامرين أحدهما: أنه سبق.

والثانى: أن ملكه قد ثبت باتفاق.

وأما الجواب عن قياسهم على الجاهلي وعلى التى لم تزل خرابا فالمعنى فيها أنها لم يجر عليها ملك مسلم.

 

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

والاحياء الذى يملك به أن يعمر الارض لما يريده، ويرجع في ذلك إلى العرف، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْلَقَ الاحياء ولم يبين فحمل على المتعارف، فان كان يريده للسكنى فأن يبنى سور الدار من اللبن والآجر والطين والجص إن كانت عادتهم ذلك، أو القصب أو الخشب إن كانت عادتهم ذلك، ويسقف وينصب عليه الباب لانه لا يصلح للسكنى بما دون ذلك، فإن أراد مراحا للغنم أو حظيرة للشوك والحطب بنى الحائط ونصب عليه الباب، لانه لا يصير مراحا وحضيرة بما دون ذلك، وإن أراد للزراعة فأن يعمل لها مسناة ويسوق الماء إليها من نهر أو بئر، فإن كانت الارض من البطائح فأن يحبس عنها الماء لان إحياء البطائح أن يحبس عنها الماء كما أن إحياء اليابس بسوق الماء إليه، وبحرثها، وهو إن يصلح ترابها، وهل يشترط غير ذلك؟ فيه ثلاثة أوجه.

(أحدها) أنه لا يشترط غير ذلك وهو المنصوص في الام، وهو قول أبى إسحاق، لان الاحياء قد تم وما بقى إلا الزراعة، وذلك انتفاع بالمحيا فلم يشترط كسكنى الدار.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 212)

________________________________________

(والثانى)

وهو ظاهر ما نقله المزني: أنه لا يملك إلا بالزراعة لانها من تمام العمارة، ويخالف السكنى فإنه ليس من تمام العمارة، وإنما هو كالحصاد في الزرع، (والثالث) وهو قول أبى العباس: أنه لا يتم إلا بالزراعة والسقى، لان

العمارة لا تكمل إلا بذلك، وإن أراد حفر بئر فإحياؤها أن يحفر إلى أن يصل إلى الماء لانه لا يحصل البئر الا بذلك، فان كانت الارض صلبة تم الاحياء، وان كانت رخوة لم يتم الاحياء حتى تطوى البئر لانها لا تكمل الا به، (الشرح) يختلف الاحياء باختلاف المقصود منه، ولما كان الشارع قد أطلق الاحياء لم يحده، ولما كان ليس للاحياء في اللغة حد وجب الرجوع إلى العرف كالحرز والقبض وضابطه تهيئة الشئ لما يقصد منه غالبا، فإن أراد مسكنا نظرت إلى العرف الشائع في المكان الذى يجرى فيه الاحياء سكنا، كتحويطه بالآجر أو اللبن أو القصب على عادة المكان، وقد رأى بعض الاصحاب الاكتفاء بالتحويط من غير بناء لكنه نص في الام على اشتراط البناء.

قال الرملي: وهو المعتمد، والاوجه الرجوع في جميع ذلك إلى العادة، ومن هنا قال المتولي وأقره ابن الرفعة والاذرعى وغيرهما: لو اعتاد نازلو الصحراء تنظيف الموضع من نحو شوك وحج وتسويته لضرب خيمته وبناء معلفه ففعلوا ذلك بقصد التملك ملكوا البقعة، وان ارتحلوا عنها أو بقصد الارتفاق فهم أولى بها إلى الرحلة.

إذا ثبت هذا: فإن تحويط الارض احياء لها سواء أرادها للبناء أو للزرع أو حظيرة للغنم أو للخشب أو لغير ذلك، هذا مذهبنا ونص عليه أحمد في رواية على بن سعيد فقال: الاحياء أن يحوط عليها حائطا ويحفر فيها بئرا أو نهرا ولا تعتبر في ذلك تسقيف، وذلك لما روى عَنْ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (من أحاط حائطا على أرض فهى له) رواه أبو داود واحمد، ويروى عن جابر مثله.

وقد نص الامام النووي على عدم اشتراط تعليق الباب لان الباب لا يشترط للسكنى وانما هو للحفظ والسكنى لا تتوقف عليه.

وقد اعتبر القصد في مذهب

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 213)

________________________________________

الشافعي رضى الله عنه ولم يعتبر القصد في مذهب أحمد رضى الله عنه، فلو أحاط مواتا بقصد أن يكون حظيرة فاتخذه سكنا له ولم يتخذه لما قصد له ملكه عند أحمد لعدم اعتبار القصد وملكه عند الشافعي بالقصد الطارئ أما إذا حوطها لتكون حظيرة ولا تصلح للسكنى ثم سكنها فإنه لا يملك عند الشافعي ويملك عند أحمد، فلو خندق حول الارض خندقا لم يكن إحياء لانه ليس بحائط ولا عمارة، وإنما هو حفر وتخريب، وإن أحاطها بشوك وشبهه لم يكن ذلك إحياء ولو نزل منزلا فنصب به بيت شعر أو خيمة لم يكن ذلك إحياء.

أما إذا فعل ذلك بحيث يريدها مزورعة فجمع التراب أو الشوك حولها وسوى الارض فطم المنخفض منها واكتسح العالي وحرثها إذا توقف زرعها على الحرث ورتب لها الماء بشق المسقاة أو حفر الساقية أو شق للماء طريقا ولم يبق الا اجراؤه كفى ذلك في تملكه، وان لم يجز الماء، فان هيأه ولم يحفر له طريقا كفى أيضا وهو المنصوص في الام، وبه قال أبو إسحاق المروزى ورجحه صاحب الشرح الصغير وتابعه الشمس الرملي.

فإذا كفاها المطر لم تحتج إلى ترتيب للماء وذلك خلاف لظاهر ما نقله المزني من أنه يشترط الزراعة لتمام الملك بذلك، ويخالف السكنى، وقد زاد أبو العباس بن سريج على ذلك اشتراط السقى أيضا، وأرض الجبال التى لا يمكن سوق الماء إليها ولا يكفيها المطر تكفى الحراثة وجمع التراب كما اقتضاه كلام النووي في الروضة تبعا للرافعي وجزم به غيرهما.

ولا يشترط أن تتم الزراعة على الاصح كما لا يشترط سكنى الدار لان استيفاء المنفعة خارج عن الاحياء.

والثانى: لا تصير محياة الا بالزراعة كما لا تصير الدار محياة الا إذا صار فيها مال المحيى، وإذا اعتادوا أن يجمعوا ترابا حول ما يزرعونه بستانا فجمع التراب

بدلا من التحويط كفى، والا اشترط التحويط حسب العادة وتهيئة ماء للبستان أن لم يكفه ماء المطر، ويشترط فيه اتخاذ الباب وغرس الاشجار ولو لبعضه بحيث يسمى بستانا كما أفاده الاذرعى، فلا يكفى غرس الشجرة والشجرتين في المكان الواسع على المذهب إذ لا يتم اسم البستان بدون ذلك بخلاف المزرعة

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 214)

________________________________________

بدون الزرع، ولا يشترط في البستان الاثمار، وما عمله مما يعود نفعه على غيره كطى بئر، فان ملكه له يتوقف على قصده من حفر البئر، وقال الشافعي رضى الله عنه: وانما يكون الاحياء ما عرفه الناس إحياء مثل المحيا ان كان مسكنا فأن يبنى بمثل ما يبنى به مثله من بنيان حجر أو لبن أو مدر يكون مثله بناء، وهكذا ما أحيا الادمى من منزل له أو لدواب من حظار أو غيره فاحياه ببناء، حجر أو مدر أو بماء لان هذه العمارة بمثل هذا، ولو جمع ترابا لحظار أو خندق لم يكن هذا إحياء.

وكذلك لو بنى خياما من شعر أو جريد أو خشب لم يكن هذا إحياء تملك له الارض بالاحياء، وما كان هذا قائما لم يكن لاحد أن يزيله، فإذا أزاله صاحبه لم يملكه، وكان لغيره ان ينزله ويعمره، اه وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

 

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:

(فصل)

وإذا أحيا الارض ملك الارض وما فيها من المعادن كالبلور والفيروزج والحديد والرصاص لانها من اجزاء الارض فملك بملكها ويملك ما ينبع فيها من الماء والقار وغير ذلك.

وقال أبو اسحاق لا يملك الماء وما ينبع فيها، وقد بينا ذلك في البيوع، ويملك ما ينبت فيها من الشجر والكلا.

وقال ابو القاسم الصيمري: لا يملك الكلا لما روى ان ابيض بن حمال سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن حمى الاراك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسمل (لا حمى في الاراك) ولانه لو فرخ في الارض طائر لم يملك، فكذلك إذا نبت فيه

الكلا، وقال أكثر أصحابنا: يملك لانه من نماء الملك فملكه بملكه كشعر الغنم.

 

(فصل)

ويملك بالاحياء ما يحتاج إليه من المرافق، كفناء الدار والطريق ومسيل الماء وحريم البئر، وهو بقدر ما يقف فيه المستقى إن كانت البئر للشرب وقدر ما يمر فيه الثور إن كانت للسقي، وحريم النهر وهو ملقى الطين وما يخرج منه من التقن، ويرجع في ذلك إلى أهل العرف في الموضع.

وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: من احتفر بئرا فله أربعون ذراعا حولها عطن لماشيته.

وروى ابن شهاب عن سعيد بن المسيب قال: من السنة أن حريم القليب

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 215)

________________________________________

العادية خمسون ذراعا، وحريم البدئ خمسة وعشرون ذراعا، وحريم بئر الزرع ثلثمائة ذراع، فان أحيا أرضا إلى جنب غيره فجعل أحدهما داره مدبغة أو مقصرة لم يكن للاخر منعه من ذلك، لانه تصرف مباح في ملكه فلم يمنع منه.

وان الصق حائطه بحائطه منع من ذلك.

وان طرح في أصل حائطه سرجينا منع منه لانه تصرف باشر ملك الغير بما يضر به فمنع منه، فان حفر حشا في أصل حائطه لم يمنع منه لانه تصرف في ملكه.

ومن أصحابنا من قال: يمنع لانه يضر بالحاجز الذى بينهما في الارض.

وان ملك بئرا بالاحياء فجاء رجل وتباعد عن حريمه وحفر بئرا فنقص ماء الاول لم يمنع منه لانه تصرف في موات لاحق لغيره فيه.

(الشرح) حديث أبيض بن حمال رواه الترمذي وحسنه وابو داود بلفظ (أنه وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم استقطعه الملح فقطع له، فلما ان ولى قال رجل: أتدرى ما أقطعت له؟ إنما أقطعته الماء العد.

فقال انتزعه منه، قال: وسألته عما يحمى من الاراك فقال: ما لم تنله خفاف الابل) وأخرجه أيضا

ابن ماجه والنسائي وصححه ابن حبان وضعفه ابن القطان ولم يذكر وجه تضعيفه ولعله بسبب السبئ المازنى الذى في الاسناد.

وقال فيه ابن عدى: أحاديثه مظلمة منكرة.

وفى رواية (ما لم تنله أخفاف الابل) قال محمد بن الحسن المخزومى: يعنى ان الابل تأكل منتهى رؤسها ويحمى ما فوق ذلك.

ورواه سعيد بن منصور قال: حدثنى اسماعيل بن عياش عن عمرو بن قيس المأربى عن أبيه عن أبيض بن حمال المأربى قال (استقطعت رسول الله صلى عليه وسلم معدن الملح بمأرب فاقطعنيه، فقيل يا رسول الله انه بمنزلة الماء العد، يعنى انه لا ينقطع، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فلا إذن) .

وأما حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فقد رواه ابن ماجه باسناد ضعيف لان فيه اسماعيل بن سلم، وقد أخرجه الطبراني من حديث أشعث عن الحسن، واخرج حرب وعبد الله عن أحمد من حديث أبى هريرة بلفظ (من سبق

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 216)

________________________________________

إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له، وله حريمها خمسون ذراعا من كل جانب) واختيار الخمسين هو مذهب أحمد وأصحابه، وأخرج ابن ماجه بلفظ (حريم البئر طول رشائها) أما اللغات في الفصل فالبلور كنتور وسنور وسبطر.

وهو جوهر.

وكذلك الفيروزج، والقار نوع من القطران، والعد بكسر العين، قال أبو عبيد: العد بلغة تميم الكثير، وبلغة بكر بن وائل هو القليل، والمراد هنا في الحديث الكثير الذى لا ينقطع.

وأما كلمة التقن التى جرت هنا في كلام المصنف فهى من الكلمات التى كانت شائعة عند أهل بغداد، ويريدون بها سيف النهر وما اجمتع فيه من الطين وغيره.

أما الاحكام فإن المعادن إما ظاهرة، وهى التى سنتكلم عليها في الفصل التالى أما المعادن الباطنة وهى التى لا يوصل إليها الا بالعمل والمؤنة كمعادن الذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص والبلور والفيروزج، فإذا كانت ظاهرة فلا تملك بالاحياء لما سيأتي، وإن لم تكن ظاهرة فحفرها إنسان لم تملك بذلك في ظاهر مذهب أحمد والشافعي، وهو قول أبى اسحاق المروزى، ويحتمل أن يملكها بذاك، وهو قول للشافعي والمصنف والنووي في المنهاج.

ومنع أبو القاسم الصيمري أن يملك الكلا، ولانه لو فرخ طائر في الارض لم يملك.

وقول أكثر الاصحاب يملك لانه من نماء الارض كمن يملك غنما فانه يملك أصوافها وأشعارها لانه نماء في ملكه، ولانه إظهار تهيأ بالعمل والمؤنة فملك بالاحياء كالارض، ولانه بإظهاره تهيأ للانتفاع به من غير حاجة إلى تكرار ذلك العمل، فاشبه إحاطة الارض أو إجراء الماء إليها.

ووجه الاول أن الاحياء الذى يملك به هو العمارة التى تهيأ بهال المحمى للانتفاع من غير تكرار عمل.

وهذا حفر وتخريبه يحتاج إلى تكرار عند كل انتفاع، فإن قيل: فلو احتفر بئرا ملكها وملك حريمها، قلنا: البئر تهيأت للانتفاع بها من غير تجديد حفر ولا عمارة، وهذه المعادن تحتاج عند كل انتفاع إلى عمل وعمارة فافترقا.

أما إذا ملك الارض بالاحياء فظهر أن فيها معدنا من المعادن الجامدة ظاهرا

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 217)

________________________________________

أو باطنا فقد ملكه لانه ملك الارض بجميع أجزائها وطبقاتها وهذا منها ويفارق الكنز فانه مودع فيها وليس من أجزائها، ويفارق ما إذا كان ظاهرا قبل إحيائها لانه قطع عن المسلمين نفعا كان واصلا إليهم، ومنعهم انتفاعا كان لهم.

وههنا لم يقطع عنهم شيئا لانه انما ظهر بإظهاره له، ولو تحجر الارض أو أقطعها فظهر

فيها المعدن قبل إحيائها لكان له احياؤها ويملكها بما فيها لانه صار أحق به بتحجره واقطاعه فلم يمنع من اتمام حقه.

(فرع)

يقال للبئر التى تحفر في الارض الموات: بئر عادية بتشديد الياء منسوبة إلى عاد، وليس المراد عادا بعينها، ولكن لما كانت عاد في الزمن الاول وكانت لها آثار في الارض نسب إليها كل قديم، فكل من حفر بئرا في موات للتمليك فله حريمها أربعون ذراعا حولها أو خمس وعشرون ذراعا من كل جانب أو خمسون ذراعا طول أبعد طرفي حريمها، ومن سبق إلى بئر عادية كان أحق بها لقوله صلى الله عليه وسلم (من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له وله حريمها خمسون ذراعا من كل جانب) وقد فرق سعيد بن المسيب بين العادى منها والبدئ، فجعل الاولى حريمها خمسون ذراعا وجعل البدئية حريمها خمسة وعشرون ذراعا.

وجعل حريم بئر الزرع ثلاثمائة ذراع وقال: هذا من السنة.

وإذا قال تابعي كبير كابن المسيب (من السنة) وكذلك روى أبو عبيد عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ (السنة في حريم القليب العادى خمسون ذراعا والبدئ خمس وعشرون ذراعا) فإنما يقول كل منهما - وهما تابعيان كبيران - ذلك لما صح عندهما من عمل الصحابة واتفاقهم عليه مما يجعل هذا القدر هو السنة لانه لا يخلو من هدى نبوى.

وقال أصحاب أحمد منهم أبو الخطاب والقاضى: ليس هذا على طريق التحديد بل حريمها على الحقيقة ما تحتاج إليه في ترقية مائها منها، فإن كان بدولاب فقدر مد الثور أو غيره، وان كان بساقية فبقدر طول البئر، لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (حريم البئر مد رشائها) رواه ابن ماجه.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 218)

________________________________________

وذهب النووي إلى تحديد حريم البئر المحفورة في الموات بمقدار موقف النازح منها، قال الرملي: وهل يعتبر قدر النازح من سائر الجوانب أو من أحدها فقط الاقرب اعتبار العادة في مثل ذلك المحل اه.

وعلى هذا يكون حريم البئر من جوانبه ما يحتاج إليه في مجال عمله، وينبغى أن يمتد حريمها إلى ما تقتضيه.

وقال أبو حنيفة: حريم البئر أربعون ذراعا، وحريم العين خمسمائة ذراع، لان أبا هريرة رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انه قال (حريم البئر أربعون ذراعا لاعطان الابل والغنم) .

(قلت) حديث أبى هريرة رواه احمد (حريم البئر العادى خمسون ذراعا، وحريم البئر البدئ خمسة وعشرون ذراعا) وعن الشعبى مثله.

وقد روى الدارقطني والخلال بإسنادهما عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال: حريم البئر خمس وعشرون ذراعا، وحريم العادى خمسون ذراعا) وقد أعله الدارقطني بالارسال وقال: من أسنده فقد وهم، وفى سنده محمد بن يوسف المقرى شيخ شيخ الدارقطني وهو منهم بالوضع، ورواه البيهقى من طريق يونس عن الزهري عن المسيب مرسلا وزاد فيه (وحريم بئر الزرع ثلاثمائة ذراع من نواحيها كلها) وأخرجه الحاكم من حديث أبى هريرة موصولا ومرسلا والموصول فيه عمر بن قيس وهو ضعيف: والاحاديث في مجموعها تثبت أن للبئر حريما، والمراد بالحريم ما يمنع منه المحيى والمحتفر لاضراره.

وفى النهاية: سمى بالحريم لانه يحرم منع صاحبه منه، ولانه يحرم على غيره التصرف فيه.

وحديث عبد الله بن مغفل الذى ساقه المصنف يجعل العلة في ذلك هي ما يحتاج إليه صاحب البئر عند سقى إبله لاجتماعها على الماء.

وحديث أبى هريرة دال على أن العلة هو ما يحتاج إليه البئر لئلا تحصل المضرة عليها باقتراب الاحياء منها، ولذا وقع الاختلاف بين حالى كل من البدئ

والعادي، والجمع بين الحديثين يمكن أن ينظر فيهما من وجه الحاجة فإن كانت لاجل سقى الماشية فحديث الاربعين أو الخمس والعشرين، وإن كانت لاجل البئر فخمسين وقد ذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى أن حريم البئر أربعون، وذهب أحمد إلى أن الحريم خمسة وعشرون.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 219)

________________________________________

(فرع)

ومن كانت له بئر فيها ماء فجاء آخر فحفر قريبا منها بئرا فليس له منعه من ذلك، وإن نقص ماء البئر الاولى أو انسرب الماء إليها لانه تصرف مباح في ملكه، ويحتمل أن يمنع من ذلك من حفر بئرا في موات إلى جوار بئر مثلها وجعلها أعمق منها بحيث تجتذب ماء الاولى إليها، لانه ليس له أن يبتدئ ملكه على وجه يضر بالملك قبله، وهو مذهب أحمد وقول للشافعي رضى الله عنهما، والقول الاظهر وهو المذهب: له ذلك لانه تصرف مباح في ملكه فجاز له كتعلية داره.

وهكذا الخلاف في كل ما يحدثه الجار مما يضر بجاره، مثل أن يجعل داره مدبغة أو حماما يضر بعقار جاره برائحته أو غيرها، أو يجعل داره مخبزا في وسط العطارين ونحو ذلك مما يؤذى الجيران فمذهب أحمد: المنع من ذلك، ومذهب الشافعي: له ذلك كله، لانه تصرف مباح في ملكه أشبه ببناء ونقضه.

وأما إذا ألصق الحائط بالحائط بغير مسافة ولو يسيرة منع من ذلك.

أما إذا طرح في أصل حائطه فضلات عفنة تسرى في مسام الارض فتحدث في البناء العطب والتلف منع من ذلك قولا واحدا، لانه تصرف باشر ملك غيره بما يضره.

أما إذا حفر في أصل حائطه حشا فقولان.

أحدهما: لم يمنع من ذلك والثانى: يمنع لانه يضر بالحاجز الذى بينهما وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

 

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:

(فصل)

وان تحجر رجل مواتا وهو أن يشرع في إحيائه ولم يتمم صار

أحق به من غيره لقوله صلى الله عليه وسلم (من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به، وان نقله إلى غيره صار الثاني أحق به، لانه آثره صاحب الحق به، وان مات انتقل ذلك إلى وارثه، لانه حق تملك ثبت له فانتقل إلى وارثه كالشفعة، وان باعه فَفِيهِ وَجْهَانِ.

 

(أَحَدُهُمَا)

وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ: أنه يصح لانه صار أحق به فملك بيعه.

 

(والثانى)

أنه لا يصح، وهو المذهب، لانه لم يملكه بعد فلم يملك بيعه كالشفيع قبل الاخذ، وان بادر غيره إلى إحيائه نظرت، فان كان ذلك قبل أن تطول المدة ففيه وجهان.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 220)

________________________________________

أحدهما: لا يملك لان يد المتحجر أسبق.

والثانى: يملك لان الاحياء يملك به والتحجر لا يملك به، فقدم ما يملك به على ما لا يلملك به، وإن طالت المدة ولم يتمم قال له السلطان: إما أن تعمر وإما أن ترفع يدك، لانه ضيق على الناس في حق مشترك بينهم فلم يمكن منه كما لو وقف في طريق ضيق أو مشرعة ماء ومنع غيره منها، وإن سأل أن يمهل أمهل مدة قريبة، فان انقضت المدة ولم يحيى فبادر غيره فأحيا ملك، لانه لا حق له بعد انقضاء المدة.

 

(فصل)

ومن سبق في الموات إلى معدن ظاهر وهو الذى يوصل إلى ما فيه من غير مؤنة كالماء والنفط والمومياء والياقوت والبرام والملح والكحل كان أحق به، لقوله صلى الله عليه وسلم: من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به، فإن أطال المقام فيه ففيه وجهان.

 

(أحدهما)

لا يمنع لانه سبق إليه

(والثانى)

يمنع لانه يصير كالمتحجر، فان سبق اثنان وضاق المكان وتشاحا، فان كانا يأخذان للتجارة، هايأ الامام بينهما

فان تشاحا في السبق أقرع بينهما، لانه لا مزية لاحدهما على الاخر فقدم بالقرعة وإن كانا يأخذان للحاجة ففيه ثلاثة أوجه.

أحدهما: يقرع بينهما لِأَنَّهُ لَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخِرِ.

وَالثَّانِي: يقسم بينهما لانه يمكن لهما القسمة فلا يؤخر حقه.

والثالث: يقدم الامام أحدهما لان للامام نظرا في ذلك فقدم من رأى تقديمه، وان كان من ذلك ما يلزم عليه مؤنة بأن يكون بقرب الساحل موضع إذا حصل فيه الماء حصل فيه ملح جاز أن يملك بالاحياء لانه يوصل إليه بالعمل والمؤنة فملك بالاحياء كالموات.

(الشرح) حديث (من سبق إلى ما لم يسبق إليه أحد فهو أحق به) هذا الحديث هو الذى سبق تخريجه فقد رواه أبى داود وصححه الضياء المقدسي عن أسمر بن مضرس.

وقال البغوي: لا أعلم بهذا الاسناد غير هذا الحديث، التحجر أحاطة الارض بالحجارة، أو بحائط صغير، وهو شروع في احياء الموات وليس احياء تاما، ولذلك فانه لا يملكها بذلك لان الملك لا يكون الا بالاحياء، وليس هذا

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 221)

________________________________________

إحياء ولكن يصير أحق الناس بِهِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به) فإن نقله إلى غيره صار الثاني بمنزلته لان صاحبه أقامه مقامه، وإن مات فوارثه أحق به لقول النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ تَرَكَ حقا أو مالا فهو لورثته من بعده) وهذا هو المذهب ومذهب أحمد رضى الله عنه وقال أبو إسحاق المروزى: إن حق التملك قد ثبت له فيصح له بيعه وقبض ثمنه، والمذهب أنه لا يصح له بيعه كالشفيع لا يصح له أن يبيع قبل أن يأخذ.

وإن ثبت له الاختصاص وفرق بين الاختصاص والملك.

والاختصاص لا يستلزم صحة البيع أو الهبة.

فإن سبق غيره فأحياه ففيه وجهان

(أحدهما)

أنه يملكه لان الاحياء يملك به والحجر لا يملك به فثبت الملك بما لم يملك به دون ما لم يملك به كمن سبق إلى معدن أو مشرعة ماء فجاء غيره فأزاله وأخذه

(والثانى)

لا يملكه، لانه مفهوم قوله عليه السلام (من أحيا أرضا ميتة ليست لاحد) وقوله (في حق غير مسلم فهى له) أنها لا تكون له إذا كان لمسلم فهو أحق، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم (من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به) وروى سعيد بن منصور في سننه أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ (مَنْ كانت له أرض يعنى من تحجر أرضا فعطلها ثلاث سنين فجاء قوم فعمروها فهم أحق بها) .

هذا يدل على أن من عمرها قبل ثلاث سنين لا يملكها، وهو مذهب أحمد رضى الله عنه، ومذهب الشافعي رضى الله عنه أن المدة في التحجر إذا طالت عرفا بلا عذر، فإن السلطان يقول للمتحجر: إما أن تحييه أو تتركه ليحييه غيرك، لانه ضيق على الناس في حق مشترك بينهم فلم يمكن من ذلك كما لو وقف في طريق ضيق أو مشرعة ماء أو معدن لا ينفع ولا يدع غيره ينتفع.

فإن سأل الامهال لعذر له أمهل الشهر والشهرين ونحو ذلك، فان أحياه غيره في مدة المهلة ففيه الوجهان اللذان ذكرناهما، وان انقضت المدة ولم يعمر فلغيره أن يعمره ويملكه، لان المدة قد ضربت له لينقطع حقه بمضيها وسواء أذن له

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 222)

________________________________________

السلطان في عمارتها أو لم يأذن له، وإن لم يكن للمتحجر عذر في ترك العمارة قيل له أما أن تعمر واما أن ترفع يدك، فان لم يعمرها كان لغيره عمارتها.

ومذهب أحمد في هذا كله نحو مذهبنا إلا في التوقيت بثلاث سنين لقول عمر رضى الله عنه لان عمر رضى الله عنه أخذ بالعرف في زمنه، وقد تكون السنين الثلاث معطلة لنفع يعود على المسلمين من إحياء الموات ونشر العمران مما يحقق

مقاصد الاسلام، ويدفع المسلمين إلى التسابق في استخراج خيرات الارض واستنباط معادنها وإصلاح تربتها وتأهيل مهجورها وتعمير خرابها، وذلك صلاح للمسلمين وقوة لهم وعدة على أعدائهم ومصادر أعمال لعاطليهم وتوسيع لرقعة مساكنهم، وما نشطت شركات الكفار وتسابقت تستعمر بلاد المسلمين إلا لتعطيلهم هذه الاحكام الشريفه، وتخلفوا عن غيرهم في مجالات التعمير والبناء وهجرهم لتعاليم النبي صلى الله عليه وسلم وصدق الله العظيم (ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى، قال: رب لم حشرتني أعمى، وقد كنت بصيرا؟ قال: كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى) .

(فرع)

حكم المعادن الظاهرة، قال الشافعي رضى الله عنه: ومثل هذا كل عين ظاهرة كنفط أو كبريت أو موميا (١) أو حجارة ظاهرة كموميا في غير ملك لاحد، فليس لاحد أن يتحجرها دون غيره، ولا لسلطان أن يمنعها لنفسه ولا لخاص من الناس، لان هذا كله ظاهر كالماء والكلا اه.

وهى التى يوصل إلى ما فيها من غير مؤنة ينتابها الناس وينتفعون بها كالملح والماء والكبريت والنفط وأحجار التلك الذى يتخذ مسحوقه لتبريد الجلد وإشباه ذاك لا تملك بالاحياء،

________________________________________

(١) الموميا لفظة يونانية الاصل وأصلها مومياى فخذفت الياء اختصارا وبقيت الالف مقصورة، وهو معدن يؤخذ منه دواء للعلاج كالتوتيا وكالجنزار من سلفات النحاس.

وقال الرملي: الموميا شئ يلقيه البحر في بعض السواحل فيجمد ويصير كالقار وقيل حجارة سود في اليمن، والبرام حجر يعمل منه قدور الطبخ.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 223)

________________________________________

ولا يجوز إقطاعها لاحد من الناس، ولا احتجازها دون المسلمين لما في ذلك من

التضييق عليهم وحرمانهم خيرات ظاهرة، ولان النبي صلى الله عليه وسلم أقطع أبيض بن حمال معدن الملح في مأرب باليمن، فلما قيل له: إنه بمنزلة الماء العد.

أمر برده، فأنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم الملح الكثير منزلة مشارع الماء وطرقات المسلمين.

قال ابن عقيل من الحنابلة: هذا من مواد الله وفيض جوده الذى لا غناء عنه فلو ملكه أحد بالاحتجاز ملك منعه فضاق على الناس، فان أخذ عنه الثمن أغلاه فخرج عن الموضع الذى وضعه الله من تعميم ذوى الحوائج من غير كلفة.

وهذا مذهب الشافعي وأحمد ولا نعلم لهما مخالفا من الائمة.

قال الرملي: وللاجماع على منع إقطاع مشارع الماء وهذا مثلها بجامع الحاجة العامة وأخذها بغير عمل، ويمتنع أيضا إقطاع وتحجر أرض لاخذ نحو حطبها وصيدها وبركة لاخذ سمكها، وظاهر كلام الاصحاب المنع من التملك والارتفاق ولكن الزركشي قيد المنع بالتملك.

ويأتى بعد هذا إذا اطال من سبق إليه المقام فيه ففيه وجهان.

أحدهما: لا يمنع لانه سبق إليه فهو أحق به، بشرط أن لا يمنع غيره ويأخذ قدر حاجته والثانى: يمنع لانه أطال المقام والاخذ، واحتمل أن يمنع غيره لانه يصير كالمتملك له أو المتحجر.

وإن استبق إليه اثنان وضاق المكان عنهما أقرع بينهما لانه لا مزية لاحدهما على صاحبه وهذا إذا كانا يأخذانه للتجارة، فإن كانا يأخذانه للحاجة ففيه ثلاثة أوجه، اما أن يقرع بينهما كالمتجرين، واما أن يقسم بينهما لامكان هذه القسمة وقد تساويا فيه كما لو تداعيا في أيديهما ولا بينة لاحدهما بها، واما أن يقدم الامام من يرى منهما لان له نظرا في ذلك، وهذه الاوجه كلها عند أحمد وأصحابه وأضاف القاضى وجها رابعا وهو أن الامام ينصب من يأخذ لهما

ويقسم بينهما.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 224)

________________________________________

ولو كان في الموات موضع يمكن أن يحدث فيه معدن ظاهر كموضع على شاطئ البحر إذا صار فيه ماء البحر وتبخر صار ملحا ملك بالاحياء وجاز للامام اقطاعه لشركات أو أفراد، لانه لا يضيق على المسلمين باحداثه، بل يحدث نفعه بفعله، فلم يمنع منه كبقية الموات، واحياء هذا يتم بتهيئته لما يصلح من حفر ترابه وتمهيده وفتح القنوات إليه تصب الماء فيه، لانه يتهيأ بهذا الانتفاع به،

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

وان سبق إلى معدن باطن وهو الذى لا يوصل إليه الا بالعمل والمؤنة كمعدن الذهب والفضة والحديد والرصاص والياقوت والفيروزج فوصل إلى نيله ملك ما أخذه لقوله صلى الله عليه وسلم (من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به) وهل يملك المعدن، فيه قولان

(أحدهما)

يملكه لانه موات لا يوصل إلى ما فيه الا بالعمل والانفاق، فملكه بالاحياء كموات الارض

(والثانى)

لا يملك وهو الصحيح، لان النبي صلى الله عليه وسلم علق الملك في الموات على الاحياء وهو العمارة، والعمل في المعدن حفر وتخريب فلا يملك به، ولانه يحتاج في كل جزء يأخذه إلى عمل فلا يملك منه الا ما أخذ، ويخالف موات الارض لانه إذا عمر انتفع به على الدوام من غير عمل مستأنف فملك به، فان قلنا انه يملك بالاحياء ملكه إلى القرار وملك مرافقه، فان تباعد انسان عن حريمه وحفر معدنا فوصل إلى العرق لم يمنع من أخذ ما فيه، لانه احياء في موات لا حق فيه لغيره، فان حفر ولم يصل إلى النيل صار أحق به كما قلنا فيمن تحجر في موات الارض.

فان قلنا: لا يملك كان كالمعدن الظاهر في ازالة يده إذا قال مقامه، وفى القسمة والتقديم بالقرعة وتقديم من يرى الامام تقديمه.

 

(فصل)

ويجوز الارتفاق بما بين العامر من الشوارع والرحاب والواسعة بالقعود للبيع والشراء، لِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ عَلَى اقرار الناس على ذلك من غير انكار، ولانه ارتفاق بمباح من غير اضرار فلم يمنع منه كالاجتياز، فان سبق إليه كان أحق به، لقوله صلى الله عليه وسلم (منى مناخ من سبق) وله أن يظلل بما لا ضرر به على المارة من بارية وثوب، لان الحاجة تدعو

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 225)

________________________________________

إلى ذلك، وان أراد أن يبنى دكة منع، لانه يضيق به الطريق، ويعثر به الضرير وبالليل البصير فلم يجز، وان قام وترك المناع لم يجز لغيره أن يقعد فيه، لان يد الاول لم تزل، وان نقل متاعه كان لغيره ان يقعد فيه لانه زالت يده، وان قعد وأطال ففيه وجهان:

(أحدهما)

يمنع لانه يصير كالمتملك، وتملكه لا يجوز

(والثانى)

يجوز لانه قد ثبت له اليد بالسبق إليه، وان سبق إليه اثنان ففيه وجهان

(أحدهما)

يقرع بينهما لِأَنَّهُ لَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخِرِ

(وَالثَّانِي)

يقدم الامام أحدهما، لان للامام النظر والاجتهاد، ولا تجئ القسمة لانها لا تملك فلم تقسم.

(الشرح) حديث من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق، سبق لنا تخريجه أما الاحكام فقد مضى أكثر مسائل هذين الفصلين، أما ما كان من الشوارع والطرقات والرحاب (الميادين) بين العمران فليس لطحد احياؤه، سواء كان واسعا أو ضيقا، وسوء ضيق على الناس أو لم يضيق، لان ذلك يشترك فيه المسلمون وتتعلق به مصلحتهم فاشبه مساجدهم، ويجوز الارتفاق بالقعود في الواسع من ذلك للبيع والشراء على وجه لا يضيق على أحد ولا يضر بالمارة لِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ عَلَى اقرار الناس على ذلك من غير انكار، ولانه

ارتفاق مباح من غير اضرار فلم يمنع منه كالاجتياز والعبور.

وقال أحمد في السابق إلى دكاكين السوق غدوة فهو له إلى الليل، وكان هذا في سوق المدينة فيما مضى، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (منى مناخ من سبق) وله أن يظلل على نفسه بما لا ضرر فيه من بارية ومظلة وكساء ونحوه لان الحاجة تدعو إليه، فإذا جرى العرف بمنعه الا بإذن السلطان لتنظيم صفوفهم وحصرهم فيما لا يخل بحرمة الطريق ومخاطر الآلات المستحدثه للركوب كالمترو والتروللى والترام والباس، والسيارات العام منها والخاص، وللسلطان أن يقيد المطلق أحيانا إذا اقتضت ذلك مصلحة أرجح من الاطلاق وجميع المدن المتحضرة في العالم اليوم لا تسمح بإشغال الطريق الا في حدود المترو ونحوه، وبترخيص يصدر

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 226)

________________________________________

من وزارة الاسكان والمرافق.

ولو تركت الطرقات هكذا لكل من يريد أن ينصب فيها تابوتا لبضاعته في عرض الطريق لضاقت الطرقات والشوارع على المارة والمجتازين، وربما ادعى أحدهم ملكية المكان الذى يشغله على أن الفقهاء لم يرتبوا حقا للتملك لمن يجلس في الطرقات للبيع والشراء فقالوا: والسابق أحق به ما دام فيه، فإن قام وترك متاعه فيه لم يجز لغيره إزالته لان يد الاول عليه، وإن نقل متاعه كان لغيره أن يقعد فيه، لان يده قد زالت وإن قعد وأطال منع من ذلك لانه يصير كالمتملك، ويختص بنفع يساويه غيره في استحقاقه، ويحتمل أن لا يزال.

وهذا وجه آخر لانه سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم.

وان استبق إثنان إليه احتمل أن يقرع بينهما، واحتمل أن يقدم الامام من يرى منهما.

وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ما كان ينبغى لنا أن نشترى من هؤلاء الذين يبيعون على الطريق.

قلت: إن الامام أحمد رضى الله عنه يرى في وقوف مثله على قارعة الطريق للشراء ضربا من التبذل المخل بأهل الوقار والنصون: لان هؤلاء قلما يراعون حقوق الطريق، فقد روى الشيخان عَنْ أَبِي سَعِيدِ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله عليه وسلم: إياكم والجلوس في الطرقات، فقالوا يا رسول الله مالنا من مجالسنا بد نتحدث فيها، فقال: إذا أبيتم إلا الجلوس فأعطوا الطريق حقها.

قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: غض البصر وكف الاذى ورد السلام والامر بالمعروف والنهى عن المنكر) هذا والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 227)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله تعالى:

 

‌باب الإقطاع والحمى

 

يجوز للامام أن يقطع موات الارض لمن يملكه بالاحياء لما روى علقمة بن وائل عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقطعه أرضا فارسل معه معاوية أن أعطه إياها، أو قال أعطاها إياه.

وروى ابْنُ عُمَرَ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أقطع الزبير حضر فرسه فأجرى فرسه حتى قام ورمى بسوطه، فقال أعطوه من حيث وقع السوط.

وروى أن أبا بكر أقطع الزبير وأقطع عمر عليا وأقطع عثمان رضى الله عنهم خَمْسَةً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: الزبير وسعدا وابن مسعود وخبابا وأسامة بن زيد رضى الله عنهم.

ومن أقطعه الامام شيئا من ذلك صار أحق به.

ويصير كالمتحجر في جميع ما ذكرناه، لان بإقطاع الامام صار أحق به كالمتحجر، فكان حكمه حكم المتحجر، ولا يقطع من ذلك إلا ما يقدر على إحيائه لانه إذا أعطاه أكثر من ذلك دخل الضرر على المسلمين من غير فائدة.

 

(فصل)

وأما المعادن فانها إن كانت من المعادن الظاهرة لم يجز اقطاعها لما روى ثابت بن سعيد عن أبيه عن جده أبيض بن حمال أنه استقطع النبي صلى الله عليه وسلم ملح المأرب فأقطعه إياه، ثم ان الاقرع بن حابس قال: يا رسول الله انى قد وردت الملح في الجاهلية، وهو بأرض ليس بها ملح، ومن ورده أخذه، وهو مثل الماء العد بأرض، فاستقال أبيض بن حمال فقال أبيض قد أقلتك فيه على أن تجعله منى صدقة، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو منك صدقة وهو مثل الماء العدو من ورده أخذه.

وان كانت من المعادن الباطنة فإن قلنا انها تملك بالاحياء جاز إقطاعه لانه موات يجوز أن يملك بالاحياء فجاز اقطاعه كموات الارض، وان قلنا لا تملك بالاحياء فهل يجوز اقطاعه، فيه قولان.

 

(أحدهما)

يجوز إقطاعه لانه يفتقر الانتفاع به إلى المؤن فجاز اقطاعه

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 228)

________________________________________

كموت الارض.

والثانى لا يجوز لانه معدن لا يملك بالاحياء فلم يجز إقطاعه كالمعادن الظاهرة، فإذا قلنا يجوز إقطاعه لم يجز إلا ما يقوم به لما ذكرناه في إقطاع الموات.

 

(فصل)

ويجوز إقطاع ما بين العامر من الرحاب ومقاعد الاسواق للارتفاق، فمن أقطع شيئا من ذلك صار أحق بالموضع نقل متاعه أو لم ينقل، لان للامام النظر والاجتهاد، فإذا أقطعه ثبتت يده عليه بالاقطاع فلم يكن لغيره أن يقعد فيه.

(الشَّرْحُ) حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وفيه ضعف لان في إسناده عبد الله ابن عُمَرَ بْنِ حَفْصِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بن الخطاب الملقب بالعمرى المكبر.

قال ابن حجر في التقريب: ضعيف عابد.

وقال الصنعانى: فيه مقال.

وقال الذهبي:

صدوق في حفظه شئ.

وروى عن ابن معين أنه قال: ليس به بأس، يكتب حديثه، وقال الدارمي قلت لابن معين: كيف حاله في نافع؟ قال: صالح ثقة.

وقال الفلاس: كان يحيى القطان لا يحدث عنه.

وقال أحمد بن حنبل: صالح لا بأس به، وقال النسائي وغيره ليس بالقوى، وقال ابن عدى هو في نفسه صدوق.

وقال أحمد: كان عبد الله رجلا صالحا، كان يسأل عن الحديث في حياة أخيه عبيد الله فيقول: أما وأبو عثمان حى فلا.

وقال ابن المدينى: عبد الله ضعيف.

وقال ابن حبان: كان ممن غلب عليه الصلاح والعبادة حتى غفل عن حفظ الاخبار وجودة الحفظ للآثار، فلما فحش خطؤه استحق الترك وقد أخرج الشيخان عن أسماء بنت أبى بكر في حديث ذكرته قالت (كنت أنقل النوى من أرض الزبير التى أقطعه رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رأسي وهو منى على ثلثى فرسخ) وقوله: حضر فرسه، أي قدر ارتفاع الفرس في عدوه، وفى قولها (من أرض الزبير) يحتمل أن تكون هذه الارض هي التى وردت في حديث ابن عمر وفى البخاري في آخر كتاب الخمس من حديث أسماء أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 229)

________________________________________

أقطع الزبير أرضا من أموال بنى النضير.

وفى سنن أبى داود عن أسماء (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقطع الزبير نخلا) والاحاديث تدل على أنه يجوز للنبى صلى الله عليه وسلم ومن بعده من الائمة إقطاع الاراضي وتخصيص بعض دون بعض لمن يأنس فيهم القدرة على القيام عليها وإحيائها واستنباط منافعها.

وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقطع صخر بن أبى العيلة البجلى الاحمسي ماء لبنى سليم لما هربوا عن الاسلام وتركوا ذلك، ثم رده إليهم في قصة طويلة مذكورة في

سنن أبى داود.

ومنها ما أخرجه أبو داود عن سبرة بن معبد الجهنى (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ في موضع المسجد تحت دومة فأقام ثلاثا ثم خرج إلى تبوك وإن جهينة لحقوه بالرحبة فقال لهم: من أهل ذى المروة؟ فقالوا: بنو رفاعة من جهينة، فقال قد أقطعتها لبنى رفاعة فاقتسموها، فمنهم من باع ومنهم من أمسك فعمل ومنها عند أبى داود عن قيلة بنت مخرمة قالت: قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتقدم صاحبي يعنى حريت بن حسان وافد بكر بن وائل، فبايعه على الاسلام عليه وعلى قومه، ثم قال يا رسول الله: اكتب بيننا وبين بنى تميم بالدهناء أن لا يجاوزها الينا منهم أحد إلا مسافر أو مجاور، فقال اكتب له يا غلام بالدهناء فلما رأيته قد أمر له بها شخص بى وهى وطنى ودارى، فقلت: يا رسول الله إنه لم يسألك السوية من الارض إذ سألك، انما هذه الدهناء عندك مقيد الجمل ومرعى الابل، ونساء بنى تميم وأبناؤها وراء ذلك، فقال أمسك يا غلام صدقت المسكينة، المسلم أخو المسلم يسعهما الماء والشجر ويتعاونان على الفتان) يعنى الشيطان، وأخرجه أيضا الترمذي مختصرا وقال الشافعي رضى الله عنه: والموات الذى للسلطان أن يقطعه من يعمره خاصة وأن يحمى منه ما رأى أن يحميه عاما لمنافع المسلمين، والذى عرفنا نصا ودلالة فيما حمى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حمى البقيع، وهو بلد ليس بالواسع الرى إذا حمى ضاقت البلاد على أهل المواشى وأضربهم

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 230)

________________________________________

ويشتمل هذا الباب على ثلاثة أحكام تختص بالموات وهى الاحياء والاقطاع والحمى.

فأما الاحياء فقد ذكرنا جوازه ومن يجوز له.

وأما الاقطاع وهو موضوع الفصل، فإنه لا يصح الا في موات لم يستقر عليه ملك وعلى هذا كان

قطائع النبي صلى الله عليه وسلم حين أقطع الزبير ركض فرسه من موات البقيع فأجراه ثم رمى بسوطه رغبة في الزيادة فقال: اعطوه منتهى سوطه، وأما ورود بعض الاخبار فيما أعطاه للزبير من أرض بنى النضير أو من نخل المدينة فقد أوردها البخاري في آخر كتاب الخمس ومعى هذا أنها عنائم زالت عنها يد الكفار وهذه قضية أخرى غير ما أقطعه من أرض البقيع مواتا لاحيائه، وهكذا كانت قطائع رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا ما كان من شأن تميم الدارى وأبى ثعلبة الخشنى، فإن تميما سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يقطعه عبون البلد الذى كان منه بالشام قبل فتحه، وأبو ثعلبة سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يقطعه أرضا كانت بيد الروم فأعجبه الذى قال: ألا تسمعون ما يقول؟ فقال والذى بعثك بالحق لتفتحن عليك، فكتب له كتابا.

فاحتمل ذلك من فعله أن يكون أقطعهما ذلك اقطاع تقليد لا اقطاع تمليك، أو يجوز أن يكونا مخصوصين بذلك لتعلقه بتصديق أخبار وتحقيق احجاز، وأما الائمة بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فان أبا بكر وعمر رضى الله عنهما لم يقطعا الا مواتا لم يجر عليه ملك، واصطفى عمر رضى الله عنه من أرض السواد أموال كسرى وأهل بيته وما هرب عنه أربابه أو هلكوا فكان يبلغ تسعة آلاف ألف فكان يصرفها في مصالح المسلمين ولم يقطع شيئا، ثم ان عثمان رضى الله عنه أقطعها لانه رأى اقطاعها أوفى لغلتها من تعطيلها، وشرط على من أقطعها أن يأخذ منه الغنى، فكان ذلك منه اقطاع اجازة لا اقطاع تمليلك، وقد توفرت عليه حتى بلغت خمسين ألف ألف، ثم تناقلها الخلفاء بعده فلما كان عام الجماجم سنة اثنين وثمانين وفتنة ابن الاشعث أحرق الديوان وأخذ كل قوم ما يليهم.

فإذا كان اقطاع الامام إبما يختص بالموات دون العامر فالذي يؤثره اقطاع

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 231)

________________________________________

الاما إنما يختص بالموات دون العامر، فالذي يؤثره إقطاع الامام أن يكون المقطع أولى الناس بإحيائه ممن لم يسبق إلى إحيائه لمكان اذنه وفصل اجتهاده، فلو بادر فأحياها غير المقطع فهى ملك للمحيى دون المقطع.

وقال أبو حنيفة: ان أحياها قبل مضى ثلاث سنوات من وقت الاقطاع فهى للمقطع، وان أحياها بعد ثلاث سنين فهى للمحيى.

وقال مالك بن أنس: ان أحياها عالما بالاقطاع فهى للمقطع، وان أحياها غير عالم بالاقطاع خير المقطع بين أن يعطى المحيى نفقة عمارته وتكون الارض له، وبين أن يترك عليه الارض ويأخذ قيمتها قبل العمارة استدلالا برواية معمر عن أبى نجيح عن عمرو بن سعيب عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أقطع أقواما فجاء آخرون في عهد عمر فأحيوها فقال لهم عمر رضى الله عنه حين فزعوا إليه: تركتموهم يعملون ويأكلون ثم جئتم تغيرون عليهم لولا أنها قطيعة رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أعطيتكم شيئا، ثم قومها عامرة وقومها غير عامرة، ثم قال لاهل الاصل: ان شئتم فردوا عليهم ما بين ذلك وخذوا أرضكم، وان شئتم ردوا عليكم ثمن أرضكم ثم هي لهم.

ودليلنا على أنها ملك المحيى بكل حال دون المقطع، قوله صلى الله عليه وسلم (من أحيا أرضا مواتا فهى له) ولان الاقطاع لا يوجب التمليك، والاحياء يوجب التمليك، فإذا اجتمعا كان ما أو وجب التمليك أقوى حكما مما لم يوجبه.

فأما حديث عمر رضى الله عنه فقد قال في قضيته: لولا أنها قطيعة رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أعطيتكم شيئا، فدل على أن من رأيه أنها للمحيى، وانما عدل عن هذا الرأى لما توجه إليها من اقطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكره أن يبطله، فاستنزل الخصمين إلى ما قضى به مراضاة لا جبرا.

فان كان المقطع قد حجرها وجمع ترابها حتى تميزت عن غيرها فجاء غيره

فعمرها وحرثها نظر، فان كان المقطع مقيما على عمارتها حتى تغلب عليها الثاني فعمرها فهى للاول ويكون الثاني متطوعا بعمارته، وان كان المقطع قد ترك عمارتها فعمرها الثاني فهى للثاني دون الاول، وهكذا لو كان الاول قد بدأ بالعمل من غير اقطاع فهذا حكم الاقطاع.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 232)

________________________________________

(فرع)

مضى ما سقناه من حديث أبيض بن حمال الذى وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم استقطعه الملح ثم انتزعه منه لما علم أنه كالماء العد، وفى إقطاع المعادن روى أحمد وأبو داود عن أبن عباس قال (أقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم بلال بن الحرث المزني معادن القبيلة جلسيها وغوريها، وحيث يصلح الزرع من قدس ولم يعطه حق مسلم) وفى إسناده أبى أويس عبد الله بن عبد الله أخرج له مسلم في الشواهد وضعفه غير واحد.

قال أبو عمر بن عبد البر: هو غريب من حديث ابن عباس ليس يرويه عن أبى أويس غير ثور.

وحديث عمرو بن عوف رواه أحمد وأبو داود أيضا بمعنى حديث ابن عباس، وفى إسناده ابن ابنه كثير بن عبد الله بن عمرو ابن عوف عن أبيه عن جده.

والاحاديث واردة في جواز أن يقطع الامام من يأنس منه صلاحا مكانا فيه معادن غير ظاهرة حتى يعالج أمرها بالعمل والتنقيب والبحث.

ومن ثم فقد انتزع ما أقطعه من أرض مأرب للابيض بن حمال عندما علم أن الملح فيها كالماء الجارى ويشترط في إقطاع المعادن أن يكون في موات لا يختص به أحد.

وهذا أمر متفق عليه.

وقال في فتح الباري: حكى عياض أن الاقطاع تسويع الامام من مال الله شيئا لمن أهلا لذلك، وأكثر ما يستعمل في الارض وهو أن يخرج منها

لمن يراه يحوزه، إما بأن يملكه إياه فيعمره، وإما بأن يجعل له غلته مدة.

قال السبكى: والثانى هو الذى يسمى في زماننا هذا إقطاعا ولم أر أحدا من أصحابنا ذكره.

وتخريجه على طريق فقهى مشكل.

قال والذى يظهر أنه يحصل للمقطع اختصاص كاختصاص المتحجر ولكنه لا يملك الرقبة، وبهذا جزم الطبري، وادعى الاذرعى نفى الخلاف في جواز تخصيص الامام بعض الجند بغلة أرضه إذا كان مستحقا لذلك.

هكذا في الفتح وحكى صاحب الفتح أيضا عن ابن التين أنه إنما يسمى إقطاعا إذا كان من أرض أو عقار، وانما يقطع من الفئ ولا يقطع من حق مسلم ولا معاهد،

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 233)

________________________________________

قال: وقد يكون الاقطاع تمليكا وغير تمليك، وعلى الثاني يحمل إقطاعه صلى الله عليه وسلم.

وذكر الخطابى وجها آخر فقال: إنما يحمى من الاراك ما بعد عن حضرة العمارة فلا تبلغه الابل الرائحة إذا أرسلت في الرعى اه إذا ثبت هذا فإنه لا يجوز للامام أن يقطع ما لا يجوز إحياؤه من المعادن الظاهرة لان النبي صلى الله عليه وسلم استعاد من أبيض بن حمال ما أقطعه، لانه وإن كان فيه توسعة على المقطع له إلا أن فيه تضييقا على المسلمين فإذا رأى الامام أن مكانا نائيا عن العمران فيه من المعادن والمواد الاولية ما يدخل في منافع الناس، وهو من المعادن الظاهرة، إلا أن بعد مكانها عن العمران يجعلها في حكم المعادن الباطنة، لان حملها إلى حيث المنتفعون بها عمل يفوق أحيانا مؤنة التنقيب والحفر.

وقد تكون المعادن الظاهرة هي في حقيقتها مركبة من مواد مختلفة يحتاج فصلها بعضها عن بعض إلى مصانع ومعامل كالفوسفات والمنجنيز، وثاني أكسيد الكالسيوم الذى يستخرج من الجير وهو يمثل نسبة عالية في الجير تبلغ النصف

منه قدرا ووزنا، ومع ذلك فإن الجير مع احتوائه على ثانى أكسيد الكالسيوم يباع الطن منه بقروش معدودة في حين ان ثانى أكسيد الكالسيوم يباع بالجرام والسببت في ذلك هو نفقات استخلاصه ومؤنة تميزه ومن ثم يجوز للامام أن يقطع المناجم والمحاجر المحتوية على الخامات الظاهرة إذا قصد تصنيعها واستخلاص المواد النافعة الثمينة منها، وذلك يساوى التنقيب عن المعادن الباطنة.

(فرع)

مضى كلامنا في أمر كان يده الفقهاء من الاقطاع ويعده المختصون في زاماننا هذا باسم الترخيص، وهو إذن السلطان، فإذا إراد أحد التجار أن يشغل الطريق أمامه استأذن الحاكم فمنحه رخصة يتحدد فيها المساحة المأذون في شغلها نظير مكوس يؤديها توقف على تعبيد الطريق وتنظيفها وإنارة الشوارع وصيانتها من الروائح الكريهة والمزابل المؤذية وهى من الامور التى تناط باجتهاد السلطان وبصره بالامور ونظره في صلاح رعيته، والله اعلم بالصواب

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 234)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

ولا يجوز لاحد أن يحمى مواتا ليمنع الاحياء ورعى ما فيه من الكلا.

لما روى الصعب بن جثامة قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول (لا حمى إلا لله ولرسوله) فأما الرسول عليه السلام فإنه كان يجوز له أن يحمى لنفسه وللمسلمين، فأما لنفسه فإنه ما حمى ولكنه حمى للمسلمين.

والدليل عليه ما روى ابْنِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم حمى النقيع لخيل المسلمين) وأما غيره من الائمة فلا يجوز أن يحمى لنفسه للخبر.

وهل يجوز أن حمى لخيل المجاهدين، ونعم الجزية، وإبل الصدقة وماشية من يضعف عن الابعاد في طلب النجعة؟ فيه قولان:

أحدهما لا يجوز للخبر.

والثانى يجوز لما روى عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: أتى أعرابي من أهل نجد عمر فقال: يا أمير المؤمنين بلادنا قاتلنا عليها في الجاهلية وأسلمنا عليها في الاسلام، فعلام تحميها؟ فأطرق عمر رضى الله عنه وجعل ينفخ ويفتل شاربه وكان إذا كره أمرا فتل شاربه ونفخ فلما رأى الاعرابي ما به جعل يردد ذلك: فقال عمر: المال مال الله.

والعباد عباد الله، فلولا ما أحمل عليه في سبيل الله ما حميت من الارض شبرا في شبر) قال مالك: نبئت أنه كان يحمل في كل عام أربعين ألفا من الظهر، وقال مرة من الخيل.

وروى زيد بن أسلم عن أبيه (أن عمر رضى الله عنه استعمل مولى له يدعى هنيا على الحمى وقال له، ياهنى اضمم جناحل عن الناس، واتق دعوة المظلوم، فان دعوة المظلوم مجابة.

وأدخل رب الصريمة والغنيمة.

واياك ونعم ابن عوف.

وإياك ونعم ابن عفان، فإنهما ان تهلك ما شيتهما يرجعا إلى نخل وزرع وان رب الصريمة ورب الغنيمة ان تهلك ماشيتهما فيأتياني فيقولا: يا أمير المؤمنين، يا أمير المؤمنين، أفتاركهم أنا لا أبا لك، ان الماء والكلا أيسر عندي من الذهب والورق، والذى نفسي بيده لولا المال الذى أحمل عليه في سبيل الله

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 235)

________________________________________

ما حميت عليهم من بلادهم شبرا، فإن حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضا لحاجة والحاجة باقية لم يجز إحياؤها.

وإن زالت الحاجة ففيه وجهان:

(أحدهما)

يجوز لانه زال السبب.

 

(والثانى)

لا يجوز لان ما حكم بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نص، فلا يجوز نقضه بالاجتهاد، وإن حماه إمام غيره وقلناه: إنه يصح حماه فأحياه رجل.

ففيه قولان

(أحدهما)

لا يملكه كما لا يملك ما حَمَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

 

(وَالثَّانِي)

يملك لان حمى الامام اجتهاد، وملك الارض بالاحياء نص، والنص لا ينقض بالاجتهاد (الشرح) حديث الصعب بن جثامة رواه أحمد وأبو داود والبخاري والنسائي ولفظ النسائي هو الذى ساقه المصنف، والفظ أحمد وأبى دَاوُد (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حمى النقيع وقال (لا حمى إلا لله ولرسوله) وتتمة رواية البخاري هكذا: وقال (بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع وأن عمر حمى شرف والربذة) وأخرج الحديث أيضا الحاكم وقال البيهقى: ان قوله (حمى النقيع) من قول الزهري.

وقد روى الحديث النسائي فذكر الموصول فقط وهو قوله (لا حمى إلا لله ورسوله) ويؤيد ما قاله البيهقى أن أبا داود أخرجه من حديث ابن وهب عن يونس عن الزهري فذكره وقال في آخره قال ابن شهاب: وبلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع.

قال بعض المحدثين: وقد وهم الحاكم فزعم أن حديث لا حمى إلا لله متفق عليه.

وهو من أفراد البخاري، وتبع الحاكم في وهمه أبو الفتح القشيرى في الالمام وابن الرفعة في المطلب.

والصعب بن جثامة بتشديد المثلثة مع فتح الجيم اللبثى، صحابي مات في خلافة أبى بكر على ما قيل، والاصح أنه عاش إلى خلافة عثمان رضى الله عنه.

وحديث ابن عمر رواه أحمد وابن حبان.

والنقيع بالنون مكان معروف.

وحكى الخطابى أن بعضهم صحفه فقال بالموحدة، وهو على قدر عشرين فرسخا من المدينة ومساحته ميل في ثمانية أميال، أفاده ابن وهب في موطئه، وأهل

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 236)

________________________________________

النقيع كل موضع فيه الماء، وهذا النقيع المذكور غير نقيع الخضمات الذى جمع فيه أسعد بن زرارة بالمدينة على المشهور.

وقال ابن الجوزى: إن

بعضهم قال: إنهما واحد والاول أصح وأثر عمر سقناه في الفصل قبله في الرد على مالك، وأما خبر تولية هنئ مولى عمر فقد رواه البخاري عن أسلم مولى عمر وأخرجه عن الدراوردى عن زيد بن أسلم عن أبيه بلفظ المصنف.

وأخرجه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري مرسلا أما الاحكام فإن الحمى هو المنع من إحياء الموات ليتوفر فيه الكلا فترعاه المواشى، لان الحمى في كلامهم هو المنع، والحمى على ثلاثة أنواع: حمى حَمَاهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ روى أنه وقف على جبل يعمل فصلى عليه ثم قال: هذا حماى وأشار إلى النقيع وهو قدر ميل في ثمانية.

وقال الماوردى ستة أميال فحماه لخيل المسلمين.

ولان اجتهاد رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أمته أمضى، وقضاؤه فيهم أنفذ، وكان ما حماه لمصالحهم أولى أن يكون مقرا من إحيائهم وعمارتهم.

فأما حمى الامام بعده فإن أراد أن يحمى لنفسه أو لاهله أو للاغنياء خصوصا لم يجز، وكان ما حماه مباحا لمن أحياه.

وان أراد أن يحمى لخيل المجاهدين ونعم الجزية والصدقة ومواشي الفقراء نظر، فإن كان الحمى يضر بكافة المسلمين فقرائهم وأغنيائهم لضيق الكلا عليهم فحمى أكثر مواتهم لم يجز.

وان كان لا يضر بهم لانه قليل من كثير يكتفى المسلمون بما بقى من مواتهم ففيه قولان

(أحدهما)

لا يجوز أن يحمى لرواية مجاهد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: المسلمون شركاء في ثلاثة.

الماء والغار والكلا وثمنه حرام، وسيأتى تخريجه في باب حكم المياه، وحديث الصعب بن جثامة الذى سبق.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 237)

________________________________________

(والقول الثاني) يجوز له أن يحيى لما فيه من صلاح المسلمين، ولما روى أن أبا بكر رضى عنه حميى الربذة لابل الصدقة واستعمل عليها مولاه أبا أسامة وتولى عليه قطبة بن مالك الثعلبي رضى الله عنه وحمى عمر رضى الله عنه الشرف فحمى منه نحو ما حمى أبو بكر بالربذة، وولى عليه مولى له يقال له: هنئ وقال: يا هنى اضمم جناحك على المسلمين واتق دعوة المظلوم فإن دعوه المظلوم مستجابة وأدخل رب الصريمة وهى بالتصغير القطعة من الابل نحو الثلاثين أو ما بين العشرة إلى الاربعين ورب الغنيمة ما بين الاربعين إلى المائة من الشاء والغنم وتفرد به راع واحد وإياى ونعم ابن عوف يعنى عبد الرحمن ونعم ابن عفان يعنى عثمان فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعان إلى نخل وزرع، ورب الصريمة ورب الغنيمة إن تهلك ماشيتهما يأتيني ببنيه يقول: يا أمير المؤمنين، أفتاركهم أنا لا أبالك، فالماء والكلا أيسر من الذهب والورق وعمر بهذا يلزم نفسه ويلزم أمراء المسلمين بعده بأن عليهم عوض ما هلك من أموال الرعية بسبب تقصيرهم في حفظ أموالهم وعنده أن توفير المرعى والكلا أيسر من توفير الذهب والفضة يبذلهما في تعويض ما تلف على رب الصريمة والغنيمة ثم يقول: وايم الله إنهم ليرون أنى قد ظلمتهم، إنها لبلادهم قاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الاسلام.

وهكذا يعطى تقويما صحيحا وتقديرا سليما لمقومات الوطنية عند الشعب وهم الرعية ومقومات الديموقراطية والعدل عند الحاكم حين يسمح لرعيته أن يتهموه بالظلم إذا قصرت الدولة في بذل الخدمات وتأمين سلامة الرعية وهو حمى من أرضهم جزءا للمرعى فيجب ألا يسمح للاغنياء والقادرين أن يزاحموهم في مراعيهم لان لهم من بساتينهم ومزارعهم غنية عن مزاحمة الفقراء.

والحمى فيه نفع للفقراء والاغنياء، أما الفقراء فلانه مرعى صدقاتهم، وأما الاغنياء فلخيل المجاهدين عنهم، وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا حمى إلا الله) فمعناه لا حمى إلا أن يقصد به وجه الله، كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 238)

________________________________________

فيسلم فيما للفقراء المسلمين ومصالحهم فخالف فيه فعل الجاهلية فإن الذى في الجاهلية كان إذا استولى على بلد أوتى بكلب فجعله على جبل أو على نشز من الارض واستعداه فحيث انتهى عواؤه حماه لنفسه، فلا يرعى فيه غيره ويشارك الناس فيما سواه، وهكذا كان كليب بن وائل إذا أعجبته روضة ألقى فيها كلبا وحمى إلى منتهى عوائه وفيه يقول معبد بن شعبة الضبى: كفعل كليب أنبئت أنه يرى

* يخطط أكلاء المياه ويمنع وقال العباس بن مرداس: كما كان يبغيها كليب

* لظلمه من العز حتى صاح وهو قتيلها على وائل إذ يترك الكلب هائجا

* وإذ يمنع الاكلاء منها حلولها وأما حمى الواحد من عوام المسلمين فمحظور وحماه مباح، ان حمى لنفسه فقد تحكم وتعدى بمنعه، وان حمى للمسلمين فليس من أهل الولاية عليهم ولا ممن يؤثر اجتهاده لهم، وقد أخرج الشيخان عن أبى هريرة رضى الله عنه مرفوعا (لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلا) .

فلو أن رجلا من عوام المسلمين حمى مواتا ومنع الناس منه زمانا رعاه وحده، ثم ظهر الامام عليه ورفع يده عنه لم يغرمه ما رعاه لانه ليس بمالك، ولا يعزره لانه أحد مستحقيه ولكن ينهاه عن مثله من التعدي.

فأما أمير البلد ووالى الاقليم إذا رأى أن يحمى لمصالح المسلمين كالامام فليس له ذلك الا بإذن الامام، لان اجتهاد الامام أعم.

ولكن لو أن والى الصدقات اجتمعت معه ماشية الصدقة، وقل المرعى لها وخاف عليها التلف ان لم يحم الموات لها: فإن منع الامام من الحمى كان والى الصدقات أولى، وان جوز الامام الحمى ففى جوازه لو إلى الصدقات عندما ذكرناه من حدوث الضرورة به وجهان.

 

(أحدهما)

يجوز كما يجوز عند الضرورة أن يبيع ما بيده من مال الصدقة،

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 239)

________________________________________

وإن كان بيعها لا يجوز من غير الضرورة، فعلى هذا يتقدر الحمى بزمان الضرورة، ولا يستديم بخلاف حمى الامام.

(والوجه الثاني) لا يجوز أن يحمى لانه ليس له أن يرفع الضرر عن أموال الفقراء بإدخال الضرر على الاغنياء، ويكون الضرر إن كان بالفريقين معا، وهذا أصح الوجهين كما أفاده الماوردى في الحاوى الكبير.

(فرع)

إذا حمى الامام مواتا وصححناه وقلنا: انه كحمى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحياه رجل من عامة المسلمين فهل يملك بإحيائه أم لا؟ قال الماوردى تبعا للشيخ أبى اسحاق: فيه قولان.

أحدهما: لا يملك المحي ما أحياه من حمى الامام كما لا يملك حمى النبي صلى الله عليه وسلم لان كليهما حمى محرم.

والقول الثاني: يملك بالاحياء، وان منع منه لان حمى الامام اجتهاد وملك الموات بالاحياء نص، والنص أثبت حكما من الاجتهاد وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: باب حكم المياه الماء اثنان، مباح وغير مباح، فأما غير المباح فهو ما ينبع في أرض مملوكة، فصاحب الارض أحق به من غيره، لانه على المنصوص: يملكه، وعلى قول أبى إسحاق: لا يملكه، إلا أنه لا يجوز لغيره أن يدخل إلى ملكه بغير إذنه،

فكان أحق به، وإن فضل عن حاجته واحتاج إليه الماشية للكلا لزمه بدله من غير عوض.

وقال أبو عبيد بن حرب: لا يلزمه بذله كما لا يلزمه بذل الكلا للماشية ولا بذل الدلو والحبل ليستقى به الماء للماشية، والمذهب الاول لما روى إياس بن عمرو (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عن بيع فضل الماء) .

وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (مَنْ منع فضل الماء ليمنع به فضل الكلا منعه الله فضل رحمته) ويخالف الكلا فإنه لا يستخلف عقيب أخذه، وربما احتاج إليه لماشيته قبل أن يستخلف فتهلك ماشيته

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 240)

________________________________________

والماء يستخلف عقيب أخذه وما ينقص من الدلو والحبل لا يستخلف، فيستضر والضرر لا يزال بالضرر، ولا يلزمه بذل فضل الماء للزرع، لان الزرع لا حرمة له في نفسه، والماشية لها حرمة في نفسها، ولهذا لو كان الزرع له لم يلزمه سقيه، ولو كانت الماشية له لزمه سقيها، وان لم يفضل الماء عن حاجته لم يلزمه بذله، لان النبي صلى الله عليه وسلم علق الوعيد على منع الفضل.

ولان ما لا يفضل عن حاجته يستضر ببذله، والضرر لا يزال بالضرر.

(الشرح) حديث اياس بن عمرو عند أهل السنن وصححه الترمذي.

وقال أبو الفتح القشيرى: هو على شرط الشيخين وقد رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر مرفوعا.

أما حديث أبى هريرة فقد وجدته عند الشيخين بلفظ (لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلا) وللبخاري (لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به فضل الكلا) وعند أحمد من حديث أبى هريرة أيضا (ولا يمنع فضل ماء بعد أن يستغنى عنه) أما اللفظ الذى ساقه المصنف معزوا إلى أبى هريرة فإنى وجدته عند أحمد عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ ولفظه (من منع فضل مائه، أو فضل كلئه.

منعه الله عز وجل فضله يوم القيامة) وفى اسناده محمد بن راشد الخزاعى

وهو ثقة وقد ضعفه.

قال ابن حجر: صدوق يهم، ورمى بالقدر، ورواه الطبراني في الصغير عن عمرو بن شعيب ورواه في الكبير من حديث وائلة بلفظ آخر واسناده ضعيف والاحاديث يشهد بعضها لبعض ويشهد لها جميعا حديث أبى هريرة عند الشيخين وحديث عائشة عند أحمد وابن ماجه (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ يمنع نفع البئر) وحديث جابر عند مسلم (نهى عن بيع فضل الماء) وفى مسند عبد الله بن أحمد عن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى بين أهل المدينة في النخل أن لا يمنع نقع بئر وقضى بين أهل البادية أن لا يمنع فضل ماء ليمنع به الكلا) والنقع الماء الفاضل فيها عن حاجة صاحبها، وقوله (فضل الماء) المراد به ما زاد على الحاجة ويؤيد ذلك ما أخرجه أحمد من حديث أبى هريرة بلفظ (ولا يمنع ماء بعد أن يستغنى عنه) .

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 241)

________________________________________

قال ابن حجر في فتح الباري: وهو محمول عند الجمهور على ماء البئر المحفورة في الارض المملوكة.

وكذلك في الموات إذا كان لقصد التملك، والصحيح عند الشافعية ونص عليه في القديم وحرملة أن الحافر يملك ماءها.

وأما البئر المحفورة في الموات لقصد الارتفاق لا التملك فإن الحافر لا يملك ماءها بل يكون أحق به إلى أن يرتحل.

وفى الصورتين يجب عليه بذل ما يفضل عن حاجته.

والمراد حاجة نفسه وعياله وزرعه وماشيته، هذا هو الصحيح عند الشافعية، وخص المالكية هذا الحكم بالموات.

وقالوا في البئر التى لا تملك لا يجب عليه بذل فضلها.

وأما الماء المحرز في الاناء فلا يجب بذل فضله لغير المضطر على الصحيح.

اه قال في البحر: والماء على أضرب، حق إجماعا كالانهار غير المستخرجة

والسيول، وملك إجماعا كماء يحرز في الجرار ونحوها، ومختلف فيه كماء الآبار والعيون والقنا المحتفرة في الملك اه قال ابن بطال: لا خلاف بين العلماء أن صاحب الحق أحق بمائه حتى يروى قال الحافظ ابن حجر، وما نفاه من الخلاف هو على القول بأن الماء يملك، فكأن الذين يذهبون إلى أنه يملك وهم الجمهور هم الذين لا خلاف عندهم في ذلك وقد استدل بتوجه النهى إلى الفضل على جواز بيع الماء الذى لا نضل فيه.

وقد تقدم في أبواب البيوع بحوث مستفيضة من المجموع فاشدد بها يديك.

وقوله (ليمنع به الكلا) هو النبات، رطبه ويابسه، والمعنى أن يكون حول البئر كلا ليس عنده ماء غيره، ولا يمكن أصحاب المواشى رعيه إلا إذا مكنوا من سقى بهائمهم من تلك لئلا يتضرروا بالعطش بعد الرعى، فيستلزم منعهم من الماء منعهم من الرعى، والى هذا التفسير ذهب الجمهور.

وعلى هذا يختص البذل بمن له ماشية، ويلحق به الرعاة إذا احتاجوا إلى الشرب، لانه إذا منعهم من الشرب امتنعوا من الرعى هناك.

ويحتمل أن يقال يمكنهم حمل الماء لانفسهم لقلة ما يحتاجون إليه منه بخلاف البهائم، والصحيح الاول، ويلتحق بذلك الزرع عند مالك، والصحيح عند الشافعية وبه قالت الحنفية الاختصاص بالماشية وفرق الشافعي فيما حكاه المزني

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 242)

________________________________________

عنه بين المواشى والزرع، بأن الماشية ذات أرواح يخشى من عطشها موتها، بخلاف الزرع، وبهذا أجاب النووي وغيره.

واستدل لمالك بحديث جابر في صحيح مسلم الذى ذكرناه لاطلاقه وعدم تقييده، وتعقب بأنه يحمل على المقيد، وعلى هذا لو لم يكن هناك كلا يرعى فلا منع من لانتفاء العلة.

على أنه ليس هناك صارف يصرف النهى عن معناه

الحقيقي من التحريم، لا سيما وأن النهى مصحوب في بعض روايات الحديث بالوعيد.

وقال في الفتح، وظاهر الحديث وجوب بذله مجانا وبه قال الجمهور.

وقيل: لصاحبه طلب القيمة من المحتاج إليه كما في طعام المضطر وتعقب بأنه يلزم منه جواز البيع حالة امتناع المحتاج من بذل القيمة، ورد بمنع الملازمة فيجوز أن يقال يجب عليه البذل وتثبت له القيمة في ذمة المبذول له، فيكون له أخذ القيمة منه متى أمكن، ولكنه لا يخفى أن رواية لا يباع فضل الماء، ورواية النهى عن بيع فضل الماء يدلان على تحريم البيع، ولو جاز له أخذ العوض لجاز له البيع.

وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

 

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى

(فصل)

وأما المباح فهو الماء الذى ينبع في الموات، فهو مشترك بين الناس لقوله صلى الله عليه وسلم (الناس شركاء في ثلاثة، الماء والنار والكلا) فمن سبق منهم إلى شئ منه كان أحق به، لقوله صلى الله عليه وسلم (من سبق إلى ما لم يسبق إليه، فهو أحق به) فإن أراد أن يسقى منه أرضا، فإن كان نهرا عظيما كالنيل والفرات وما أشبههما من الاودية العظيمة، جاز أن يسقى منه ما شاء ومتى شاء، لانه لا ضرر فيه على أحد، وإن كان نهرا صغيرا لا يمكن سقى الارض منه الا أن يحبسه، فان كانت الارض متساوية، بدأ من أول النهر، فيحبس الماء حتى يسقى أرضه إلى أن يبلغ الماء إلى الكعب، ثم يرسله إلى من يليه، وعلى هذا إلى أن تنتهى الاراضي، لِمَا رَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قضى في شرب نهر من سيل أن للاعلى أن يشرب قبل الاسفل، ويجعل الماء فيه إلى الكعب، ثم يرسله إلى الاسفل الذى يليه كذلك، حتى تنتهى

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 243)

________________________________________

الارضون) وروى عبد الله بن الزبير أن الزبير ورجلا من الانصار تنازعا في

شراج الحرة التى يسقى بها النخل، فقال الانصاري للزبير: سرح الماء، فأبى الزبير، فاختصما إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للزبير (اسق أرضك ثم أرسل الماء إلى أرض جارك، فقال الانصاري: أن كان ابن عمتك يا رسول الله؟ فتلون وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ يا زبير اسق أرضك واحبس الماء إلى أن يبلغ الجذر) وإن كانت الارض بعضها أعلى من بعض ولا يقف الماء في الارض العالية إلى الكعب حتى يقف في الارض المستقلة إلى الوسط، فيسقى المستقلة حتى يبلغ الماء إلى الكعب، ثم يسدها ويسقى العالية حتى يبلغ الكعب، فإن أحيا جماعة أرضا على هذا النهر وسقوا منه، ثم جاء رجل فأحيا أرضا في أعلاه إذا سقى أرضه استضر أهل النهر، منع من ذلك، لان من ملك أرضا ملكها بمرافقها، والنهر من مرافق أرضهم فلا يجوز مضايقتهم فيه (الشرح) حديث (الناس شركاء) رواه أحمد وأبو داود عن أبى خراش عن بعض اصحاب النبي صلى الله علهى وَسَلَّمَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (المسلمون شركاء في ثلاثة في الماء والكلا والنار) ورواه ابن ماجه من حديث ابن عباس وزاد فيه (وثمنه حرام) وقد رواه أبو نعيم في الصحابة في ترجمة أبى خراش، ولم يذكر الرجل، وقد سئل أبو حاتم عنه فقال أبوخراش لَمْ يُدْرِكْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد وجدت ممن كنيته أبوخراش في الصحابة، وهو حدرد بن أبى حدود الاسلمي وهو صحابي قال ابن حجر في التقريب: له حديث واحد.

ووجدت هذا الحديث يذكره ابن الاثير في أسد الغابة يقول: روى جندل بن والق عن يحيى بن يحيى الاسلمي عن سعيد بن مقلاص عن الوليد بن أبى الوليد عن عمران بن ابى أنس عن حدود

الْأَسْلَمِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال (هجرة الرجل أخاه سنة كسفك دمه) ووجدت أبا داود يسميه في روايته حبان بن زيد وفى هامش فتح العلام

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 244)

________________________________________

أبوخداش حبان بن زيد الشعرى ثقة لم يعرفه ابن حزم فقال: انه مجهول.

انتهى.

وقال ابن حجر في التقريب: حبان بن زيد الشرعبى أبوخداش ثقة.

أخطأ من زعم أن له صحبة.

وقال في بلوغ المرام: عن رجل من الصحابة قال (غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول (الناس شركاء في ثلاثة.

الكلا والماء والنار) رواه أحمد وأبو داود ورجاله ثقات.

(قلت) والجهالة بالصحابى لا تؤثر في صحة الحديث كما هو معروف عند المحدثين، لانهم رضوان الله عليهم عدول أجمعون.

وأما رواية ابن عباس عند ابن ماجه والتى فيها (وثمنه حرام) ففيها عبد الله ابن خراش، هو متروك، وقد صححه ابن السكن، ويشهد لرواية ابن عباس رواية أبى خراش ورواية أبى هريرة عند ابن ماجه وعبد الله بن أحمد إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (لا يمنع الماء والنار والكلا) وأما حديث من (سبق الخ) فقد مر تخريجه في غير موضع وحديث عبادة بن الصامت رواه ابن ماجه وعبد الله بن أحمد والبيهقي والطبراني وفيها انقطاع بلفظ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى في شرب النخل من السبيل أن الاعلى يشرب قبل الاسفل ويترك الماء إلى الكعبين ثم يرسل الماء إلى الاسفل الذى يليه.

وكذلك حتى تنقضي الحوائط أو يفنى الماء) ورواها عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

قَضَى في سيل مهزور أن يمسك حتى يبلغ الكعبين ثم يرسل الاعلى على الاسفل) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ، وَفِي إسْنَادِهِ عبد الرحمن بن الحرث المخزومى المدنى تكلم فيه الامام أحمد.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 245)

________________________________________

وقال الحافظ في الفتح: إن إسناد هذا الحديث حسن ورواه الحاكم في المستدرك من حديث عائشة أنه قضى في سيل مهزور أن الاعلى يرسل إلى الاسفل ويحبس قدر الكعبين.

وأعله الدارقطني بالوقف وصححه الحاكم، ورواه ابن ماجه وأبو داود من حديث ثعلبة بن أبى مالك.

ورواه عبد الرزاق في مصنفه عن أبى حاتم القرظى عن أبيه عن جده أنه سمع كبراءهم يذكرون أن رجلا من قريش كان له سهم في بنى قريظة فخاصم إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مهزور السيل الذى يقسمون ماءه فقضى بينهم رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ الماء إلى الكعبين لا يحبس الاعلى الاسفل) ومهزور وادى بنى قريظة بالحجاز.

قال ابن الاثير: أما مهروز بتقديم الراء على الزاى فموضع سوق المدينة.

وهذه الاحاديث تدل على أن الاعلى تستحق أرضه الشرب بالسيل والنيل وماء البئر قبل الارض التى تحتها، وأن الاعلى يمسك الماء حتى يبلغ الكعبين أي كعبي رجل الانسان الواقعيين عند مفصل الساق والقدم ثم يرسله بعد ذلك.

وقال صاحب البحر: إن الماء إذا كان قليلا فحده أن يعم أرض الاعلى إلى الكعبين في النخيل وإلى الشراك في الزرع لقضائه صلى الله عليه وسلم بذلك في خبر عبادة بن الصامت.

قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للزبير (اسق أرضك حتى يبلغ الجدر) فقيل: عقوبة لخصمه، وقيل: بل هو المستحق، وكان أمره صلى الله عليه وسلم بالتفضيل، فإن كانت الارض بعضها مطمئن فلا يبلغ في بعضها الكعبين إلا وهو في المطمئن إلى الركبتين، قدم المطمئن إلى الكعبين ثم حبسه

وسقى باقيها.

وقال أبو طالب: العبرة بالكفاية للاعلى.

أما حديث الزبير فقد رواه أصحاب الكتب الستة وهو عند الخمسة من رواية عبد الله بن الزبير عن أبيه وعند النسائي من رواية عبد الله بن الزبير لم يذكر فيه عن أبيه وللبخاري في رواية قال: خاصم الزبير رجلا وذكر نحوه وزاد فيه: فاستوعى رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ للزبير حقه، وكان قبل ذلك قد أشار على الزبير برأى فيه سعة له وللانصاري، فلما أحفظ الانصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم استوعى للزبير حقه في صريح الحكم) .

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 246)

________________________________________

قال عروة: قال الزبير (فوالله ما أحسب هذه الآية نزلت الا في ذلك) فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) رواه أحمد كذلك لكن قال، عن عروة بن الزبير أن الزبير كان يحدث أنه خاصم رجلا وذكره جعله من مسنده وزاد البخاري في رواية.

قال ابن شهاب فقدرت الانصار والناس قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (اسق يا زبير ثم احتس الماء حتى يرجع إلى الجدر) فكان ذلك إلى الكعبين، وقد جاء هذا الحديث عند المحدثين في أبواب الاقضية وأن القاضى إذا حكم وهو غضبان صح ان صادف الحق لانه صلى الله عليه وسلم قضى للزبير بعد أن أغضبه الرجل ولا يخفى أنه لا يصح الحاق غيره صلى الله عليه وسلم به لانه معصوم فلا يدل حكمه صلى الله عليه وسلم وهو غضبان على جواز ذلك للقضاء، والنبى صلى الله عليه وسلم معصوم عن الحكم بالباطل في غضبه ورضاه بخلاف غيره، ولهذا ذهب بعض الحنابلة إلى أنه لا ينفذ الحكم في حال الغضب لثبوت النهى عنه، وسيأتى مزيد ايضاح ان شاء الله تعالى في كتاب الاقضية، وقد رواه مالك في موطئه من حديث

عروة عن ابيه.

والرجل المبهم الذى خاصم الزبير هو ثعلبة بن حاطب، وقيل حميد، وقيل حاطب بن ابى بلتعة ولا يصح لانه ليس أنصاريا، وقيل: انه ثابت بن قيس بن شماس، وإنما ترك النبي صلى الله عليه وسلم قتله بعد ان جاء في مقاله بما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم جار في الحكم لاجل القرابة لان ذلك كان في أوائل الاسلام وقد كان صلى الله عليه وسلم يتالف الناس إذ ذاك ترك قتل عبد الله بن أبى بعد أن جاء بما يسوغ به قتله.

وقال القرطبى: يحتمل انه لم يكن منافقا بل صدر منه ذلك عن غير قصد، كما اتفق لحاطب بن أبى بلتعة في قصة تخابره مع العدو ومسطح في قصة الافك وحمنة وغيرهم ممن بدره لسانه بدرة شيطانية.

على ان الحكم في هذا الفصل ياتي هكذا: إذا كان الماء صغير المجرى بحيث يزدهم الناس فيه ويتشاحون في مائة أو سيل يتشاح الناس من أصحاب الارض الشاربة منه فيه، فان يبدأ بمن في أول النهر فيسقى ويحبس الماء حتى يبلغ إلى

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 247)

________________________________________

الكعب ثم برسل إلى الذى يليه فيصنع كذلك، وعلى هذا إلى ان تنتهى الاراضي كلها، فان لم يفضل عن الاول شئ أو عن الثاني أو عمن يليهم فلا شئ للباقين، لانه ليس لهم إلا ما فضل، فهم كالعصبة في الميراث، وهذا قول الفقهاء من اهل المدينة ومالك والشافعي وأحمد ولا نعلم فيه ومخالفا، والاصل فيه حديث الزبير، قال الزهري: نظرنا في قول النبي صلى الله عليه وسلم (ثم احبس الماء حتى يبلغ إلى الجدر) فوجدنا ذلك إلى الكعبين.

قال أبو عبيد: الشراج جمع شرج، والشرج نهر صغير، والحرة أرض ملتبسة بحجارة بركانية سود، والجدر الجدار، وانما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الزبير

ان يسقى ثم يرسل الماء تسهيلا على غيره، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

 

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:

(فصل)

وان اشترك جماعة في استنباط عين اشتركوا في مائها، فان دخولوا على أن يتساووا، تساووا في الانفاق، وان دخولوا على أن يتفاضلوا تفاضلوا في الانفاق، ويكون الماء بينهم على قدر النفقة، لانهم استفادوا ذلك بالانفاق فكان حقهم على قدره، فإن أرادوا سقى اراضيهم بالمهاياة يوما يوما جاز، وان ارادوا قسمة الماء نصبوا خشبة مستوية قبل الاراضي وتفتح فيها كوى على قدر حقوقهم، فخرج حصة كل واحد منهم إلى أرضه، فان أراد أحدهم أن يأخذ حقه من الماء قبل المقسم في ساقية يحفرها إلى أرضه منع من ذلك، لان حريم النهر مشترك بينهم، فلا يجوز لواحد منهم ان يحفر فيه، فان أراد أن ينصب رحا قبل المقسم ويديرها بالماء منع من ذلك، لانه يتصرف في حريم مشترك، فان أراد أن يأخذ الماء ويسقى به أرضا اخرى ليس لها رسم بشرب من هذا النهر منع منه يجعل لنفسه شربا لم يكن له، كما لا يجوز لمن له داران متلاصقان في دربين أن يفتح من أحدهما بابا إلى الاخرى فيجعل لنفسه طريقا لم يكن له، والله تعالى أعلم.

(الشرح) قوله: بالمهايأة أي بالمناوبة.

وقوله: كوى جمع كوة بضم الكاف وتشديد الواو مثل مدية ومدى وتفتح ايضا وهى الثقب في الحائط.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 248)

________________________________________

إذا كان النهر لجماعة وقد قلنا فيما مضى ان النهر المحيى في موات يكون لمحييه حقوق الملك، وان لم يكن مالكا فهو بينهم على حسب العمل والنفقة أو على حسب اتفاقهم، لانه انما كان لهم حق الملك بالعمارة والعمارة بالنفقة، فان كفى جميعهم فلا كلام، وان لم يكفهم وتراضوا على قسمته بالمهاياة أو غيرها جاز لانه حقهم

لا يخرج عنهم، وان تشاحوا في قسمته قسمه الحاكم بينهم على قدر نفقتهم، لان لكل واحد منهم من الحقوق بقدر ذلك، فتؤخذ خشبة صلبة أو حجر مستوى الطرفين والوسط فيوضع على موضع مستو من الارض في مقدم الماء فيه حزوز أو ثقوب متساوية في السعة على قدر حقوقهم يخرج من كل جزء أو ثقب إلى ساقية مفردة لكل واحد منهم، فإذا حصل الماء في ساقيته انفرد به وليس له أن يأخذ قبل القسم، كما أن ليس له أن يسقى أرضا ليس لها رسم شرب في هذا الماء لان ذلك يدل على أن لها قسما في هذا الماء، فربما جعل سقيها منه دليلا على استحقاقها لذلك فيستضر الشركاء ويصير هذا كما لو كان له دار بابها في درب لا ينفذ ودار بابها في درب آخر ظهرها ملاصق لظهر داره الاولى، فأراد تنفيذ أحداهما إلى الاخرى لم يجز، لانه يجعل لنفسه استطارقا من كل واحدة من الدارين وان قسموا ماء النهر المشترك بالمهايأة جاز إذا تراضوا به وكان حق كل واحد منهم معلوما مثل أن يجعلوا لكل حصه يوما وليلة أو أكثر من ذلك أو أقل.

وان قسموا النهار فجعلوا الواحد من طلوع الشمس إلى وقت الزوال وللاخر من الزوال إلى الغروب ونحو ذلك جاز.

وان قسموه ساعات وأمكن ضبط ذلك بشئ معلوم كطاسة مثقوبة تترك في الماء وفيها علامات إذا انتهى الماء إلى علامه كانت ساعة وإذا انتهى إلى الاخرى كانت ساعتين.

لا يجوز في النهر المشترك ان يتصرف أحد المشتركين بعمل رحى أو دولاب أو معبر للماء لانه يتصرف في نهر مشترك وفى حريمه بغير اذن شركائه.

اما الشرب لنفسه ووضوئه وغسله وغسل ثيابه والانتفاع به في أشباه ذلك فانه يجوز لكل المسلمين، ولا يحل لصاحب الماء منعه من ذلك لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (ثلاثة لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب اليم رجل كان يفضل ماء الطريق فمنعه ابن السبيل) رواه البخاري.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 249)

________________________________________

وعن بهيسه عن أبيها أنه قال: يا نبى الله ما الشئ الذى لا يحل منعه؟ قال: (الماء) قال يا نبى الله ما الشئ الذى لا يحل منعه؟ قال (الملح) قال يا نبى الله ما الشئ الذى لا يحل منعه؟ قال (ان تفعل الخير خير لك) رواه أبو داود، ولان ذلك لا يؤثر في العادة وهو فاضل عن حاجة صاحب النهر، فاما إذا لم يفضل شئ عن حاجة ماشيته لم يلزمه.

والله تعال أعلم

قال المصنف رحمه الله تعالى:

 

‌كتاب اللقطة

 

إذا وجد الحر الرشيد لقطة يمكن حفظها وتعريفها كالذهب والفضة والجواهر والثياب - فان كان ذلك في غير الحرم - جاز التقاطه للتملك، لما روى عبد الله ابْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ اللقطة فقال (ما كان منها في طريق مئاء فعرفها حولا، فان جاء صاحبها والا فهى لك، وما كان منها في خراب ففيها وفى الركاز الخمس) وله ان يلتقطها للحفظ على صاحبها، لقوله تعالى (وتعاونوا على البر والتقوى) ولما رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال (من كشف عن مسلم كربة من كرب الدنيا.

كشف الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، والله في عون العبد ما دام العبد في عون اخيه) وان كانت في الحرم لم يمر أن يأخذها الا للحفظ على صاحبها.

ومن أصحابنا من قال: يجوز التقاطها للتملك لانها أرض مباحة فجاز اخذ لقطتها للتملك كغير الحرم، والمذهب الاول، لما روى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال (إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والارض، فهو حرام إلى يوم القيامة، لم يحل لاحد قبلى، ولا يحل لاحد بعدى ولم يحل لى الا ساعة من نهار، وهو حرام إلى يوم القيامة لا ينفر صيدها، ولا

يعضد شجرها، ولا تلتقط لقطتها الا لمعرف) ويلزمه المقام للتعريف، وان لم يمكنه المقام دفعها إلى الحاكم ليعرفها من سهم المصالح

(فصل)

وهل يجب أخذها؟ روى المزني أنه قال: لا أحب تركها.

وقال

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 250)

________________________________________

في الام: لا يجوز تركها.

فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ فِيهِ قَوْلَانِ

(أَحَدُهُمَا)

لَا يجب لانها أمانة فلم يجب أخذها كالوديعة

(والثانى)

يجب، لما روى ابْنِ مَسْعُودٍ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (حرمة مال المؤمن كحرمة دمه) ولو خاف على نفسه لوجب حفظها، فكذلك إذا خاف على ماله.

وقال أبو العباس وأبو إسحاق وغيرهما (ان كانت في موضع لا يخاف عليها لامانة أهله لم يجب عليه.

لان غيره يقوم مقامه في حفظها، وإن كان في موضع يخاف عليها لقلة أمانة أهله وجب، لان غيره لا يقوم مقامه، فتعين عليه، وحمل القولين على هذين الحالين، فإن تركها ولم يأخذها لم يضمن، لان المال انما يضمن باليد أو بالاتلاف.

ولم يوجد شئ من ذلك، ولهذا لا يضمن الوديعة إذا ترك أخذها فكذلك اللقطة،

(فصل)

وان أخذها اثنان كانت بينهما، كما لو أخذا صيدا كان بينهما، فإن أخذها واحد وضاعت منه ووجدها غيره وجب عليه ردها إلى الاول لانه سبق إليها فقدم، كما لو سبق إلى موات فتحجره (الشرح) حديث عبد الله بن عمر مروى من طريق عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وقد مضى للنووي تخريجه في زكاة الركاز.

وقد روى الجوزجانى والاثرم في كتابيهما قال، حدثنا أبو نعيم حدثنا هشام بن سعد قال حدثنى عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده قال (أتى رَجُلٌ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ

يا رسول الله كيف ترى من متاع يرى في الطريق الميتاء أو في قرية مسكونة؟ فقال عرفه سنه، فإن جاء صاحبه والا فشأنك به) وحديث (من كشف عن مسلم كربة الخ) سبق في غير موضع، وحديث ابن عباس مضى في الحج، وحديث ابن مسعود مضى في البيوع في غير موضع أما لغات الفصل فإن اللقطة بفتح القاف اسم للملتقط.

قال الخليل بن أحمد لان ما جاء عل فعلة فهو اسم للفاعل، كقولهم همزة ولمزة وضحكة وهزأة.

واللقطة بسكون القاف المال الملقوط مثل الضحكة الذى يضحك منه والهزأة

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 251)

________________________________________

الذى يهزأ به وقال الاصمعي وابن الاعرابي والفراء: هي بفتح القاف اسم المال الملقوط أيضا وتعريفها عند الفقهاء المال الضائع من ربه يلتقطه غيره وقال الزمخشري، اللقطة بفتح القاف والعامة تسكنها وأصله من لفظ الشئ والتقطه إذا اخذه من الارض.

وأصل فعله في الكلام اسم الفاعل وفعلة اسم المفعول، غير أن كلام العرب جاء في اللقطة على غير قياس.

أجمع اهل اللغة ورواة الاخبار على أن اللقطة الشئ الملتقط.

ذكره الازهرى.

قال ابن عرفة الالتقاط وجود الشئ من غير طلب.

قوله (مئتاء) أي مسلوك مفعول من الاتيان، وقد تبدل التاء دالا لمجاورة النطق فتكون ميداء، ولا يزال العامة ينطقونها محرفة فيقولون المدأ.

وفى الحديث: لولا أنه طريق مئتاء لحزنا عليك يا إبراهيم أما الاحكام فإن اللقطة إذا وجدت بمضيعة وأمن نفسه عليها أخذها.

وهذا قول الشافعي رضى الله عنه.

وقال أحمد رضى الله عنه: الافضل ترك الالتقاط.

وروى معنى ذلك عن ابن عباس وابن عمر، وبه قال جابر وابن زيد والربيع بن خيثم وعطاه، ومر

شريح بدرهم فلم يعرض له.

وقال الشافعي رضى الله عنه: انه يجب أخذها لقوله تعالى (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) فإن كان وليه وجب عليه حفظ ماله وقال في الام في اللقطة الصغيرة في ضالة الغنم إذا وجدتها في موضع مهلكة فهى لك فكلها، فإذا جاء صاحبها فاغرمها له.

وقال في المال يعرفه سنة ثم يأكله ان شاء، فإن جاء صاحبه غرمها له، وقال يعرفها سنة ثم يأكلها، موسرا كان أو معسرا إن شاء، إلا أنى لا أرى له أن يخلطها بماله ولا يأكلها حتى يشهد على عددها ووزنها وظرفها وعفاصها ووكائها فمتى جاء صاحبها غرمها له الخ.

اه وممن رأى أخذها سعيد بن المسيب والحسن بن صالح وأبو حنيفة، وأخذها

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 252)

________________________________________

أبى بن كعب وسويد بن غفلة.

وقال مالك ان كان شيئا له بال يأخذه أحب إلى ويعرفه، لان فيه حفظ مال المسلم عليه، فكان أولى من تضييعه وتخليصه من الغرق وقال ابن قدامة من الحنابلة في المغنى: ولنا قول ابن عمر وابن عابس ولا نعرف لهما مخالفا في الصحابة، ولانه تعريض لنفسه لاكل الحرام، وتضييع الواجب من تعريفها وأداء الامانة فيها، فكان تركه أولى وأسلم، كولاية مال اليتيم وتخليل الخمر.

فإذا ثبت هذا فان اللقطة والضوال مختلفات في الجنس والحكم، فالضوال الحيوان، لانه يضل بنفسه، واللقطة غير الحيوان، سميت بذلك لالتقاط واجدها لها، ولها حالتان.

(إحداهما) أن توجد في أرض مملوكة، فلا يجوز لواجدها التعرض لاخذها

وهى في الظاهر لمالك الارض إن ادعاها، لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عبد الله بن عمرو أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ اللقطة فقال ما كان منها في طريق ميتاء فعرفها حولا، فإن جاء صاحبها والا فهى لك، وما كان في خراب ففيها وفى الركاز الخمس) والحال الثانية: أن توجد في أرض غير مملوكة من مسجد أو طريق أو موات فلا يخلو ذلك من أحد أمرين: إما أن يكون بمكة أو بغير مكة، فإن كان بغير مكة من سائر البلاد فعلى ضربين، ظاهر ومدفون، فإن كان ظاهرا فعلى ضربين أحدهما ما لا يبقى كالطعام الرطب فله حكم نذكره من بعد

(والثانى)

أن يكون مما يبقى كالدراهم والدنانير والثياب والحلى والقماش فهذه هي اللقطة التى قال فِيهَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حديث زيد بن خالد قَالَ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اللقطة الذهب والورق فقال: اعرف وكاءها وعفاصها ثم عرفها سنة، فإن لم تعرف فاستنفقها، ولتكن وديعة عندك فإن جاء طالبها يوما من الدهر فأدها إليه، وسأله عن ضالة الابل، فقال: مالك ولها دعها فإن معها حذاءها وسقاءها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها،

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 253)

________________________________________

وسأله عن الشاة فقال: خذها فإنما هي لك أو لاخيك أو للذئب) متفق عليه.

فعليه أن يقوم بشروط تعريفها ثم له بعد الحول إن لم يأت صاحبها أن يتملكها وإن كان مدفونا فضربان جاهلي وإسلامى، فإن كان إسلاميا فلقطة أيضا وهى على ما ذكرنا، وإن كان جاهليا فهو ركاز يملكه واجده وعليه وإخراج خمسه في مصرف الزكوات للحديث (وفى الركاز الخمس) .

وإن كانت اللقطة بمكة فمذهب الشافعي رضى الله عنه أنه ليس لواجدها أن يتملكها، وعليه إن أخذها أن يقيم بتعريفها أبدا بخلاف سائر البلاد، وقال بعض

أصحابنا: مكة وغيرها سواء في اللقطة استدلالا بعموم الخبر، وهذا خطأ لقوله صلى الله عليه وسلم (إن أبى إبراهيم حرم مكة، فلا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها ولا تحل لقطتها إلا لمنشد) وفى المنشد تأويلان: أحدهما وهو قول أبى عبيد: إنه صاحبها الطالب، والناشد هو المعرف الواجد لها.

قال الشاعر: يصيخ للبناة أسماعه

* إصاخة الناشد للمنشد فكأن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا يحل أن يتملكها إلا صاحبها التى هي له دون الواجد، والتأويل الثاني وهو للشافعي رضى الله عنه أن المنشد الواجد المعرف، والناشد هو المالك الطالب، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ رجلا ينشد ضالة في المسجد فقال (أيها الناشد غيرك الواجد) يعنى لا وجدت كأنه دعا عليه، فعلى هذا التأويل معنى قوله: لا تحل لقطتها إلا لمنشد أي لمعرف يقيم على تعريفها ولا يتملكها، فكان في كلا التأويلين دليل على تحريم تملكها، ولان مكة لما باينت غيرها في تحريم صيدها وشجرها تغليظا لحرمتها باينت غيرها في ملك اللقطة، ولان مكة لا يعود الخارج منها غالبا الا بعد حول ان عاد، فلم ينتشر انشادها في البلاد كلها، فلذلك وجب عليه مداومة تعريفها، ولا فرق بين مكه وبين سائر الحرم لاستواء جميع ذلك في الحرمه.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 254)

________________________________________

فأما عرفة ومصلى ابراهيم عليه السلام ففيه وجهان.

أحدهما: أنه حل تحل لقطته قياسا على جميع الحل.

والثانى: أنه كالحرم لا تحل لقطته الا لمنشد لان ذلك مجمع الحاج، ثم اختلفوا في جواز انشادها في المسجد الحرام مع اتفاقهم على تحريم انشادها في غيره من المساجد على وجهين (أصحهما) جوازه اعتبارا بالعرف وأنه مجمع الناس.

(فرع)

إذا ضاعت اللقطه من ملتقطها بغير تفريط فلا ضمان عليه لانها أمانه في يده فأشبهت الوديعة، فإن التقطها آخر فعرف أنها ضاعت من الاول فعليه ردها إليه لانه قد ثبت له حق التمول، وولاية التعريف والحفظ، فلا يزول ذلك بالضياع.

فإن لم يعلم الثاني بالحال حتى عرفها حولا ملكها، لان سبب الملك وجد منه من غير عدوان فثبت الملك به كالاول، ولا يملك الاول انتزاعها.

لان الملك مقدم على حق التملك، وإذا جاء صاحبها فله أخذها من الثاني، وليس له مطالبة الاول لانه لم يفرط، وان علم الثاني بالاول فردها إليه فأبى أخذها وقال عرفها أنت فعرفها ملكها إيضا، لان الاول ترك حقه فسقط، وان قال: عرفها وتكون بيننا ففعل صح أيضا وكانت بينهما لانه أسقط حقه من نصفها ووكله في الباقي، وان قصد الثاني بالتعريف تملكها لنفسه دون الاول احتمل وجهين.

(الاول) يملكها، لان سبب الملك وجد منه فملكها كما لو أذن له الاول في تعريفها لنفسه.

 

(والثانى)

لا يملكها لان ولاية التعريف للاول أشبه ما لو غصبها من الملتقط غاصب فعرفها، وكذلك الحكم إذا علم الثاني بالاول فرفعها ولم يعلمه بها، ويشبه هذا المتحجر في الموات إذا سبقه غيره إلى ما حجره فأحياه بغير اذنه، فأما ان غصبها غاصب من الملتقط فعرفها لم يملكها وجها واحدا، لانه معتد بأخذها ولم يوجد منه سبب تملكها، فإن الالتقاط من جملة السبب ولم يوجد منه، ويفارق هذا ما إذا التقطها ثان فإنه وجد منه الالتقاط والتعريف.

(فرع)

إذا التقطها اثنان فعرفاها حولا ملكاها جميعا، وإن قلنا بوقوف الملك على الاختيار فاختار أحدهما دون الآخر ملك المختار نصفها دون الآخر

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 255)

________________________________________

وإن رأياها معا فبادر أحدهما فأخذها، أو رآها أحدهما فأعلم بها صاحبه فأخذها

فهى لآخذها، لان استحقاق اللقطة بالاخذ لا بالرؤية كالاصطياد.

وإن قال أحدهما لصاحبه: هاتها فأخذها نظرت، فان أخذها لنفسه فهى له دون الآمر، وإن أخذها للآمر فهى له كما لو وكله في الاصطياد له.

 

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

وإذا أخذها عرف عفاصها، وهو الوعاء الذى تكون فيه، ووكاءها وهو الذى تشد به وجنسها وقدرها، لما روى زيد بن خالد الجهنى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ اللقطة فقال (اعرف عفاصها ووكاءها وعرفها سنة، فان جاء من يعرفها وإلا فاخلطها بمالك) فنص على العفاص والوكاء، وقسنا عليهما الجنس والقدر، ولانه إذا عرف هذه الاشياء لم تختلط بماله، وتعرف به صدق من يدعيها، وهل يلزمه أن يشهد عليها وعلى اللقيط؟ فيه ثلاثة أوجه.

 

(أحدهما)

لا يجب لانه دخول في أمانة فلم يجب الاشهاد عليه كقبول الوديعة

(والثانى)

يجب لما روى عياض بن حمار رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال (من التقط لقطة فليشهد ذا عدل، أو ذوى عدل ولا يكتم ولا يغيب) ولانه إذا لم يشهد لم يؤمن أن يموت فتضيع اللقطة أو يسترق اللقيط.

(والثالث) أنه لا يجب لانه اكتساب مال فلم يجب الاشهاد عليه كالبيع، ويجب على اللقيط لانه يحفظ به النسب فوجب الاشهاد عليه كالنكاح، وإن أخذها وأراد الحفظ على صاحبها لم يلزمه التعريف، لان التعريف للتملك فإذا لم يرد التملك لم يجب التعريف.

فان أراد أن يتملكها نظرت، فان كان مالا له قدر يرجع من ضاع منه في طلبه لزمه أن يعرفه سنة لحديث عبد الله بن عمرو.

وحديث زيد بن خالد، وهل يجوز تعريفها سنة متفرقة؟ فيه وجهان.

 

(أحدهما)

لا يجوز، ومتى قطع استأنف، لانه إذا قطع لم يظهر أمرها

ولم يظهر طالبها.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 256)

________________________________________

(والثانى)

يجوز لان اسم السنة يقع عليها، ولهذا لو نذر صوم سنه جاز أن يصوم سنه متفرقه.

ويجب أن يكون التعريف في أوقات اجتماع الناس كأوقات الصلوات وغيرها، وفى المواضع التى يجتمع الناس فيها كالاسواق وأبواب المساجد لان المقصود لا يحصل إلا بذلك ويكثر منه في الموضع الذى وجدها فيه، لان من ضاع منه شئ يطلبه في الموضع الذى ضاع فيه، ولا يعرفها في المساجد، لما روى جابر قَالَ: سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلا ينشد ضالة في المسجد فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لا وجدت) وذلك لانه كان يكره أن ترفع فيه الاصوات، ويقول: من ضاع منه شئ، أو من ضاع منه دنانير، ولا يزيد عليها حتى لا يضبطها رجل فيدعيها، فان ذكر النوع والقدر والعفاص والوكاء، ففيه وجهان.

أحدهما: لا يضمن، لان بمجرد الصفه لا يجب الدفع، والثانى: يضمن لانه لا يؤمن أن يحفظ ذلك رجل ثم يرافعه إلى من يوجب الدفع بالصفة، فان لم يوجد من يتطوع بالنداء كانت الاجرة على الملتقط، لانه يتملك به، وان كانت اللقطة مما لا يطلب كالتمرة واللقمه لم تعرف، لما روى أنس قَالَ: مَرَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تمرة في الطريق مطروحه فقال (لولا أن أخشى أن تكون من الصدقة لاكلتها) وان كان مما يطلب الا أنه قليل، ففيه ثلاثة أوجه، أحدها: يعرف القليل والكثير سنه وهو ظاهر النص لعموم الاخبار.

والثانى: لا يعرف الدينار، لما روى أن عليا كرم الله وجهه وجد دينارا فعرفه ثلاثا فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كله أو شأنك به) .

والثالث: يعرف ما يقطع فيه السارق، ولا يعرف ما دونه، لانه تافه، ولهذا قالت عائشة رضى الله عنها: ما كانت اليد تقطع عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم في الشئ التافه.

(الشرح) حديث زيد بن خالد الجهنى رواه البخاري ومسلم وأحمد، واللفظ الذى ساقه المصنف أقرب إلى رواية أحمد.

ولفظ الشيخين (سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اللقطة الذهب والورق فقال: اعرف وكائها وعفاصها ثم عرفها سنة، فإن لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعة عندك، فإن جاء طالبها

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 257)

________________________________________

يوما من الدهر فأدها إليه.

وسأله عن ضالة الابل فقال: مالك ولها، دعها فإن معها حذاءها وسقاءها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها.

وسأله عن الشاة فقال: خذها فإنما هي لك أو لاخيك أو للذئب) ولم يقل فيه أحمد (الذهب أو الورق) وفى رواية لمسلم (فإن جاء صاحبها فعرف عفاصها وعددها ووكاءها فأعطها إياه وإلا فهى لك) وحديث عياض بن حمار رواه أحمد وابن ماجه وأبو داود النسائي وابن حبان، وفى لفظ للبيهقي (ثم لا يكتم وليعرف) وصححه ابن الجارود وبان حبان وقد رواه الشافعي أورده الربيع في اختلاف مالك والشافعي في اللقطة ليلزم مالكا بما رواه فقال: أخبرنا مالك عن ربيعة بن أبى عبد الرحمن عن يزيد مولى المنبعث عن زيد بن خالد الجهنى الخ.

أما حديث جابر فقد مضى تخريجه في كتاب الصلاة من المجموع.

أما حديث أنس فقد أخرجه الشيخان.

أما حديث على فقد أخرجه أبو داود عن بلال بن يحيى العبسى عنه وفيه (أنه التقط دينارا فاشترى به دقيقا فعرفه صاحب الدقيق فرد عليه الدينار فأخذه على فقطع منه قيراطين فاشترى به لحما.

قال المنذرى: في سماع بلال بن يحيى من على نظر.

وقال الحافظ بن حجر: إسناده حسن، ورواه أبو داود أيضا

عن أبى سعيد الخدرى أن على بن أبى طالب وجد دينارا، فأتى به فاطمة عسألت عَنْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ (هو رزق الله فأكل مِنْهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأكل على وفاطمة، فلما كان بعد ذلك أتته امرأة تنشد الدينار، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا على أد الدينار) وفى إسناده رجل مجهول.

وأخرجه أبو داود أيضا من وجه آخر عن أبى سعيد، وذكره مطولا وفى إسناده موسى بن يعقوب الزمعى وثقه ابن معين.

وقال ابن عدى لا بأس به، وقال النسائي ليس بالقوى.

وروى هذا الحديث الشافعي عن الدراوردى عن شريك بن أبى نمر عن عطاء ابن يسار عن أبى سعيد الخدرى وزاد (أنه أمره أن يعرفه) ورواه عبد الرزاق

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 258)

________________________________________

من هذا الوجه، وزاد فجعل أجل الدينار وشبهه ثلاثة أيام، وفى إسناده هذه الزيادة أبو بكر بن أبى سبرة وهو ضعيف جدا.

وقد أعل البيهقى هذه الروايات لاضطرابها ولمعارضتها لاحاديث اشتراط السنة في التعريف، قال ويحتمل أن يكون إنما أباح له الاكل قبل التعريف للاضطرار، وأما خبر عائشة فقد رواه الشيخان وأحمد، وسيأتى في الحدود إن شاء الله تعالى.

قولهن (فليشهد) ظاهر الامر يدل على وجوب الاشهاد، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وفى كيفية الاشهاد قولان، أحدهما يشهد أنه وجد لقطة ولا يعلم بالعفاص ولا غيره لئلا يتوصل بذلك الكاذب إلى أخذها، والثانى يشهد على صفاتها كلها حتى إذا مات لم يتصرف فيها الوارث، وأشار بعض أصحابنا إلى التوسط بين الوجهين فقال لا يستوعب الصفات، ولكن يذكر بعضها، قال النووي وهو الاصح، والثانى من قولى الشافعي أنه لا يجب الاشهاد

وبه قال مالك وأحمد وغيرهما، وقالوا إنما يستحب احتياطا، لان الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر به في حديث زيد بن خالد، ولو كان واجبا لبينه أما العفاص بكسر العين المهملة وتخفيف الفاء، وهو الوعاء الذى تكون فيه النفقة جلدا أو غيرة أخذا من العفص وهو الثنى لانثنائه على ما فيه، وقد وقع في زوائد المسند لعبد الله بن احمد في حديث لابي بْنُ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال عرفها فان جاء أحد يخبرك بعدتها ووعائها ووكائها وفرقتها فأعطها إياه وإلا فاستمتع بها) والعفاص يكون على رأس القارورة لسدها وأما الذى يدخل فم القارورة من جلد أو غيره فهو الصمام، فحيث يذكر الوعاء مع العفاص فالمراد الاول، وحيث يذكر العفاص مع الوكاء فالمراد الثاني، أفاده في فتح الباري قوله (ولا يكتم) يعنى لا يحل كتم اللقطة إذا جاء لها صاحبها وجاء من أوصافها ما يغلب الظن بصدقة، والمقصود من معرفة الآلات التى تحفظ فيها ويلتحق بذلك معرفة جنسها ونوعها وقدرها، فقد قال النووي: يجمع بين الروايات بأن يكون مأمورا بالمعرفة في حالتين فيعرف العلامات وقت الالتقاط

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 259)

________________________________________

حتى يعلم صدق واصفها إذا وصفها، ثم يعرفها مرة أخرى بعد تعريفها سنة إذا أراد أن يتملكها ليعلم قدرها وصفتها إذا جاء بعد ذلك فردها إليه قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن تكون في الروايتين (يشير إلى رواية البخاري، عرفها سنة ثم عرف عفاصها ووكاءها) ورواية البخاري أيضا (اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة)) ثم بمعنى الواو فلا تقتضي ترتيبا، فلا تقتضي تخالفا يحتاج إلى الجمع، ويقويه كون المخرج واحدا والقصة واحدة، وإنما يحسن الجمع بما تقدم لو كان المخرج مختلفا أو تعددت القصة، وليس الغرض إلا أن يقع

التعرف والتعريف مع قطع النظر عن أيهما يسبق.

قال واختلف العملاء في هذه المعرفة على قولين أظهرهما الوجوب لظاهر الامر.

وقبل يستحب، وقال بعضهم يجب عند الالتقاط ويستحب بعده.

وقال أيضا في الفتح عند قوله (ثم عرفها) محل ذلك المحافل كأبواب المساجد والاسواق ونحو ذلك.

قلت: كبرامج الاذاعة المخصصة للاشياء المفقودة كبرنامج طريق السلامه الذى توفر له إذاعة القاهرة عشر دقائق من صباح كل يوم في زماننا هذا.

قوله (سنه) الظاهر أن تكون متوالية ولكن على وجه لا يكون على جهة الاستيعاب، فلا يلزمه التعريف بالليل، ولا استيعاب الايام بل على المعتاد، فيعرف في الابتداء كل يوم مرتين في طرفي النهار، ثم في كل يوم مرة، ثم في كل أسبوع مرة، ثم في كل شهر مرة، ولا يشترط أن يعرفها بنفسه، بل يجوز له توكيل غيره، ويعرفها في مكان وجودها وفى غيره.

كذا قال العلماء، وظاهره أن التعريف واجد لاقتضاء الامر الوجوب، لا سيما وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم من لم يعرفها بالضلال في حديث لزيد بن خالد عند أحمد ومسلم (قال: لا يأوى الضالة إلا ضال ما لم يعرفها) هكذا جاءت (لا يأوى) من الثلاثي اللازم، وقد يتعدى كما في هذا الحديث.

وفى المبادرة إلى التعريف خلاف مبناه هل الامر يقتضى الفور أم على التراخي وظاهره أنه لا يجب التعريف بعد السنه، وبه قال الجمهور وادعى صاحب البحر الاجماع، على أنه وردت رواية عند البخاري عن أبى بن كعب بلفظ: وجدت

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 260)

________________________________________

صرة فيها مائة دينار، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال (عرفها حولا، فعرفتها فلم أجد من يعرفها، ثم أتيته ثانيا فقال عرفها حولا فلم أجد، ثم أتيته ثالثا فقال احفظ

وعاءها وعددها ووكاءها، فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها فاستمتعت، فلقيته بعد بمكه فقال: لا ادرى ثلاثة أحوال أو حولا واحدا) وذكر البخاري الحديث في موضع آخر من صحيحه فزاد (ثم أتيته الرابعة فقال: اعرف وعاءها الخ) قال في فتح الباري: القائل فلقيته بعد بمكة هو شعبة، والذى قال لا ادرى هو شيخه سلمة بن كهيل وهو الراوى لهذا الحديث عن سويد عن أبى، قال شعبة فسمعته بعد عشر سنين يقول: عرفها عاما واحدا، وقد بين أبو داود الطيالسي في مسنده القائل: فلقيته والقائل لا أدرى، فقال في آخر الحديث قال شعبة فلقيت سلمة بعد ذلك فقال لا أدرى ثلاثة أحوال أو حولا واحدا، وبهذا يتبين بطلان قول ابن بطال أن الذى شك هو أبى بن كعب، والقائل هو سويد ابن غفلة، وقد رواه عن شعبة عن سلمه بن كهيل بغير شك جماعه، وفيه ثلاثة أحوال إلا حماد بن سلمه فإن في حديثه عامين أو ثلاثة، وجمع بعضهم بين حديث أبى هذا وحديث خالد بن زيد المذكور فيه سنه فقط بأن حديث أبى محمول على مزيد الورع عن التصرف في اللقطة والمبالغة في التعفف عنها، وحديث زيد على ما لا بد منه.

وجزم ابن حزم وابن الجوزى بأن الزيادة في حديث أبى غلط.

قال ابن الجوزى: والذى يظهر لى أن سلمه أخطأ فيها ثم ثبت واستمر على عام واحد، ولا يؤخذ إلا بما لم يشك فيه، لا بما يشك فيه راويه.

وقال أيضا: يحتمل أن يكون صلى الهل عليه وسلم عرف أن تعريفها لم يقع على الوجه الذى ينبغى، فأمر ثانيا بإعادة التعريف، كما قال للمسئ صلاته (ارجع فصل فإنك لم تصل) قال الحافظ بن حجر: ولا يخفى بعد هذا على مثل أبى مع كونه من فقهاء الصحابة وفضلائهم.

قال المنذرى (لم يقل أحد من أئمة الفتوى أن اللقطه تعرف ثلاثه أعوام إلا شريح عن عمر أربعة أقوال يعرف بها، ثلاثة أحوال،

عاما واحدا، ثلاثة أشهر، ثلاثة أيام، وزاد ابن حزم عن عمر قولا خامسا وهو أربعة أشهر.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 261)

________________________________________

قال في الفتح: ويحمل ذلك على عظم اللقطة وحقارتها.

وأما قوله في الحديث (فإن لم تعرف فاستنفقها) فقد قال يحيى بن سعيد الانصاري: لا ادرى هذا في الحديث أم هو شئ من عند يزيد مولى المنبعث (وهو الراوى عن زيد بن خالد) كما حكى البخاري ذلك عن يحيى، وتعقب ابن حجر هذا في الفتح فقال: شك يحيى هل قوله (ولتكن وديعة عنده) مرفوع أم لا، وهو القدر المشار إليه بهذا دون ما قبله لثبوت ما قبله في أكثر الروايات، وخلوها عن ذكر الوديعة، وقد جزم يحيى بن سعيد برفعه مرة أخرى كما في صحيح مسلم بلفظ (فاستنفقها ولتكن وديعة عندك) وكذلك جزم برفها خالد بن مخلد عن سليمان عن ربيعه عند مسلم، وقد أشار البخاري إلى رجحان رفعها فترجم باب إذا جاء صاحب اللقطة ردها عليه لانها وديعة عنده، والمراد بكونها وديعة أنه يجب ردها فتجوز بذكر الوديعة عن وجوب رد بدلها بعد الاستنفاق، لا أنها وديعة حقيقة يجب رد عينها، لان المأذون في استنفاقه لا تبقى عينه، كذا أفاده ابن دقيق العيد قال: ويحتمل أن تكون الواو في قوله (ولتكن وديعة) بمعنى أو، أي إما أن تستنفقها وتغرم بدلها، وإما أن تتركها عندك على سبيل الوديعة حتى يجئ صاحبها فتعطيها إياه ويستفاد من تسميتها وديعة أنها لو تلفت لم يكن عليه ضمانها، وهو اختيار البخاري تبعا لجماعة من السلف.

(فرع)

روينا عن أحمد وأبى داود عن جابر بن عبد الله قَالَ (رَخَّصَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي العصا والحبل وأشباهه يلتقطه الرجل ينتفع به) وفى إسناده

المغيرة بن زياد، قال المنذرى.

تكل فيه غير واحد، وفى التقريب: صدوق له أوهام وفى الخلاصة: وثقة وكيع وابن عدى وغيرهم.

وقال أبو حاتم: شيخ لا يحتج به، وفيه جواز الانتفاع بما يوجد في الطرقات من المحقرات لا سيما إذا كان هذا الشئ الحقير مأكولا لما في حديث أنس الذى ساقه المصنف، فإنه يجوز أكله ولا يجب التعريف به أصلا كالتمرة ونحوها لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بين أنه لم يمنعه من أكل التمرة إلا خشية أن تكون من الصدقة، ولولا ذلك لاكلها.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 262)

________________________________________

وقد روى ابن أبى شيبة عن ميمونة أم المؤمنين أنها وجدت تمرة فأكلتها وقالت: لا يحب الله الفساد.

قال في الفتح: يعنى أنها لو تركها فلم تؤخذ فتؤكل لفسدت ثم قال: وجواز الاكل هو المجزوم به عند الاكثر.

وعندنا أن القليل إذا كان يطلب في العادة وجب التعريف به كالكثير مدة التعريف المنصوص عليها وهى سنة لعموم الاحاديث الواردة.

وعند أبى حنيفة أنه يعرف بالقليل ثلاثة أيام.

وذلك لحديث يعلى بن مرة مرفوعا (من التقط لقطه يسيرة حبلا أو درهما أو شبه ذلك فليعرفها ثلاثة أيام، فإم كان فوق ذلك فليعرفه ستة أيام) رواه أحمد والطبراني والبيهقي، وزاد الطبراني (فإن جاء صاحبها والا فليتصدق بها) وفى اسناده عمر بن عبد الله بن يعلى، وقد صرح جماعه ضعفه، وزعم ابن حزم أنه مجهول وقد دافع عنه ابن حجر وابن رسلان والله تعالى أعلم بالصواب.

 

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

فان عرفها فلم يجد صاحبها ففيه وجهان

(أحدهما)

تدخل في ملكه بالتعريف لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ

فان جاء صاحباه والا فهى لك ولانه كسب مال بفعل فلم يعتبر فيه اختيار التملك كالصيد

(والثانى)

أنه يملكه باختيار التملك، لما روى في حديث زيد بن خالد الجهنى إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فان جاء صاحبها والا فشأنك بها فجعله إلى اخياره ولانه تملك ببدل فاعتبر فيه اختيار التملك كالملك بالبيع.

وحكى فيه وجهان آخران.

أحدهما: أنه يملك بمجرد النية.

والثانى يملكه بالتصرف ولا وجه لواحد منهما، ولا فرق في ملكها بين الغنى والفقير لقوله صلى الله عليه وسلم (فان جاء صاحبها والا فشأنك بها) ولم يفرق لانه ملك بعوض فاستوى فيه الغنى والفقير كالملك في القرض والبيع.

 

(فصل)

فان حضر صاحبها قبل أن يملكها نظرت، فان كانت العين باقيه وجب ردها مع الزيادة المتصلة والمنفصلة، لانها باقيه على ملكه، وان كانت تالفه لم يلزم الملتقط ضمانها، لانه يحفظ لصاحبها، فلم يلزم ضمانها من غير تفريط

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 263)

________________________________________

كالوديعة، وإن حضر بعد ما ملكها فان كانت باقية وجب ردها، وإن كانت تالفة وجب عليه بدلها، وقال الكرابيسى: لا يلزمه ردها ولا ضمان بدلها لانه مال لا يعرف له مالك: فإذا ملكه لم يلزمه رده ولا ضمان بدله كالركاز، والمذهب الاول، لما روى أبو سعيد الخدرى أن عليا كرم الله وجهه وجد دينارا فجاء صاحبه فقال النبي صلى الله عليه وسلم (أده قال على: قد أكلته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا جاءنا شئ أديناه) ويخالف الركاز فإنه مال لكافر لا حرمة له، وهذا مال مسلم، ولهذا لا يلزمه تعريف الركاز، ويلزمه تعريف اللقطة، فان كانت العين باقية فقال الملتقط: أنا أعطيك البدل، لم يجبر المالك على قبوله، لانه يمكنه الرجوع إلى عين ماله، فلا يجبر على قبول البدل، وإن حضر وقد باعها الملتقط وبينهما خيار ففيه وجهان.

 

(أحدهما)

يفسخ البيع، ويأخذ لانه يستحق العين والعين باقية.

 

(والثانى)

لا يجوز له أن يفسخ، لان الفسخ حق للعاقد، فلا يجوز لغيره من غير إذنه، وإن حضر وقد زادت العين، فان كانت زيادة متصلة رجع فيها مع الزيادة، وان كانت زيادة منفصلة رجع فيها دون الزيادة، لانه فسخ ملك فاختلفت فيه الزيادة المتصلة والمنفصلة كالرد بالعيب (الشرح) الاحاديث المذكورة في هذين الفصلين سبق استيفاء الكلام عليها في الفصل قبلهما.

أما الاحكام: فقد قال الشافعي رضى الله عنه: ويأكل اللقطة الغنى والفقير ومن تحل له الصدقة وتحرم عليه.

وهذا كما قال: يجوز لواجد اللقطة بعد تعريفها حولا أن يتملكها ويأكلها غنيا كان أو فقيرا.

وقال أبو حنيفة: يجوز ذلك ان كان فقيرا، ولا يجوز إن كان غنيا أن يتملكها، ويكون مخيرا بين أمرين: إما أن تكون في يده أمانة لصاحبها أبدا كالوديعة، وإما أن يتصدق بها، فان جاء صاحبها وأمضى صدقته فله ثوابها ولا غرم على الواجد، وإن لم يمض الصدقة فثوابها للواجد وعليه غرمها استدلالا بما رَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال: فان جاء صاحبنا وإلا تصدق بها، وهو حديث في إسناده عمر بن عبد الله

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 264)

________________________________________

ابن يعلى، قال أبو حنيفة وهذا نص، ولانه مال يعتبر فيه الحول فوجب أن يختلف فيه حال الغنى والفقير كالزكاة، ولانه مال مسلم فوجب أن لا يحل إلا لمضطر قياسا على غير اللقطة.

ودليلنا عموم قوله صلى الله عليه وسلم (فان جاء صاحبها وإلا فشأنك بها) وهو يقتضى التسوية بين الغنى والفقير، وروى أن أبى بن كعب وجد صرة فيها ثمانون دينارا أو مائة دينار فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يعرفها حولا (فان

جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها) .

قال الشافعي رضى الله عنه: وأبى من أيسر أهل المدينة أو كأيسرهم، ولو لم يكن موسرا لصار بعشرين دينارا منها موسرا على قول أبى حنيفة.

فدل على أن الفقر غير معتبر فيها وأن الغنى لا يمنع منها.

وروى عن عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أن على بن أبى طالب وجد دينارا فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأمره أن يعرف به ثلاثا فعرفه فلم يجد من يعرفه، فرجع به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: كله حتى إذا أكله جاء صاحب الدينار يتعرفه فقال على رضى الله عنه: قد أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأكله فانطلق صاحب الدينار وكان يهوديا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا جاءنا شئ أديناه اليك.

قال الشافعي رضى الله عنه: وعلى ممن يحرم عليهم الصدقة، لانه من طينة بنى هاشم، فلو كانت اللقطه تستباح بالفقر دون الغنى لحظرها عليه، ولان كل من كان من أهل الالتقاط جاز أن يرتفق بالكل والتملق كالفقير، ولان ما ثبت للفقير في اللقطه ثبت للغنى كالنسك والصدقة، ولان كل مال استباح الفقير اتلافه بشرط الضمان استباح الغنى اتلافه بشرط الضمان كالقرض، ولا يدخل عليه طعام المضطر لاستوائهما فيه، وقد يجعل المضطر أصلا فيقول: كل ارتفاق بمال الغير إذا كان مضمونا استوى فيه الغنى والفقير كأكل مال الغير المضطر، ولانه استباحه اتلاف مال لغيره لمعنى في المال فوجب أن يستوى فيه حكم الغنى والفقير كالفحل الصائل، ولان كل ما استبيح تناوله عند الاياس من مالكه في الاغلب استوى فيه حكم الغنى والفقير كالركاز، ولان حال اللقطة في يد واجدها لا يخلو

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 265)

________________________________________

من أن تكون في حكم المغصوب فيجب انتزاعها قبل الحول وبعده من مال الغنى

والفقير، أو في حكم الودائع فلا يجوز أن يتملكها فقير ولا أن يتصدق بها غنى أو في حكم الكسب فيجوز أن يتملكها الغنى والفقير.

ومذهب أبى حنيفة مخالف لاصول هذه الاحكام الثلاثه فكان فاسدا: ثم يقال لابي حنيفة الثواب إنما يستحق على المقاصد بالاعمال لا على أعيان الافعال لان صورها في الطاعه والمعصية على سواء كالمرائي بصلاته، ثم لا يصح أن يكون ثواب العمل موقوفا على غير العامل في استحقاقه أو إحباطه فأما الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تصدق بها فمحمول على فرض صحة الرواية على أن الواجد سأله عن ذلك فأذن له فيه، وأما الزكاة فلا معنى للجمع بينها وبين اللقطه، لان الزكاة تملك غير مضمون ببدل، واللقطه تؤخذ مضمونه ببدل فكان الغنى أحق بتملكها، لانه أوفى ذمة، وأما ما ذكروه من المضطر فقد جعلناه أصلا.

(مسألة) قال الشافعي رضى الله عنه ولا أحب لاحد ترك اللقطة إذا وجدها وكان أمينا عليها، وظاهر قوله يقتضى استحباب أخذها دون إيجابه، وقال أيضا ولا يجوز لاحد ترك اللقطه إذا وجدها، فكان ظاهر هذا القول يدل على إيجاب أخذها، فاختلف أصحابنا لاختلاف هذين الظاهرين، فكان أبو الحسن بن القطان وطائفة يخرجون ذلك على اختلاف قولين

(أحدهما)

أن أخذها استحباب وليس بواجب على ظاهر ما نص عليه في هذا الموضع لانه غير مؤتمن عليها ولا مستودع لها.

(والقول الثاني) أن أخذها واجب وتركها مأثم، لانه لما وجب عليه حراسة نفس أخيه المسلم وجب عليه حراسة مال أخيه المسلم وقال جمهور أصحابنا، ليس ذلك على قولين، انما هو على اختلاف حالين، فالموضع الذى لا يأخذها إذا كانت يؤمن عليها ويأخذها غيره ممن يؤدى الامانه

فيها، والموضع الذى أوجب عليه أخذها إذا كانت في موضع لا يؤمن عليها ويأخذها غيره ممن لا يؤدى الامانة فيها، لما في ذلك من التعاون، وعلى كلتا

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 266)

________________________________________

الحالتين لا يكره له أخذها إذا كان أمينا عليها، بل يدور أخذها بين الاستحباب والوجوب.

وحكى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّهُمَا كَرِهَا أخذها.

وروى أن شريحا مر بدرهم فلم يعرض له.

وفى هذا القول إبطال التعاون وقطع المعروف.

وقد أخذ أبى الصرة وأخذ على الدينار.

وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكر ذلك عليهما ولا كرهه لهما، ويجوز أن يكون المحكى عن ابن عباس وابن عمر فيمن كان غير مأمون عليها، أو ضعيفا عن القيام بها.

ونحن نكره لغير الامين عليها والضعيف عن القيام بها أن يتعرف لاخذها، وإنما يؤمر به من كان أمينا قويا، فلو تركها القوى الامين حتى هلكت فلا ضمان عليه وإن أساء.

وإن أخذها لزمه القيام بها، وإن تركها بعد الاخذ لزمه الضمان.

ولو ردها على الحاكم فلا ضمان عليه بخلاف الضوال في أحد الوجهين لانه ممنوع من أخذ الضوال فضمنها.

وغير ممنوع من أخذ اللقطة فلم يضمنها وقد اختلف العلماء فيما إذا تصرف الملتقط في اللقطة بعد تعريفها سنة ثم جاء صاحبها هل يضمنها له أم لا؟ فذهب الجمهور إلى وجوب الرد إن كانت العين موجودة أو البدل إن كانت قد استهلكت.

وخالف في ذلك الكرابيسى صاحب الشافعي ووافقه صاحباه البخاري وداود بن على الظاهرى إمام المذهب المعروف لكن وافق داود الجمهور إذا كانت العين قائمة.

ومن أدلة الجمهور مما تقدم من الاحاديث (ولتكن وديعة عندك فإن جاء طالبها) وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم (فإن جاء صاحبها فلا تكتم فهو أحق بها) وفى رواية للبخاري (فاعرف عفاصها ووكاءها ثم كلها، فان جاء صاحبها فأدها

إليه) أي بدلها لان العين لا تبقى بعد أكلها.

وفى رواية لابي داود (فان جاء باغيها فأدها إليه، والا فاعرف عفاصها ووكاءها ثم كلها، فان جاء باغيرها فأدها إليه) فأمر بأدائها قبل الاذن في أكلها وبعده.

قال الماوردى في الحاوى الكبير: أن الواجد لو منع بعد الحول من تملكها أدى ذلك إلى أحد أمرين، اما أن لا يرغب الواجد في أخذها، واما أن تدخل

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 267)

________________________________________

المشقة عليه في استدامة امساكها، فكان اباحة التمليك لها بعد التعريف أحث على أخذها وأحفظ لها على مالكها لثبوت غرمها في ذمته، فلا تكون معرضة للتلف، وليكون ارتفاق الواجد بمنفعتها في مقابلة ما عاناه في حفظها وتعريفها وهذه كلها معان استوى فيها الغنى والفقير، ثم مذهب الشافعي لا فرق بين المسلم والذمى في أخذها للتعريف، وتملكها بعد الحول، لانها كسب يستوى فيه المسلم والذمى.

فإذا ثبت جواز تملكها بعد الحول لكل واجد من غنى أو فقير فقد اختلف أصحابنا بماذا يصير مالكا؟ على ثلاثة أوجه (أحدها) أنه يصير مالكا لها بمضي الحول وحده إلا أن يختار أن تكون أمانة فلا تدخل في ملكه.

وهذا قول أبى حفص بن الوكيل لانه كسب على غير بدل فأشبه الركاز والاصطياد والوجه الثاني: أنه يملكها بعد مضى الحول باختيار التملك، فإن لم يختر التملك لم يملك.

وهذا قول أبى إسحاق المروزى، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (فان جاء صاحبها وإلا فشأنك بها) فرد أمرها إلى اختياره، ولانه أبيح له التملك بعد الحول بعد أن كان مؤتمنا.

فاقتضى أن لا ينتقل عما كان عليه الا باختيار ما أبيح له والوجه الثالث: أنه لا يملكها بعد مضى الحول الا بالاختيار والتصرف،

وهو ما لم يتصرف غير مالك، لان التصرف منه كالقبض فأشبه الهبة.

فإذا صار مالكها بما ذكرنا فقد ضمنها لصاحبها فمن جاء طالبا لها رجع بها ان كانت باقية، وليس للمتملك أن يعدل به مع بقائها إلى بدلها، فإن كانت ذا مثل رجع بمثلها، وان كانت غير ذى مثل رجع لقيمتها حين تملكها، لانه إذ ذاك صار ضامنا لها.

فإن اختلفا في القيمة فالقول قول متملكها لانه غارم، فلو كانت عند مجئ صاحبها باقية لكن حدث منها نماء منفصل رجع بالاصل دون النماء لحدوث النماء بعد ملك الواجد فلو عرف الواجد صاحبها وجب عليه اعلامه بها.

ثم ينظر فإن كان ذلك قبل أن يملكها الواجد فمؤنة ردها على صاحبها دون الواجد كالوديعة، وفى هذه

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 268)

________________________________________

الحال ترد بنمائها متصلا ومنفصلا لان ذلك قبل زمن التملك.

وان كان بعد تملكها فمؤنة ردها على الواجد دون صاحبها لبقائها على ملكه.

 

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

وإن جاء من يدعيها ووصفها، فإن غلب على ظنه أنها له جاز له أن يدفع إليه ولا يلزمه الدفع لانه مال للغير فلا يجب تسليمه بالوصف كالوديعة فإن دفع إليه بالوصف ثم جاء غيره وأقام البينة انها له قضى بالبينة لانها حجة توجب الدفع فقدمت على الوصف، فان كانت باقية ردت على صاحب البينة، وان كانت تالفة فله أن يضمن الملتقط لانه دفع ماله بغير حق وله أن يضمن الآخذ لانه أخذ ماله بغير حق، فان ضمن الآخذ لم يرجع على الملتقط، لانه إن كان مستحقا عليه فقد دفع ما وجب عليه فلم يرجع، وإن كان مظلوما لم يجز أن يرجع على غير من ظلمه.

وإن ضمن الملتقط نظرت فان كان قد أقر للآخذ بالملك بأن قال هي لك لم

يرجع عليه، لانه اعترف أنه أخذ ماله وأن صاحب البينة ظلمه فلا يرجع على من لم يظلمه، وان لم يقر له ولكنه قال يغلب على ظنى أنها لك فله الرجوع لانه بان أنه لم يكن له، وقد تلف في يده فاستقر الضمان عليه.

(الشرح) قال الشافعي رضى الله عنه: إذا التقط الرجل اللقطة مما لا روح له ما يحمل ويحول، فإذا التقط الرجل لقطة قلت أو كثرت عرفها سنة، ويعرفها على أبواب المساجد والاسواق ومواضع العامة، ويكون أكثر تعريفه إياها في الجماعة التى أصابها فيها، ويعرف عفاصها ووكاءها وعددها ووزنها وحليتها ويكتب ويشهد عليه، فإن جاء صاحبها وإلا فهى له بعد سنة.

على أن صاحبها متى جاء غرمها، وان لم يأت فهى مال من ماله.

وان جاء بعد السنة وقد استهلكها والملتقط حى أو ميت فهو غريم من الغرماء يحاص الغرماء

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 269)

________________________________________

فإن جاء ووقع في نفسه أنه لم يدع باطلا أن يعطيه ولا أجبره في الحكم إلا ببينة تقوم عليها كما تقوم على الحقوق، فإن ادعاها واحد أو اثنان فسواء لا يجبر على دفعها إليهم إلا ببينة يقيمونها عليه.

وقال أيضا: ونفتى الملتقط إذا عرف الرجل العفاص والوكاء والعدد والوزن، ووقع في نفسه أنه صادق أن يعطيه، ولا أجبره عليه إلا ببينة لانه قد يصيب الصفة بأن يسمع الملتقط يصفها.

قلت: وصورتها في رجل ادعى لقطة في يد واجدها، فان أقام البينة العادلة على ملكها وجب تسليمها، وإن لم يقم بينة لكن وصفها فان أخطأ في صفتها لم يجز دفعها إليه، وإن أصاب في جميع صفاتها من العفاص والوكاء والجنس والنعت والعدد والوزن، فان لم يقع في نفسه صدقه لم يدفعها إليه، وان وقع في نفسه أنه صادق وأفتياه بدفعها إليه جوازا لا واجبا فان امتنع من الدفع لم يجبر عليه، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ.

وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ: يجبر على دفعها إليه بالصفة استدلالا بقوله صلى الله عليه وسلم اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة.

فان جاء طالبها فادفعها إليه) فلما أخبر بمعرفة العفاص والوكاء دل على أنه كالبينة في الاستحقاق.

وروى سويد بن غفله إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (فان جاء باغيها فعرفك عفاصها ووكاءها فادفعها إليه) وهذا نص.

قالوا: ولان كل إمارة غلب بها في الشرع صدق المدعى جاز أن يوجب قبول قوله كالبينات.

قالوا: ولان البينات في الاصول مختلفه، وما تعذر منها في الغائب يخفف كالنساء المنفردات في الولادة وإقامه البينه على اللقطه متعذر لا سيما على الدنانير والدراهم التى لا تضبط أعيانها فجاز أن تكون الصفه التى هي غاية الاحوال الممكنة أن يكون بينة فيها.

ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم، لو أعطى الناس بدعاواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم، لكن البينه على المدعى، واليمين على المدعى عليه.

فلم يجعل الدعوى حجه، ولا جعل مجرد القول حجه بينة، ولان الصفه للمطلوب من تمام الدعوى، فلم يجز أن تكون بينة للطالب قياسا على الطلب.

قال الشافعي رضى الله عنه محتجا عليهم.

أرأيت لو وصفها عشرة أيعطونها،

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 270)

________________________________________

ونحن نعلم أن كلهم كذبة إلا واحدة بغير عينه، فرد عليه ابن داود فقال: كما لو ادعاها عشرة واقام كل واحد منهم بينة عليها، قسمتها بينهم، وان صدق جميعهم مستحيلا، كذلك إذا وصفوها كلهم.

والجواب عن هذا من وجهين: أحدهما: أن كذب المدعى أسقط الدعوى من كذب الشهود، ألا ترى أن إكذاب المدعى لنفسه مبطل للدعوى وإكذاب الشهود لانفسهم غير مبطل للدعوى.

والثانى أن البينة هي أقصى ما يقدر عليه المدعى وأقوى ما يحكم به الحاكم، فدعت ضرورة الحاكم في البينة إلى ما لم

يدعه من الصفة.

وأما الجواب عن قولهم: اعرف عفاصها ووكاءها فهو أن ذلك منه لا لدفعها بصفة العفاص والوكاء ووجوب رده معه، ولكن لمعان هي أخص بمقصود اللقط، منها أن بينته بحفظ العفاص والوكاء ووجوب رده مع قلته ونزارته على حفظ ما فيه ووجوده مع كثرته.

ومنها أن يتميز بذلك عن ماله ومنها جواز دفعها بالصفة، وإن لم يجب، وعلى هذا المعنى نحمل حديث سويد بن غفله الذى جعلوه نصا.

وأما استدلالهم فنحن ما جعلنا الامارة على الصدق حجة في قبول الدعوى وإنما جعلنا الايمان بعدها حجة، وأما استدلالهم بأن البينات في الاصول مختلفة فصحيح، وليس في جميعها بينة تكون بمجرد الصفة، ولا يكون تعذر البينة موجبا ان تكون الصفة بينه.

الا ترى أن السارق تتعذر إقامة البينه عليه، ولا يكون صفة ما بيده لمدعى سرقته حجة.

فإذا ثبت أن دفعها بالصفة لا يجب فدفعها بالصفة وسعه ذلك إذا لم يقع في نفسه كذبه، فان أقام غيره البينه عليها بشاهدين أو شاهد وإمرأتين أو شاهد ويمين كان مقيم البينة أحق بها من الآخذ لها بالصفة، فان كانت باقية في يد الواصف انتزعت منه لمقيم البينه، وان كان قد استهلكها نظر في الدافع لها فان كان قد دفعها بحكم حاكم فصاحب البينه الخيار في الرجوع بغرمها على الآخذ لها بالصفة، وان كان قد دفعها بغير حكم حاكم فصاحب البينه الخيار في الرجوع

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 271)

________________________________________

بغرمها على من شاء من الدافع الملتقط أو الآخذ الوصف، فان رجع بها على الاخذ لها بالصفة فله ذلك لضمانه لها باليد، واستحقاق غرمها بالاتلاف، وقد برئ الدافع لها من الضمان لوصول الغرم إلى مستحقه، وليس للغارم أن

يرجع بما غرمه على الدافع، لانه إن كان مستحقا عليه فمن وجب عليه حق لم يرجع به على أحد، وان كان مظلوما به فالمظلوم بالشئ لا يجوز أن يرجع به على غير ظالمه.

وان رجع مقيم البينه بغرمها على الدافع الملتقط نظر في الدافع، فان كان قد صدق الواصف لها على ملكها وأكذب الشهود لصاحب البينه عليها فليس له الرجوع بغرمها على الآخذ لها بالصفة، لانه مقر أنه مظلوم بالمأخوذ منه، فلا يرجع به على غير من ظلمه، وان لم يكن قد صدق الواصف ولا أكذب الشهود فله الرجوع بالغرم على الآخذ لها بالصفة لضمانه لها بالاستهلاك وتكون البينه موجبة عليه وله، والله تعالى أعلم بالصواب.

 

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

وان وجد ضالة لم يخل اما أن تكون في برية أو بلد، فان كانت في بريه نظرت، فان كانت مما يمتنع على صغار السباع بقوته كالابل والبقر والخيل والبغال والحمير، أو ببعد أثره لسرعته كالظباء والارانب، أو بجناحه كالحمام والدراج، لم يجز التقاطه للتملك، لما روى زيد بن خالد الجهنى قَالَ (سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ضالة الابل فغضب واحمرت عيناه.

وقال مالك ولها معها الحذاء وللشقاء، تأكل من الشجر وترد الماء حتى يأتي ربها، وسئل عن ضالة الغنم فقال: خذها هي لك أو لاخيك أو للذئب) وهل يجوز أخذها للحفظ؟ ينظر فيه، فان كان الواجد هو السلطان جاز، لان للسلطان ولايه في حفظ أموال المسلمين، ولهذا روى أنه كان لعمر حظيرة يجمع فيها الضوال، فان كان له حمى تركها في الحمى وأشهد عليها ويسمها بسمة الضوال لتتميز عن غيرها من الاموال، وان لم يكن له حمى، فان كان يطمع في مجئ صاحبها، بأن يعرف أنها من نعم قوم يعرفهم، حفظها اليومين والثلاثة، وان لم يعرف أو عرف

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 272)

________________________________________

ولم يجئ صاحبها باعها وحفظ ثمنها، لانه إذا تركها احتاجت إلى نفقة، وفى ذلك إضرار.

وإن كان الواجد لها من الرعية ففيه وجهان

(أحدهما)

يجوز لانه يأخذها للحفظ على صاحبها فجاز كالسلطان

(والثانى)

لا يجوز لانه لا ولاية له على صاحبها بخلاف السلطان، فإن أخذها للتملك أو للحفظ وقلنا: إنه لا يجوز ضمنها لانه تعدى بأخذها فضمنها كالغاصب، وان دفعها إلى السلطان ففيه وجهان.

 

(أحدهما)

لا يبرأ من الضمان لانه لا ولاية للسلطان على رشيد.

 

(والثانى)

يبرأ، وهو المذهب، لان للسلطان ولاية على الغائب في حفظ ما يخاف عليه من ماله، ولهذا لو وجدها السلطان جاز له أخذها للحفظ على مالكها، فإذا أخذها غيره وسلمها إليه برئ من الضمان، وإن كان مما لا يمتنع من صغار السباع كالغنم وصغار الابل والبقر أخذها، لحديث زيد بن خالد الْجُهَنِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ قال في ضالة الغنم (خذها هي لك أو لاخيك أو للذئب) ولانه إذا تركها أخذها غيره أو أكلها الذئب، فكان أخذها أحوط لصاحبها، وإذا أخذها فهو بالخيار بين أن يمسكها ويتطوع بالانفاق عليها ويعرفها حولا ثم يملكها وبين ان يبيعها ويحفظ ثمنها ويعرفها ثم يملك الثمن، وبين أن يأكلها ويغرم بدلها ويعرفها، لانه إذا لم يفعل ذلك احتاج إلى نفقة دائمه، وفى ذلك إضرار بصاحبها، والامساك أولى من البيع والاكل لانه يحفظ العين على صاحبها ويجرى فيها على سنة الالتقاط في التعريف والتملك، والبيع أولى من الاكل، لانه إذا أكل استباحها قبل الحول، وإذا باع لم يملك الثمن إلا بعد الحول، فكان البيع أشبه بأحكام اللقطة، فإن أراد البيع ولم يقدر على الحاكم باعها بنفسه، لانه موضع ضرورة، وإن قدر على الحاكم ففيه وجهان.

أحدهما: لا يبيع إلا بإذنه، لان الحاكم له ولاية ن ولا ولاية للملتقط.

والثانى: يبيع من غير اذنه لانه قد قام مقام المالك فقالم مقامه في البيع، وان أكل فهل يلزمه أن يعزل البدل مدة التعريف؟ فيه وجهان.

 

(أحدهما)

لا يلزمه، لان كل حالة جاز أن يستبيح أكل اللقطة لم يلزمه عزل

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 273)

________________________________________

البدل كما بعد الحول، ولانه إذا لم يعزل كان البدل قرضا في ذمته، وإذا عزله كان أمانة والقرض أحوط من الامانة.

 

(والثانى)

يلزمه عزل البدل لانه أشبه بأحكام اللقطة، فإن من حكم اللقطة أن تكون أمانة قبل الحول، وقرضا بعد الحول، فيصير البدل كاللقطة ان شاء حفظها له وان شاء عرفها ثم تملك.

وان أفلس الملتقط كان صاحبها أحق بها من سائر الغرماء، وان وجد ذلك في بلد.

فقد روى المزني أن الصغار والكبار في البلد لقطة، فمن أصحابنا من قال: المذهب ما رواه المزني، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا فرق بين الصغار والكبار في البرية، لان الكبار لا يخاف عليها لانها ترد الماء وترعى الشجر وتتحفظ بنفسها، والصغار يخاف عليها لانها لا ترد الماء والشجر فتهلك، وأما في البلد فالكبار كالصغار في الخوف عليها، فكان الجميع لقطة.

وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: فِيهِ قَوْلٌ آخَرُ أن البلد كالبرية، فالصغار فيه لقطة، والكبار ليست بلقطة لعموم الخبر، فإن قلنا: ان البلد كالبرية فالحكم فيه على ما ذكرناه الا في الاكل، فله أن يأكل الصغار في البرية، وليس له أكلها في البلد، لان في البرية إذا لم يأكل الصغار هلكت، لانه لا يمكن بيعها، وفى البلد يمكن بيعها، فلم يجز الاكل، وان قلنا: ان الجميع في البلد لقطه فالحكم في الكبار كالحكم في الصغار في البرية الا في الاكل، فإن لا يأكل في البلد ويأكل الصغار في البريه لما ذكرناه.

 

(فصل)

وان وجد عبدا صغيرا لا تمييز له أن يلتقطه، لانه كالغنم يعرفه حولا ثم يملكه، وان وجد جاريه صغيرة لا تمييز لها، فان كان لا يحل له وطؤها جاز له أن يلتقطها للتملك، كما يجوز أن يقترضها، وان كانت تحل له لم يجز أن يلتقطها للتملك كما لا يجوز أن يقترضها.

(الشرح) حديث زيد بن خالد الجعفي متفق عليه، وقد مضى الكلام عليه في الفصل قبله.

أما الاحكام: فان ضوال الحيون إذا وجدت لم يخل حالها من أحد أمرين، اما أن توجد في صحراء أو في مصر، فان وجدت في صحراء فعلى ضربين:

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 274)

________________________________________

(أحدهما)

أن يكون مما يصل بنفسه إلى الماء والرعى، ويدفع عن نفسه صغار السباع، اما لقوة جسمه كالابل والبقر والخيل والبغال والحمير.

واما لبعد أثره كالغزال والارنب والطير، فهذا الانواع كلها لا يجوز لواجدها أن يتعرض لاخذها إذا لم يعرف مالكها لقوله صلى الله عليه وسلم في ضوال الابل: مالك ولها معها حذاؤها، أي خفها الذى يقيها العثرات وتعتمد عليه في السعي إلى المرعى بدون أن يتجشم أحد تقديم الطعام إليها، ومعها سقاؤها، اشارة إلى طول عنقها، فتمد عنقها إلى الماء فلا تحتاج إلى من يقدمه لها.

ولذا قال: ترد الماء وتأكل الشجر حتى يأتي ربها ولانها تحفظ أنفسها فلم يكن لصاحبها حظ في أخذها فإن أخذها لم يخل من أحد أمرين، أما أن يأخذها لقطة ليتملكها ان لم يأت صاحبها، فهطا متعد وعلى ضمانها، فإن أرسلها لم يسقط الضمان.

وقال أبو حنيفة ومالك: قد سقط الضمان عنه بالارسال بناء على أن من تعدى في وديعة ثم كف عن التعدي فعندهما يسقط عنه الضمان.

وعند الشافعي وأصحابه لا يسقط، فان لم يرسلها ودفعها إلى مالكها فقد سقط عنه ضمانها بأدائها

إلى مستحقها، وان دفعها إلى الحاكم عند تعذر المالك ففى سقوط الضمان وجهان:

(أحدهما)

قد سقط لان الحاكم نائب عمن غاب

(والثانى)

لا يسقط لانها قد تكون لحاضر لا يولى عليه.

والامر الثاني: أن لا يأخذها لقطة ولكن يأخذها حفظا لها على مالكها، فان كان عارفا بمالكها لم يضمن ويده يد أمانة حتى تصل إلى المالك.

وان كان غير عارف للمالك ففى وجوب الضمان وجهان

(أحدهما)

لا ضمان لانه من التعاون على البر والتقوى (والوجه الثاني) عليه الضمان لانه لا ولاية له على غائب، فان كان واليا كالامام أو الحاكم فلا ضمان عليه، فقد روى أن عمر رضى الله عنه كانت له حظيرة يحظر فيها ضوال المسلمين.

فهذا حكم أحد الضربين والضرب الثاني: ما لا يدفع عن نفسه ويعجز عن الوصول إلى الماء والرعى كالغنم والدجاج، فلو أخذه وأكله في الحال من غير تعريف، غنيا كان أو فقيرا

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 275)

________________________________________

فعليه غرمه لمالكه إذا وجده، وبه قال أبو حنيفة.

وقال مالك وداود: هو غير مضمون عليه ويأكله إباحة ولا غرم عليه في استهلاكه استدلالا بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (هي لك أو لاخيك أو للذئب) ومعلوم أن ما استهلكه الذئب هدر لا يضمن، وإنما أراد بيان حكم الآخذ في سقوط الضمان، ولان ما استباح أخذه من غير ضرورة إذا لم يلزمه تعريفه لم يلزمه غرمه كالدراهم وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبِ نفس منه) ولانها لقطة يلزمه ردها مع بقائها، فوجب أن يلزمه غرمها عند استهلاكها قياسا على اللقطة في الاموال، ولانها ضالة فوجب أن تضمن بالاستهلاك كالابل.

فأما الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (هي لك أو لاخيك أو للذئب) فهو أنه نبه بذلك على إباحة الاخذ وجواز الاكل دون الغرم.

وأما الركاز فإنه لا يلزم رده فلذلك سقط غرمه، وليس كذلك الشاة، لان ردها واجب فصار غرمها واجبا.

فإذا ثبت جواز أخذ الشاة وما لا يدلع عن نفسه وإباحة أكله ووجوب غرمه فكذلك صغار الابل والبقر، لانها لا تمنع عن أنفسها كالغنم ثم لا يخلو حال واجد الشاة وما في معناها من أربعة أحوال (أحدها) أن يأكلها فيلزمه غرم قيمتها قبل الذبح عند الاخذ في استهلاكها ويكون ذلك مباحا لا يأثم به وان غرم (والحال الثانية) أن يتملكها ليستبقيها حية لدر أو نسل فذلك له، لانه لما استباح تملكها مع استهلاكها فأولى أن يستبيح تملكها مع استبقائها ثم في صحة ضمانها وجهان كالعارية مخرجا.

وفى الاختلاف قولين في ضمان الصداق، أحدهما أنه ضامن لقيمها أكثر ما كانت من حين وقت التملك إلى وقت التلف، فإن جاء صاحبها وهى باقية وقد أخذ الواجد درهما ونشلها كان الدر والنسل للواجد لحدوثه على ملكه، وللمالك أن يرجع بها دون قيمتها، فإن بذلك له الواجد قيمتها لم يجبر على أخذها مع بقاء عينها إلا أن يتراضيا على ذلك فيجوز، فلو كانت

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 276)

________________________________________

الشاة حين رجع بها المالك زائدة في بدنها أو قيمتها لم يكن للواجد حق في الزيادة وكانت للمالك تبعا للاصل، ولو كانت ناقصة رجع المالك بنقصها على الواجد لانها مضمونة بالتلف فكانت مضمونة بالنقص.

والحال الثالثة: أن يستبقيها في يديه أمانة لصاحبها فذلك له، لانه لما جاز أن يتملكها على صاحبها فأولى أن يحفظها لصحابها.

ولا يلزمه تعريفها، لان ما جاز

تملكه سقط تعريفه، ولا يلزمه إخبار الحاكم بها ولا الاشهاد عليها، بل إذا وجد صاحبها سلمها إليه، ولا ضمان عليه مدة إمساكها لصاحبها لو تلفت أو نقصت لان يده يد أمانة كالمعرف.

وقال بعض أصحابنا وجها آخر أنه يضمنها لان إباحة أخذها مقصور على الاكل الموجب للضمان دون الائتمان.

وهكذا القول فيما حدث من درها ونسلها على المذهب لا يضمنه.

وعلى هذا الوجه يضمنه، فان أنفق عليها أكثر من مؤنة علوفتها، فإن كان ذلك منه مع وجود حمى للمسلمين ترعى فيه فهو متطوع بالنفقة وليس له الرجوع بها، وإن كان مع عدم الحمى، فان كان عن إذن الحاكم رجع بما أتفق، وإن كان عن غير إذنه، فان كان قادرا على استئذانه لم يرجع بها وان لم يقدر عل استئذانه، فان لم يشهد لم يرجع.

وان أشهد ففى رجوعه بها وجهان

(أحدهما)

يرجع للضرورة

(والثانى)

لا يرجع لئلا يكون حاكم نفسه فلو أراد بعد امساكها أمانة، أن يتملكها ففى جوازه وجهان

(أحدهما)

له ذلك كالابتداء

(والثانى)

ليس له ذلك لاستقرار حكمها فأما ان أراد أن يتملك درها وتسلمها من غير أن يتملك أصلها لم يكن له ذلك وجها واحدا، لانه فرع يتبع أصله، فلو أرسلها بعد امساكها أمانة لزمه الضمان الا أن يرفعها إلى حاكم فلا يضمن.

ولو نوى تملكها ثم أراد أن يرفع ملكه عنها لتكون أمانة لصاحبها لم يسقط عنه ضمانها.

وفى ارتفاع ملكه عنها وجهان (احدهما) لا يرتفع ملكه لان الملك لا يزول الا بقبول المتملك، فعلى هذا يكون مالكا لما حدث من درها ونسلها لبقائها على ملكه.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 277)

________________________________________

والوجه الثاني: يرتفع ملكه عنها مع بقاء ضمانها وذلك أحوط لمالكها، ووجه

ذلك أنه لما جاز أن يتملكها من غير بذل مالكها جاز أن يزول ملكه عنها من غير قبول متملكها، فعلى هذا يكون الحادث من درها ونسلها ملك لربها تبعا لاصلها وعليه ضمانها كالاصل.

والحال الرابعة: أن يريد بيعها فلا يخلو ذلك من أحد أمرين: إما أن يبيعها قبل أن يملكها فذلك له ويكون ضامنا بقيمتها دون ثمنها.

وفى هذه الحال تفصيل مضى للمصنف في فصل مضى.

قال المزني فيما وصفه بخطه: إذا وجد الشاة أو البعير أو الدابة ما كانت في المصر أو في قرية فهى لقطة يعرفها سنة.

قد مضى حكم ضوال الابل والغنم إذا وجدها في الصحراء، فأما إذا وجدها في البلد أو المصر فالذي حكاه المزني فيما وجده بخط الشافعي أنها لقطة له أخذها وعليه تعريفها حولا وحكى عن الشافعي في الام أنها في المصر والصحراء سواء، يأكل الغنم ولا ولا يعرض للابل، فاختلف أصحابنا فمنهم من خرج ذلك على قولين

(أحدهما)

أن المصر كالبادية يأكل الغنم ولا يعرض للابل، وهى المحكى في الام لعموم قوله صلى الله عليه وسلم (ضالة المؤن حرق النار) أخرجه أحمد وابن ماجه وابن حبان والطبراني والطحاوى من حديث عبد الله بن الشخير والقول الثاني: أنها لقطة يأخذها الغنم والابل جميعا، ويعرفها كسائر اللقطة حولا كاملا، وهو الذى حكاه المزني عنه فيما لم يسمع منه، لان قوله صلى الله عليه وسلم في ضوال الابل: معها حذاؤها وسقاؤها ترد الماء وتأكل الشجر يختص بالبادية التى يكون فيها الماء والشجر دون المصر، وهى تمنع صغار السباع عن أنفسها في البادية، ولا يقدر على منع الناس في المصر، والشاة تؤكل في البادية لان الذئب يأكلها وهو لا يأكلها في المصر، فاختلف معناهما في البادية

والمصر فاختلف حكمهما.

ومن أصحابنا من يحمل جواز أحدهما على تسليمها إلى الامام وحمل المنع من أخذها على سبيل التملك.

هذا وبقية ما جاء في الفصل على وجهه.

والله أعلم.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 278)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله تعالى

(فصل)

وإن وجد كلب صيد لم يجز أن ينتفع به قبل الحول فإن عرفه حولا ولم يجد صاحبه جاز له أن ينتفع به: لان الانتفاع بالكلب كالتصرف في المال والتصرف في المال يقف على التعريف في الحول، فكذلك الانتفاع بالكلب.

 

(فصل)

وإن وجد ما لا يبقى كالشواء والطبيخ والخيار والبطيخ فهو بالخيار بين أن يأكله ويغرم البدل، وبين أن يبيعه ويحفظ الثمن على ما ذكرناه في الغنم في بيعه وحفظ ثمنه وأكله وعزل بدله، وخرج المزني فيه قولا آخر أنه يلزمه البيع، ولا يجوز الاكل، والمذهب الاول، لانه معرض للهلاك فخير فيه بين البيع والاكل كالغنم، وان وجد ما لا يبقى ولكن يمكن التوصل إلى حفظه كالرطب والعنب - فان كان الانفع لصاحبه أن يباع - بيع، وإن كان الانفع أن يجفف جفف، وإن احتاج إلى مؤنة في تجفيفه ولم يوجد من يتطوع بيع بعضه وأنفق عليه.

 

(فصل)

وإن وجد خمرا أراقها صاحبها لم يلزمه تعريفها، لان اراقتها مستحقة فلم يجز التعريف، فإن صارت عنده خلا ففيه وجهان.

أحدهما: أنها لمن أراقها لانها عادت إلى الملك السابق، والملك السابق الذى أراق، فعاد إليه كما لو غصبه من رجل فصار في يده خلا.

والثانى: أنه للملتقط لان الاول أسقط حقه منها فصارت في يد الثاني، ويخالف المغصوبة لانها أخذت بغير رضاه فوجب ردها إليه.

 

(فصل)

فاما العبد إذا وجد لقطة ففيه قولان

(أحدهما)

له أن يلتقط لانه كسب بفعل فجاز للعبد كالاصطياد

(والثانى)

لا يجوز لان الالتقاط يقتضى ولاية قبل الحول وضمانا بعد الحول والعبد ليس من أهل الولاية ولا له ذمة يستوفى منها الحق إلى أن يعتق ويوسر، فان قلنا: انه يجوز أن يلتقط فالتقط فهلك في يده من غير تفريط لم يضمن، وان هلك بتفريط ضمنها في رقبته فتباع فيها، وان عرفها صح تعريفه ولا يملك به لانه في أحد القولين لا يملك المال،

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 279)

________________________________________

وفى الثاني: يملك إذا ملكه السيد، وههنا لم يملكه السيد، فان قلنا: ان الملتقط يملك بالتعريف من غير اختيار التملك دخل في ملك السيد كما يدخل في ملكه ما التقطه وعرفه، وان قلنا: لا يملك الا باختيار التملك وقف على اختياره، فان تملكها العبد وتصرف فيها ففيه وجهان.

 

(أحدهما)

يضمنها في ذمته ويتبع بها إذا عتق كما لو اقترض شيئا.

 

(والثانى)

يضمنها في رقبته لانه مال لزمه بغير رضا من له الحق، فتعلق برقبته كأرش الجناية.

وان علم السيد نظرت فان لم يكن عرفها العبد عرفها السيد حولا ثم تملك وان عرفها العبد تملكها السيد في الحال لان تعريف العبد كتعريفه فان عرفها العبد بعض الحول عرفها السيد ما بقى ثم تملك، وان أقرها في يد العبد نظرت، فان كان العبد أمينا لم يضمن كما لا يضمن ما التقطه بنفسه وسلمه إلى عبده، وان كان خائنا ضمنها كما لو التقطها بنفسه وسلمها إليه وهو خائن.

وان قلنا: أنه لا يجوز أن يلتقط فالتقط ضمنها في رقبته لانه أخذ مال غيره بغير حق فأشبه إذا غصبه، وان عرفها لم يصح تعريفه لانها ليست في يده بحكم اللقطة، فان علم السيد نظرت، فان أخذها صارت في يده أمانة لانه أخذ ما يجوز

له أخذه بحكم الالتقاط فصار كما لو وجد لقطة فالتقطها ويبرأ العبد من الضمان لانه دفعها إلى من يجوز الدفع إليه فبرئ من الضمان كما لو دفعها إلى الحاكم.

وان أراد أن يتملك ابتدأ التعريف ثم تملك، فان أقرها في يد العبد ليعرفها فان كان أمينا لم يضمن كما لو استعان به في تعريف ما التقطه بنفسه وان لم يأخذها ولا أقرها في يده ولكنه أهملها، فقد روى المزني أنه يضمنها في رقبة العبد.

وروى الربيع أنه يضمنها في ذمته ورقبه العبد، فمن أصحابنا من قال: الصحيح.

ما رواه المزني أنه يختص برقبته لان الذى أخذ هو العبد فاختص الضمان برقبته فعلى هذا ان تلف العبد سقط الضمان.

وقال أبو إسحاق: الصحيح ما رواه الربيع وأنه يتعلق بذمة السيد ورقبة العبد لان العبد تعدى بالاخذ والسيد تعدى بالترك فاشتركا في الضمان، فعلى هذا ان

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 280)

________________________________________

تلف العبد لم يسقط الضمان وان التقط العبد لقطة ولم يعلم السيد بها حتى أعتقه، فعلى القولين، إن قلنا: أنه يجوز للعبد أن يلتقط.

كان للسيد أن يأخذها منه لانه كسب له حصل له في حال الرق فكان للسيد كسائر أكسابه، وان قلنا: لا يجوز له أن يلتقط لم يكن للسيد أن يأخذها منه لانه لم يثبت للعبد عليه يد الالتقاط، فعلى هذا يكون العبد أحق بها لانها في يده وهو من أهل الالتقاط (١) ، ويحتمل أن لا يكون أحق بها لان يده يد ضمان فلا تصير يد أمانة.

 

(فصل)

وإن وجد المكاتب لقطة فالمنصوص أنه كالحر، واختلف اصحابنا فيه، فمنهم من قال: انه كالحر قولا واحدا لانه يملك التصرف في المال وله ذمة يستوفى منها الحق فهو كالحر، ومنهم من قال: هو كالعبد لانه ناقص بالرق كالعبد فيكون في التقاطه قولان، فان قلنا: أنه كالحر أو قلنا أنه كالعبد وجوزنا التقاطه صح تعريفه فإذا عرفها ملكها لانه من أهل الملك، وإذا قلنا أنه كالعبد ولم نجوز التقاطه صار ضامنا لانه تعدى بالاخذ ويجب أن يسلمها إلى السلطان

لانه لا يمكن اقرارها في يده لانها في يده بغير حق ولا يمكن تسليمها إلى السيد لانه لا حق له في أكسابه فوجب تسليمها إلى السلطان فان أخذها السلطان برئ المكاتب من الضمان فتكون في يد السلطان أبدا إلى أن يجد صاحبها.

 

(فصل)

وان وجد اللقطة من نصفه حر ونصفه عبد فالمنصوص أنه كالحر فمن أصحابنا من قال: هو كالحر قولا واحدا لانه تملك ملكا تاما وله ذمة صحيحة فهو كالحر، ومنهم من قال هو كالعبد القن لما فيه من نقص الرق فيكون على قولين فإذا قلنا: انه كالحر نظرت، فإن لم يكن بينه وبين السيد مهايأة كانا شريكين فيها كسائر أكسابه، وان كان بينهما مهايأة، فإن قلنا: ان الكسب النادر لا يدخل في المهايأة كانت اللقطة بينهما لانه بمنزلة ما لم يكن بينهما مهايأة، وان قلنا: ان الكسب النادر يدخل في المهايأة كانت اللقطة لمن وجدها في يومه.

 

(فصل)

وإن وجد المحجور عليه لسفه أو جنونه أو صغر لقطة صح التقاطه

________________________________________

(١) هكذا بالاصل ولينظر فيه فانه جعله من غير أهل الالتقاط اه مصححه

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 281)

________________________________________

لانه كسب بفعل فصح من المحجوز عليه كالاصطياد وعلى الناظر أمره أن ينتزعها منه ويعرفها لان اللقطة في مدة التعريف أمانة والمحجور عليه ليس من أهل الامانة فان كان ممن يجوز الاقتراض عليه تملكها له، وإن كان ممن لا يجوز الاقتراض عليه لم يتملك له لان التملك بالالتقاط كالتملك بالاقتراض في ضمان البدل.

 

(فصل)

وان وجد الفاسق لقطة لم يأخذها لانه لا يؤمن أن لا يؤدى الامانة فيها فان التقطها ففيه قولان.

 

(أحدهما)

لا تقر في يده وهو الصحيح لان الملتقط قبل الحول كالموالي في حق الصغير.

والفاسق ليس من أهل الولاية في المال

(والثانى)

تقر في يده لانه كسب بفعل فاقر في يده كالصيد، فعلى هذا يضم

إليه من يشرف عليه وهل يجوز أن ينفرد بالتعريف فيه قولان

(أحدهما)

يجوز لان التعريف لا يفتقر إلى الامانة

(والثانى)

لا يجوز حتى يكون معه من يشرف عليه لانه لا يؤمن أن يفرط في التعريف فإذا عرفه ملكه لانه من أهل التملك.

 

(فصل)

وان التقط كافر لقطة في دار الاسلام ففيه وجهان

(أحدهما)

يملك بالتعريف لانه كسب بالفعل فاستوى فيه الكافر والمسلم كالصيد

(والثانى)

لا يملك لان تصرفه بالحفظ والتعريف بالولاية.

والكافر لا ولاية له على المسلم (الشرح) قال الشافعي رضى الله عنه: فإن كانت اللقطة طعاما رطبا لا يبقى فله أن يأكله إذا خاف فساده ويغرمه لربه.

وقال فيما وضع خطه لا أعلمه سمع منه إذا خاف فساده أحببت أن يبيعه ويقيم على تعريفه.

قال المزني: هذا أولى القولين به اه.

قلت: أما الطعام الرطب فضربان: أحدهما أن يكون مما يبس فيبقى كالرطب الذى يصير تمرا، والعنب الذى يصير زبيبا فهذا حكمه حكم غير الطعام في وجب تعريفه واستبقائه، فإن احتاج تجفيفه إلى مؤنة كانت على مالكه، ويفعل الحاكم أحفظ الامرين للمالك من بيعه أو الانفاق عليه.

(والضرب الثاني) أن يكون مما لا يبقى كالطعام الذى يفسد بالامساك كالهريسة والفواكه والبقول التى لا تبقى على الايام، فقد حكى المزني عن الشافعي ههنا أنه

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 282)

________________________________________

قال في موضع: يألكه الواجد، وقال في موضع آخر: أحببت أن يبيعه، فاختلف أصحابنا فكان أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هريرة وطائفة من أصحابنا يخرجون على قولين.

 

(أحدهما)

لواجده أكله كالشاة التى لما تعذر استبقاؤها أبيح لواجدها أكلها (والقول الثاني) ليس لواجده أكله بخلاف الشاة لا يجب تعريفها فأبيح له

أكلها، والطعام وان كان رطبا يجب تعريفه فلم يستبح واجده أكله.

وحكى أبو على بن أبى هريرة أن ذلك على اختلاف حالين ان كان الحاكم موجودا يقدر على بيعه لم يكن لواجده أكله، وان كان معدوما جاز أكله.

وكان أبو القاسم الصيمري يقول: اختلاف حاليه في إباحة أكله معتبر بحال واجده، فإن كان فقيرا محتاجا استباح أكله، وان كان غنيا لم يستبحه، فإن قلنا بجواز أكله فاكله صار ضامنا لقيمته وعليه تعريف الطعام حولا، وهل يلزمه عزل قيمته من ماله عند أكله أم لا؟ على قولين.

 

(أحدهما)

يلزمه عزل القيمة لئلا يصير متملك اللقطة.

(والقول الثاني) لا يجب عليه عزلها لانه لو عزلها فهلكت كانت من ماله، فكانت ذمته أحظ لها، ولم يكن عزلها مفيدا، ومن قال بالاول جعل فائدة عزلها أنه لو أفلس بعد عزل قيمتها ثم حضر المالك كان أولى بالمعزول من قيمتها من جميع الغرماء، وزعم أن تلفها من يده بعد وجوب عزلها لا يوجب عليه غرمها فصار في ضمانه للثمن أن تلف بعد وجوب عزله وجهين.

أحدهما - وهو قول ابن أبى هريرة انه يكون مضمونا عليه.

والثانى وهو الاشبه: أنه لا ضمان عليه لان الثمن مع وجوب عزله يقوم مقام الاصل مع بقائه.

وإذا قلنا: لا يجوز له أكله فعليه ان يأتي الحاكم حتى يأذن له في بيبعه، ولا يجوز أن يتولى بنفسه مع القدرة على استئذان الحاكم بخلاف الشاة إذا وجدها وأراد بيعها لان يده على الشاة اقوى لما استحقه عاجلا من أكلها ويده على الطعام أضعف لما وجب عليه من تعريفه، فان أعوزه اذن الحاكم جاز بيعه فلو باعه باذن الحاكم كان الثمن في يده امانة، وعليه تعريف الطعام حولا،

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 283)

________________________________________

فان جاء صاحبه فليس له الا الثمن دون القيمة، ولو لم يأت صاحبه فللواجد أن

يتملك الثمن.

ولو هلك الثمن في يده قبل الحول أو بعده وقبل التملك له كان تالفا من مال ربه ولا ضمان على الملتقط، وهكذا حكم الثمن لو كان الواجد هو البائع عند إعواز الحاكم.

فاما ان باعه مع وجود الحاكم فبيعه باطل وللمالك القيمة دون الثمن لفساد العقد، فان تلف الثمن من يد الواجد قبل الحول عليه غرمه لتعديه بقبضه مع فساد بيعه، فان حضر المالك والثمن بقدر القيمة من غير زيادة ولا نقص أخذه وهو مبلغ حقه، وان كان أقل فله المطالبة بتمام القيمة ويرجع على المشترى لان المشترى اشترى شراء فاسدا فكان ضامنا للقيمة دون المسمى الا أن يشاء.

المالك ان يسامح بفاضل القيمة ويكون الباقي منه مردودا على المشترى، إذ ليس يلزمه الا القيمة.

وما ساقه المصنف من مسائل فعلى وجهه، هذا وما ذكر في الفصل من كلب الصيد إذا التقط فقد وفاه في المجموع في الصيد فاشدد به يديك (فرع)

مذهبا لا فرق بين المسلم والذمى في أخذها للتعريف والتملك بعد الحول لانها كسب يستوى فيه المسلم والذمى.

وقال بعض أصحابنا: لاحق للذمي فيها وهو ممنوع من أخذها وتملكها لانه ليس من أهل التعريف لعدم ولايته على مسلم، ولا ممن يملك مرافق دار الاسلام كإحياء الموات.

ولاحمد وأصحابه انه كالصبى والمجنون فانه يصح التقاطهما مع عدم الامانة، فإذا التقطها الذمي وعرفها حولا ملكها كالمسلم، وإن علم بها الحاكم أو السلطان اقرها في يده وضم إليه مشرفا عدلا (حارسا) يشرف عليه ويعرفها قالوا لاننا لا نأمن الكافر على تعريفها ولانا منه ان يخل في التعريف بشئ من الواجب عليه فيه.

ويحتمل عندهم أن تنزع من يد الذمي وتوضع على يد عدل، لانه غير مأمون عليها، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 284)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله تعالى:

 

‌كتاب اللقيط

التقاط المنبوذ فرض على الكفاية لقوله تعالى (وتعاونوا على البر والتقوى) ولانه تخليص آدمى له حرمة من الهلاك فكان فرضا كبذل الطعام للمضطر.

قال (اخذت منبوذا على عقد عمر رضى الله عنه فذكره عريفي لعمر رضى الله عنه فارسل إلى فدعاني والعريف عنده، فملما رأني قال: عسى الغوير ابؤسا، فقال عريفي انه لا يتهم، فقال عمر: ما حملك على ما صنعت؟ قلت: وجدت نفسا بمضيعة فأحببت أن يأجرني الله فيه، فقال هو حر وولاؤه لك وعلينا رضاعه.

ولان الاصل في الناس الحرية، فان كان عليه ثياب أو حلى أو تحته فراش أو في يده دارهم أو عنان فرس، أو كان في دار ليس فيها غيره فهى له، لانه حر، فكان ما في يده له كالبالغ.

وان كان على بعد منه مال مطروح أو فرس مربوط لم يكن له لانه لايد له عليه.

وان كان بالقرب منه وليس هناك غيره ففيه وجهان

(أحدهما)

ليس له لانه لا يد له عليه

(والثانى)

له لان الافسان قد يترك ماله بقربه فإذا لم يكن هناك غيره فالظاهر انه له، وان كان تحته مال مدفون لم يكن له لان البالغ لو جلس على الارض وتحته دفين لم يكن له ذلك فكذلك اللقيط.

 

(فصل)

وان وجد في بلد من بلاد المسلمين وفيه مسلم فهو مسلم، لانه اجمتع له حكم الدار واسلام من فيها، وان كان في بلد الكفار ولا مسلم فيه، فهو كافر، لان الظاهر انه ولد بين كافرين.

وان كان فيه مسلم ففيه وجهان.

 

(أحدهما)

انه كافر تغليبا لحكم الدار

(والثانى)

انه مسلم تغليبا لاسلام المسلم الذى فيه.

وان التقطه حر مسلم امين مقيم موسر أقر في يده، لما ذكرناه مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلِأَنَّهُ لابد من ان يكون في يد من يكفله، فكان

الملتقط أحق به لحق السبق

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 285)

________________________________________

(الشرح) اثر عمر وسنين ابى جميلة رواه سعيد بن منصور عن سفيان عن الزهري سمع سنينا أبا جميلة بهذا.

وقال الامير ابن مأكولا في كتاب الاكمال: سنين بنونين بينهما ياء حج من النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ، وروى عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وروى عنه الزهري.

قال أبو موسى: سنين بن فرقد.

أما غريب الخبر فقوله (قد كره عريفي) العريف رجل يكون رئيسا على نفر يعرف أمورهم ويجمعهم عند الغزو، وهو فعيل بمعنى فاعل وقوله (عسى الغوير أبؤسا) الغوير ماء لبنى كلب وهذا مثل، أول من تكلم به الزباء ملكة تدمر حين رأت الابل عليها الصناديق فاستنكرت شأن قصير إذ أخذ على غير الطريق أرادت عسى أن يأتي بذلك الطريق بشر، والابؤس جمع بأس وانتصابه بعسى على أنه خبره على ما عليه أصل القياس.

وقال الاصمعي: أصله أنه كان غار فيه ناس فانهار عليهم أو أتاهم فيه عدو فقتلهم فصار مثلا لكل شئ يخاف أن يأتي منه شر.

وقوله بمضيعه على وزن معيشة أي مهلكة من ضاع الشئ أي هلك، وقد أتى على هذا الوزن في قول قيس بن ذريح: بدار مضيعة تركتك لبنى كذلك الحين يهدى للمضاع هكذا أفاده ابن بطال في شرح غريب المهذب، وللقيط فعيل بمعنى مفعول وهو الملقوط، وهو يطلق على الطفعل المنبوذ والتقاطه واجب لقوله تعالى (تعاونوا على البر والتقوى) ولان فيه إحياء نفس فكان واجبا كاطعام المضطر وإنجائه من الغرق، وكذلك قوله تعالى (ومن أحياها

فكأنما أحيا الناس جميعا، على أن تسميته منبوذا بعد أخذه والتقاطه أو تسميته لقيطا قبل أخذه فهذا وان كان مجازا لكنه صار حقيقة شرعية فهو بعد أخذه يبقى مجازا بناء على زوال الحقيقة بزوال المعنى المشتق منه.

وحكمه شرعا فرض كفاية إذا علم به جماعة وأداه بعضهم سقط عن الباقين،

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 286)

________________________________________

فان تركه الجمعة أثموا جميعا إذا علموا فتركوه مع إمكان أخذه.

على أن اللقيط حر في قول عامة أهل العلم الا النخعي.

قال ابن المذر: أجمع عوام أهل العلم أن اللقيط حر، روى هذا عن عمر وعلى رضى الله عنهما، وبه قال عمر بن عبد العزيز والشعبى والحكم وحماد ومالك والثوري والشافعي واسحاق وأحمد بن حنبل وأصحاب الرأى ومن بتعهم.

وقال النخعي: إن التقطه للحبسة فهو حر، وان كان أراد أن يسترقه فذلك له، وذلك قول شذ فيه عن الخلفاء والعلماء، ولا يصح في النظر، فان الاصل في الادميين الحرية، فإن الله تعالى خلق آدم وذريته أحرارا، وانما الرق للعارض فإذا لم يعلم ذلك العارض فله حكم الاصل.

واللقيط اما أن يوجد في دار الاسلام أو في دار الكفر: فالاولى ضربان، دار اختطها المسلمون وأحدثوا مبانيها ابتداء أو أعادوا بناءها بعد أن كانت لغيرهم لغلبة الاسلام عليها وأصطباغها بصبغة الاسلام فلا يوجد فيها من غير المسلمين إلا قليل فلقيط هذه البلاد يحكم باسلامه، وإن كان فيها أهل ذمة تغليبا للاسلام ولظاهر الدار، ولان الاسلام يعلو ولا يعلى، فمثل التى أنشأها المسلمون الكوفة والبصرة وبغداد والقاهرة والفسطاط وتونس والرباط، ومثل التى أعادها المسلمون الاسكندرية ودمشق ودمنهور والقدس صانها الله وطهرها من رجس اعدائه اليهود، وقد مضى عام بتمامه منذ غزاها اليهود إلى ساعة كتابة هذا الفصل

وحسبنا الله ونعم الوكيل.

(الضرب الثاني) بلاد فتحها المسلمون وبقى أهلها على دينهم فإذا وجد فيها مسلم واحد كان لقيطها مسلما تغليبا لحكم الاسلام ووجود مسلم فيها.

وأما بلد الكفار فضربان ايضا، بلد كان للمسلمين فغلب الكفار عليه كبلاد فلسطين فهذا كالضرب الذى قبله ان كان فيه مسلم حكم باسلام لقيطه: الثاني بلد لم يفتحه المسلمون من قبل أو فتحوه وغلب الكفار عليه واستأصلوا منه شأفة المسلمين كبلاد الاندلس (لهفى على قرطبه ومرسية وقشتالة وغرناطة ومجريط (مدريد) وميورقه كلهفي على ربوع المسجد الاقصى وما حوله من المباركات)

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 287)

________________________________________

ففى لقيطها مع وجود مسلم فيها وجهان

(أحدهما)

ان يحكم بكفره تغليبا للدار.

والوجه الثاني أنه مسلم تغليبا للاسلام بوجود مسلم فيه، وهذا التفصيل كله مذهب أحمد بن حنبل أيضا.

والضرب الثاني: دار لم تكن للمسلمين أصلا كأكثر بلاد أوربا وأمريكا.

فهذه البلاد إن لم يكن فيها مسلم فلقيطها كافر قال ابن المنذر: أجمع عوام أهل العلم على أن الطفل إذا وجد في بلاد المسلمين ميتا في أي مكان وجد وجب غسله وكفنه ودفنه في مقابر المسلمين، وقد منعوا أن يدفن أطفال المشركين في مقابر المسلمين.

قال: إذا وجد لقيط في قرية ليس فيها الا مشرك فهو على ظاهر ما حكموا به انه كافر.

هذا قول الشافعي وأحمد وأصحاب الرأى.

قالوا وفى الموضع الذى حكمنا باسلامه إنما يثبت ذلك ظاهرا لا يقينا، لانه يحتمل ان يكون ولد كافر، فلو أقام كافر بينة أنه ولد على فراشه حكمنا له به.

وإذا بلغ اللقيط حدا يصح فيه اسلامه وردته فوصف الاسلام فهو مسلم، سواء

ممن حكم باسلامه أو كفره، وان وصف الكفر وهو ممن حكم باسلامه فهل هو مرتد لا يقر على كفره؟ نص الشافعي في الام انه يقر على كفره ولا يكون مرتدا.

وقال أبو حنيفة هو مرتد لا يقر على كفره، وعند الحنابلة وجهان كقولي أبى حنيفة والشافعي.

دليلنا أنه وصف الكفر بقوله، وقوله اقوى من ظاهر الدار.

اللهم الا أن يقال: الاحتياط للاسلام يلغى قوله المانع له لاحتمال أن يكون كذبا.

هكذا أفاده الرملي.

 

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

فان كان له مال كانت نفقته في ماله كالبالغ، ولا يجوز للملتقط أن ينفق عليه من ماله بغير اذان الحاكم، فان أنفق عليه من غير اذنه ضمنه لانه لا ولاية له عليه الا في الكفالة فلم يملك الانفاق بنفسه كالام، وان فوض إليه الحاكم أن ينفق عليه مما وجده معه فقد قال في كتاب اللقيط يجوز.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 288)

________________________________________

وقال في كتاب اللقطة: إذا انفق الواحد على الضالة ليرجع به لم يجز حتى يدفع إلى الحاكم ثم يدفع الحاكم إليه ما ينفق عليه، فمن أصحابنا من نقل جواب كل واحدة من المسئلتين إلى الاخرى، وجعلهما على قولين

(أحدهما)

لا يجوز لانه لا يلى بنفسه فلم يجز ان يكون وكيلا لغيره في القبض له من نفسه، كما لو كان عليه دين ففوض إليه صاحب الدين قبض ماله عليه من نفسه

(والثانى)

يجوز لانه جعل أمينا على الطفل فجاز أن ينفق عليه مما له في يده كالوصي.

ومنهم من قال: يجوز في اللقيط ولا يجوز في الضالة، لان اللقيط لا ولى له في الظاهر، فجاز ان يجعل الواحد وليا والضالة لها مالك هو ولى عليها فلا يجوز ان يجعل الواحد وليا عليها.

وان لم يكن حاكم فانفق من غير اشهاد ضمن، وان أشهد ففيه قولان

 

(أحدهما)

يضمن لانه لا ولاية لفضمن، كما لو كان الحاكم موجودا

(والثانى)

لا يضمن لانه موضع ضرورة، وان لم يكن له مال وجب على السلطان القيام بنفقته لانه آدمى له حرمة يخشى هلاكه، فوجب على السلطان القيام بحفظه، كالفقير الذى لا كسب له.

ومن اين تجب النفقة؟ فيه قولان

(أحدهما)

من بيت المال، لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ استشار الصحابة في نفقة اللقيط فقالوا من بيت المال، ولان من لزم حفظه الانفاق ولم يكن له مال وجبت نفقته من بيت المال، كالفقير الذى لا كسب.

فعلى هذا لا يرجع على احد بما انفق عليه، والقول الثاني لا يجب مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، لِأَنَّ مَالَ بَيْتِ الْمَالِ لا يصرف الا فيما لا وجه له غيره واللقيط يجوز ان يكون عبدا فنفقته على مولاه، أو حرا له مال أو فقيرا له من تلزمه نفقته، فلم يلزم من بيت المال.

فعلى هذا يجب على الامام أن يقترض له ما ينفق عليه من بيت المال أو من رجل من المسلمين، فان لم يكن في بيت المال ولا وجد من يقرضه جمع الامام من له مكنة وعد نفسه فيهم وقسط عليهم نفقته، فان بان أنه عبد رجع على مولاه.

وان بان أن له أبا موسرا رجع عليه بما اقترض له، فان لم يكن له أحد وله كسب رجع في كسبه.

وان لم يكن له كسب قضى من سهم من يرى من المساكين أو الغارمين.

 

(فصل)

واما إذا التقطه عبد فان كان باذن السيد وهو من أهل الالتقاط جاز

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 289)

________________________________________

لان الملتقط هو السيد، والعبد نائب عنه وان كان بغير اذنه لم يقر في يده لانه لا يقدر على حضانته مع خدمة السيد، وان علم به السيد واقره في يده كان ذلك التقاطا من السيد، والعبد نائب عنه (الشرح) إذا وجد مع اللقيط شئ فهو له وينفق عليه منه، والى هذا ذهب

الشافعي وأحمد وأصحاب الرأى، وذلك الطفل يملك وله يد صحيحة، بدليل أنه يرث ويورث ويصح ان يشترى له وليه ويبيع، ومن له ملك صحيح فله يد صحيحة كالبالغ فإذا ثبت هذا: فكل ما كان متصلا به أو متعلقا بمنفعة فهو تحت يده ويثبت بذلك ملكا له في الظاهر، فمن ذلك ما كان لابسا له أو مشدودا في ملبوسه أو في يديه أو مجعولا فيه كالسرير والسفط وما فيه من فرش أو دراهم، والثياب التى تحته والتى عليه، وان كان مشدودا على دابة، أو كانت مشدودة في ثيابه أو كان في خيمة أو في دار فهى له.

وأما المنفصل عنه فان كان بعيدا منه فليس في يده، وان كان قريبا منه كثوب موضوع إلى جانبه ففيه وجهان.

أحدهما: ليس هو له لانه منفصل عنه فهو كالبعيد.

والثانى: هو له، وهو أصح لان الظاهر انه ترك له فهو بمنزلة ما هو تحته، ولا القريب من البالغ يكون في يده، الا ترى ان البائع الجائل يقعد في السوق ومتاعه بقربه ويحكم بأنه في يده؟ والحمال إذا جلس لاستراحة ترك حمله قريبا منه فاما المدفون تحته فقد قال بعض الفقهاء: ان كان الحفر طريا فهو له، والا فلا، لان الظاهر أنه إذا كان طريا فواضع اللقيط حفره، وإذا لم يكن طريا كان مدفونا قبل وضعه، وقيل: ليس هو له بحال، لانه بموضع لا يستحقه إذا لم يكن الحفر طريا، فلم يكن له إذا كان طريا كالبعيد منه، ولان الظاهر انه لو كان له لشده واضعه في ثيابه ليعلم به، ولم يتركه في مكان لا يطلع عليه، وكل ما حكمنا بانه ليس له فحكمه حكم اللقطة، وما هو له انفق عليه منه، فان كان كفايته لم بجب نفقته على أحد لانه ذو مال فاشبه غيره من الناس.

فإذا ثبت هذا: فان لملتقطه الانفاق عليه بإذن الحاكم، وقال أصحاب أحمد: ينفق عليه بغير اذن الحاكم ذكره أبو عبد الله بن حامد من الحنابلة.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 290)

________________________________________

قال ابن قدامة: لانه ولى له فلم يعتبر في الانفاق عليه في حقه إذن الحاكم كوصي اليتيم، ولان هذا من الامر بالمعروف فاستوى فيه الامام وغيره كتبديد الخمر.

وروى أبو الحارث عن احمد رضى الله عنه في رجل أودع رجلا مالا وغاب وطالت غيبته وله ولد ولا نفقة له، هل ينفق عليهم؟ فلم يجعل له الانفاق عليهم من غير إذن الحاكم، فقال بعض أصحاب أحمد: هذا مثله.

وقال بعضهم وهو الصحيح عندهم: إن هذا مخالف بناء على ان الملتقط له ولاية على اللقيط عندهم فيكون له ولاية أخذه وحفظه.

ولنا أن اللقيط ينبغى أن يتولى الحاكم أمره فقد يعين له من هو أوفر خبرة وأكثر صيانة والحاكم مجتهد له بصره النافذ ورأيه الصائب وهو ولى من لا ولى له فإذا أنفق عليه الملتقط من ماله الذى وجده ضمنه لانه لا حق له في الانفاق إلا بإذن الحاكم فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي رواية الربيع بن سليمان في المنبوذ هو حر ولا ولاء له، وانما يرثه المسلمون بأنهم خولوا كل مال لا مالك له، ألا ترى أنهم يأخذون مال لنصراني ولا وارث له؟ ولو كانوا أعتقوه لم يأخذوا ماله بالولاء، ولكنهم خولوا مالا مالك له من الاموال اه.

وقال في اللقطة ما يفيد عدم جواز الانفاق على الضاله بقصد الرجوع به على ربها الا باذن الحاكم، ثم يدفع الحاكم إليه ما ينفق عليه، ففى النص الاول جعل للمسلمين جميعا حق الولاية والارث على اللقيط وماله، وفى النص الثاني جعل ذلك باذن الحاكم، فمن أصحابنا من نقل جواب كل مسألة إلى الاخرى فجعل في اللقطة قولين وفى اللقيط قولين، فالقول بجواز اللقطه يمنعه في اللقيط، والقول بجوازه في اللقيط يمنعه في اللقطه.

فإذا لم يجد الحاكم فأشهد رجلين أو رجلا وامرأتين أو أربع نسوة ففى ضمانه قولان.

أما إذا لم يكن له مال لم يلزم الملتقط الانفاق عليه قى قول عامة أهل العلم قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن نفقة اللقيط غير واجبه على الملتقط كوجوب نفقة الولد، وذلك لان أسباب وجوب النفقه من

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 291)

________________________________________

القرابة والزوجية والملك والولاء منتفية، والالتقاط إنما هو تخليص له من الهلاك، وتبرع بحفظه فلا يوجب ذلك نفقة كما لو فعله بغير اللقيط، فإذا عرف هذا وكان نسمة يجب تعهدها بالتربية والانفاق انصرف هذا الواجب إلى بيت مال المسلمين، لقول عمر رضى الله عنه: هو حر لك ولاؤه وعلينا نفقته، وذلك لانه كالفقير الذى لا كسب فان نفقته واجبة له في بيت مال المسلمين، وذلك لان بيت المال وارثه، وماله مصروف إليه فتكون نفقته عليه كقرابته وموالاته.

فان تعذر الانفاق عليه لعدم وجود مال في بيت المال أو كان اللقيط في مكان لا تقوم فيه حكومه تنفذ شريعة الله وترعى العجزة والفقراء واللقطاء فعلى من علم حاله أن يتولى الانفاق عليه.

ويحتمل أن يقال: إنه لا يجب الانفاق عليه من بيت المال ولو كان موجودا وفيه مال، لان بيت المال إنما ينفق منه في الوجوه التى توفر على الانفاق عليها، وقد تكون أهم من هذا، واللقيط يحتمل أن يكون غنيا، ويحتمل أن يكون له أب موسر، ويحتمل أن له سيد تجب عليه نفقته.

فإذا قلنا: إنه لا يجب الانفاق عليه من بيت المال وجب على الامام أن ينظم جماعة يكون هو أحد أفرادها تتولى الانفاق عليه على سبيل الاقراض، حتى إذا ظهر له مال أو ولى شرعى موسر، أو استطاع الكسب أمكن رد ما أنفق عليه، فان لم يكن يستطع الكسب ولم يكن له ولى موسر قضى من سهم المساكين أو الغارمين، ويجرى هذا كله على اللقيط ولو حكم بكفره.

قال في النهاية: خلافا

لما في الكفاية تبعا للماوردى.

فإذا امتنع أهل القرية أو البلدة عن أن ينفقوا على اللقيط وجب على الامام قتالهم، ويفرق هنا بين كونها قرضا وفى بيت المال مجانا، بأن وضع بيت المال الانفاق على المحتاجين فلهم فيه حق مؤكد دون مال المياسير، وإذا لزمهم وزعها الامام على مياسير بلده، فان شق ذلك فعلى من يراه الامام منهم، فان استووا في نظره تخير، وهذا إن لم يبلغ اللقيط، فان بلغ فمن سهم الفقراء أو المساكين أو الغارمين كما قررنا، فان ظهر له سيد أو قريب رجع عليه وقد ضعف هذا النووي في الروضة وخالفه الشمس الرملي في النهايه.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 292)

________________________________________

وجملة هذا أن من أنفق متبرعا فلا شئ له سواء كان الملتقط أو غيره، وإن تبرع بالانفاق عليه فأنفق عليه الملتقط أو غيره محتسبا بالرجوع عليه إذا أيسر وكان ذلك بأمر الحاكم لزم اللقيط ذلك إذا كانت النفقة قصدا بالمعروف، وبهذا قال الثوري والشافعي وأصحاب الرأى وان أنفق بغير أمر الحاكم محتسبا بالرجوع عليه فقد قال الشافعي ومالك والثوري والاوزاعي وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن والشعبى وابن المنذر: هو متبرع.

وقال أحمد بن حنبل: تؤدى النفقة من بيت المال، وقال شريح والنخعي يرجع عليه بالنفقة إذا أشهد عليه.

وقال بن عبد العزيز: يحلف ما أنفق احتسابا، فإن حلف استسعى والاصل عند القائلين بالرجوع أنه أدى ما وجب على غيره فكان له الرجوع على من كان الوجوب عليه كالضامن إذا قضى عن المضمون عنه.

هذا وما بقى من كلام المصنف فعلى وجهه وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:

(فصل)

وان التقطه كافر نظرت، فإن كان اللقيط محكوما بإسلامه لم يقر في يده، لان الكفالة ولاية، ولا ولاية للكافر على المسلم، ولانه لا يؤمن أن يفتنه عن دينه، وان كان محكوما بكفره أقر في يده لانه على دينه، وان التقطه فاسق لم يقر في يده، لانه لا يؤمن أن يسترقه، وأن يسئ في تربيته، ولان الكفالة ولاية والفاسق ليس من أهل الولاية

(فصل)

وان التقطه ظاعن يريد أن يسافر به نظرت، فان لم تختبر أمانته في الباطن، يقر في يده، لانه لا يؤمن أن يسترقه إذا غاب، وان اختبرت أمانته في الباطن، فان كان اللقيط في الحضر والملتقط من أهل البدو ويريد أن يخرج به إلى البدو منع منه، لانه ينقله من العيش في الرخاء إلى العيش في الشقاء، ومن طيب المنشأ إلى موضع الجفاء.

وفى الخبر (من بدا فقد جفا) وان أراد أن يخرج به إلى بلد آخر ففيه وجهان

(أحدهما)

يجوز، وهو ظاهر النص، لان البلد كالبلد

(والثانى)

لا يجوز، لان البلد الذى وجد فيه أرجى لظهور نسبه فيه.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 293)

________________________________________

وإن كان الملتقط في بدو، فإن كان الملتقط من أهل الحضر وأراد أن يخرج به إلى الحضر جاز، لان الحضر أرفق به وأنفع له، وإن كان من البادية فإن كانت حلته في مكان لا ينتقل عنه أقر في يده، لان الحلة كالقرية، وإن كان يظعن في طلب الماء والكلا ففيه وجهان

(أحدهما)

يقر في يده لانه أرجى لظهور نسبه.

 

(والثانى)

لا يقر في يده لانه يشقى بالتنقل في البدو.

 

(فصل)

وإن التقطه فقير ففيه وجهان

(أحدهما)

لا يقر في يده لانه لا يقدر على القيام بحضانته، وفى ذلك إضرار باللقيط

(والثانى)

يقر في يده لان الله تعالى يقوم بكفاية الجميع.

(الشرح) حديث (من بدا فقد جفا) رواه أحمد في المسند عن البراء بن عازب

بلفظ (من بدا جفا) ورواه الطبراني في الكبير عن عبد الله بن مسعود بلفظ (من بدا جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى أبواب السلطان افتتن) وإسناد أحمد صحيح، وفى إسناد الطبراني نظر أما اللغات فقوله: ظاعن فاعل ظعن وبابه نفع، أي ارتحل ويتعدى بالهمزة وبالحرف، فيقال أظعنته وظعنت به، فهو ظاعن للفاعل ومظعون للمفعول، والاصل مظعون به ولكن حذفت الصله لكثرة الاستعمال، وباسم المفعول سمى الرجل، ويقال للمرأة ظعينة فعيلة بمعنى مفعولة، لان زوجها يظعن بها، ويقال الظعينة الهودج، وسواء كان فيه امرأة أم لا، والجمع ظعائن وظعن بضمتين.

ويقال الضعينة في الاصل وصف المرأة في هودجها، سميت بهذا الاسم وإن كانت في بيتها.

قال تعالى (ويوم ظعنكم ويوم إقامتكم) قوله: ومن طيب المنشأ إلى موضع الجفاء.

المنشأ بالهمز مقصور، وهو موضع النشوء وزمان الحداثة، يقال نشأت في بنى فلان إذا شببت فيهم، مأخوذ من أنشاء الله له، أي ابتداء خلقه.

وقوله صلى الله عليه وسلم (من بدأ جفا) أي من نزل البادية صار فيه جفاء الاعراب، والجفاء ممدود وهو ضد البر، يقال جفوت الرجل أجفوه، ولا يقال جفيت.

وهو مأخوذ من جفاء السيل، وهو ما نفاه السيل، والحلة المنزل ينزله القوم وحيث يحلون.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 294)

________________________________________

أما الاحكام فإنه ليس لكافر التقاط مسلم لانه لا ولاية لكافر على مسلم، ولانه لا يؤمن أن يفتنه ويلقنه الكفر، بل الظاهر أنه يربيه على ملته وينشأ على ذلك كولده، فإن التقطه فلا يقر في يده، وإن كان الطفل محكوما بكفره فله التقاطه لان الذين كفروا بعضهم أولياء بعض.

أما إذا التقطه من هو مستور الحال لم تعرف منه حقيقة العدالة ولا الخيانة

أقر اللقيط في يديه، لان حكمه حكم العدل في لقطة المال والولاية في النكاح والشهادة فيه وفى أكثر الاحكام، ولان الاصل في المسلم العدالة، ولذلك قال عمر رضى الله عنه: المسلمون عدول بعضهم على بعض، فان أراد أن يسافر بلقطته فانه لا يقر في يديه، وهذا هو مذهبنا، لانه لم تتحقق أمانته فلم تؤمن خيانته، وهذا أحد الوجهين عند الحنابله.

والوجه الثاني عندهم يقر فأما من عرفت عدالته واتضحت أمانته، فيقر اللقيط في يده في سفره وحضره لانه مأمون عليه إذا كان سفره لغير النقلة، فإذا كان سفر الامين باللقيط إلى مكان يقيم به نظرت فان كان التقطه من الحضر فأراد النقل به إلى البادية لم يقر في يده لوجهين:

(أحدهما)

أن مقامه في الحضر أصلح له في دينه ودنياه وأرفه له

(والثانى)

أنه إذا وجد في الحضر فالظاهر أنه ولد فيه فبقاؤه فيه أرجى لكشف نسبه وظهور أهله واعترافهم به، النقلة به من بلد الحضر ففيه وجهان

(أحدهما)

وهو المنصوص، وهو أحد الوجهين عند الحنابله: يقر في يده لان ولايته ثابتة، والبلد الثاني كالبلد الاول في الرفاهية فيقر في يده، كما لو انتقل من أحد أقسام البلد إلى قسم آخر، وفارق المنتقل به إلى البادية لانه يضر به بتفويت الرفاهية عليه وان التقطه من البادية فله نقله إلى الحضر لانه ينقله من أرض البؤس والشقاء إلى الرفاهية والدعة والدين (الثاني) لا يقر في يده، ولان بقاءه في بلده أرجى لكشف نسبه فلم يقر في يد المنتقل عنه قياسا على المنتقل به إلى الباديه، وان أقام به في حلة يستوطنها، فله ذلك، وان كان ينتقل به إلى المواضع أحتمل أن يقر في يديه، لان الظاهر

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 295)

________________________________________

أنه أبن بدويين وإقراره في يدى ملتقطه أرجى لكشف نسبه، ويحتمل أن يؤخذ منه فيدفع إلى صاحب قرية لانه أرفه له وأخف عليه وكل موضع قلنا ينزع من ملتقطه فإنما يكون ذلك إذا وجد من يدفع إليه ممن هو أولى به، فإن لم يوجد من يقوم به أقر في يدى ملتقطه، لان إقراره في يديه مع قصوره أولى من إهلاكه، وإن لم يوجد إلا مثل ملتقطه فملتقطه أولى به.

إذ لا فائدة في نزعه من يده، ودفعه إلى مثله.

(فرع)

إذا التقطه فقير فإن قلنا إنه لا يقدر على حضانته من حيث ضعف الامكانيات اللازمة لحياة الطفل من الامور التى تخرج من الانفاق، إذ أن الانفاق لا يلزم الملتقط كما قررنا قبل، كأن كان مسكنه غير صحي لا تتوفر فيه وسائل التهوية ولا أسباب الوقاية والنظافة، فعلى هذا الوجه لا يقر في يده، وإن قلنا بأن الامور تجرى بضمان الله وكفالته، وأن الله تعالى تكفل بحفظه إذا شاء، وأن الاسباب الضرورية للحياة التى ينشأ عليها ابناء الفقراء مألوفة عندهم ويشبون عليها وتبنى فيها أجسامهم كأقوى ما تبنى الاجسام، وقد رأينا بالحس والمشاهدة ما يتمتع به أبناء الفقراء من مناعة ضد الامراض مع الكفاف في العيش، وذلك من رعاية الله تعالى لخلقه، فعلى هذا الوجه يقر في يده وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:

(فصل)

وإن تنازع في كفالته نفسان من أهل الكفالة قبل أن يأخذاه، أخذه السلطان وجعله في يد من يرى منهما أو من غيرهما، لانه لا حق لهما قبل الاخذ ولا مزية لهما على غيرهما، فكان الامر فيه إلى السلطان.

وإن التقطاه وتشاحا أقرع بينهما، فمن خرجت عليه القرعة أقر في يده.

وقال أبو على بن خيران: لا يقرع بينهما، بل يجتهد الحاكم فيقره في يد من هو أحظ له، والمنصوص هو الاول لقوله تعالى (وما كنت لديهم إذ يلقون

أقلامهم أيهم يكفل مريم) ولانه لا يمكن أن يجعل في أيديهما، لانه لا يمكن أجتماعهما على الحضانة، ولا يمكن أن يجعل بينهما مهايأة، لانه تختلف عليه الاخلاق والاغذية فيستضر، ولا يمكن أن يقدم أحدهما لانهما متساويان في

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 296)

________________________________________

سبب الاستحقاق، ولا يمكن أن يسلم إلى غيرهما، لانه قد ثبت لهما حق الالتقاط فلا يجوز اخراجه عنهما فأقرع بينهما.

كما لو أراد أن يسافر بإحدى نسائه، وان ترك أحدهما حقه من الحضانة ففيه وجهان

(أحدهما)

يدفع إلى السلطان فيقره في يد من يرى، لان الملتقط لا يملك غير الحفظ.

فأما إقرار اللقيط في يد غيره فليس ذلك إليه، ولهذا لو انفرد بالالتقاط لم يملك أن ينقله إلى غيره.

 

(والثانى)

وهو المذهب أنه يقر في يد الآخر من غير اذن السلطان، لان الحضانة بحكم الالتقاط لا تفتقر إلى اذن السلطان، ولهذا لو انفرد كل واحد منهما بالالتقاط ثبت له الحضانة من غير اذن، فإذا اجتمعا وترك أحدهما حقه ثبت للآخر كالشفعة بين شفيعين.

 

(فصل)

فاما إذا اختلفا في الالتقاط فادعى كل واحد منهما انه الملتقط ولم تكن بينة، فان لم يكن لاحدهما عليه يد أقره السلطان في يد من يرى منهما أو من غيرهما، لانه لاحق لهما، وان كان في يد احدهما فالقول قوله مع يمينه لان اليد تشهد له.

وان كان في يدهما تحالفا، فان حلفا أو نكلا صارا كالملتقطين يقرع بينهما على المذهب، وعلى قول أبى على بن خيران يقره الحاكم في يد من هو أحظ له، فان كان لاحدهما بينة قضى له، لان البينة اقوى من اليد والدعوى، وان كان لكل واحد منهما بينة، فان كانت بينة أحدهما اقدم تاريخا قضى له، لانه قد

ثبت له السبق إلى الالتقاط، وان لم تكن بينة أحدهما أقدم تاريخا فقد تعارضت البينتان، ففى أحد القولين تسقطان فيصيران كما لو لم تكن بينة، وقد بيناه، وفى القول الثاني تستعملان، وفى الاستعمال ثلاثة أقوال (أحدها) القسمة

(والثانى)

القرعة (والثالث) الوقف.

ولا يجئ ههنا الا القرعة لانه لا يمكن قسمة اللقيط بينهما.

ولا يمكن الوقف، لان فيه اضرارا باللقيط فوجبت القرعة.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 297)

________________________________________

(الشرح) الاحكام: إذا تنازع كفالته اثنان من غير أهل الكفالة لفسقهما أو رقهما مع كونهما غير مأذونين من سيديهما فانه لا يقر في يدى واحد منهما: وينزع منهما ويسلم إلى غيرهما: فإذا كانا من أهل الكفالة، وان كل واحد منهما ممن يقر في يده لو انفرد، الا أن أحدهما احظ للقيط من الاخر، مثل أن يكون احدهما موسرا والاخر معسرا فالموسر أحق لان ذلك أحظ للطفل، وان التقط مسلم وكافر طفلا محكوما بكفره، فقد قال أصحابنا وأصحاب أحمد: هما سواء، لان للكافر ولاية على الكافر، ويقر في يده إذا انفرد بالتقاطه، فساوى المسلم في ذلك، ولابن قدامة الحنبلى رأى في مخالفته مذهبه بقوله: ان دفعه إلى المسلم احظ له، لانه يصير مسلما فيسعد في الدنيا والاخرة، وينجو من النار، ويتخلص من الجزية والصغار، فالترجيح بهذا أولى من الترجيح باليسار الذى انما يتعلق به توسعة عليه في الانفاق، وقد يكون الموسر بخيلا فلا تحصل التوسعة، فان تعارض الترجيحان فكان المسلم فقيرا والكافر موسرا فالمسلم أولى، لان النفع الحاصل له باسلامه أعظم من النفع الحاصل بيساره مع كفره.

قال: وعلى قياس قولهم في تقديم الموسر ينبغى أن يقدم الجواد على البخيل، لان حظ الطفل عنده اكثر من الجهة التى يحصل له الحظ فيها باليسار، وربما تخلق باخلاقه

وتعلم من جوده.

فإذا تساويا في كونهما مسلمين عدلين حرين مقيمين فهما سواء فيه فان ضى احدهما باسقاط حقه وتسليمه إلى صاحبه جاز، لان الحق له فلا يمنع من الايثار به، وان تشاحا أقرع بينهما لقول الله تعالى (وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم) ولانه لا يمكن كونه عندهما، لانه لا يمكن ان يكون عندهما في حاله واحدة، وان تهايأة فجعل عندكل واحد يوما أو اكثر من ذلك اضر بالطفل لانه تختلف عليه الاغذية والانس والالف، ولا يمكن دفعه إلى احدهما دون الاخر بغير قرعة لان حقهما متساو، فتعيين أحدهما بالتحكم لا يجوز فتعين الاقراع بينهما، كما يقرع بين الشركاء في تعيين السهام في القسمة وبين النساء في البداية بالقسمة وبين العبيد في الاعناق، والرجل مقدم على المرأة عندنا على الاصح

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 298)

________________________________________

وهما سواء عند احمد وأصحابه، ولا ترجح المرأة هنا كما ترجح في حضانة ولدها على ابيه لانها رجحت هناك لشفقتها على ولدها وتوليها لحضانته بنفسها، والاب يحضنه باجنبية، فكانت أمه أحظ له وأرفق به، أما ههنا فانها أجنبية من اللقيط والرجل يحضنه بأجنبية فاستويا على القول بالتساوى، أو رحج الرجل على الاصح فان كان احدهما مستور الحال والاخر ظاهر العدالة رجح السلطان العدل على المستور، لان المانع من الالتقاط منتف في حقه والاخر مشكوك فيه، فيكون الحظ للطفل في تسليمه إليه أثم، ويحتمل أن يساوى السلطان بينهما بالقرعة لان احتمال وجود المانع لا يؤثر في المنع فلا يؤثر في الترجيح، والامر متروك إلى اجتهاد الحاكم الذى ليس له أن يسلم إلى ثالث لم يثبت له حق الالقاط.

وقال أبو على بن خيران: يجتهد الحاكم في اختيار الاحظ للطفل والاجدى عليه والاحفظ وليس له أن يقرع بينهما وليس هذا بالمذهب بل المذهب الاقراع

(فرع)

وان رأياه جميعا فسبق أحدهما فأخذه أو وضع يده عليه فهو أحق به لقوله صلى الله عليه وسلم (من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به) وان رآه أحدهما قبل صاحبه فسبق إلى أخذه الآخر، فالسابق إلى أخذه أحق، لان الالتقاط هو الاخذ لا الرؤية، ولو قال أحدهما لصاحبه: ناولنيه، فأخذه الآخر نظرت إلى نيته، فان نوى أخذه لنفسه فهو أحق به، كما لو لم يأمره الاخر بمناولته أياه، وان نوى مناولته فهو للآمر لانه فعل ذلك بنية النيابة عنه، فأشبه ما لو توكل له في تحصيل مباح.

فان اختلفا فقال كل واحد منهما: أنا التقطته ولا بينة لاحدهما، وكان في يد أحدهما، فالقول قوله مع يمينه أنه التقطه، وهذا هو المذهب عند أصحاب أحمد كما ذكره أبو الخطاب، وقد خالفه القاضى وجعل قياس مذهب أحمد أنه لا يحلف كما في الطلاق والنكاح.

ولنا قوله صلى الله عليه وسلم (لو يعطى الناس بدعواهم لا دعى قوم دماء قوم وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه) رواه مسلم، فان كان في يديهما تحالفا فان حلفا أو نكلا صارا كالملتقطين ويقرع السلطان بينهما على المذهب.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 299)

________________________________________

وقال أبو على بن خيران مقالته في الفرع قبله لا قرعة بينهما بل يجتهد الحاكم في اختيار أحدهما ممن هو أحظ للطفل، فإن كان لاحدهما بينة قضى له، وإن كان لكل منهما بينة نظرت في أقدم البينتين تاريخا وقضيت لصاحبها، فإذا استوى تاريخهما أو أطلقتا معا، أو أرخت إحداهما وأطلقت الاخرى فقد تعارضتا، وهل تسقطان؟ أو تستعملان؟ فيه قولان عندنا وجهان عند أصحاب أحمد،

(أحدهما)

تسقطان فيصيران كمن لا بينة لهما فيقرع بينهما.

 

(والثانى)

تستعملان، وفى الاستعمال ثلاثة أقوال.

أحدها: القسمة

واستعمال القسمة بين المتداعيين إذا جاز في المال فلا سبيل إليه ههنا.

والثانى: الاقراع بينهما.

والثالث: الوقف وفى الوقف إضرار باللقيط، وليس اللقيط مما يجوز وقفه فلا مناص من الاقراع فوجبت القرعة بينهما، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

 

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى

(فصل)

وإن ادعى حر مسلم نسبه لحق به وتبعه في الاسلام، لانه يقر له بحق لا ضرر فيه على أحد فقبل كما لو أقر له بمال، وله أن يأخذه من الملتقط لان الوالد أحق بكفالة الولد من الملتقط، وإن كان الذى أقر بالنسب هو الملتقط فالمستحق أن يقال له: من أين صار ابنك؟ لانه ربما اعتقد أنه بالالتقاط صار أباله، وإن ادعى نسبه عبد لحق به ن لان العبد كالحر في السبب الذى يلحق به النسب، ولا يدفع إليه لانه لا يقدر على حضانته لاشتغاله بخدمة مولاه، وان ادعى نسبه كافر لحق به، لان الكافر كالمسلم في سبب النسب، وهل يصير اللقيط كافرا؟ قال في اللقيط: أحببت أن أجعله مسلما.

وقال في الدعوى والبينات: أجعله مسلما، فمن أصحابنا من قال: إن أقام البينة حكم بكفره قولان واحدا، وإن لم تقم البينة ففيه قولان.

 

(أحدهما)

يحكم بكفره لانا لما حكمنا بثبوت نسبه فقد حكما بأنه ولد على فراشه (والقول الثاني) يحكم بإسلامه لانه محكوم بإسلامه بالدار فلا يحكم بكفره يقول كافر.

وقال أبو إسحاق: الذى قال في اللقيط أراد به إذا ادعاه وأقام البينه

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 300)

________________________________________

عليه، لانه قد ثبت بالبينه أنه ولد على فراش كافر، والذى قال في الدعوى والبينات أراد إذا ادعاه من غير بينه لانه محكوم باسلامه بظاهر الدار، فلا يصير كافرا بدعوى الكافر، وهذا الطريق هو الصحيح لانه نص عليه في الاملاء.

وإذا قلنا انه يتبع الاب في الكفر فالمستحق أن يسلم إلى مسلم إلى أن يبلغ احتياطا

للاسلام، فان بلغ ووصف الكفر أقررناه على كفره، وان وصف الاسلام حكمنا باسلامه من وقته.

 

(فصل)

وان ادعت امرأة نسبه ففيه ثلاثة أوجه.

أحدها: يقبل لانها أحد الابوين، فقيل اقرارها بالنسب كالاب.

والثانى: لا يقبل وهو الظاهر النص لانه يمكن اقامة البينه على ولادتها من طريق المشاهدة، فلا يحكم فيها بالدعوى بخلاف الاب، فانه لا يمكن اقامة البينه على ولادته من طريق المشاهدة، فقبلت فيه دعواه، ولهذا قلنا: انه إذا قال لامرأته: ان دخلت الدار فأنت طالق، لم يقبل قولها في دخول الدار الا ببينه، ولو قال لها: ان حضت فأنت طالق، قبل قولها في الحيض من غير بينه، لما ذكرناه من الفرق، فكذلك ههنا.

والثالث: ان كانت فراشا لرجل لم يقبل قولها، لان اقرارها يتضمن الحاق النسب بالرجل وان لم تكن فراشا قيل لانه لا يتضمن الحاق النسب بغيرها.

(الشرح) اللغه: الدعوى، ودعواه ودعواها كلها بكسر الدال.

قال الازهرى: الدعوة بالكسر ادعاء الولد الدعى غير أبيه، يقال: الدعى بين الدعوة بالتكسر إذا كان يدعى إلى غير أبيه أو يدعيه غير أبيه فهو بمعنى فاعل من الاول وبمعنى مفعول من الثاني.

وعن الكسائي: لى في القوم دعوة أي قرابه واخاه، والدعوة بالفتح في الطعام اسم من دعوت الناس إذا طلبتهم ليأكلوا عندك، يقال: نحن في دعوة فلان ومدعاته ودعائه بمعنى.

قال أبو عبيد: وهذا كلام أكثر العرب الا عدى الرباب فانهم يعكسون ويجعلون الفتح في النسب والكسر في الطعام، ودعوى فلان كذا أي قوله: وادعيت الشئ تمنيته، وادعيته طلبته لنفسي والاسم الدعوى.

أما الاحكام: فانه إذا ادعى نسبه فلا تخلو دعوى النسب من قسمين.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 301)

________________________________________

أحدهما: أن يدعيه واحد ينفرد بدعواه فينظر، فإن كان المدعى رجلا مسلما حرا لحق نسبه به بغير خلاف بين أهل العلم إذا أمكن ان يكون منه، لان الاقرار محض نفع للطفل لاتصال نسبه، ولا مضرة على غيره فيه، فقبل كما لو أقر له بمال ثم إن كان المقر به ملتطة أقر في يده، إلا أن المستحق أن يناقش كيف صار ابنك لانه قد يعتقد أنه بالالتقاط يصير أبا له، والله يقول (فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم) .

(فرع)

قال الشافعي رضى الله عنه.

وإذا التقط مسلم لقيطا فهو حر مسلم ما لم يعلم لابويه دين غير دين الاسلام، فإذا أقر به نصراني ألحقناه به وجعلناه مسلما لان اقراره به ليس يعلم منا أنه كما قال، فلا نغير الاسلام إذا لم نعلم الكفر.

اه من الدعوى والبينات من الام.

وقال في كتاب اللقيط من الام.

سئل أبو حنيفة رحمه الله عن الصبى يسبى وأبوه كافر وقعا في سهم رجل ثم مات أبوه وهو كافر ثم مات الغلام قبل أن يتكلم بالاسلام فقال لا يصلى عليه، وهو على دين أبيه لانه لا يقر بالاسلام.

وقال الاوزاعي: مولاه أولى من أبيه يصلى عليه.

وقال لو لم يكن معه أبوه ن وخرج أبوه مستأمنا لكان لمولاه أن يبيعه من أبيه.

وقال أبو يوسف إذا لم يسب معه أبوه صار مسلما، ليس لمولاه أن يبيعه من أبيه إذا دخل بأمان، وهو ينقض قول الاوزاعي: انه لا بأس أن يبتاع السبى ويرد إلى دار الحرب في مسألة قبل هذا، فالقول في هذا ما قال أبو حنيفة إذا كان معه أبواه أو أحدهما فهو مسلم اه.

(قلت) إذا ادعى نسبه اثنان فصاعدا نظرت، فإذا ادعاه مسلم وكافر أو حر وعبد فهما سواء، وهذا هو مذهب الشافعي وأحمد رضى الله عنهما.

وقال أبو حنيفة المسلم أولى من الذمي والحر أولى من العبد، لان على اللقيط ضررا إذا

ألحق بالعبد والذمى، فكان الحاقه بالحر المسلم أولى، كما لو تنازعوا في الحضانة.

ولنا أن كل واحد لو انفرد صحت دعواه، فإذا تنازعوا تساووا في الدعوى كالاحرار المسلمين، وما ذكروه من الضرر لا يتحقق، فاننا لا نحكم برقه

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 302)

________________________________________

ولا كفره، ولا يشبه النسب الحضانة، بدليل أننا نقدم في الحضانة الموسر والحضرى ولا نقدمهما في دعوى النسب.

وجعل الامام الشافعي رضى الله عنه التسليم للنصراني بدعواه بنوة اللقيط لا يعد تسليما للقيط بالكفر، بل نجعله مسلما حتى نعلم الكفر.

وهذا احد قوليه فمن أصحابنا من قال: إن اقام الذمي البينة حكمنا بكفره قولا واحدا، كقوله في الاخذ بقول أبى حنيفة مما سقناه عنه.

وإن لم تقم بينة ففيه قولان

(أحدهما)

إن الحكم بثبوت النسب من الكافر حكم بكفره على طريق التبع والضمن، لانه ولد على فراشه.

 

(والثانى)

لان غلبة دار الاسلام أقوى من دعوى النسب التى يدعيها الكافر وكل لقيط في دار الاسلام هو مسلم، فلا يحكم بكفره بقول كافر.

وذهب أبو إسحاق المروزى في قولى الشافعي إلى تخريجهما وجهين للمسألة لا قولين، بأن الكفر بكفره يتبع البينة للذى ادعاه من الكفار، فإذا ثبت أنه ولد على فراش الكفر قضينا بكفره والحقناه بصاحب البينة، وأنه إذا لم يقيم بينة حكمنا بإسلامه وهذا هو توجيه ما في الدعوى والبينات من الام، وفى هذا التخريج ما يؤيده من قوله في الاملاء قال النووي في المنهاج: ومن حكم بإسلامه بالدار فأقام ذمى بينة بنسبه لحقه وتبعه في الكفر.

وقال الزركشي: وكذلك المعاهد والمؤمن.

وقال الرملي: فارتفع ما ظنناه من إسلامه، لان الدار حكم باليد، والبينة أقوى من اليد المجردة

وتصور علوقه من مسلم بوطئ شبهة أمر نادر لا يعول عليه مع البينة.

قال وإن اقتصر الكافر على الدعوى بأنه ابنه ولا حجة له فالمذهب أنه لا يتبعه في الكفر وان لحقه في النسب، لانا حكمنا بإسلامه فلا نغيره بدعوى كافر مع إمكان تلك الشبهة النادرة.

والطريق الثاني: فيه قولان ثانيهما يتبعه في الكفر كالنسب، وجعل الماوردى محل الخلاف ما إذا استلحقه قبل أن يصدر منه صلاة أو صوم، فإن صدر منه ذلك لم يغير عن حكم الاسلام قطعا، وسواء اقلنا بتبعيته في الكفر أم لا يحال بينهما كما يحال بين أبوى مميز وصف الاسلام وبينه

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 303)

________________________________________

قال في الكفاية وقضية اطلاقهم وجوب الحيلولة بينهما إن قلنا بعدم تبعيته له في الكفر، لكن في المهذب انه يستحق تسلميه لمسلم، فإذا بلغ ووصف الكفر، فان قلنا بالتبعية قرر لكن هذا التقرير يهدده لعله يسلم ن وإلا ففى تقريره ما سبق من الخلاف.

(فرع)

إذا كان المدعى امرأة ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) وهو أحد الروايات عن أحمد رضى الله عنه أن دعواها تقبل ويلحقها نسبه لانها أحد الابوين، فيثبت النسب بدعواها كالاب، ولانه يمكن أن يكون منها كما يكون ولد الرجل بل أكثر، لانها تأتى به من زوج ووطئ بشبهة ويلحقها ولدها من الزنا دون الرجل، ولان في قصة داود وسليمان في المرأتين كان لهما بنان فذهب الذئب بأحدهما فادعت كل واحدة منهما أن الباقي ابنها وأن الذى أخذه الذئب ابن الاخرى فحكم به داود للكبرى وحكم به سليمان للاخرى بمجرد الدعوى منهما فعلى هذا الوجه يلحق بها دون زوجها، لانه لا يجوز أن يلحقه نسب ولد لم يقر به، وكذلك إذا ادعى الرجل نسبه لم يلحق بزوجته.

فان قيل الرجل يمكن

أن يكون له ولد من امرأة أخرى أو من أمته، والمرأة لا يحل لها نكاح غير زوجها ولا يحل وطؤها لغيره، قلنا يمكن أن تلد من وطئ شبهة أو غيره، وإن كان الولد يحتمل أن يكون موجودا قبل أن يتزوجها هذا الزوج أمكن أن يكون من زوج آخر.

فان قيل إنما قبل الاقرار بالنسب من الزوج لما فيه من المصلحة بدفع العار عن الصبى وصيانته عن النسبة إلى كونه ولد زنا، ولا يحصل هذا بالحاق نسبه بالمرأة، بل الحاقه بها دون زوجها تطرق للعار إليه واليها.

قلنا بل قبلنا دعواه لانه يدعى حقا لا منازع له فيه، ولا مضرة على أحد فيه فقبل قوله فيه كدعوى المال، وهذا متحقق في دعوى المرأة.

والوجه الثاني وهو رواية ثانيه عن أحمد رضى الله عنه نقلها الكوسج عنه في امرأة ادعت ولدا، ان كان لها اخوة أو نسب معروف لا تصدق الا ببينه وان لم يكن لها دافع لم يحل بينها وبينه، لانه إذا كان لها أهل وتسب معروف لم تخف ولادتها عليهم، يتضررون بالحاق النسب بها لما في من تعييرهم

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 304)

________________________________________

بولادتها من غير زوجها، وليس كذلك إذا لم يكن لها أهل، ويحتمل أن لا يثبت النسب بدعواها بحال، وهذا قول الثوري والشافعي وأبى ثور وأصحاب الرأى.

قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن النسب لا يثبت بدعوى المرأة، لانها يمكنها إقامة البينة على الولادة، فلا يقبل قولها بجرده، كما لو علق زوجها طلاقها بولادتها.

أما كيف تكون البينة؟ فقد قال الشافعي رضى الله عنه: لا يجوز على الولادة ولا شئ مما تجوز فيه شهادة النساء مما يغيب عن الرجال إلا أربع نسوة عدول من قبل أن الله عز وجل حيث أجاز الشهادة انتهى بأقلها إلى شاهدين أو

شاهد وامرأتين، فأقام الثنتين من النساء مقام رجل حيث أجازهما، فإذا أجاز المسلمون شهادة النساء فيما يغيب عن الرجال لم يجز والله أعلم ان يجيزوا إلا على أصل حكم الله عز وجل في الشهادات، فيجعلون كل امرأتين يقومان مقام رجل، وإذا فعلوا لم يجز إلا أربع.

وهكذا المعنى في كتاب الله عز وجل وما أجمع عليه المسلمون.

أخبرنا مسلم عن ابن جريح عن عطاء أنه قال في شهادة النساء على الشئ من أمر النساء لا يجوز فيه أقل من أربع.

وقد قال غيرنا تجوز فيه واحدة لانه من موضع الاخبار كما تجوز الواحدة في الخبر، لا أنه من موضع الشهادة، ولو كان من موضع الشهادات ما جاز عدد من النساء وإن كثرن على شئ إلى أن قال قال: فإنا روينا عن على رضى الله عنه أنه أجاز شهادة القابلة وحدها.

قلت: لو ثبت هذا عن على صرنا إليه إن شاء الله تعالى، ولكنه لا يثبت عندكم ولا عندنا عنه.

وهذا لا من جهة ما قلنا من القياس على حكم الله ولا من جهة قبول خبر المرأة، ولا أعرف له معنى.

قلت إذا ثبت هذا في وجب البينة لما يمكن أن تقوم عليه بينة كالولادة للقيط المدعى أو للمعلق طلاقها على دخول الدار في المجئ ببينة على دخول الدار، وفارق الحيض فإنه من الاعراض الخفية التى يقبل فيها الاقرار ولا يطالب فيها بالبينة لنعذرها أو استحالتها.

والوجه الثالث وهو الرواية الثالثة عن أحمد رضى الله عنه أنها ان كان لها زوج لم يثبت النسب بدعواها لافضائه إلى إلحاق النسب بزوجها

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 305)

________________________________________

بغير إقراره ولا رضاه، أو إلى أن امرأته وطئت بزنا أو شبهة وفى ذلك ضرر عليه فلا يقبل قولها فيما يلحق الضرر به، وان لم يكن لها زوج قبلت دعواها لعدم هذا الضرر.

والله تعالى أعلم بالصواب.

 

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

وإن تداعى نسبه رجلان لم يجز إلحاقه بهما، لان الولد لا ينعقد من اثنين، والدليل عليه قوله تعالى (إنا خلقناكم من ذكر وأنثى) فإن لم يكن لواحد منهما بينة عرض الولد على القافة، وهم قوم من بنى مدلج من كنانة، فإن ألحقته بإحدهما لحق به لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ (دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعرف السرور في وجهه فقال: ألم ترى إلى مجزز المدلجى نظر إلى أسامة وزيد وقد غطيا رؤسهما، وقد بدت أقدامهما فقال: إن هذه الاقدام بعضها من بعض) فلو لم يكن ذلك حقا لما سر بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَلْ يجوز أن يكون من غير بنى مدلج؟ فيه وجهان.

 

(أحدهما)

لا يجوز لان ذلك ثبت بالشرع، ولم يرد الشرع إلا في بنى مدلج

(والثانى)

أنه يجوز وهو الصحيح، لانه علم يتعلم ويتعاطى، فلم تختص به قبيلة كالعلم بالاحكام، وهل يجوز أن يكون واحدا؟ فيه وجهان.

أحدهما: أَنَّهُ يَجُوزُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم سر بقول مجزز المدلجى وحده ولانه بمنزلة الحاكم لانه يجتهد ويحكم كما يجتهد الحاكم ثم يحكم.

والثانى: لا يجوز أقل من اثنين لانه حكم بالشبه في الخلقة فلم يقبل من واحد كالحكم في المثل في جزاء الصيد.

ولا يجوز أن يكون امرأة ولا عبدا كما لا يجوز أن يكون الحاكم إمرأة ولا عبدا ولا يقبل الا قول من جرب وعرف بالقيافة حذقه كما لا يقبل في الفتيا الا قول من عرف في العلم حذقه، وان ألحقته بهما أو نفته عنهما أو أشكل الامر عليها أو لم تكن قافه ترك حتى يبلغ، ويؤخذان بالنفقة عليه، لان كل واحد منهما يقول: أنا الاب وعلى نفقته، فإذا بلغ أمرناه أن ينتسب إلى من يميل طبعه إليه لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ للغلام الذى ألحقته القافة بهما: وال أيهما شئت، ولان الولد يجد لوالده مالا يجد لغيره، فإذا تعذر العمل بقول

القافة رجع إلى اختيار الولد، وهل يصح أن ينتسب إذا صار مميزا ولم يبلغ؟ فيه وجهان

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 306)

________________________________________

(أحدهما)

يصح كما يصح أن يختار الكون مع أحد الابوين إذا صار مميزا.

 

(والثانى)

لا يصح لانه قول يتعين به النسب ويلزم الاحكام به، فلا يقبل من الصبى، ويخالف اختيار الكون مع أحد الابوين، لان ذلك غير لازم، ولهذا لم اختار أحدهما ثم انتقل إلى الاخر جاز، ولا يجوز ذلك في النسب، وان كان لاحدهما بينه قدمت على القافة، لان البينة تخبر عن سماع أو مشاهدة والقافة تخبر عن اجتهاد، فان كان لكل واحد منهما بينه فهما متعارضتان لانه لا يجوز أن يكون الولد من اثنين، ففى أحد القولين يسقطان ويكون كما لو لم تكن بينة، وقد بيناه، وفى الثاني تستعملان، فعلى هذا هل يقرع بينهما، فيه وجهان.

أحدهما: يقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة قضى له، لانه لا يمكن قسمة الولد بينهما، ولا يمكن الوقف، لان فيه اضرارا باللقيط فوجبت القرعة.

والثانى: لا يقرع، لان معنا ما هو أقوى من القرعة وهو القافة، فعلى هذا يصير كما لو لم يكن لهما بينة، وليس في موضع تسقط الاقوال الثلاثة في استعمال البينتين الا في هذا الموضع على هذا المذهب.

وان تداعت امرأتان نسبه وقلنا: انه يصح دعوى المرأة ولم تكن بينة، فهل يعرض على القافة، فيه وجهان

(أحدهما)

يعرض، لان الولد يأخذ الشبه من الام كما يأخذ من الاب، فإذا جاز الرجوع إلى القافة في تمييز الاب من غيره بالشبه جاز في تمييز الام من غيرها

(والثانى)

لا يعرض لان الولد يمكن معرفة أمه يقينا فلم يرجع فيه إلى القافة بخلاف الاب فانه لا يمكن معرفته الا ظنا فجاز أن يرجع فيه إلى الشبه.

 

(فصل)

وان ادعى رجل رق اللقيط لم يقبل الا ببينه، لان الاصل هو

الحرية فان شهدت له البينه نظرت، فان شهدت له بأنه ولدته أمته فقد قال في اللقيط: جعلته له.

وقال في الدعوى والبينات: أن شهدت له بأنه ولدته أمته في في ملكه جعلته له، فمن أصحابنا من قال يجعل له قولا واحدا، وان لم تقل ولدته في ملكه، وما قال في الدعوى والبينات ذكره تأكيدا لا شرطا لان ما تأتى به أمته من غيره لا يكون الا مملوكا له.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 307)

________________________________________

ومنهم من قال: فيه قولان

(أحدهما)

يجعل له لما بيناه

(والثانى)

لا يجعل له لانه يحتمل أن تكون الامة ولدته قبل أن يملكها ثم ملكها فلم يملك ولدها وان شهدت له البينة بالملك ولم تذكر سبب الملك، ففيه قولان.

أحدهما: يحكم له كما يحكم له إذا شهدت له بملك مال، وإن لم نذكر سببه.

والثانى: لا يحكم لان البينة قد تراه في يده فتشهد بأنه عبده بثبوت يده عليه بالالتقاط أو غيره، وإن شهدت البينة له باليد، فإن كان المدعى هو الملتقط لم يحكم له لانه قد عرف سبب يده وهو الالتقاط، ويد الالتقاط لا تدل على الملك.

فلم يكن للشهادة تأثير.

وان كان المدعى غيره، ففيه قولان.

 

(أحدهما)

يحكم له مع اليمين لان اليد قد ثبتت، فإذا حلف حكم له كما لو كان في يده مال فحلف عليه

(والثانى)

لا يحكم له لان ثبوت اليد على اللقيط لا تدل على الملك لان الظاهر الحرية.

(الشرح) حديث عائشة رضى الله عنها متفق عليه بلفظ (دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم مسرورا تبرق أسارير وجهه فقال: ألم ترى إلى مجزز المدلجى نظر آنفا إلى زيد بن حارثة وأسامه بن زيد فقال: هذه الاقدام بعضها من بعض) وفى رواية للبخاري (ألم ترى أن مجززا المدلجى دخل فرأى أسامه وزيدا وعليهما قطيفة قد غطيا رؤسهما ومدت أقدامهما فقال: ان هذه

الاقدام بعضها من بعض) ومجزر بضم الميم وفتح الجيم ثم زاى مشددة مكسورة ثم زاى أخرى اسم فاعل لانه كان في الجاهلية إذا أسر أسيرا جز ناصيته وأطلقه وقد كان الكفار يقدحون في نسب أسامه لكونه كان أسود شديد السواد، وكان زيد أبيض كذا قاله أبو داود.

وأم أيمن هي أم أيمن بركة الحبشيه مَوْلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورثها عن أبيه حيث كانت وصيفته، ويقال: كانت من سبى الحبشه الذين قدموا زمن الفيل فصارت لعبد المطلب فوهبها لعبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم، وتزوجت قبل زيد عبيدا الحبشى فولدت له أيمن فكنيت به والقافة جمع قائف كقادة جمع قائد وسادة جمع سائد، والقائف هو الذى يتتبع الاثر ويعرف شبه الرجل بأبيه وأخيه.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 308)

________________________________________

أما الاحكام: فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الدعوى والبينات من الام وإذا تداعى الحر والعبد المسلمان والذمى الحر والعبد مولودا وجد لقيطا فلا فرق بين أحد منهم كما لا يكون بينهم فرق فيما تداعوا فيه مما يملكون: فتراه القافه، فإن ألحقوه بأحدهم فهو ابنه ليس له أن ينفيه ولا للمولود أن ينتفى منه بحال أبدا وان ألحقته القافه باثنين فأكثر أو لم تكن قافه، أو كانت فلم تعرف، لم يكن ابن واحد منهم حتى يبلغ فينتسب إلى أيهم شاء، فإذا فعل ذلك انقطعت دعوى الآخرين، ولم يكن للذى انتسب إليه أن ينفيه وهو حر في كل حالاته بأيهم لحق لان اللقيط حر، وانما جعلناه حرا إذا غاب عنا معناه، لان أصل الناس الحريه حتى يعلم أنهم غير أحرار ولو أن أحدهم قال: هو ابني من أمة نكحتها لم يكن بهذا رقيقا لرب الامة حتى يعلم أن الامة ولدته، ولا يجعل اقرار غيره لازما له، ويكفى القائف الواحد لان هذا موضع حكم بعلم لا موضع شهادة، ولو كان، انما حكمه حكم الشهادات

ما أجزنا غير اثنين ولا أجزنا شهادة اثنين يشهدان على ما لم يحضرا ولم يريا، ولكنه كاجتهاد العالم ينفذه هذا، ولا يحتاج معه إلى ثان ولا يقبل القائف الواحد حتى يكون أمينا ولا أكثر منه حتى يكونوا أمناء أو بعضهم، فإذا أحضرنا القائف والمتداعيين للولد أو ذوى أرحامهم ان كان المدعون له موتى أو كان بعض المدعين له ميتا، فأحضرنا ذوى رحمه أحضرنا احتياطا أقرب الناس نسبا وشبها في الخلق والسن والبلد والمدعين له، ثم فرقنا بين المتداعيين منهم، ثم أمرنا القائف يلحقه بأبيه أو أقرب الناس بأبيه ان لم يكن له أب.

وان كانت معه أم أحضرنا لها نسبا في القرب منها كما وصفت ثم بدأنا فأمرنا القائف أن يلحقه بأمه لان للقائف في الام معنى، ولكى يستدل به على صوابه في الاب ان أصاب فيها ويستدل على غيره ان أخطأ فيها، فخالفنا بعض الناس في القافه فقال القافه باطل، فذكرنا لَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ مجززا المدلجى ونظر إلى أقدام أسامه وأبيه زيد وقد غطيا وجوههما فقال: ان هذه الاقدام بعضها من بعض فحكى ذلك النبي صلى الله عيله وسلم لعائشه مسرورا به، فقال:

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 309)

________________________________________

ليس في هذا حكم.

فقنا انه وان لم يكن فيه حكم فإن فيه دلالة عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رضيه ورآه علما، لانه لو كان مما لا يجوز أن يكون حكما ما سره ما سمع منه ان شاء الله تعالى، ولنهاه أن يعود له.

فقال انك وان أصبت في هذا فقد تخطئ في غيره.

فقال فهل في هذا غيره؟ قلنا نعم، أخبرنا ابن علية عن حميد عن أنس أنه شك في ابن له فدعا القافة.

أخبرنا أنس بن عياض عن هشام عن أبيه عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ أن رجلين تداعيا ولدا، فدعا له عمر القافة، فقالوا قد اشتركا فيه، فقال له عمر وال أيهما شئت.

أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن عمر مثل معناه، أخبرنا مُطَرِّفِ بْنِ مَازِنٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عن عروة عن عمر بن الخطاب مثل معناه قال فإنا لا نقول بهذا ونزعم أن عمر قال هو ابنكما ترثانه ويرثكما، وهو للباقى منكما.

قلت فقد رويت عن عمر أنه دعا القافة، فزعمت أنك لا تدعو القافة، فلو لم يكن في هذا حجة عليك في شئ مما وصفنا، الا أنك رويت عن عمر شيئا فخالفته فيه كانت عليك قال، قد رويت عنه أنه ابنهما، وهذا خلاف ما رويتم، قلنا وأنت تخالف أيضا هذا، قال فكيف لم تصيروا إلى القول به؟ قلنا هو لا يثبت عن عمر لان اسناد حديثن هشام متصل، والمتصل أثبت عندنا وعندك من المنقطع، وانما هذا حديث منقطع وسليمان بن يسار وعروة أحسن مرسلا عن عمر ممن رويت عنه، قال فأنت تخالف عمر فيما قضى به من أن يكون ابن اثنين؟ قلت فإنك رعمت أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قضى به إذ كان في أيديهما قضاء الاموال قال كذلك قلت اه قلت ووجه دلالته ما علم من أن التقرير منه صلى الله عليه وسلم حجة، لانه أحد أقسام السنة، وحقيقة التقرير أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم فعلا من أحد أو يسمع قوله أو يعلم به وكان ذلك الفعل من الافعال التى لا يعلم تقدم انكاره لها، دل ذلك على جوازه، فان اسبتشر به فأوضح كما في هذه القصه، والحكم بالقافة إذا لم تكن بينة أو تعارضت به بينتان وسقطتا إذا ألحقوه، فنلحقه بمن ألحقوه

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 310)

________________________________________

وهذا قول أنس وعطاء ويزيد بن عبد الملك والاوزاعي والليث وأبى ثور والشافعي ومالك وأحمد بن حنبل.

وقال أصحاب الرأى: لا حكم للقافة، ويلحق بالمدعيين جميعا تعويل على

مجرد الشبه والظن والتخمين، فإن الشبه يوجد بين الاجانب، وينتفى بين الاقارب ولهذا روى الشيخان أن رجلا أتى النبي فقال: يا رسول الله إن امرأتي ولدت غلاما أسود فقال: هل لك من ابل، قال نعم، قال: فما ألوانها، قال حمر.

قال: فهل فيها من أورق، قال نعم، قال أنى أتاها ذلك، قال لعل عرقا نزع، قال: وهذا لعل عرقا نزع) قالوا ولو كان الشبه كافيا لاكتفى به في ولد الملاعنة، وفيما إذا أقر أحد الورثة بأخ فأنكره الباقون.

ودلينا عليهم غير حديث مجزز قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ولد الملاعنة (انظروها فان جاءت به أحمش الساقين كأنه وجرة فلا أراه الا قد كذب عليها وان جاءت به أكحل جعدا جماليا سابغ الاليتين خدلج الساقين فهو للذى رميت به، فأتت به على النعت المكروه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لولا الايمان لكان لى ولها شأن (فقد حكم به النبي صلى الله عليه وسلم للذى أشبهه منهما، وقوله لولا الايمان لكان لى ولها شأن، يدل على أنه لم يمنعه من العمل بالشبه الا الايمان فإذا انتفى المانع يجب العمل به لوجود مقتضيه.

وكذلك قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ابن زمعة حين رأى به شبها بينا بعتبه بن أبى وقاص (احتجبي منه يا سودة) فعمل بالشبه في حجب سودة عنه.

فان قيل: فالحديثان حجة عليكم إذ لم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم بالشبه فيهما بل ألحق الولد بزمعة، وقال لعبد بن زمعه هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش وللعاهر الحجر.

ولم يعمل بشبه ولد الملاعنة في اقامة الحد عليها لشبه بالمقذوف، قلنا انما لم يعمل في ابن زمعه لان الفراش أقوى، وترك العمل بالبينة لمعارضة ما هو أقوى منه لا يوجب الاعراض عنه، إذا خلت عن المعارض وكذلك ترك اقامة الحد عليها من أجل أيمانها على ضعف الشبه عن اقامة الحد لا يوجب ضعفه عن الحاق النسب، فان الحد في الزنا لا يثبت الا بأقوى البينات

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 311)

________________________________________

وأكثرها عددا وأقوى الاقرار حتى يعتبر فيه تكراره أربع مرات، ويدرأ الشبه عن نفى النسب لا يلزم منه ضعفه عن إثباته، فإن النسب يحتاط لاثباته، ويثبت بأدنى دليل، وأنه لا ينتفى إلا بأقوى الادلة، كما أن الحد لما انتفى بالشبه لم يثبت إلا بأقوى دليل، فلا يلزم حينئذ من المنع من نفيه بالشبه في الخبر المذكور أن لا يثبت به النسب في مسألتنا.

والقافة قوم يعرفون الانسان بالشبه.

ولا يختص ذلك بقبيلة معينة على الصحيح من المذهب، وبه قال أحمد رضى الله عنه وأصحابه، بل هو علم يتعلم بقواعده وأصوله التى كانت عند العرب، وكان أكثر ما يكون في بنى مدلج رهط مجزز الذى رأى أسامة وأباه زيدا، وان إياس بن معاوية المزني قائفا.

وكذلك قيل في شريح.

ولا يقبل قول القائف إلا أن يكون عدلا مجربا في الاصابة، حرا لان قوله حكم.

وقد كان بعض العرب يستدل من اختلاف أحد الابناء عن إخوته على أسباب الشك التى تساوره، فقد عاد أحدهم إلى امرأته من سفر فوجدها قد ولدت له ولدا، فقال لها: لا تمشطي رأسي ولا تفليني

* وحاذري ذا الريق في يمينى واقتربى منى أخبريني

* ما له أسود كالهجين خالف ألوان بنى الجون على أن أسباب المعرفة في زماننا هذا قد اتسعت آفاقها واستقرت قواعدها على أسباب أدق ومبادئ أضبط، وإن كانت غير قطعية في أكثر أحوالها، وقد يأخذ العلم الحديث بالقيافة حيث يعجز التحليل الطبى، والقيافة أحد فروع الطب الشرعي أو هي الاساس الفعلى للطب الشرعي، ومن قرأ كتب الطب الشرعي

العربية أو الاجنبية يتضح له صحة هذا الحكم.

وقد حاء في كتاب الطب الشرعي الجنائى للدكاترة شريف وسيف النصر ومشالى أن فصائل الدم تنقسم في جميع الشعوب إلى أربعة أقسام، قسمان كبيران ويمكن إطلاق معنى السائدة عليهما ويرمز اليهما بألف وباء، ونوع يتكون منهما

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 312)

________________________________________

ويرمز إليه بألف باء، ونوع نادر ويسمى (أو) فإذا كان الرجل من فصيلة (أ) والمرأة من فصيلة (ب) أمكن أن يكون الولد أأو ب أو (اب) ويلاحظ أن قيافة الدم هنا وإن كانت قائمة على أساس علمي إلا أنها سلبية وليست إيجابية، فهى تقول بأن هذا ليس أبا ولا تستطيع أن تقول هذا أب، لانه قد يكون الاب شخصا له فصيلة المدعى، ولكن يمكن أن ينفى فيقول إذا كانت فصيلة دم الابن أو كانت فصيلة الاب المدعى اب والام ب حكموا بالقطع بأن هذا ليس أباه، ولكن لو كانت فصيلته من فصيلة الطفل قالوا يحتمل أن يكون أباه ويحتمل أن يكون أبوه غيره، على أن أحسن القيافة التعرف عن طريق الاطراف كالايدى والارجل وملامح الوجه.

وهل يقبل قول واحد أو لا يقبل الا قول اثنين وجهان

(أحدهما)

أنه حكم بالاجتهاد فيصح من واحد.

 

(والثانى)

لا يجوز بأقل من اثنين كالحكم بالمثل في جزاء الصيد في قوله تعالى (يحكم به ذوا عدل منكم) ولانه حكم بالشبه في الخلقة فأشبه الحكم في المثل في جزاء الصيد (فجزاء مثل ما قتل من النعم) وبهذا الوجه قال أحمد رضى الله عنه في ظاهر رواية الاثرم عنه أنه قيل له: إذا قال أحد القافة هو لهذا، وقال الآخر هو لهذا.

قال لا يقبل واحد منهما حتى يجتمع اثنان فيكونان شاهدين، فإذا شهد إثنان من القافة أنه لهذا فهو لهذا، لانه قول يثبت به النسب فأشبه الشهادة.

وقال القاضى من الحنابلة، يقبل قول الواحد لانه حكم، ويقبل في الحكم قول واحد.

وحمل كلام أحمد على ما إذا تعارض قول القائفين فقال (إذا خالف القائف غيره تعارضا وسقطا، فان قال إثنان قولا وخالفهما واحد فقولهما أولى لانهما شاهدان فقولهما أولى لانه أقوى من قول واحد.

وان عارض قول اثنين قول اثنين سقط قول الجميع.

وان عارض قول الاثنين قول ثلاثة أو أكثر لم يرجح وسقط الجميع، فأما إن ألحقته القافة بواحد ثم جاءت قافة أخرى فألحقته بآخر كان لاحقا بالاول، لان القائف جرى مجرى حكم الحاكم، ومتى حكم الحاكم حكما لم ينقض بمخالفة وغيره له، وإن ألحقته القافة بكافر أو رقيق لم يحكم

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 313)

________________________________________

بكفره ولا رقه لان الحرية والاسلام ثبتا له بظاهر الدار فلا يزول ذلك بمجرد الشبه والظن كما لم يزل ذلك بمجرد الدعوى من المنفرد.

ولو ادعى نسب اللفيط إنسان فألحق نسبه به لانفراده بالدعوى ثم جاء آخر فادعاه لم يزل نسبه عن الاول لانه حكم له به فلم يزل بمجرد الدعوى، فإن ألحقته به القافة لحق به وانقطع عن الاول، لانها بينة في إلحاق النسب، ويزول بها الحكم الثابت بمجرد الدعوى كالشهادة.

(فرع)

إذا ادعاه إثنان فألحقته القافة بهما لحق بهما في النفقة.

وكان أحمد رضى الله عنه يقول: إنه ابنهما يرثهما ميراث ابن ويرثانه جميعا ميراث أب واحد وهذا يروى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضى الله عنهما وهو قول أبى ثور.

وقال أصحاب الرأى يلحق بهما بمجرد الدعوى.

وقال الشافعي لا يلحق بأكثر من واحد، فإذا ألحقته بهما سقط قولهما ولم يحكم لهما، واحتج برواية عمر رضى الله عنه أن القافه قالت (قد اشتركا فيه، فقال عمر وال أيهما شئت) ولانه لا يتصور كونه من رجلين، فإذا الحقته القافلة بهما تبينا كذبهما فسقط

قولهما كما لو الحقته بامين، ولان المدعيين لو اتفقا على ذلك لم يثبت، ولو ادعاه كل واحد منهما وأقام بينة سقطتا، ولو جاز أن يلحق بهما لثبت باتفاقهما وألحق بهما عند تعارض بينتهما، هذا وما لم نتناول من مسائل الفصل فعلى وجهه من تقرير المصنف.

وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:

(فصل)

ومن حكم بإسلامه أو بأحد أبويه أو بالسابي فحكمه قبل البلوغ حكم سائر المسلمين في الغسل والصلاة والميراث والقصاص والدية.

لان السبب الذى أوجب الحكم بإسلامه لم يزل فأشبه من أسلم بنفسه وبقى على إسلامه، فان بلغ ووصف الكفر فالمنصوص أنه مرتد، فان تاب وإلا قتل لانه محكوم باسلامه قطعا فأشبه من أسلم بنفسه ثم ارتد.

وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ فِيهِ قَوْلَانِ

(أَحَدُهُمَا)

ما ذكرناه

(والثانى)

أنه يقر على الكفر لانه لما بلغ زال حكم التتبع فاعتبر بنفسه، فان بلغ ولم يصف الاسلام ولا الكفر فقتله قاتل المنصوص أنه لا قود على قاتله.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 314)

________________________________________

ومن أصحابنا من قال: يجب القود لانه محكوم بإسلامه فأشبه ما قبل البلوغ، وهذا خطأ لانه يحتمل أن يكون غير راض بالاسلام، والقصاص يسقط بالشبهة فسقط، ويخالف ما قبل البلوغ فإن إسلامه قائم قطعا وبعد البلوغ لا نعلم بقاء الاسلام، فأما من حكم بإسلامه بالدار فانه قبل البلوغ كالمحكوم بإسلامه بأبويه أو بالسابي، فإن بلغ ووصف الكفر فإنه يفزع ويهدد على الكفر احتياطا، فإن أقام على الكفر أقر عليه.

ومن أصحابنا من قال: هو كالمحكوم باسلامه بأبويه لانه محكوم باسلامه بغيره فصار كالمسلم بأبويه، ولمنصوص أنه يقر على الكفر لانه محكوم باسلامه من جهة

الظاهر، ولهذا لو ادعاه ذمى وأقام البينة حكم بكفره.

 

(فصل)

وإن بلغ اللقيط وقذفه رجل وادعى أنه عبد.

وقال اللقيط: بل أنا حر ففيه قولان

(أحدهما)

أن القول قول اللقيط لان الظاهر من حاله الحرية

(والثانى)

أن القول قول القاذف لانه يحتمل أن يكون عبدا، والاصل براءة ذمة القاذف من الحد وان قطع حر طرفه وادعى انه عبد.

وقال اللقيط: بل أنا حر فالمنصوص أن القول قول اللقيط، فمن أصحابنا من قال: فيه قولان كالقذف، ومنهم من قال: ان القول قول اللقيط قولا واحدا وفرق بينه وبين القذف بأن القصاص قد وجب في الظاهر ووجوب القيمة مشكوك فيه فإذا أسقطنا القصاص انتقلنا من الظاهر إلى الشك فلم يجز وفى القذف قد وجب الحد في الظاهر ووجوب التعزير يقين لانه بعض الحد، فإذا أسقطنا الحد انتقلنا من الظاهر إلى اليقين فجاز.

 

(فصل)

إذا بلغ اللقيط ووهب وأقبض وباع وابتاع ونكح وأصدق وجنى، وجنى عليه ثم قامت البينة على رقة كان حكمه في التصرفات كلها حكم العبد القن يمضى ما يمضى من تصرفه، وينقض ما ينقض من تصرفه فيما يضره ويضر غيره، لانه قد ثبت بالبينة أنه مملوك فكان حكمه حكم المملوك، فان أقر على نفسه بالرق لرجل فصدقه نظرت، فان كان قد تقدم منه إقرار بحريته لم يقبل إقراره بالرق، لانه باقراره بالحرية أحكام الاحرار في العبادات والمعاملات لم يقبل

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 315)

________________________________________

إقراره في إسقاطها، وإن لم يتقدم منه إقرار بالحرية ففيه طَرِيقَانِ مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْ قَالَ: فِيهِ قَوْلَانِ.

 

(أَحَدُهُمَا)

لَا يقبل إقراره بالرق، لانه محكوم بحريته فلم يقبل إقراره بالرق كما لو أقر بالحرية، ثم أقر بالرق.

 

(والثانى)

يقبل لانا حكمنا بحريته في الظاهر، وما ثبت بالظاهر يجوز إبطاله بالاقرار، ولهذا لو ثبت إسلامه بظاهر الدار وبلغ وأقر بالكفر قبل منه، فكذلك ههنا، ومنهم من قال: يقبل إقراره بالرق قولا واحدا لما ذكرناه، ويكون حكمه في المستقبل حكم الرقيق، فأما تصرفه بعد البلوغ وقبل الحكم برقه فعلى قولين

(أحدهما)

يقبل إقراره في جميعه، لان الرق هو الاصل وقد ثبت فوجب أن تثبت أحكامه كما لو ثبت بالبينة

(والثانى)

يقبل فيما يضره ولا يقبل فيما يضر غيره، لان اقراره يتضمن ما يضره ويضر غيره فقبل فيما يضره، ولم يقبل فيما يضر غيره، كما لو أقر بمال عليه وعلى غيره، وهذا الطريق هو الصحيح وعليه التفريع فان باع واشترى فان قلنا: يقبل إقراره في الجميع، وقلنا: ان عقود العبد من غير إذن المولى لا تصح كانت عقودة فاسدة فان كانت الاعيان باقية وجب ردها، وان كانت تالفة وجب بدلها في ذمته يتبع به إذا عتق.

وان قلنا: يقبل فيما يضره، ولا يقبل فيما يضر غيره، لم يقبل قوله في افساد العقود، ويلزمه اعواضها، فان كان في يده مال استوفى منه، فان فضل في يده شئ كان لمولاه.

وان كان اللقيط جارية فزوجها الحاكم ثم أقرت بالرق فان قلنا: يقبل اقرارها في الجميع فالنكاح باطل، لانه عقد بغير اذن المولى، فان كان قبل الدخول لم يجب على الزوج شئ، وان كان بعد الدخول وجب عليه مهر المثل لانه وطئ في نكاح فاسد، وان أتت بولد فهو حر لانه دخل على أنه حر وعليه قيمته ويجب عليها عدة أمة وهى قرءآن.

وان قلنا: لا يقبل فيما يضر غيره لم يبطل النكاح، لان فيه اضرارا بالزوج ولكنه في حق الزوج في حكم الصحيح، وفى حقها في حكم الفاسد، فان كان قبل الدخول لم يجب لها مهر، لانها لا تدعيه، وان كان بعد الدخول وجب لها أقل

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 316)

________________________________________

الامرين من مهر المثل أو المسمى، لانه إن كان المهر أقل لم يجب ما زاد لان فيه إضرارا بالزوج، وإن أتت منه بولد فهو حر ولا قيمة عليه لانا لا نقبل قولها فيما يضره، وتقول للزوج قد ثبت أن زوجتك أمة، فإن اخترت إمساكها كان ما تلده مملوكا للسيد لانك تطؤها على علم أنهات أمة، وإن طلقها اعتدت عدة حرة وهو ثلاثة أقراء وله فيها الرجعة لانا لا نقبل قولها عليه فيما يضره، وإن مات عنها لزمتها عدة أمة وهى شهران وخمس ليال.

لان عدة الوفاة تجب لحق الله تعالى لا حق له فيها، ولهذا تجب من غير وطئ.

وقول اللقيط يقبل فيما يسقط حق الله تعالى من العبادات، وان كان اللقيط غلاما فتزوج ثم أقر بالرق.

فإن قلنا: يقبل اقراره في الجميع: بطل النكاح من أصله لانه بغير اذن المولى فإن لم يدخل بها لم يلزمه شئ، وان دخل بها لزمه أقل الامرين من المسمى أو مهر المثل.

لانه ان كان المسمى أقل لم يجب ما زاد لانها لا تدعيه، وان كان مهر المثل أقل لم يجب ما زاد لان قوله مقبول، وان ضر غيره.

وان قلنا: لا يقبل قوله فيما يضر غيره لم يقبل قوله: ان النكاح باطل، لانه يضرها، ولكن يحكم بانفساخه في الحال لانه أقر بتحريمها، فإن كان قبل الدخول نصف المسمى وان دخل بها لزمه جميعه لانه لا يقبل قوله في اسقاط المسمى.

(الشرح) من حكم باسلامه أو باسلام أحد أبويه، وان علا وقت العلوق ولو أنثى غير وارثه، ولو كان حدوث الولد بعد موت أصله فهو مسلم بالاجماع بشرط نسبته إليه نسبة تقتضي التوارث فلا يرد آدم أبو البشر عليه السلام، ولو ارتد بعد البلوغ بأن وصف كفرا أي أعرب به عن نفسه فمرتد لانه مسلم ظاهرا وباطنا، ولو علق بين كافرين ثم أسلم أحدهما، وان علا قبل بلوغه ولو بعد تمييزه حكم باسلامه اجماعا كما في اسلام الاب والخبر (الاسلام يعلو ولا يعلى عليه) ولو

أمكن احتلامه فادعاه قبل اسلامه أصله فظاهر اطلاقهم قبول قوله فيه لزمن امكانه قال الرملي: وما بحثه الولى العراقى من عدم قبول قوله الا أن ينبت على عانته شعر خشن، غير ظاهر اللهم الا أن يقال: الاحتياط للاسلام يلغى قوله المانع له لاحتمال كذبه، ولاصل بقاء الصغر، فان بلغ ووصف كفرا فمرتد لسبق الحكم

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 317)

________________________________________

بإسلامه ظاهرا وباطنا، وفى قول كافر أصلى، لان تبعيته أزالت الحكم بكفره، وقد زالت باستقلاله فعاد لما كان عليه أولا، وبنى عليه أنه يلزمه التلفظ بالاسلام بعد البلوغ بخلافه على الاول، ومن ثم لو مات قبل التلفظ جهز كمسلم.

بل قال امام الحرمين وصوبه في الروضه هو كذلك على الثاني أيضا لان هذا الامور مبنية على الظاهر، وظاهره الاسلام.

وما ذكره بعضهم من أن المسلم باسلام أحد أبويه لا يغنى عنه اسلامه شيئا ما لم يسلم بنفسه فغريب أو سبق قلم على ما قرره الاذرعى أو مفرع على وجوب التلفظ ولو تلفظ ثم ارتد فمرتد قطعا، ولا ينقض ما جرى عليه من أحكام الاسلام قبل ردته على الاصح.

ولو سبى مسلم طفلا تبع هذا الطفل سابيه في الاسلام ظاهرا وباطنا ان لم يكن معه أحد أبويه بالاجماع، ولا اعتبار بمن شذ، ولانه صار تحت ولايته كالابوين، وقضية الحكم باسلامه باطنا أنه لو بلغ ووصف الكفر كان مرتدا أما إذا كان معه أحد أبويه وان علا بأن كان في جيش واحد وغنيمة واحدة، وان لم يتحد المالك وقد سبيا معا وان أطلق القاضى في تعليقه أنه إذا سبق سبى أحدهما سبى الآخر تبع السابى، فلا يحكم باسلامه، لان تبعيتهما أقوى من تبعية السابى وان ماتا بعد، لان التبعية انما تثبت في ابتداء السبى، ولو سباه ذمى قاطن ببلادنا على حد قول امام الحرمين أو دخل به دارنا كما قال البغوي، أو

سباه في جيشنا، وكل ذلك انما هو قبل للخلاف في قولهم: لم يحكم بالامه في الاصح.

والثانى: يحكم باسلامه تبعا للدار والاوجه أنه لو سبى أبواه ثم أسلما صار مسلما بإسلامهما خلافا للحليمي ومن تبعه، ولو سباه مسلم وذمى حكم باسلامه تغليبا لحكم الاسلام، ولو سبى الذمي صبيا أو مجنونا وباعه لمسلم أو باعه المسلم السابى له مع أحد أبويه في جيش واحد ولو دون أبويه من مسلم لم يتبع المشترى لفوات وقت التبعية، لانها انما تثبت ابتداء وما جاء من قتله فسيأتي في الاقضية ان شاء الله تعالى.

(فرع)

إذا ادعى رق اللقيط مدع بعد بلوغه كلف اجابته، فان أنكر ولا بينة

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 318)

________________________________________

لم تقبل دعواه، وإن كانت له بينة حكم له بها، فإن كان اللقيط قد تصرف قبل ذلك ببيع أو شراء نقضت تصرفاته لتصرفه بغير إذن، وان لم تكن بينة فأقر بالرق نظرنا، فان كان اعترف لنفسه بالحرية قبل ذلك لم يقبل إقراره بالرق لانه اعترف بالحرية وهى حق الله تعالى فلا يبطل برجوعه.

فإن قلنا: يقبل إقراره كأحد الوجهين عند الشافعي صارت أحكامه أحكام العبيد فيما عليه دون ماله، وبهذا قال أبو حنيفة ولمزني وأحمد، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لانه أقر بما يوجب حقا له وحقا عليه، فوجب أن يثبت ما عليه دون ماله كما لو قال: لفلان على ألف درهم ولى عنده رهن.

ويحتمل أن يقبل إقراره في الجميع، وهو القول الثاني للشافعي لانه ثبت ما عليه فيثبت ماله كالبينة، فإن قبلنا إقراره بالرق لم يخل من أن يكون ذكرا أو أنثى.

فإن كان اللقيط أنثى فالنكاح صحيح في حقها، فان كان قبل الدخول فلا جهر لها، وان كان دخل بها لم يسقط مهرها وأما أولادها فأحرار ولا يثبت الرق في حق أولادها باقرارها فأما بقاء النكاح فيقال للزوج: قد ثبت أنها أمة، فإن اخترت المقام على ذلك

فأقم، وإن شئت ففارقها، وسواء كان ممن يجوز له نكاحا الاماء أو لم يكن لاننا لو اعتبرنا ذلك وأفسدنا نكاحه لكان إفسادا للعقد جميعه بقولها، لان شروط نكاح الامه لا تعتبر في استدامة العقد انما تعتبر في ابتدائه.

فإن قيل: قد قبلتم قولها لى أنها أمة في المستقبل وفيه ضرر على الزوج.

قلنا لم يقبل قولها في إيجاب حق لم يدخل في العقد عليه، فأما الحكم في المستقبل فيمكن إيفاء حقه وحق من يثبت له الرق عليها بأن يطلقها فلا يلزمه ما لم يدخل عليها أو يقم على نكاحها فلا يسقط حق سيدها، فان طلقها اعتدت عدة الحرة، لان عدة الطلاق حق للزوج عند أحمد والشافعي ثلاثة قروء، وان مات اعتدت عدة الامة وهى شهران وخمس ليال لانه وطئ في نكاح فاسد، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

 

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:

(فصل)

وان جنى عمدا على عبد ثم أقر بالرق وجب عليه القصاص على

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 319)

________________________________________

القولين وان جنى خطأ وجب الارش في رقبته على القولين لان وجوب القصاص ووجوب الارش في رقبته يضره ولا يضر غيره فقبل قوله فيه، وإن جنى عليه حر عمدا لم يجب القود على الجاني لان ذلك مما يضره ولا يضر غيره فقبل قوله فيه، وان جنى عليه خطأ بأن قعع يده، فإن الجاني يقر بنصف الدية واللقيط يدعى نصف القيمة، فإن كان نصف القيمة أكثر من نصف الدية وجب نصف القيمة، لان ما زاد عليه لا يدعيه.

وإن كان أكثر من نصف الدية فعلى القولين إن قلنا يقبل قوله في الجميع وجب على الجاني نصف القيمة، وإن قلنا لا يقبل فيما يضر غيره وجب نصف الدية لان فيما زاد إضرارا بالجاني

(فصل)

وإن أقر اللقيط أنه عبد لرجل وكذبه الرجل سقط إقراره، كما

لو أقر له بدار فكذبه، وإن أقر اللقيط بعد التكذيب بالرق لآخر لم يقبل.

وقال أبو العباس يقبل كما لو أقر لرجل بدار فكذبه ثم أقر بها لآخر، والمذهب الاول لان بإقراره الاول قد أخبر أنه لم يملكه غيره، فإذا كذبه المقر له رجع إلى الاصل، وهو انه حر فلم يقبل اقراره بالرق بعده، ويخالف الدار لانه إذا كذبه الاول رجع إلى الاصل وهى مملوكة فقبل الاقرار بها لغيره.

 

(فصل)

وإن بلغ اللقيط فادعى عليه رجل أنه عبده فأنكره فالقول قوله لان الاصل الحرية، وإن طلب المدعى يمينه فهل يحلف؟ يبنى على القولين في إقراره بالرق، فان قلنا يقبل حلف لانه ربما خاف من اليمين فأقر له بالرق، وإن قلنا لا يقبل لم يحلف، لان اليمين انما تعرض ليخاف فيقر، ولو أقر لم يقبل فلم يكن في عرض اليمين فائدة وبالله التوفيق.

(الشرح) إذا جنى جناية موجبة للقصاص فعليه القود حرا كان المجني عليه أو عبدا، لان اقراره بالرق يقتضى وجوب القود عليه فيما إذا كان المجني عليه عبدا أو حرا فقبل اقراره فيه.

وان كانت الجناية خطأ تعلق أرشها برقبته، لان ذلك مضر به، فان كان أرشها أكثر من قيمته وكان في يده مال استوفى منه وان كان مما تحمله العاقلة لم يقبل قوله في اسقاط الزيادة، لان ذلك يضر بالمجنى عليه فلا يقبل قوله فيه.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 320)

________________________________________

وقيل تجب الزيادة في بيت المال لان ذلك كان واجبا للمجني عليه فلا يقبل قوله في اسقاطه.

وان جنى عليه جناية موجبة للقود وكان الجاني حرا سقط، لان الحر لا يقاد منه للعبد، وقد أقر المجني عليه بما يسقط القصاص، وإذا ادعى رق اللقيط مدع سمعت دعواه لانها ممكنة وان كانت مخالفة لظاهر الدار، فان لم يكن له بينة فلا

شئ له، أما إذا ادعاه بعد بلوغه فأنكر اللقيط فالقول قوله لاستصحاب الاصل وهو الحرية، وهى حق لله تعالى، والله تعالى أعلم بالصواب

قال المصنف رحمه الله تعالى

 

كتاب الوقف الوقف قربة مندوب إليها لما روى عبد الله بن عمر أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وكان قد ملك مائة سهم من خيبر، فقال: قد أصبت مالا لم أصب مثله، وقد أردت أن أتقرب به إلى الله تعالى، فقال: حبس الاصل وسبل الثمرة)

(فصل)

ويجوز وقف كل عين ينتفع بها على الدوام كالعقار والحيوان والاثاث والسلاح، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (أنه ذكر للنبى صلى الله عليه وسلم أنه مَنَعَ ابْنُ جَمِيلٍ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَالْعَبَّاسُ بن عبد المطلب يعنى الصدقة، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما نقم ابن جميل الا أنه كان فقيرا فأعناه الله ورسوله.

فأما خالد فانكم تظلمون خالدا، ان خالدا قد حبس أدرعه وأعتده معا في سبيل الله) ولانه لما أمر عمر رضى الله عنه بتحبيس الاصل وتسبيل الثمرة، دل ذلك على جواز وقف كل ما يبقى وينتفع به.

وأما مالا ينتفع به على الدوام كالطعام وما يشم من الريحان وما تحطم وتكسر من الحيوان فلا يجوز وقفه لانه لا يمكن الانتفاع به على الدوام، ويجوز وقف الصغير من الرقيق والحيوان، لانه يرجى الانتفاع به على الدوام، ولا يجوز وقف الحمل لانه تمليك منجز فلم يصح في الحمل وحده كالبيع

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 321)

________________________________________

(فصل)

واختلف أصحابنا في الدراهم والدنانير، فمن أجاز إجارتها أجاز وقفها، ومن لم يجز إجارتها لم يجز وقفها، واختلفوا في الكلب فمنهم من قال

لا يجوز وقفه لان الوقف تمليك والكلب لا يملك.

ومنهم من قال يجوز الوقف لان القصد من الوقف المنفعة وفى الكلب منفعة فجاز وقفه، واختلفوا في أم الولد فمنهم من قال يجوز وقفها لانه ينتفع بها على الدوام فهى كالامة القنة، ومنهم من قال لا يجوز لانها لا تملك

(فصل)

ولا يصح الوقف إلا في عين معينة، فإن وقف عبدا غير معين أو فرسا غير معين فالوقف باطل لانه إزالة ملك على وجه القربة فلم يصح في عين في الذمة كالعتق والصدقة.

(الشَّرْحُ) حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه بلفظ (أن عمر أصاب أرضا من أرض خيبر فقال: يا رسول الله أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ أنفس عندي منه فما تأمرني؟ فقال: إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها، فتصدق بها عمر على أن لا تباع ولا توهب ولا تورث في الفقراء وذوى القربى والرقاب والضيف وابن السبيل، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم غير متمول) وفى لفظ (غير متأثل مالا) وفى حديث عمرو بن دينار عند البخاري قال في صدقة عمر (ليس على الولى جناح أن يأكل صديقا له غير متأثل) قال (وكان ابن عمر هو يلى صدقة عمر ويهدى لناس من أهل مكة كان ينزل عليهم) وللحديث روايات للبيهقي والطحاوى والدارقطني.

وروى النسائي وابن ماجه والشافعي عن ابن عمر، وهو متفق عليه مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ عمر للنبى صلى الله عليه وسلم (إن المائة سهم التى لى بخيبر لم أصب مالا قط أعجب إلى منها، وقد أردت أن أتصدق بها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: احبس أصلها وسبل ثمرتها)

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 322)

________________________________________

وأما حديث أبى هريرة فقد رواه أحمد ومسلم بلفظ (بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمر عَلَى الصَّدَقَةِ فَقِيلَ: مَنَعَ ابْنُ جَمِيلٍ وَخَالِدُ بن الوليد وعباس عم النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يَنْقِمُ ابْنُ جَمِيلٍ إلَّا أَنَّهُ كَانَ فَقِيرًا فَأَغْنَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا خَالِدٌ فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا، قَدْ احْتَبَسَ أدراعه وأعتاده في سبيل الله تعالى، وأما العباس فهى عَلَيَّ وَمِثْلُهَا مَعَهَا.

ثُمَّ قَالَ: يَا عُمَرُ أَمَا شَعَرْتَ أَنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ) وأخرجه البخاري وليس فيه ذكر عمر ولا ما قيل له في العباس.

وأخرجه أبو داود الطيالسي من حديث أبى رافع وفيه إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لعمر (إنا كنا تعجلنا صدقة مال العباس عام الاول) وأخرجه الطبراني والبزار وفى اسناده محمد بن ذكوان، وهو ضعيف.

ورواه البزار من حديث موسى بن طلحة عن أبيه نحوه.

وفى إسناده الحسن بن عمارة وهو متروك.

ورواه الدارقطني من حديث ابن عباس، وفى إسناده مندل بن على والعرزمى وهما ضعيفان.

أما اللغات فالوقف مصدر وقف يقف، ووقفته أنا يتعدى ويلزم، ووقفت الدار حبستها في سبيل الله، وشئ موقوف ووقف تسمية بالمصدر، والجمع أوقاف، كثوب وأثواب، ولا يقال أوقفت إلا في الكلام، فتقول فأوقفت عن الكلام.

وقوله (حبس الاصل وسبل الثمرة) الحبس ضد الاطلاق، أي اجعله محبوسا لا يباع ولا يوهب.

وسبل الثمرة، أي اجعل لها سبيلا، أي طريقا لمصرفها، والاثاث متاع البيت، قال الله تعالى (أثاثا ومتاعا إلى حين) وقوله (ما تقم ابن جميل) نقم من باب ضرب نقما ونقوما، وفى لغة من باب

تعب، ومعناه كره الشئ وعابه أشد العيب، وفى التنزيل (وما تنقم منا) على اللغة الاولى، أي وما تطعن فينا وتقدح، وقيل ليس لك عندنا ذنب ولا ركبنا مكروها.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 323)

________________________________________

والاعتدة جمع عتاد وهو أهبة الحرب من السلاح والذخيرة وغيرهما يقال: أخذ للامر عدته وعتاده أي أهبته وآلته.

أما الاحكام: فقد استدل المصنف بحديث ابن عمر علب صحة وقف المشاع وهو مذهب الشافعي وأبى يوسف ومالك، لان عمر وقف مائة سهم بخيبر ولم تكن مقسومة، وقد عارض وقف المشاع بعض الفقهاء وأوضح ما احتجوا به أن كل جزء من المشترك محكوم عليه بالمملوكية للشريكين فيلزم مع وقف أحد الشريكين أن عليه بحكمين مختلفين متضادين مثل صحة البيع بالنسبة إلى كونه مملوكا وعدم الصحة بالنسبة إلى كونه موقوفا، فيتصف كل جزء بالصحة وعدمها وأجيب عن هذا بأبه نظير العتق المشاع كحديث الستة الاعبد كما صح هنا، وإذا صح من جهة الشارع بطل هذا الاستدلال.

وقد استدل البخاري على صحة وقف المشارع بحديث أنس في قصة بناء المسجد وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (ثامنونى حائطكم، قالوا: لا نطلب ثمنه إلا إلى الله عزوجل) وهذا ظاهر في جواز وقف المشارع ولو كان غير جائز لانكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم قولهم هذا وبين لهم الحكم.

على أن الوقف عند أكثر أهل العلم من السلف ومن بعدهم على القول بصحتة قال جابر رضى الله عنه لم يكن أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذو مقدرة إلا وقف ولم ير شريح الوقف وقال: لا حبس عن فرائض الله، وقال أحمد: وهذا مذهب أهل الكوفة، وذهب أبو حنيفة إلى أن الوقف لا يلزم بمجرده،

وللواقف الرجوع فيه إلا أن يوص به بعد موته فيلزم أو يحكم بلزومه حاكم، وحكاه بعضهم عن على وابن مسعود وابن عباس، وخالفه صاحباه فقالا كقول سائر أهل العلم.

واحتج بعضهم بما روى أن عبد الله بن زيد صاحب الاذان جعل حائطه صدقة وجعله إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجاء أبواه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله لم يكن لنا عيش إلا هذا الحائط، فرده النبي صلى الله عليه وسلم ثم ماتا فورثهما.

رواه المحاملى في أماليه، ولانه أخرج ماله على وجه القربة

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 324)

________________________________________

من ملكه فلا يلزم بمجرد القول كالصدقة، وهذا القول يخالف السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإجماع الصحابة رضى الله عنهم فإنه صلى الله عليه قال لعمر في وقفه (لا يباع أصلها ولا يبتاع ولا يوهب ولا يورث) قال الترمذي العمل عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِمْ، لا نعلم بين أحد من المتقدمين منهم في ذلك اختلافا.

قال الحميدى شيخ البخاري: تصدق أبو بكر رضى الله عنه بداره على ولده، وعمر بربعه عند المروة على ولده، وعثمان برومة، وتصدق على بأرضه بينبع، وتصدق الزبير بداره بمكة وداره بمصر وأمواله بالمدينة على ولده، وعمرو بن العاص بالوهط، وداره بمكة على ولده، وحكيم بن حزام بداره بمكة والمدينة على ولده قال: فذلك كله إلى اليوم اه.

فإن الذى قدر منهم على الوقف وقف واشتهر فلم ينكره أحد فكان إجماعا، ولانه إزالة ملك يلزم بالوصية، فإذا انجزه حال الحياة لزم من غير حكم كالعتق، وأجيب عن حديث عبد الله بن زيد بأنه إن ثبت فليس فيه ذكر للوقف والظاهر أنه جعله صدقه غير موقوف، استناب فيها النبي صلى الله عليه وسلم

فرأى والديه أحق الناس بصرفها اليهما ولذلك لم يردها عليه، إنما دفعها اليهما، ويحتمل أن الحائط كان لهما، وكان هو يتصرف فيه بحكم النيابة عنهما فتصرف بهذا التصرف بغير اذنهما فلم ينفذاه، وأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فرده اليهما والقياس على الصدقة لا يصح لانها تلزم في الحياة بغير حكم حاكم، وانما تفتقر إلى القبض، والوقف لا يفتقر إليه فافترقا، فإذا صح الوقف فقد زال به ملك الواقف على المشهور من مذهبنا.

والصحيح من مذهب أحمد، وكذلك المشهور من مذهب أبى حنيفة.

وعن مالك: لا يزول ملكه، وهو قول لاحمد.

وحكى قولا للشافعي لقول النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (حَبِّسْ الْأَصْلَ وسبل الثمرة) .

واجيب على القول ببقاء الملك بان الوقف سبب يزيل التصرف في الرقبة والمنفعة، فازال الملك كالعتق، ولانه لو كان ملكه لرجعت إليه قيمته كالملك المطلق، واما الخبر فالمراد به ان يكون محبوسا، لا يباع ولا يوهب ولا يورث،

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 325)

________________________________________

وفائدة الخلاف أنا إذا حكمنا ببقاء ملكه لزمته مراعاته والخصومة فيه، ويحتمل أن يلزمه أرش جنايته كما يفدى ام الولد سيدها لما تعذر تسليمه بخلاف غير المالك إذا صح هذا فما ينتفع به باتلافه كالمطعوم المشروب والمشموم فوقفه غير جائز، وكذلك الشمع، وكذلك كل ما يسرع إليه الفساد وكل مالا يمكن الانتفاع به على الداوم وقد ألحق الحنابلة، الدراهم والدنانير بالمأكول والمشروب، ويحكى شئ عن مالك والاوزاعي في وقف الطعام انه يجوز، ولم يحكه أصحاب مالك، وهذا غير صحيح، لان الوقف تحبيس الاصل وتسبيل الثمرة وملا ينتفع به الا بالاتلاف لا يصح فيه ذلك ولا يصح في المشموم مقطوفا ويصح فيه مزروعا لبقائه مدة كما قاله النووي وغيره، ولهذا قال ابن الصلاح والخوارزمي يصح وقف المشموم كالريحان وغيره وكالعنبر والمسك بخلاف عود البخور لاستهلاكه بالمنفعة

وقد اختلف اصحابنا في الدراهم والدنانير فمن قال يجوز ان تكون لها ثمرة دائمة كالاجارة اجاز وقفها، ومن قال بعد جواز الاجارة، قال بعدم جواز الوقف فيها، لان تلك المنفعة ليست المقصود الذى خلقت له الاثمان، ولهذا لا تضمن في الغصب فلم يجز الوقف له واجاز الاصحاب وقف الدراهم والدنانير حليا وللعارية لما روى نافع قال: ابتاعت حفصة حليا بعشرين الفا فحبسته على نساء آل الخطاب فكانت لا تخرج زكاته، رواه الخلال باسناده، ولانه عين يمكن الانتفاع بها مع بقائها دائما تصح وقفها كالعقار، ولانه يصح تحبيس اصلها وتسبيل الثمرة فصح وقفها كالعقار، والى هذا ذهب أصحاب أحمد.

وروى عن أحمد أنه لا يصح وقفها، وأنكر الحديث عن حفصة في وقفه، وذكره ابن أبى موسى، ووجه هذه الرواية أن التحلى ليس هو المقصود الاصلى من الاثمان فلم يصح وقفها عليه كما لو وقف الدنانير والدراهم.

قال ابن قدامة: والاول هو المذهب، والتحلى من المقاصد المهمة، والعادة جارية به وقد اعتبره الشرع في إسقاط الزكاة عن متخذه وجوز اجارته لذلك، ويفارق الدارهم والدنانير، فان العادة لم تجر بالتحلى به ولا اعتبره الشرع في اسقاط زكاته ولا ضمان نفعه في العصب بخلاف مسألتنا.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 326)

________________________________________

(فرع)

لا يجوز وقف مالا يجوز امتلاكه كالكلب ولو كلب صيد وكذلك الخنزير كما لا يجوز وقف أدوات اللهو والمعارف، والكلب إنما ابيح الانتفاع به على خلاف الاصل للقدرة فلا يجوز التوسع فيها.

هذا هو الاصح كما قرره النووي في المنهاج وتابعه جميع الشراح.

كما لا يجوز الوقف الا على عين معينة مملوكة ملكا يقبل النقل يحصل منها مع بقاء عينها فائدة أو منفعة وضابط المنفعة المقصودة ما يصح استئجاره، على شرط

ثبوت حق الملك في الرقبه وشمل كلام النووي في المنهاج وقف الموصى بعينه مدة والمأجور، وان طالت مدتهما ونحو الجحش الصغير وان لم تكن لاولئك منفعة حالا، ولا يصح وقف حيوان أو متاع أو ثياب في الذمه لان حقيقته إزالة ملك عن عين، نعم يجوز التزامه فيها بالنذر وبهذا كله قال أحمد وأصحابه.

 

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

وما جاز وقفه جاز وقف جزء منه مشاع لان عمر رضى الله عنه وقف مائة سهم من خيبر باذن رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّ القصد بالوقف حبس الاصل وتسبيل المنفعة، والمشاع كالمقسوم في ذلك، ويجوز وقف علو الدار دون سفلها دون علوها، لانهما عينان يجوز وقفهما، فجاز وقف أحدهما دون الاخر كالعبدين.

 

(فصل)

ولا يصح الوقف الا على بر ومعروف كالقناطر والمساجد والفقراء والاقارب، فان وقف على ما لا قربة فيه كالبيع والكنائس وكتب التوراة والانجيل، وعلى من يقطع الطريق أو يرتد عن الدين لم يصح، لان القصد بالوقف القربة، وفيما ذكرناه إعانة على المعصية، وان وقف على ذمى جاز لانه في موضع القربة، ولهذا يجوز التصدق عليه فجاز الوقف عليه، وفى الوقف على المرتد والحربي وجهان.

(احدهما) يجوز لانه يجوز تمليكه فجاز الوقف عليه كالذمي.

 

(والثانى)

لا يجوز، لان القصد بالوقف نفع الموقوف عليه، والمرتد والحربي مأمور بقتلهما فلا معنى للوقف عليهما، وان وقف على دابة رجل،

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 327)

________________________________________

ففيه وجهان، أحدهما: لا يجوز، لان مؤنتها على صاحبها، والثانى: يجوز لانه كالوقف على مالكه.

 

(فصل)

ولا يجوز ان يقف على نفسه، ولا ان يشرط لنفسه منه شيئا.

وقال أبو عبد الله الزبيري (١) : يجوز لان عثمان رضى الله عنه وقف بئر رومة وقال (دلوى فيها كدلاء المسلمين) وهذا خطا لان الوقف يقتضى حبس العين وتمليك المنفعة والعين محبوسة عليه ومنفعتها مملوكة له فلم يكن للوقف معنى، ويخالف وقف عثمان رضى الله عنه لان ذلك وقف عام ويجوز ان يدخل في العام مالا يدخل في الخاص، والدليل عليه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصلى في المساجد وهى وقف على المسلمين، وان كان لا يجوز ان يخص بالصدقة ولان في الوقف العام يدخل فيه من غير شرط ولا يدخل في الوقف الخاص فدل على الفرق بيهما.

 

(فصل)

ولا يجوز الوقف على من لا يملك كالعبد والحمل لانه تمليك منجز فلم يصح على من لا يملك كالهبة والصدقة.

 

(فصل)

ولا يصح الوقف على مجهول كالوقف على رجل غير معين والوقف على من يختاره فلان لانه تمليك منجز فلم يصح في مجهول كالبيع والهبة.

(الشرح) خبر عمر رضى الله عنه مضى تخريجه وبعض فقهه ولما تكلم المصنف عن منع وقف غير المعين ناسب ان يردفه بحكم المشارع، وبجوازه قال مالك والشافعي وأبو يوسف وأحمد، وقال محمد بن الحسن، لا يصح، وبناه على اصله في ان القبض شرط، وان القبض لا يصح في المشاع، وخبر عمر هو أول وقف شرع في الاسلام حيث لم يكن وقف في الجاهلية.

وقال الشافعي رضى الله عنه ان هذا الوقف المعروف حقيقة شرعية لم تعرفه الجاهلية.

وقيل ان أول وقف ما وقفه رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أموال مخيريق التى أوصى بها له في السنة الثالثة.

________________________________________

(١) في نسخ المهذب المتداولة الزبيدى وصوابه الزبيري.

المطيعى

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 328)

________________________________________

وصحح أصحابنا وقف المشاع وان جهل قدر حصته أو صفتها، لان وقف عمر كان مشاعا، ولانه عقد يجوز على بعض الجملة مفرزا فجاز عليه مشاعا كالبيع، أو عرصة يجوز بيعها فجاز وقفها كالمفرزة، ولان الوقف تحبيس الاصل وتسبيل المنفعة، وهذا يحصل في المشاع كحصوله في المفرز، ولا نسلم اعتبار القبض.

إذا ثبت هذا فانه يجوز ان يوقف جزءا من داره أو علويها أو سفليها.

وكذلك إذا وقف داره على جهتين مختلفتين، مثل أن يقفها على أولاده وعلى المساكين أو على جهة أخرى سواهم، لانه إذا جاز وقف الجزء مفردا جاز وقف الجزين.

(فرع)

إذا لم يكن الوقف على بر أو معروف فهو باطل، وبيان ذلك أنه لا يصح الا على ولده وأقاربه ورجل معين، أو بناء المساجد والجسور والقناطر وكتب الفقه والعم والقرآن والمقابر والسقايات ولا يصلح على غير معين كرجل وامرأة، لان الوقف تمليك للعين أو للمنفعة فلا يصح على غير معين كالبيع والاجارة، ولا على معصية كبيت النار لعبدتها والبيع والكنائس وكتب التوراة والانجيل لان ذلك معصية، فان هذه المواضع بنيت للكفر، وهذه الكتب مبدلة منسوخة.

ولذلك غضب النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى مع عمر صحيفة فيها شئ من التوراة وقال (أفى شك أنت يابن الخطاب؟) وفى رواية (أمتهوكون أنتم؟ لو كان موسى أخى حيا ما وسعه الا اتباعى) وفى رواية (الم آت بها بيضاء نقية؟ لو كان موسى اخى حيا ما وسعه الا اتباعى) فلولا ان ذلك معصية ما غضب صلى الله عليه وسلم منه.

والوقف على قناديل البيعة أو معابد البوذيين أو دور الهندوك أو محافل البهائيين أو القاديانيين أو أي معبد يقوم على غير أصل الاسلام وخلوص

الوحدانية من شوائب الزيغ باطل.

وقال احمد بن حنبل في نصارى وقفوا على البيعة ضياعا كثيرة وماتوا ولهم أبناء نصارى فاسلموا والضياع بيد النصارى، فلهم اخذها وللمسلمين عونهم حتى يستخرجوها من أيديهم.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 329)

________________________________________

وهذا هو مذهب الشافعي رضى الله عنه ولا نعلم فيه خلافا، ولان مالا يصح من المسلم الوقف عليه لا يصح من الذمي كالوقف على غير معين.

فان قيل: فقد قلتم إن أهل الكتاب إذا عقدوا عقودا فاسدة وتقابضوا ثم أسلموا وترافعوا الينا لم ننقض ما فعلوه، فكيف أجزتم الرجوع فيما وقفوه على كنائسهم؟ قلنا الوقف ليس بعقد معاوضة، وانما هو ازالة للملك في الموقوف على وجه القربة، فإذا لم يقع صحيحا لم يزل الملك فيبقى بحاله كالعتق، وقد أفتى أحمد رضى الله عنه في نصراني أشهد في وصيته أن غلامه فلانا يخدم البيعة خمس سنين ثم هو حر، ثم مات مولاه وخدم سنة ثم أسلم ما عليه؟ قال هو حر ويرجع على الغلام بأجره خدمة مبلغ أربع سنين.

وروى عنه قال: هو حر ساعة مات مولاه لان هذه معصية.

وظاهر كلام المصنف التفريق بين الذمي ومعابد الكفار، حيث يقول: وان وقف على ذمى جاز الخ.

قلت هذا مبنى على أصل أن الوقف لا يصح على من لا يملك، كالوقف على القن وأم الولد والجن والملائكة ولانه يجوز التصدق عليه أما الوقف على المرتد والحربي في صفوف الاعداء فوجهان.

فمن جعله كالذمي أجاز الوقف عليه.

ومن قال أن القصد من الوقف نفع الموقوف عليه ونحن مامورون بقتل المرتد والحربي، وهذا اقصى درجات الحرمان وهو فقد الحياة، فكيف يجوز

ايصال المنفعة إليه؟ ولان أموال المرتدين والمحاربين مباحة في الاصل، ويجوز أخذها بالقهر والغلبة، فما يتجدد لهم أولى على أن الوقف لا يجوز ان يكون مباح الاخذ لانه تحبيس الاصل وفارق أهل الذمة فانه يصح الوقف عليهم لانهم يملكون ملكا محترما، ولان صفيه ام المؤمنين وقفت على اخ لها يهودى، ولان من جاز أن يقف الذمي عليه جاز أن يقف عليه المسلم كالمسلم، ولو وقف على من ينزل كنائسهم وبيعهم من المارة والمجتازين صح أيضا لان الوقف عليهم لا على الموضع (فرع)

لا يجوز أن يخص نفسه بالوقف وكذلك إذا جعله عاما وجعل لنفسه شيئا منه فانه لا يجوز وقيل يجوز، واستدل القائلون بجوازه، ومنهم أبو عبد الله

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 330)

________________________________________

الزبيري وابن حجر العسقلاني في الباري بحديث بئر رومة، وهو عن عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قدم المدينة ولبس بها ماء يستعذب غير بئر رومة فقال (من يشترى بئر رومة فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة، فاشتريتها من صلب مالى) رواه النسائي والترمذي وقال: حديث حسن، وفيه جواز انتفاع الواقف بوقفه.

وفى رواية للبغوي في كتاب الصحابة من طريق بشر بن بشير الاسلمي عن ابيه انها كانت لرجل من بنى غفار عين يقال لها رومة.

وكان يبيع منها القربة بمد فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تبيعنيها بعين في الجنة؟ فقال يا رسول الله ليس لى ولا لعيالي غيرها، فبلغ ذلك عثمان فاشتراها بخمسة وثلاثين الف درهم.

ثم أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أتجعل لى ما جعلت له؟ قال نعم قال قد جعلتها للمسلمين.

وللنسائي من طريق الاحنف عن عثمان قال: إجعلها سقاية للمسلمين واجرها لك، وزاد أيضا في رواية من هذه الطريق ان عثمان قال ذلك وهو

محصور وصدقة جماعة منهم على بن أبى طالب وطلحة والزبير وسعد بن ابى وقاص وفى قوله: فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين، الدليل عل جواز أن يجعل الواقف لنفسه نصيبا في الوقف، قالوا ويؤيده جعل عمر لمن ولى وقفه أن يأكل منه بالمعروف، وظاهره عدم الفرق بين أن يكون هو الناظر أو غيره.

هكذا قالوا.

قال ابن حجر في فتح الباري: ويستنبط منه صحة الوقف على النفس وهو قول ابن أبى ليلى وابى يوسف وأحمد في الارجح عنه.

وقال به ابن شعبان من المالكية، وجمهورهم على المنع الا إذا استثنى لنفسه شيئا يسيرا بحيث لا يتهم انه قصد حرمان ورثته.

ومن الشافعية أبو العباس بن سريج وطائفة.

وصنف فيه محمد بن عبد الله الانصاري شيخ البخاري جزءا ضخما، واستدل له بقصة عمر هذه، وبقصة راكب البدنة، وبحديث أنس في أنه صلى الله عليه وسلم أعتق صفية وجعل عتقها صداقها، ووجه الاستدلال به انه أخرجها عن ملكه بالعتق وردها إليه بالشرط.

اه وقد حكى جواز الوقف على النفس ابن شبرمة والزبيرى.

وعن الشافعي

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 331)

________________________________________

ومحمد بن الحسن انه لا يصح الوقف على النفس، قالا لانه تمليك فلا يصح أن بتملكه لنفسه من نفسه كالبيع والهبة، ولقوله صلى الله عليه وسلم (سبل الثمرة) وتسبيلها تمليكها للغير.

قال ابن حجر: وتعقب بان امتناع ذلك غير مستحيل، ومنعه تمليكه لنفسه إنما هو لعدم الفائدة.

والفائدة في الوقف حاصلة لان استحقاقه إياه وقفا.

اه قلت: وقد استدل القائلون بصحة الوقف على النفس بحديث الرجل الَّذِي قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (عندي دينار، فقال تصدق به على نفسك) رواه أبو داود والنسائي.

وقال ابن قدامة: قال الاثرم: قيل لابي عبد الله - يعنى أحمد بن حنبل - يشترط في القوف انى أنفق على نفسي وأهل منه؟ قال نعم.

واحتج قال: سمعت ابن عيينة عن ابن طاوس عن ابه عن حجر المدرى ان في صدقة رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ يأكل منها أهله بالمعروف غير المنكر.

اه.

ودليل المانعين وهم مالك والشافعي ومحمد بن الحسن انه إزالة ملك فلم يجز اشتراط نفعه لنفسه كالبيع والهبة، وكما لو اعتق عبدا بشرط ان يخدمه، ولان ما ينفقه على نفسه مجهول، فلم يصح اشتراطه كما لو باع شيئا واشترط ان ينتفع به.

وقال النووي في المنهاج (ويصح على ذمى لا مرتد وحربي ونفسه في الاصح) وقد فهم بعض الشراح كما يقول الرملي من هذا ان النووي صحح الوقف لنفسه، والذى يتبادر إلى الفهم من كلام النووي ان عطف نفسه يرجع على المعطوف عليه وهو ذمى المقول بصحة الوقف عليه، ولكن الرملي رحمه الله قال: لتعذر تمليك الانسان ملكه أو منافع ملكه لنفسه لانه حاصل، ويمتنع تحصيل الحاصل واختلاف الجهة، إذ استحقاقه وقفا غيره ملكا الذى نظر له مقابل الاصح.

واختاره جمع، ومنه ان يشترط نحو قضاء دينه مما وقفه، أو انتفاعه به أو شربه منه أو مطالعته في الكتاب، أو طبخه في القدر أو استعماله من بئر أو كوز وقف ذلك على الفقراء؟ فيبطل الوقف بذلك، خلافا لبعض الشراح هنا، وكانه توهم جواز ذلك من قول عثمان في وقفه لبئر رومة دلوى فيها كدلاء المسلمين.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 332)

________________________________________

قال: وليس بصحيح فقد أجابوا عنه بانه لم يقل ذلك على سبيل الشرط، بل الاخبار بأن للواقف الانتفاع بوقفه العام، كالصلاة بمسجد وقفه والشرب من بئر وقفها.

نعم، لو شرط ان يضحى عنه صح أخذا من قول الماوردى وغيره بصحة شرط ان يحج عنه منه، أي لانه لا يرجع له من ذلك سوى الثواب

وهو لا يضر، بل هو المقصود من الوقف، ولو وقف على الفقراء مثلا ثم صار فقيرا أجاز له الاخذ منه.

وكذا لو كان فقيرا حال الوقف، كما في الكافي واعتمده السبكى وغيره، ويصح شرطه النظر لنفسه ولو بمقابل ان كان بقدر أجرة المثل فأقل كما قيده بذلك ابن الصلاح ومن حيل الفقهاء الذين يمنعون الوقف بهذه الصورة أن ابن الرفعة وهو من كبار الفقهاء وقف على الافقه من بنى الرفعة، فعنى بذلك نفسه، أو يأتي آخر ويقف على أولاد أبيه الذين من صفاتهم كيت وكيت ويضفى صفات نفسه على المنتفع من الوقف فينصرف ذلك إلى نفسه، وقد صحح هذه الحيلة الرملي وقال: وهو الاوجه وان خالف في الاسنوى وغيره تبعا للغزالي والخوارزمي فابطلوه إن انحصرت الصفة فيه وإلا صح.

(فرع)

إذا وقف على من لا يصح تمليكه أو غير مؤهل للملك، لان الوقف تمليك منفعة، وضرب مثلا بالعبد والحمل، لان الجنين لا يملك شيئا، كما لا يصح الوقف على مجهول أو معدوم كعلى مسجد سيبني أو على ولده ولا ولد له أو على فقراء أولاده وليس فيهم فقير.

ولا على عمارة المسجد إذا لم يبينه بموضعه ولا على ميت لان الوقف تسليط في الحال بخلاف الوصية، كما لا يصح الوقف على بهيمة مجهولة بأن أطلق بغير تعيين، وقيل هو وقف على مالكها، ومن ثم لا يصح على الوحوش ولا على الطيور المباحة، ولو كانت معينة على نزاع في الجزم به.

 

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

ولا يصح تعليقه على شرط مستقبل لانه عقد يبطل بالجهالة فلم يصح تعليقه على شرط مستقبل كالبيع ولا يصح بشرط الخيار وبشرط أن

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 333)

________________________________________

يرجع فيه إذا شاء أو يبيعه إذا احتاج أو يدخل فيه من شاء أو يخرج منه من شاء لانه إخراج مال على وجه القربة فلم يصح مع هذه الشروط كالصدقة.

 

(فصل)

ولا يجوز إلى مدة لانه إخراج مال على وجه القربة فلم يجز إلى مدة كالعتق والصدقة (الشرح) الاحكام: لا يجوز تعليق ابتداء الوقف على شرط في الحياة، مثل أن يقول: إذا جاء رأس الشهر فدارى وقف أو فرسى حبس، أو إذا ولد لى ولد أو إذا قدم لى غائبي ونحو ذلك.

ولا نعلم في هذا خلافا، لانه نقل للملك فيما لم يبن على التغليب والسراية، فلم يجز تعليقه بالموت، وتعليقه بشرط في الحياة ولا يصح لما ذكرنا من الفرق بينهما فيما قبل هذا.

وان علق انتهاءه على شرط نحو قوله: دارى وقف إلى سنة أو إلى ان يقدم الحاج لم يصح، وهو أحد الوجهين عند الحنابلة، لانه ينافى مقتضى الوقف، فان مقتضاه التأبيد.

والوجه الاخر عندهم يصح لانه منقطع الانتهاء فاشبه مالو وقفه على منقطع الانتهاء، فان حكمنا بصحته ههنا فحكمه حكم منقطع الانتهاء.

وان شرط ان يبيعه متى شاء أو يهبه أو يرجع فيه لم يصح الشرط ولا الوقف لا نعلم فيه خلافا، لانه ينافى مقتضى الوقف.

ويحتمل أن يفسد الشرط ويصح الوقف بناء على الشروط الفاسدة في البيع، وان شرط الخيار في الوف فسد.

هكذا قال الشافعي ونص عليه أحمد وقال أبو يوسف في رواية عند يصح، لان الوقف تمليك المنافع فجاز شرط الخيار فيه كالاجارة.

ولنا أنه شرط ينافى مقتضى العقد فلم يصح، كما لو شرط أن له بيعه متى شاء، ولانه إزالة ملك لله تعالى فلم يصح الخيار فيه كالعتق، ولانه ليس بعقد معاوضه

فلم يصح اشتراط الخيار فيه كالهبة، ويفارق الاجارة فإنها عقد معاوضة وهى نوع من البيع، ولان الخيار إذا دخل في العقد منع ثبوت حكمه قبل انقضاء الخيار

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 334)

________________________________________

أو التصرف، وههنا أو ثبت الخيار لثبت مع ثبوت حكم الوقف ولم يمنع التصرف فافترقا.

وان شرط في الوقف ان يخرج من شاء من اهل الوقف ويدخل من شاء من غيرهم، لانه شرط ينافى مقتضى الوقف فافسده كما لو شرط ان لا ينتفع.

إذا ثبت هذا فإنه لا يجوز ان يقول: وقفت هذا على الفقراء أو على مسجد مثلا سنة مثلا، وبطلانه من فساد صيغته، إذ ان وضع الوقف على التأبيد فإذا جعله إلى مدة كان باطلا كالعتق والصدقة، وسواء في ذلك طويل المدة وقصيرها وقد بحث الاذرعى كما فعل الزركشي جوازه إذا وقفه على الفقراء ألف سنة أو نحوها مما يبعد البقاء إليه، كما تقرر أنه لا أثر لتوقيت الاستحقاق، كقوله وقفته على زيد سنة ثم على الفقراء، أو إلا أن يولد لى ولد، كما نقله البلقينى عن الخوارزمي وجزم به ابن الصباغ وجرى عليه في الانوار وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:

(فصل)

ولا يجوز إلا على سبيل لا ينقطع، وذلك من وجهين:

(أحدهما)

أن يقف على من لا ينقرض كالفقراء والمجاهدين وطلبة العلم وما أشبهها

(والثانى)

أن يقف على من ينقرض ثم من بعده على من لا ينقرض، مثل أن يقف على رجل بعينه، ثم على الفقراء أو على رجل ثم على عقبه ثم على الفقراء، فأما إذا وقف وقفا منقطع الابتداء والانتهاء كالوقف على عبده أو على ولده ولا ولد له فالوقف باطل لان العبد لا يملك والولد الذى لم يخلق لا يملك فلا يفيد الوقف عليهما شيئا.

وإن وقف وقفا متصل الابتداء منقطع الانتهاء بأن وقف على رجل بعينه ولم يزد عليه، أو على رجل بعينه ثم على عقبه ولم يزد عليه ففيه قولان

(أحدهما)

أن الوقف باطل، لان القصد بالوقف أن يتصل الثواب على الدوام، وهذا لا يوجد في هذا الوقف، لانه قد يموت الرجل وينقطع عقبه.

 

(والثانى)

أنه يصح ويصرف بعد انقراض الموقف عليه إلى أقرب الناس إلى الواقف، لان مقتضى الوقف الثواب على التأبيد، فحمل فيما سماه على ما شرطه

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 335)

________________________________________

وفيما سكت عنه على مقتضاه، ويصير كأنه وقف مؤبد.

ويقدم المسمى على غيره فإذا انقرض المسمى صرف إلى أقرب الناس إلى الواقف، لانه من أعظم جهات الثواب، والدليل عليه قول النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ (لا صدقة وذو رحم محتاج) وروى سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (صدقتك على المساكين صَدَقَةٌ، وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ اثْنَتَانِ، صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ) وهل يختص به فقراؤهم أو يشترك فيه الفقراء والاغنياء؟ فيه قولان

(أحدهما)

يختص به الفقراء، لان مصرف الصدقات إلى الفقراء.

 

(والثانى)

يشترك فيه الفقراء والاغنياء: لان في الوقف الغنى والفقير سواء، وإن وقف وقفا منقطع الابتداء متصل الانتهاء بأن وقف على عبد ثم على الفقراء، أو على رجل غير معين ثم على الفقراء، ففيه طريقان.

من أصحابنا من قال: يبطل قولا واحدا لان الاول باطل والثانى فرع لاصل باطل فكان باطلا.

ومنهم من قال فيه قولان:

(أحدهما)

أنه باطل لما ذكرناه

(والثانى)

أنه يصح لانه لما بطل الاول صار كأن لم يكن.

وصار الثاني أصلا.

فإذا قلنا إنه يصح فإن كان الاول لا يمكن

اعتبار انقراضه كرجل غير معين صرف إلى من بعده وهم الفقراء، لانه لا يمكن اعتبار انقراضه فسقط حكمه، وإن كان يمكن اعتبار انقراضه كالعبد ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) ينقل في الحال إلى من بعده، لان الذى وقف عليه في الابتداء لم يصح الوقف عليه، فصار كالمعدوم

(والثانى)

وهو المنصوص: أنه للواقف ثم لوارثه إلى أن ينقرض الموقوف عليه، ثم يجعل لمن بعده لانه لم يوجد شرط الانتقال إلى الفقراء، فبقى على ملكه.

(والثالث) أن يكون لاقرباء الواقف إلى أن ينقرض الموقوف عليه ثم يجعل للفقراء، لانه لا يمكن تركه عليه الواقف لانه أزال الملك فيه، ولا يمكن أن يجعل للفقراء لانه لم يوجد شرط الانتقال إليهم فكان أقرباء الواقف أحق وهل يختص به فقراؤهم؟ أو يشترك فيه الفقراء والاغنياء؟ على ما ذكرنا من القولين.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 336)

________________________________________

(فصل)

وإن وقف وقفا مطلقا ولم يذكر سبيله ففيه قولان:

(أحدهما)

أن الوقف باطل لانه تمليك فلا يصح مطلقا، كما لو قال: بعت دارى ووهبت مالى.

 

(والثانى)

يصح وهو الصحيح لانه إزالة ملك على وجه القربة فصح مطلقا كالاضحية، فعلى هذا يكون حكمه حكم الوقف المتصل الابتداء المنقطع الانتهاء، وقد بيناه (الشرح) الحديث الاول جزء من حديث طويل عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال (والذى بعثنى بالحق لا يعذب الله يوم القيامة من رحم اليتيم ولان له في الكلام ورحم يتمه وضعفه ولم يتطاول على جاره بفضل ما آتاه الله.

وقال: يا أمة محمد والذى بعثنى بالحق لا يقبل الله صدقة من رجل

وله قرابة محتاجون إلى صلته ويصرفها إلى غيرهم، والذى نفسي بيده لا ينظر الله إليه يوم القيامة) رواه الطبراني في الاوسط.

قال الهيثمى في مجمع الزوائد: وفيه عبد الله بن عامر الاسلمي، وهو ضعيف.

وقال أبو حاتم ليس بالمتروك.

أما بقية رجاله فثقات.

أما حديث سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَفْظٍ (الصدقة على المسلمين صدقة، وهى على ذى الرحم ثنتان صدقة وصلة) رواه أحمد وابن ماجه والترمذي والنسائي وابن حيان والدارقطني والحاكم وحسنه الترمذي أما الاحكام: فإنه لا يجوز إلا على سبيل مراد للتأبيد لا للانقطاع ولا يتحقق هذا إلا إذا جعل وقفه لفئة أو طائفة لا تنقرض، فإذا وقف على قوم ونسلهم ثم على المساكين فانقرض القوم ونسلهم فلم يبق منهم أحد رجع إلى المساكين ولم ينتقل إليهم مادام أحد من القوم أو من نسلهم باقيا، لانه رتبة للمساكين بعدهم والمساكين من الزكاة والفقراء يدخلون فيهم.

وكذلك لفظ الفقراء يدخل فيه المساكين ن لان كل واحد من اللفظين يطلق عليهما، والمعنى الذى يسميان به شامل لهما وهو الحاجة والفاقة، ولهذا لما سمى الله عز وجل المساكين في مصرف كفارة اليمين وكفارة الظهار وفدية الاذى تناولهما جميعا، وجاز الصرف إلى كل

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 337)

________________________________________

واحد منهما.

فإذا وقفه وقفا متصل الابتداء منقطع الانتهاء، كعلى رجل، أو رجل ونسله ففيه وجهان:

(أحدهما)

البطلان لانه منقطع.

وهو لا يجوز إلا على الدوام.

 

(والثانى)

أنه يجوز لامكان صرفه إلى أقرب الناس إلى الوقف وإن كانوا أغنياء.

وهذا هو أحد القولين عندنا وبه قال أحمد وأصحابه.

والثانى يقدم الفقراء منهم وأكثرهم حاجة.

ويحتمل أن يجزأ الوقف ثلاثة أجزاء.

فجزء يصرف إلى الغزاة في سبيل الله وجزء يصرف إلى أقرب الناس إليه من الفقراء لانهم أكثر الجهات ثوابا، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (صدقتك على ذى القرابة صدقة وصلة) والثالث يصرف إلى من يأخذ الزكاة لحاجته.

وهم خمسة أصناف لانهم أهل حاجة منصوص عليهم في القرآن، فكان من نص الله تعالى عليه في كتابه أولى من غيره وإن ساواه في الحاجة.

(فرع)

سبق أن قررنا أن الوقف على من لا يملك باطل، فإذا وقف وقفا متصلا غير منقطع في دوامه واستمراره إلا أنه منقطع في ابتدائه بأن وقفه على عبد أو جنين في بطن أمه على أن يؤول بعد ذلك إلى الفقراء فلاصحابنا طريقان، الاول يبطل لبطلان أوله قولا واحدا.

والثانى يصح لصحة استمراره ودوامه فيصير أوله كأن لم يكن ويصرف الوقف على وجهه الصحيح وقد بحث الرملي في شرحه على المنهاج المسألة فقال: ولو قال وقفت على أولادي أو على زيد ثم نسله أو نحوهما مما لا يدوم ولم يزد على ذلك فالاظهر صحة الوقف، لان مقصوده القربة والدوام، فإذا بين مصرفه ابتداء سهل إدامته على سبيل الخير، فإذا انقرض الذكور أو لم تعرف أرباب الوقف فالاظهر أنه يبقى وقفا، لان وضع الوقف الدوام كالعتق، ولانه صرفه عنه فلا يعود، كما لو نذر هديا إلى مكة فرده فقراؤها.

 

(والثانى)

يرتفع الوقف ويعود ملكا للواقف أو إلى ورثته إن كان مات، لان بقاء الوقف بلا مصرف متعذر، وإثبات مصرف لم يذكره الواقف بعيد

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 338)

________________________________________

فتعين ارتفاعه، والاظهر ما أفتى به الزين العراقى أن المراد بما في كتب الاوقاف ثم الاقرب إلى الواقف أو المتوفى قرب الدرجة والرحم لا قرب الارث والعصوبة

فلا ترجيح بهما في مستويين في القرب من حيث الرحم والدرجة.

ومن ثم قال لا يرجح عم على خالة بل هما مستويان ويعتبر فيهم الفقر، ولا يفضل الذكر على غيره فيما يظهر ولكن بالقرب إلى الواقف، لان الصدقة على الاقارب أفضل القربات ن فإذا تعذر الرد للواقف تعين أقربهم إليه، لان الاقارب مما حث الشرع عليهم في جنس الوقف لخبر أبى طلحة: أرى أن تجعلها في الاقربين.

وبه فارق عدم تعينهم في نحو الزكاة، على أن لهذه مصرفا عينه الشارع بخلاف الوقف، ولو فقدت أقاربه أو كانوا كلهم أغنياء صرف الربع لصالح المسلمين، كما نص عليه البويطى في الاولى، أو إلى الفقراء والمساكين على ما قاله سليم الرازي وابن الصباغ والمتولي وغيرهم، أو قال: ليصرف من غلته لفلان كذا، وسكت عن باقيها فكذلك.

وصرح في الانوار بعدم اختصاصه بفقراء بلد الوقف بخلاف الزكاة.

أما الامام إذا وقف منقطع الآخر فيصرف للمصالح لا لاقاربه، كما أفاده الزركشي، وهو ظاهر.

ولو كان الوقف منقطع الاول كوقفته على من سيولد لى، أو على مسجد سيبني ثم على الفقراء مثلا فالمذهب بطلانه لتعذر الصرف إليه حالا ومن بعده (مرعه؟) والطريق الثاني فيه قولان: أحدهما الصحة، وصححه المصنف في تصحيح التنبيه ولو لم يذكر بعد الاول مصرفا بطل قطعا ن لانه منقطع الاول والآخر.

ولو قال وقفت على أولادي ومن سيولد لى على ما افصله، ففصله على الموجودين وجعل نصيب من مات منهم بلا عقب لمن سيولد له صح، ولا يؤثر فيه قوله: وقفت على أولادي ومن سيولد لى، لان التفصيل بعده بيان له، أو كان الوقف مقطوع الوسط كوقفته على أولادي ثم على رجل، وأبهم لانه لا يضر تردد في صفة أو شرط أو مصرف دلت قرينة قبله أو بعده على تعينه، إذ لا يتحقق

الانقطاع الا مع الابهام من كل وجه.

ثم قال: ثم على الفقراء، فالمذهب صحته لوجود المصرف حالا ومآلا.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 339)

________________________________________

ولو اقتصر على قوله: وقفت كذا ولم يذكر مصرفا، أو ذكر مصرفا متعذرا كوقفت كذا على جماعة فالاظهر بطلانه.

ولو وقف على شخصين ثم الفقراء مثلا فمات احدهما فالاصح المنصوص أن نصيبه يصرف إلى الآخر، لان شرط الانتقال إلى الفقراء انقراضهما جميعا ولم يوجدوا إذا امتنع الصرف إليهم فالصرف لمن ذكره الواقف أولى.

والثانى: يصرف إلى الفقراء كما يصرف إليهم إذا ماتا، ومحل الخلاف ما لم يفصل، وإلا بأن قال: وقفت على كل منهما نصف هذا فهما وقفان كما ذكره السبكى فلا يكون نصيب الميت منهما للآخر انتقاله للاقرب إلى الواقف ولو وقف عليهما وسكت عمن يصرف له بعدهما فهل نصيبه للآخر أو لاقرباء الواقف؟ وجهان أوجههما كما أفاده الرملي الاول وصححه الاذرعى، ولو رد أحدهما أو بان ميتا فالقياس على الاصح صرفه للآخر.

ولو وقف على زيد ثم عمرو ثم بكر ثم للفقراء، فمات عمرو قبل زيد ثم مات زيد، قال الماوردى والرويانى لا شئ لبكر وينتقل الوقف من زيد إلى الفقراء، لانه رتبه بعد عمرو، وعمرو بموته أولا لم يستحق شيئا فلم يجز أن يتملك بكر عنه شيئا.

وقال القاضى أبو الطيب: الاظهر أنه يصرف إلى بكر لان استحقاق الفقراء مشروط بانقراضه، كما لو وقف على ولده ثم ولد ولده ثم الفقراء، فمات ولد الولد ثم الولد يرجع للفقراء.

ويوافقه فتوى البغوي في مسألة حاصلها أنه إذا مات واحد من ذرية الواقف في وقف الترتيب قبل استحقاقه للوقف لحجبه بمن فوقه يشارك ولده من

بعده عند استحقاقه.

قال الزركشي وهذا هو الاقرب.

ولو وقف على أولاده فإذا انقرض أولادهم فعلى الفقراء، فالاوجه كما صححه الشيخ أبو حامد أنه منقطع الوسط، لان أولاد الاولاد لم يشرط لهم شيئا وإنما شرط انقراضهم لاستحقاق غيرهم.

واختار ابن أبى عصرون دخولهم، وجعل ذكرهم قرينة على استحقاقهم وفيما ذكرنا كله مذهب أحمد وأصحابه في الاوجه والاقوال وطرق الترجيح (فرع)

إذا أطلق ولم يعين مصرف الوقف فالصحيح أنه يصح، لانه إزالة

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 340)

________________________________________

ملك على وجه التقرب إلى الله تعالى، وما أطلق من كلام الآدميين محمول على المعهود في الشرع، فعلى هذا يكون حكمه حكم الوقف المتصل الابتداء المنقطع الانتهاء فيصرف إلى أقرب الناس إليه، والله تعالى أعلم بالصواب

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

ولا يصح الوقف الا بالقول، فإن بنى مسجدا وصلى فيه أو أذن للناس بالصلاة فيه لم يصر وقفا، لانه إزالة ملك على وجه القربة فلم يصح من غير قول مع القدرة كالعتق، وألفاظه ستة: وقفت.

وحبست.

وسلبت.

وتصدقت وأبدت وحرمت.

فأما الوقف والحبس والتسبيل فهى صريحة فيه، لان الوقف موضوع له ومعروف به، والتحبيس والتسبيل ثبت لهما عرف الشرع ن فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعُمَرَ رضى الله عنه: حبس الاصل وسبل الثمرة.

وأما التصدق فهم كناية فيه لانه مشترك بين الوقف وصدقة التطوع فلم يصح الوقف بمجرده، فإن اقترنت به نية الواقف أو لفظ من الالفاظ الخمسة بأن يقول: تصدقت به صدقة موقوفة أو محبوسة أو مسبلة أو مؤبدة أو محرمة، أو حكم الوقف بأن يقول:

صدقة لا تباع ولا توهب ولا تورث صار وقفا، لانه مع هذه القرائن لا يحتمل غير الوقف، وأما قوله: حرمت وأبدت ففيه وجهان

(أحدهما)

أنه كناية فلا يصح به الوقف الا بإحدى القرائن التى ذكرنا، لانه لم يثبت له عرف الشرع ولا عرف اللغة فلم يصح الوقف بمجرده كالتصدق

(والثانى)

أنه صريح لان التأبيد والتحريم في غير الابضاع لا يكون الا بالوقف فحمل عليه

(فصل)

وإذا صح الوقف لزم وانقطع تصرف الواقف فيه، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لعمر رضى الله عنه: ان شئت حبست أصلها وتصدقت بها لا تباع ولا توهب ولا تورث.

ويزول ملكه عن العين.

ومن أصحابنا من خرج فيه قولا آخر أنه لا يزول ملكه عن العين، لان

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 341)

________________________________________

الوقف حبس العين وتسبيل المنفعة، وذلك لا يوجب زوال الملك.

والصحيح هو الاول، لانه سبب يزيل ملكه عن التصرف في العين والمنفعة فازال الملك كالعتق.

واختلف أصحابنا فيمن ينتقل الملك إليه، فمنهم من قال: ينتقل إلى الله تعالى قولا واحدا، لانه حبس عين وتسبيل منفعة على وجه القربة فأزال الملك إلى الله تعالى كالعتق ومنهم من قال فيه قولان

(أحدهما)

أنه ينتقل إلى الله تعالى وهو الصحيح لما ذكرنا

(والثانى)

أنه ينتقل إلى الموقوف عليه لان ما أزال المالك عن العين لم يزل المالية تنقل إلى الآدمى كالصدقة

(فصل)

ويملك الموقوف عليه غلة الوقف، فإن كان الموقوف شجرة ملك ثمرتها وتجب عليه زكاتها، لانه يملكها ملكا تاما فوجب زكاتها عليه، فإن

كان حيوانا ملك صوفه ولبنه، لان ذلك من غلة الوقف وفوائده فهو كالثمرة، وهل يملك ما تلده؟ فيه وجهان

(أحدهما)

يملكه لانه نماء الوقف فأشبه الثمرة وكسب العبد

(والثانى)

أنه موقوف كالام لان كل حكم ثبت للام يتبعها فيه الولد كحرمة الاستيلاد في أم الولد، وإن كان جارية ملك مهرها لانه بدل منفعتها ولا يملك وطأها، لان في أحد القولين لا يملكها، وفى الثاني يملكها ملكا ضعيفا فلم يملك به الوطئ، فإن وطئها لم يلزمه الحد لانه في أحد القولين يملكها، وفى الثاني له شبهة ملك.

وفى تزويجها وجهان

(أحدهما)

لا يجوز، لانه ينقص قيمتها وربما تلفت من الولادة فيدخل الضرر على من بعده من أهل الوقف

(والثانى)

يجوز لانه عقد على منفعتها فأشبه الاجارة.

فإن قلنا إنها للموقوف عليه كان تزويجها إليه، وإن قلنا إنها تنتقل إلى الله تعالى كان تزويجها إلى الحاكم كالحرة التى لا ولى لها ولا يزوجها الحاكم إلا بإذن الموقوف عليه، لان له حقا في منافعها فلم يملك التصرف فيها وبغير اذنه، فإن أتت ولد مملوك كان الحكم فيه كالحكم فيما تلد البهيمة

(فصل)

وان أتلفه الواقف أو أجنبي فقد اختلف أصحابنا فيه على طريقين فمنهم من قال يبنى على القولين، فإن قلنا انه للموقوف عليه وجبت القيمة له لانه

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 342)

________________________________________

بدل ملكه، وان قلنا: انه لله تعالى اشترى به مثله ليكون وقفا مكانه.

وقال الشيخ أبو حامد الاسفراينى: يشترى بها مثله ليكون وقفا وكانه قولا واحدا لانا وان قلنا انه ينتقل إلى الموقوف عليه الا أنه لا يملك الانتفاع برقبته، وانما يملك الانتفاع بمنفعته، ولان في ذلك ابطال حق البطن الثاني من الوقف، وان أتلفه الموقوف عليه - فإن قلنا انه إذا أتلفه غيره كانت القيمة له - لم تجب عليه،

لانها تجب له ن وان قلنا يشترى بها ما يكون وقفا مكانه أخذت القيمة منه واشترى بها ما يكون مكانه.

وان كان الوقف جارية فوطئها رجل بشبهة فاتت منه بولد ففى قيمة الولد ما ذكرناه من الطريقين في قيمة الوقف إذا أتلف، وان كان الوقف عبدا فجنى جناية توجب المال لم يتعلق برقبته، لانها ليست بمحل للبيع، فان قلنا انه للموقوف عليه وجب الضمان علين.

وأن قلنا: انه لله تعالى ففيه ثلاثة أوجه.

(أحدها) يلزم الواقف، وهو قول أبى اسحاق وهو الصحيح، لانه منع من بيعه ولم يبلغ به حالة يتعلق الارش بذمته فلزمه أن يفديه كأم الولد

(والثانى)

أنه يجب في بيت المال لانه لا يمكن ايجابه على الواقف لانه لا يملكه ولا على الموقوف عليه لانه لا يملكه، فلم يبق الا بيت المال، والثالث أنه يجب في كسبه لانه كان محله الرقبة ولا يمكن تعليقه عليها فتعلق بكسبه لانه مستفاد من الرقبة، ويجب أقل الامرين من قيمته أو أرش الجناية لانه لا يمكن بيعه كأم الولد.

(الشرح) خبر عمر معروف ومضى الكلام عليه وافيا ان شاء الله، أما مقاصد الفصل، فإن الوقف لا ينعقد الا بالقول لانه طريقنا إلى العلم بمراده كالعتق، وألفاظ الوقف ستة، ثلاثة صريحة وثلاثة كناية، فالصريحة وقفت وحبست وسلبت، متى أتى بواحدة من هذه الثلاث صار وقفا من غير انضمام أمر زائد، لان هذه الالفاظ ثبت لها حكم الاستعمال عرفا بين الناس وشرعا بالاخبار الصحيحة بقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر (ان شئت حبست أصلها وسبلت ثمرتها) أو (حبس الاصل وسبل الثمرة) على أي من الروايتين فصارت هذه الالفاظ في الوقف كلفظ التطليق في الطلاق

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 343)

________________________________________

وأما الكناية فهى: تصدقت وحرمت وأبدت فليست صريحة، لان لفظة

الصدقة والتحريم مشتركة ن فإن الصدقة تستعمل في الزكاة والهبات، والتحريم يستعمل في الظهار والايمان، ويكون تحريما على نفسه وعلى غيره، والتأييد يحتمل تأبيد التحريم وتأبيد الوقف، ولم يثبت لهذه الالفاظ عرف الاستعمال، فلا يحصل الوقف بمجردها ككنايات الطلاق فيه.

فإن انضم إليها احد ثلاثة أشياء حصل الوقف بها.

(أحدها) أن ينضم إليها لفظة أخرى تخلصها من الالفاظ الخمسة فيقول: صدقة محبوسة أو موقوفة أو مسبلة أو محرمة أو مؤبدة، أو يقول هذه محرمة موقوفة أو محبسة أو مسبلة أو مؤبدة.

(الثاني) أن يصفها بصفات الوقف فيقول: صدقة لا تباع ولا توهب ولا تورث، لان هذه القرينة تزيل الاشتراك.

(الثالث) أن ينوى الوقف فيكون على ما نوى، إلا أن النية تجعله وقفا في الباطن دون الظاهر لعدم الاطلاق على ما في الضمائر، فان اعترف بما نواه لزم في الحكم لظهوره.

وإن قال: ما أردت الوقف فالقول قوله لانه أعلم بما نوى، قال في النهاية (ولا يصح الوقف من ناطق لا يحسن الكتابة إلا بلفظ) أما الاخرس فيصح بإشارته.

وأما الكاتب فبكتابته مع النية.

فلو أنه بنى مسجدا وأذن فيه وصلى فيه، أو مقبرة وأذن في الدفن فيها، فمذهب الشافعي لا يكون ذلك وقفا إلا إذا اقترن باللفظ صريحا أو كناية مقترنة بما يزيل لبسها.

وقال أحمد في رواية أبى داود وأبى طالب فيمن دخل بيتا في المسجد وأذن فيه: لم يرجع فيه، وكذلك إذا اتخذ المقابر وأذن للناس فيها فليس له الرجوع.

وهذا قول أبى حنيفة رضى الله عنه.

وذكر ابن قدامة رواية أخرى عن أحمد أنه لا يصير وقفا إلا بالقول، وقد اجتهد ابن قدامة في الجمع بين الروايتين وجعلهما قولا واحدا وهو الاخذ

باللفظ، فإذا ثبت هذا فانه متى صح وقفه فقد زالت يده عنه زوال ملك وانقطع بذلك تصرفه.

فإذا قلنا بزوال ملكه عن العين وهو الصحيح من المذهب وبه قال

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 344)

________________________________________

أحمد وأصحابه، فهل ينتقل الملك إلى الموقوف عليهم؟ فمن أصحابنا من قال: ينتقل الملك إلى الموقوف عليهم، وهو ظاهر مذهب أحمد حيث يقول: إذا وقف داره على ولد أخيه صارت لهم.

وهذا يدل على أنهم ملكوه.

وروى عن أحمد أنه لا يملك، فان جماعة نقلوا عنه فيمن وقف على ورثته في مرضه يجوز، لانه لا يباع ولا يورث ولا يصير ملكا للورثة، وانما ينتفعون بغلتها، وهذا يدل بظاهره على أنهم لا يملكون، ويحتمل أن يريد بوقله: لا يملكون، أي لا يملكون التصرف في الرقبة، فان فائدة الملك وآثاره ثابتة في الوقف وقال أبو حنيفة: لا ينتقل الملك في الوقف اللازم، بل يكون حقا لله تعالى لانه ازالة ملك عن العين والمنفعة على وجه القربة بتمليك المنفعة، فانتقل الملك إلى الله تعالى كالعتق.

وبهذا قال بعض أصحابنا، وهو الصحيح من المذهب عندنا.

والقول الآخر أن الوقف سبب يزيل ملك الواقف وجه إلى من يصح تمليكه على وجه لا يخرج المال عن ماليته فوجب أن ينقل الملك إليه كالهبة والبيع ولانه لا وكان تمليك المنفعة المجردة لميلزم كالعارية والسكنى ولم يزل الواقف عنه كالعارية.

ويفارق العتق فانه أخرجه عن ماليته، وامتناع التصرف في الرقبة لا يمنع الملك كأم الولد، وعلى أن الاظهر أن الملك في رقبة الموقوف ينتقل إلى الله تعالى فلا يكون للواقف ولا للموقوف عليه.

على أن الذى لا نزاع فيه أن الموقوف عليه يملك غلة الوقف ومنافعه لان ذلك مقصوده، والمنتفع يستوفيها بنفسه وبغيره باعارة واجارة ان كان ناظرا.

والا امتنع عليه نحو الاجارة لتعلقها بالناظر أو نائبه وذلك كسائر الاملاك،

ومحله ان لم يشرط ما يخالف ذلك.

ولو خربت ولم يعمرها الموقوف عليه أجرت للضرورة بما تعمر به، إذ الفرض أنه ليس للوقف ما يعمر به سوى الاجرة المعجلة، وذكر ابن الرفعة أنه يلزم الموقوف عليه ما نقصه الانتفاع من عين الموقوف.

ورجح السبكى أنه ان وقف أرضا غير مغروسة على معين امتنع عليه غرسها الا إذا نص الواقف عليه أو شرط له جميع الانتفاعات، ومثل الغرس البناء،

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 345)

________________________________________

ولا يبنى ما كان مغروسا وعكسه.

وضابطه أنه يمتنع كل ما غير الوقف بالكلية عن اسمه الذى كان عليه حال الوقف، بخلاف ما يبقى الاسم معه، نعم إن تعذر المشروط جاز إبداله، وأفتى الولى العراقى في علو وقف أراد الناظر هدم واجهته وإخراجه رواش له في هواء الشارع بامتناع ذلك إن كانت الواجهة صحيحة أو غيرها واضر بجدار الوقف.

وإلا جاز بشرط أن لا يصرف عليه من ريع الوقف إلا ما يصرف في إعادته على ما كان عليه وما زاد في ماله، وإنما لم تمتنع الزيادة مطلقا لانها لا تغير معالم الوقف، ويملك الاجرة لانها بدل المنافع المملوكة له، وقضيته أنه يعطى جميع الاجرة المعجلة، ولو لمدة لا يحتمل بقاؤه إلى انقضائها، كما مر في الاجارة، ويملك فوائد الموقوف كثمرة.

ومن ثم لزمه زكاتها، وهو قول مالك والشافعي وأحمد.

وروى عن طاوس ومكحول أنه لا زكاة فيه لان الارض ليست مملوكة لهم فلم تجب الزكاة في الخارج منها عليهم كالمساكين.

على أن الثمرة الموجودة حال الوقف للواقف إن كانت مؤبرة، وإلا فقولان ارجحهما أنها موقوفة كالحمل المقارن.

وذكر القاضى في فتاواه أنه لو مات الموقوف عليه وقد برزت ثمرة النخل فهى ملكه، أو وقد حملت الموقوفة فالحمل له ن أو قد زرعت الارض

فالزرع الذى بذر، فإن كان البذر له فهو لورثته ولمن بعده أجرة بقائه في الارض وأفتى جمع من المتأخرين في نخل وقف مع أرضه ثم حدث منه ودى بأن تلك الودية الخارجة من أصل النخل جزء منها فلها حكم أغصانها، وسبقهم لنحو ذلك السبكى فإنه أفتى في أرض وقف وبها شجر موز فزالت بعد أن نبت من أصولها فراخ.

وفى السنة الثانية كذلك وهكذا بأن الوقف ينسحب على كل ما نبت من تلك الفراخ المتكررة من غير احتياج إلى إنشائه.

ولو ماتت البهيمة اختص بجلدها لكونه أولى به من غيره ومحله ما لم يدبع ولو بنفسه وإلا عاد وقفا، وله مهر الجارية الموقوفة عليه بكرا أو ثيبا إذا وطئت من غير الموقوف عليه بشبهة منها، كأن كانت مكرهة أو مطاوعة لا يعتد بفعلها لصغر أو اعتقاد حل وعذرت أو نكاح ان صححناه لانه عقد على منفعة فلم يمنعه الوقف كالاجارة.

وكذا إن لم نصححه لانه وطئ شبهة هنا أيضا.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 346)

________________________________________

والمزوج لها الحاكم بإذن الموقوف عليه، ومن ثم لو وقفت عليه زوجته انفسخ نكاحه، وخرج بالمهر أرش البكارة فهو كأرش طرفها، ولا يحل للواقف ولا للموقوف عليه وطؤها ويحد الاول به كما حكى عن الاصحاب.

قال الرملي: وكذا الثاني كما رجحناه هنا وهو المعتمد أما المطاوعة إذا زنى بها وهى مميزة فلا مهر لها.

قال النووي في المنهاج: والمذهب أنه لا يملك قيمة العبد إذا أتلف.

ومعنى هذا أن الموقوف عليه لا يملك قيمة الموقوف إذا اتلف من واقف أو أجنبي أو موقوف عليه تعدى باستعماله في غير ما وقف له أو تلف تحت يد ضامنة له.

أما إذا لم يتعد باتلاف الموقوف عليه فلا يكون ضامنا، كما لو وقع منه صنبور على حوض سبيل فانكسر من غير تقصير ن وفى حال التعدي يشترى الحاكم أو الناظر

في الوقف بقيمة التالف بدله.

ولا بد من إنشاء وقفه من جهة مشتريه فيتعين أحد ألفاظ الوقف المارة.

قال الرملي: وقول القاضى اقمته مقامه محل نظر، وفارق هذا صيرورة القيمة رهنا في ذمة الجاني بأنه يصح رهنها دون وقفها، وعدم اشتراط جعل بدل الاضحية أضحية إذا اشترى بعين القيمه أو في الذمة، ونوى بأن القمة هناك ملك الفقراء والمشترى نائب عنهم، فوقع الشراء لهم بالعين أو مع النية.

وأما القيمة هنا فليست ملك أحد فاحتيج لانشاء وقف ما يشترى بها حتى ينتقل إلى الله تعالى، ولا يجوز شراء أنثى مكان ذكر إذا كان الموقوف ذكرا، كما لا يجوز أن يشترى صغيرا مكان كبير إذا كان الموقوف كبيرا وعكسه، لان الغرض يختلف بذلك وما فضل من القمية يشترى به شقص بخلاف نظيره الذى سيأتي في الوصيه ان شاء الله تعالى لتعذر الرقبة المصرح بها فيها.

فان لم يمكن شراء شقص بالفاضل صرف للموقوف عليه فيما يظهر، كما مر نظيره، بل لنا وجه بصرف جميع ما اوجبته الجنايه إليه.

ولو أوجبت قودا استوفاه الحاكم، فان تعذر شراء بدل الموقوف بها فبعض بدله يشترى بها لكونه أقرب إلى مقصوده كنظيره من الاضحية على الراجح ووجه الخلاف أن الشقص من حيث هو يقبل الوقف بخلاف الاضحية،

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 347)

________________________________________

ولو جنى الموقوف جناية أو جبت قصاصا أقتص منه وفات الوقف، أو قصاصا أو مالا وعفى على المال فداه الواقف بأقل الامرين.

وله إن تكررت الجناية حكم أم الولد في عدم تكرر الفداء وسائر أحكامها، فان مات الوقف ثم جنى الموقوف فمن بيت المال كالحر المعسر، كما أفتى بذلك الشهاب الرملي.

ولو مات الجاني بعد الجناية لم يسقط الفداء.

هكذا أفاده الشمس الرملي

ولو جفت الشجرة الموقوفة أو قلعها ريح أو زمنت الدابة لم ينقطع الوقف على المذهب، وان امتنع وقفها ابتداء لقوة الدوام، بل ينتفع بها جذعا باجارة ويحتمل أن تباع لتعذر الانتفاع بها على وفق شرط الوقف والثمن الذى بيعت به على هذا الوجه، كقيمة العبد، فيأتى فيه ما مر، فلو لم يمكن الانتفاع بها الا باستهلاكها باحراق ونحوه صارت ملكا للموقوف عليه كما صححه ابن الرفعة والقمولى وجرى عليه ابن المقرى في روضه لكنها لا تباع ولا توهب بل ينتفع بعينها كأم الولد ولحم الاضحية فإذا ثبت هذا فانها لا تصير ملكا لان معنى عودة ملكا انه ينتفع به ولو باستهلاك عينه كالاحراق.

ومعنى عدم بطلان الوقف الذى قررناه انه مادام باقيا لا يفعل به ما يفعل بسائر الاملاك من بيع ونحوه قال النووي: والاصح جواز بيع حصر المسجد إذا بليت وجذوعه إذا انكسرت ولم تصلح الا للاحتراق اه.

وذلك لئلا تضيع وادراك اليسير من ثمنها يعود على الوقف اولى من ضياعها.

واستثنيت من بيع الوقف لصيرورتها كالمعدومة ويصرف ثمنها لمصالح المسجد ان لم يمكن شراء حصير أو جذع.

والله تعالى أعلم بالصواب.

 

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

وتصرف الغلة على شرط الواقف من الاثرة والتسوية والتفضيل والتقديم والتاخير والجمع والترتيب، وادخال من شاء بصفة واخرجه بصفة، لان الصحابة رضى الله عنهم وقفوا وكتبوا شروطهم، فكتب عمر بن الخطاب رضى الله عنه صدقة للسائل والمحروم، والضيف ولذي القربى وابن السبيل،

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 348)

________________________________________

وفى سبيل الله، وكتب على كرم الله وجهه بصدقته (ابتغاء مرضاة الله ليولجنى

الجنة، ويصرف النار عن وجهى ويصرفني عن النار، في سبيل الله وذى الرحم والقريب والبعيد، لا يباع ولا يورث) وكتبت فاطمة رضى الله عنها بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لنساء رسول الله صلى الله عليه وسلم وفقراء بنى هاشم وبنى المطلب)

(فصل)

فان قال وقفت على أولادي دخل فيه الذكر والانثى والخنثى، لان الجميع اولاده، ولا يدخل فيه ولد الولد، لان ولده حقيقة ولده من صلبه، فان كان له حمل لم يدخل فيه حتى ينفصل، فإذا انفصل استحق ما يحدث من الغلة بعد الانفصال دون ما كان حدث قبل الانفصال، لانه قبل الانفصال لا يسمى ولدا، وان وقف على ولده وله ولد فنفاه باللعان لم يدخل فيه.

وقال أبو اسحاق يدخل فيه لان اللعان يسقط النسب في حق الزوج، ولا يتعلق به حكم سواه، ولهذا تنقضي به العدة، والمذهب الاول لان الوقف على ولده وباللعان قد بان انه ليس بولده، فلم يدخل فيه، وان وقف على أولاد أولاده دخل فيه أولاد البنين وأولاد البنات، لان الجميع أولاد أولاده، فان قال على نسلى أو عقبى أو ذريتي دخل فيه أولاد البنين وأولاد البنات، قربوا أو بعدوا، لان الجميع من نسله وعقبه وذريته، ولهذا قال الله تعالى (ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزى المحسنين، وزكريا ويحيى وعيسى) فجعل هؤلاء كلهم من ذريته على البعد، وجعل عيسى من ذريته وهو ينسب إليه بالام، فان وقف على عترته فقد قال ابن الاعرابي وثعلب هم ذريته.

وقال القتيبى: هم عشيرته.

وان وقف على من ينسب إليه لم يدخل فيه أولاد البنات، لانهم لا ينسبون إليه.

ولهذا قال الشاعر: بنونا بنو أبنائنا، وبناتنا

* بنوهن ابناء الرجال الاجانب

وان وقف على البنين لم يدخل فيه الخنثى المشكل، لانا لا نعلم انه من البنين فان وقف على البنات لم يدخل فيه، لانا لا نعلم انه من البنات، فان وقف على

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 349)

________________________________________

البنين والبنات ففيه وجهان

(أحدهما)

انه لا يدخل فيه، لانه ليس من البنين ولا من البنات

(والثانى)

انه يدخل لانه لا يخلو من أن يكون ابنا أو بنتا.

وان أشكل علينا - فان وقف على بنى زيد - لم يدخل بناته، فان وقف على بنى تميم وقلنا ان الوقف صحيح ففيه وجهان

(أحدهما)

لا يدخل فيه البنات لان البنين اسم للذكور حقيقة

(والثانى)

يدخلن فيه، لانه إذا اطلق أسم القبيلة دخل فيه كل من ينسب إليها من الرجال والنساء.

 

(فصل)

وان قال وقفت على أولادي فان انقرض أولادي وأولاد أولادي فعلى الفقراء لم يدخل فيه ولد الولد ويكون هذا وقفا منقطع الوسط فيكون على قولين كالوقف المنقطع الانتهاء.

ومن أصحابنا من قال يدخل فيه أولاد الاولاد بعد انقراض ولد الصلب لانه لما شرط انقراضهم دل على انه يستحقون كولد الصلب، والصحيح هو الاول، لانه لم يشرط شيئا، وانما شرط انقراضهم لاستحقاق غيرهم.

(الشرح) قوله الاثرة وهى أن يخص قوما دون قوم، مثل ان يقف على اولاده فيخص الذكور دون الاناث أو العكس.

واما التقديم والتأخير فيتحقق بأمرين بالمفاضلة، مثل أن يقول وقفت على اولادي للذكر مثل حظ الانثيين أو على أن للانثى الثلثين والذكر الثلث مثلا.

والثانى أن يقول على أن البطن الاعلى يقدم على البطن الثاني.

وأما التسوية فان يسوى بين الغنى والفقير أو بين الذكور والاناث والاطلاق، يقتضى ذلك.

وأما اخراج من شاء بصفة فمثل أن يقول وقفت على أولادي على

أن من اشتغلت ممثلة فلا حق لها، أو من استغنى من أولادي فلا حق له فيه، ويمكن أن يقول: إذا رجعت عن التمثيل أو افتقر فيرد إليه.

وأما كتاب عمر رضى الله عنه فقد أخرجه أبو داود، ولفظه حدثنا سليمان المهرى قال: اخبرنا ابن وهب قال: اخبرني الليث عن يحيى بن سعيد عن صدقة عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: نسخها لى عبد الحميد بن عبد الله ابن عمر بن الخطاب:

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 350)

________________________________________

بسم الله الرحمن الرحيم.

هذا ما كتب عبد الله عمر في ثمع فقص من خبره نحو حديث نافع قال: غير متأثل مالا، فما عفا عنه من ثمره فهو للسائل والمحروم قال وساق القصة قال: وان شاء ولى ثمغ اشترى من ثمره رقيقا لعمله وكتب معيقيب، وشهد عبد الله بن الارقم.

بسم الله الرحمن الرحيم.

هذا ما أوصى به عبد الله عمر أمير المؤمنين إن حدث به حدث، أن ثمغا وصرمة بن الاكوع والعبد الذى فيه، والمائة سهم التى بخيبر، ورقيقه الذى فيه، والمائة التى أطعمه محمد صلى الله عليه وسلم بالوادي، تليه حفصة ما عاشت، ثم يليه ذو الرأى من أهلها أن لا يباع ولا يشترى، ينفقه حيث رأى من السائل والمحروم وذى القربى ولا حرج على من وليه ان أكل أو آكل أو اشترى رقيقا منه) وبعد، فان هذا الفصل يشتمل على أحكام نبحثها مستعينين بالله مستمدين منه التوفيق والسداد فنقول: إذا وقف على ولده لا يدخل فيه ولد الولد بحال، سواء في ذلك ولد البنين وولد البنات، لان الولد حقيقة وعرفا انما هو ولده لصلبه، وانما يسمى ولد الولد ولد مجازا، ولهذا يصح نفيه.

فيقال ما هذا ولدى إنما هو ولد ولدى.

وان قال على ولدى لصلبي فهو آكد.

وان قال على ولدى وولد ولدى ثم على

المساكين، دخل فيه البطن الاول والثانى ولم يدخل فيه البطن الثالث.

وان قال على ولدى وولد ولدى وولد ولد ولدى دخل فيه ثلاث بطون دون من بعدهم، وموضع الخلاف الاطلاق.

فأما مع وجود دلالة تصرف إلى أحد المحملين فانه يصرف إليه بغير الخلاف كان يقول: على ولد فلان وهم قبيلة ليس فيهم ولد من صلبه فانه يصرف إلى أولاد الاولاد باتفاق.

وكذلك ان قال: على أولادي أو ولدى وليس له ولد من صلبه، أو قال ويفضل ولد الاكبر أو الاعلم على غيرهم.

أو قال: فإذا خلت الارض من عقبى عاد إلى المساكين.

وان اقترنت به قرينة تقتضي تخصيص أولاده لصلبه بالوقف مثل ان يقول: على ولدى لصلبي أو الذين يلوننى ونحو هذا فانه يختص بالبطن الاول دون غيرهم.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 351)

________________________________________

وقال أحمد في روراية المروذى، قلت لابي عبد الله ما تقول في رجل وقف ضيعة على ولده فمات الاولاد وتركوا النسوة حوامل؟ فقال كل ما كان من أولاده الذكور بنات كن أو بنين فالضيعة موقوفه عليهم، وما كان من أولاد البنات فليس لهم فيه شئ لانهم من رجل آخر.

وقال أيضا فيمن وقف على ولد على بن اسماعيل ولم يقل ان مات ولد على ابن اسماعيل دفع إلى ولد ولده، فمات ولد على بن اسماعيل: دفع إلى ولد ولده أيضا لان هذا من ولد على بن اسماعيل، ووجه ذلك قوله تعالى (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين) فدخل فيه ولد البنين وان سفلوا، ولما قال (ولابويه لكل واحد منهما السدس مما ترك ان كان له ولد) فتناول ولد البنين، وخالف القاضى وأصحابه من الحنابلة ووافقوا مذهب الشافعي رضى الله عنه فيها.

(فرع)

إذا قال وقفت هذا على ولدى وولد ولدى ما تناسلوا وتعاقبوا الاعلى فالاعلى أو الاقرب فالاقرب أو الاول فالاول أو البطن الاول ثم البطن الثاني أو قال على أولادي ثم على أولاد أولادي، أو قال على أولادي فان انقرضوا على أولاد أولادي، فكل هذا على الترتيب فيكون على ما شرط، ولا يستحق البطن الثاني شيئا حتى ينقرض البطن كله، ولو بقى واحد من البطن الاول كان الجميع له، لان الوقف ثبت بقوله فيتبع فيه مقتضى كلامه فان قال على أولادي وأولادهم ما تناسلوا وتعاقبوا على أنه من مات منهم عن ولد كان ما كان جاريا عليه جاريا على ولده، كان ذلك دليلا على الترتيب، لانه لو اقتضى التشريك لاقتضى التسوية، ولو جعلنا لولد الولد سهما مثل سهم أبيه ثم دفعنا إليه سهم أبيه صار له سهمان ولغيره سهم، وهذا ينافى التسوية، ولانه يفضى إلى تفضيل ولد الابن على الابن، وهذا يخالف أرادة الواقف فان قال وقفت على ولدى وولد ولدى ثم على أولادهم، أو على أولادي ثم على أولاد أولادي وأولادهم ما تناسلوا، أو قال على أولادي وأولاد أولادي ثم على أولاد أولادهم ما تناسلوا فهو على ما قال، يشترك فيه من شرك بينهم بواو العطف المقتضية للاشتراك بين ما بعدها في الحكم مع ما قبلها

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 352)

________________________________________

ففى الصورة الاولى يشترك الولد وولد الولد ثم إذا انقرضوا صار لمن بعدهم وفى الثانية يختص به الولد، فإذا انقرضوا صار مشتركا بين من بعدهم، وفى الثالثة يشترك فيه البطنان الاولان دون غيرهم، فإذا انقرضوا اشترك فيه من بعدهم.

ومن وقف على أولاده أو أولاد غيره وفيهم حمل لم يستحق شيئا قبل انفصاله لانه لم تثبت له أحكام الدنيا قبل انفصاله.

ويروى عن جعفر بن محمد فيمن وقف نخلا على قوم وما توالدوا ثم ولد

مولود، فإن كانت النخل قد أبرت فليس له فيه شئ، وإن لم تكن قد أبرت فهو معهم.

وهذا الحكم راجع إلى اتباع الاصل في البيع، وهذا الموجود يستحق نصيبه من الاصل، وبعد التأبير لا تتبع الاصل، ويستحقها من كان له الاصل فكانت للوجود قبل التأبير لان الاصل كان له فاستحق ثمرته، كما لو باع هذا النصيب منها، ولم يستحق المولود لا يستحق منه شيئا كالمشترى.

وهذا الحكم في سائر ثمر الشجر الظاهر، فإن المولود لا يستحق منه شيئا ويستحق مما ظهر بعد ولادته.

(فرع)

إذا وقف على قوم وأولادهم وذريتهم دخل في الوقف ولد البنين بغير خلاف نعمله.

فأما ولد البنات فمذهب الشافعي رضى الله عنه أنهم يدخلون وقال الخرقى من أصحاب أحمد: لا يدخلون.

وقال أحمد فيمن وقف على ولده ما كان من ولد البنات فليس لهم فيه شئ قال ابن قدامة: وهذا النص يحتمل أن يعدى إلى هذه المسألة ويحتمل أن يكون مقصورا على من وقف على ولده ولم يذكر ولد ولده.

وممن قال لا يدخل ولد البنات في الوقف الذى على أولاده وأولاد أولاده مالك ومحمد بن الحسن.

وهكذا إذا قال: على ذريتهم أو نسلهم أو عقبه، وقال أبو بكر وعبد الله بن حامد من الحنابلة: يدخل فيه ولد البنات، وهو مذهب أبى يوسف، لان البنات أولاده، فأولادهن أولاد حقيقة، فيجب أن يدخلوا في الوقت لتناول اللفظ لهم.

وقد دل على صحة هذا قول الله تعالى (ونوحا هدينا من قبل، ومن ذريته داود وسليمان إلى قوله تعالى وعيسى) وهو من ولد بنته فجعله من ذريته وكذلك ذكر الله تعالى قصة عيسى وابراهيم وموسى واسماعيل وإدريس ثم قال

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 353)

________________________________________

(أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن

ذرية إبراهيم وإسرائيل) وعيسى فيهم.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر (إن ابني هذا سيد يصلح الله على يديه بين فئتين عظيمتين من المسلمين) يعنى الحسن بن على رواه أحمد والبخاري والترمذي عن أبى بكرة رضى الله عنه.

وعن أنس قال (بلغ صفية أن حفصة قالت.

بنت يهودى فبكت فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهى تبكى وقالت: قالت لى حفصة: أنت ابنة يهودى.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنك لابنة نبى، وإن عمك لنبى وإنك لتحت نبى فبم تفتخر عليك؟ ثم قال: اتقى الله يا حفصة) رواه أحمد والترمذي وصححه والنسائي.

وفى حديث عن أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لعلى: وأما أنت يا على فختنى وأبو ولدي) رواه أحمد وعن أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وحسن وحسين على وركيه (هذان إبناى وإبنا ابنتى، اللهم إنى أحبهما وأحب من يحبهما) رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب.

وأخرج نحوه الترمذي من حديث البراء بن عازب بدون قوله: هذان إبناى ولفظه (أبصر حسنا وحسينا فقال: اللهم إنى أحبهما فأحبهما) وللشيخين من حديث البراء أيضا بنحوه ولما قال الله تعالى (وحلائل ابنائكم الذين من أصلابكم) دخل التحريم حلائل أبناء البنات، ولما حرم الله تعالى البنات دخل في التحريم بناتهن، فإن وقف على عترته فقد قال في المصباح: العترة نسل الانسان، قال الازهرى: وروى ثعلب عن ابن الاعرابي أن العترة ولد الرجل وذريته وعقبه من صلبه، ولا تعرف العرب من العترة غير ذلك، ويقال: رهطه الادنون، ويقال: أقرباؤه.

ومنه قول أبى بكر رضى الله عنه: نحن عترة رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي خرج منها، وبيضته التى تفقأت عنه.

وعليه قول ابن السكيت: العترة والرهط بمعنى.

ورهط الرجل قومه وقبيلته الاقربون.

وان وقف على من ينسب إليه لم يدخل فيه أولاد البنات لانهم لا ينسبون إليه.

قال الشاعر: بنونا بنو أبنائنا وبناتنا

* بنوهن أبناء الرجال الاباعد

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 354)

________________________________________

وقد أورد المصنف البيت بإبدال القافية ولمحفوظ هو ما أثبتناه (فرع)

لا يدخل الولد المنفى بلعان إلا أن يستلحقه فيستحق حينئد من الريع الحاصل قبل استلحاقه وبعده حتى يرجع بما يخصه في مدة النفى وينتفى الولد بقوله: أشهد بالله لقد زنت وما هذا ولدى، فينتفى بلعان الزوج وحده خلافا للحنابله، فإنهم لا يعتبرون نفى الزوج وحده، وانما يعتبرون النفى باللعان التام، وهو أن يوجد اللعان بينهما جميعا فلا ينتفى بلعان الزوج وحده.

وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:

(فصل)

وان وقف على أقاربه دخل فيه كل من تعرف قرابته، فإن كان للواقف أب يعرف به وينسب إليه دخل في وقفه كل من ينسب إلى ذلك الاب ولا يدخل فيه من ينسب إلى أخى الاب أو أبيه، فإن وقف الشافعي رحمه الله لاقاربه دخل فيه كل من ينسب إلى شافع بن السائب لانهم يعرفون بقرابته، ولا يدخل فيه من ينسب إلى على وعباس بن السائب ولا من ينسب إلى السائب لانهم لا يعرفون بقرابته، ويستوى فيه من قرب وبعد من أقاربه، ويستوى فيه الذكر والانثى تساوى الجميع في القرابة، فان حدث قريب بعد الوقف دخل فيه.

وذكر البويطى أنه لا يدخل فيه، وهذا غلط من البويطى لانه لا خلاف أنه إذا وقف على أولاده دخل فيه من يحدث من أولاده.

 

(فصل)

وان وقف على أقرب الناس إليه ولم يكن له أبوان صرف إلى الولد ذكرا كان أو أنثى لانه أقرب من غيره، لانه جزء منه، فان لم يكن له ولد

قال ولد الولد من البنين والبنات، فان لم يكن ولد ولا ولد ولد وله أحد الابوين صرف إليه لانهما أقرب من غيرهما، فان اجتمعا استويا، فان لم يكون صرف إلى أبيهما الاقرب فالاقرب، فان كان له أب وابن ففيه وجهان

(أحدهما)

أنهما سواء لانهما في درجة واحدة في القرب

(والثانى)

يقدم الابن لانه أقوى تعصيبا من الاب، فان قلنا انهما سواء قدم الاب على ابن الابن لانه اقرب منه، وان قلنا يقدم الابن قدم ابن الابن على الاب لانه أقوى تعصيبا منه، فان لم يكن أبوان ولا ولد وله اخوة صرف إليهم

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 355)

________________________________________

لانهم أقرب من غيرهم، فإن اجتمع أخ من اب وأخ من أم استويا، وإن كان أحدهما من الاب والام والآخر من أحدهما قدم الذى من الاب والام لانه أقرب، فان لم يكن إخوة صرف إلى بنى الاخوة على ترتيب آبائهم.

فإن كان له جد وأخ ففيه قولان

(أحدهما)

أنهما سواء لتساويهما في القرب، ولهذا سوينا بينهما في الارث.

 

(والثانى)

يقدم الاخ لان تعصيبه تعصيب الاولاد، فإذا قلنا إنهما سواء قدم الجد على ابن الاخ، وان قلنا يقدم الاخ فابن الاخ وإن سفل أولى من الجد، فان لم يكن إخوة وله أعمام صرف إليهم ثم إلى أولادهم على ترتيب الاخوة وأولادهم، فان كان له عم وأبوجد فعلى القولين في الجد والاخ، وان كان له عم وخال أو عمة وخالة أو ولدهما فهما سواء، فان كان له جدتان إحداهما تدلى بقرابتين والاخرى بقرابة، فالتى تدلى بقرابتين أولى لانها أقرب، ومن أصحابنا من قال: ان قلنا ان السدس بينهما في الميراث استويا في الوقف

(فصل)

وان وقف على جماعة من أقرب الناس إليه صرف إلى ثلاثة من أقرب الاقارب، فان وجد بعض الثلاثة في درجة والباقى في درجة أبعد استوفى

ما أمكن من العدد من الاقرب وتمم الباقي من الدرجة الابعد، لانه شرط الاقرب والعدد فوجب اعتبارهما.

 

(فصل)

وان وقف على مواليه وله مولى من أعلى ومولى من أسفل ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) يصرف اليهما لان الاسم يتناولهما

(والثانى)

يصرف إلى المولى من أعلى، لان له مزية بالعتق والتعصيب (والثالث) ان الوقف باطل لانه ليس حمله على أحدهما بأولى من حمله على الآخر، ولا يجوز الحمل عليهما لان المولى في أحدهما بمعنى وفى الآخر بمعنى آخر، فلا تصح ارادتهما بلفظ واحد فبطل.

(الشرح) الاحكام: الوقف على الاقارب من القرب إلى الله تعالى، يتألف من صلة الرحم والاحسان والبر، فقد أخرج البخاري ومسلم وأحمد عن أنس ان

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 356)

________________________________________

أبا طلحة قال (يا رسول الله ان الله يقول: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ، وان أموالي بيرحاء وانها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله فضعها يا رسول الله حيث أراك الله.

فقال: بخ بخ، ذلك مال رابح مرتين وقد سمعت: أرى أن تجعلها في الاقربين، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله: فقسمهما أبو طلحة في أقاربه وبنى عمه) وفى رواية عند أحمد ومسلم (لما نزلت هذه الآية: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ.

قال أبو طلحة: يا رسول الله أرى ربنا يسألنا من أموالنا فأشهدك أنى جعلت أرضى بيرحاء لله، فقال اجعفها في قرابتك.

قال فجعلها في حسان بن ثابت وأبى بن كعب) وللبخاري معناه وقال فيه (اجعلها لفقراء قرابتك) قال محمد بن عبد الله الانصاري: أبو طلحة زيد بن سهل بن الاسود بن

حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عدى بن عمرو بن مالك بن النجار.

وحسان بن ثابت بن المنذر بن حرام يجتمعان إلى حرام، وهو الاب الثالث.

وأبى بن كعب ابن قيس بن عيك بْنِ زَيْدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ مالك بن النجار، فعمرو يجمع حسانا وأبا طلحة وأبيا، وبين ابى وأبا طلحة ستة آباء.

وأخرج الشيخان عن أبى هريرة واللفظ لمسلم (لما نزلت هذه الآية: وأنذر عشيرتك الاقربين، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا فاجتمعوا فعم وخص فقار: يا بنى كعب بن لؤى أنقذوا أنفسكم من النار، يا بنى مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا بنى هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا بنى عبد مناف أنقذوا انفسكم من النار، يا بنى هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا بنى عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار فانى لا أملك لكم من الله شيئا غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها) وفى هذا دليل على أن كل من ناداهم النبي صلى الله عليه وسلم يطلق عليهم لفظ الاقربين، لانه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ممتثلا لقوله تعالى: وأنذر

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 357)

________________________________________

عشيرتك الاقربين، وهو دليل على صحة ما ذهب إليه الشافعي رضى الله عنه من دخول النساء لذكره فاطمة، ودخول الكفار وقد اختلف العلماء في الاقارب، فقال أبو حنيفة: القرابة كل ذى رحم محرم من قبل الاب أو الام، ولكن يبدأ بقرابة الاب قبل الام.

وقال أبو يوسف ومحمد.

من جمعهم أب منذ الهجرة من قبل أب وأم من تفصيل زاد زفر ويقدم من قرب.

وهو رواية عن ابى حنيفة، وأقل من يدفع له ثلاثة، وعند محمد اثنان وعند أبى يوسف واحد، ولا يصرف للاغنياء عندهم إلا إن شرط ذلك.

وقال أصحابنا: القريب من اجتمع سواء قرب أم بعد، مسلما كان أو كافرا،

غنيا أو فقيرا، ذكرا أو أنثى، وارثا أو غير وارث محرما أو غير محرم.

واختلفوا في الاصول والفروع على وجهين.

وقالوا: إن وجد جمع محصورون أكثر من ثلاثة استوعبوا.

وقيل يقتصر على ثلاثة وإن كانوا غير محصورين.

فنقل عن الطحاوي الاتفاق على البطلان.

قال الحافظ ابن حجر: وفى نظر، لان الشافعية عندهم وجه بالجواز، ويصرف منهم لثلاثة ولا يجب التسوية.

وقال أحمد في القرابة كالشافعي إلا أنه أخرج الكافر، وفى رواية عنه: القرابة كل من جمعه، والموصى الاب الرابع إلى ما هو أسفل منه.

وقال مالك: يختص بالعصبة سواء كان برئه أو لا، ويبدأ بفقرائهم حتى يغنوا، ثم يعطى الاغنياء وقد تمسك برواية (فجعلها في حسان بن ثابت وأبى كعب) من قال: أقل من يعطى من الاقارب إذا لم يكونوا منحصرين اثنان، وفيه نظر لانه وقع في رواية البخاري فجعلها أبو طلحة في ذوى رحمه، وكان منهم حسان وأبى بن كعب، فدل ذلك على أنه أعطى غيرهما معهما وفى مرسل أبى بكر بن حزم: فرده على أقاربه أبى بن كعب وحسان بن ثابت وأخيه وابن أخيه شداد بن أوس ونبيط بن جابر، فتقاوموه فباع حسان حصته من معاوية بمائة ألف درهم.

إذا ثبت هذا فإنه إذا وقف على أقاربه دخل فيه كل من تعرف قرابته منتسبا إلى أبيه، ولا يدخل فيه من ينسب إلى عمه، فإذا وقف الامام الشافعي رضى الله عنه

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 358)

________________________________________

لاقاربه دخل فيه كل من ينسب إلى شافع بن السائب لانه أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إدْرِيسَ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ شَافِعِ بْنِ السَّائِبِ بن عبد الله بن يزيد بن هاشم ابن الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ الْقُرَشِيُّ، وقد أعقب السائب بن عبد الله

شافعا وعليا وعباسا، ومن ثم فإن أبناءهم لا يدخلون في وقف الشافعي لاقاربه فإن أعقبوا بعد الوقف دخل عقبهم مثلهم أيضا، ولا خلاف أن ما يحدث من أولادهم بعد استحقاقهم يدخل معهم في الاستحقاق خلافا للبويطى فان وقف لاقاربه وكان له أولاد قدموا على غيرهم ثم على أولادهم.

وان قال من مات منهم عن ولد فنصيبه لولده، ومن مات عن غير ولد فنصيبه لاهل الوقف.

وكان له ثلاثة بنين فمات أحدهما عن ابنين انتقل نصيبه اليهما ثم مات الثاني عن غير ولد فنصيبه لاهل الوقف، وكان له ثلاثة بنين فمات أحدهما عن ابنين انتقل نصيبه اليهما، ثم مات الثاني عن غير ولد فنصيبه لاخيه وابنى اخيه بالسوية لانهم أهل الوقف، ثم ان مات أحد ابني الابن عن غير ولد انتقل نصيبه إلى أخيه وعمه لانهما أهل الوقف.

وإن مات أحد البنين الثلاثة عن غير ولد وخلف أخويه وابنى أخ له فنصيبه لاخويه دون ابني أخيه لانهما ليسا من أهل الوقف ما دام أبويهما حيا، فإذا مات أبوهما فنصيبه لهما، فإذا مات الثالث كان نصيبه لابنى أخيه بالسوية إن لم يخلف ولدا، وإن خلف إبنا واحدا فله نصيب أبيه وهو النصف ولابني عمه النصف لكل واحد الربع وإن قال: من مات منهم من غير ولد كان جاريا عليه جاريا على من هو في درجته، فان كان الوقف مرتبا بطنا بعد بطن كان نصيب الميت غن غير ولد لاهل البطن الذى هو منه.

وإن كان مشتركا بين البطون كلها احتمل أن يكون نصيبه بين أهل الوقف كلهم لانهم في استحقاق الوقف سواء فكانوا في درجته من هذه الدرجة.

وإن كان الوقف على البطن الاول على أنه من مات منهم عن ولد انتقل نصيبه إلى ولده، ومن مات عن غير ولد انتقل نصيبه إلى من هو في درجته ففيه ثلاثة أوجه

(أحدها) أن يكون نصيبه بين أهل الوقف كلهم يتساوون فيه.

سواء كان

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 359)

________________________________________

من بطن واحد أو من بطون، وسواء تساويا أنصباؤهم في الوقف أو اختلفت لما ذكرنا

(والثانى)

أن يكون لاهل بطن، سواء كانوا من أهل الوقف أو لم يكونوا مثل أن يكون البطن الاول ثلاثة فمات أحدهما عن ابن ثم مات الثاني عن ابنين فمات أحد الابنين وترك أخاه وعمه وابن عمه وابنا لعمه الحى، فيكون نصيبه بين أخيه وإبنى عمه (والثالث) أن يكون لاهل بطنه من أهل الوقف، فيكون نصيبه على هذا لاخيه وابن عمه الذى مات أبوه، فإن كان في درجته في النسب من ليس من أهل الاستحقاق بحال، كرجل له أربعة بنين وقف على ثلاثة منهم على هذا الوجه وترك الرابع فمات أحد الثلاثة عن غير ولد لم يكن للرابع فيه شئ لانه ليس من أهل الاستحقاق فأشبه ابن عمهم.

وقد اختلفت الرواية عن أحمد فيمن يستحق الوقف من أقرباء الواقف، ففى إحدى الروايتين يرجع إلى الورثة منهم لانهم الذى صرف الله تعالى إليهم ماله بعد موته واستغنائه عنه، فكذلك يصرف إليهم من صدقته ما لم يذكر له مصرفا، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (إنك إن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس) فعلى هذا يكون بينهم على حسب ميراثهم ويكون وقفا عليهم، وعلى هذا ذكر أصحاب أحمد أن المقصود بالوقف هو التأبيد، وإنما صرفناه إلى هؤلاء لانهم أحق الناس بصدقته فصرف إليهم مع بقائه صدقة، ويحتمل كلام الخرقى منهم أن يصرف إليهم على سبيل الارث ويبطل الوقف فيه، فعلى هذا يكوم قوله متفقا

مع قول أبى يوسف.

والرواية الثانية عن أحمد يكون وقفا على أقرب عصبة الواقف دون بقية الورثة من أصحاب الفروض، ودون البعيد من العصبات فيقدم الاقرب فالاقرب على حسب استحقاقهم لولاء الموالى لانهم خصوا بالعقل عنه وبميراث مواليه فخصوا بهذا أيضا.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 360)

________________________________________

ونازعه في هذا ابن قدامة في مغنية وقال: لا دليل على ذلك من كتاب ولا سنة والاولى صرفه إلى المساكين وفى نزاعه نظر

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

وإن وقف على زيد وعمرو وبكر ثم على الفقراء فمات زيد صرف إلى من بقى من أهل الوقف، فإذا انقرضوا صرف إلى الفقراء فمات زيد صرف إلى من بقى من أهل الوقف، فإذا انقرضوا صرف إلى الفقراء.

وقال أبو على الطبري: يرجع إلى الفقراء، لانه لما جعل إذا انقرضوا وجب أن تكون حصة كل واحد منهم لهم إذا انقرض، والمنصوص في حرملة هو الاول لانه لا يمكن نقله إلى الفقراء، لانه قبل انقراضهم لم يوجد شرط النقل إلى الفقراء، ولا يمكن رده إلى الواقف لانه أزال ملكه عنه فكان أهل الوقف أحق به.

 

(فصل)

وإن وقف مسجدا فخرب المكان وانقطعت الصلاة فيه، لم يعد إلى الملك، ولم يجز له التصرف فيه، لان ما زال الملك فيه لحق الله تعالى لا يعود إلى الملك بالاختلال كما لو أعتق عبدا ثم زمن، وإن وقف نخلة فجفت أو بهيمة فزمنت أو جذوعا على مسجد فتكسرت ففيه وجهان

(أحدهما)

لا يجوز بيعه لما ذكرناه في المسجد

(والثانى)

يجوز بيعه لانه لا يرجى منفعته فكان بيعه أولى من تركه بخلاف المسجد، فإن المسجد يمكن الصلاة فيه مع خرابه، وقد يعمر

الموضع فيصلى فيه، فإن قلنا تباع كان الحكم في ثمنه حكم القيمة التى توجد من متلف الوقف وقد بيناه.

وان وقف شيئا على ثغر فبطل الثغر كطرسوس أو على مسجد فاختل المكان حفظ الارتفاع، ولا يصرف إلى غيره لجواز أن يرجع كما كان.

 

(فصل)

وإن احتاج الوقف إلى نفقة أنفق عليه من حيث شرط الواقف لانه لما اعتبر شرطه في سبيله اعتبر شرطه في نفقته كالمالك في أمواله، وإن لم يشترط أنفق عليه من غلته، لانه لا يمكن الانتفاع به إلا بالنفقة، فحمل الوقف عليه، وان لم يكن له غلة فهو على القولين إن قلنا إنه لله تعالى كانت نفقته في بيت المال كالحر المعسر الذى لا كسب له، وإن قلنا للموقوف عليه كانت نفقته عليه

(فصل)

والنظر في الوقف إلى من شرطه الواقف، لان الصحابة

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 361)

________________________________________

رضى الله عنهم وقفوا وشرطوا من ينظر، فجعل عمر رضى الله عنه إلى حفصة رضى الله عنها، وإذا توفيت فإنه إلى ذوى الرأى من أهلها، ولان سبيله إلى شرطه فكان النظر إلى من شرطه.

وإن وقف ولم يشرط الناظر ففيه ثلاثة أوجه

(أحدهما)

أنه إلى الواقف لانه كان النظر إليه، فإذا لم يشرطه بقى على نظره

(والثانى)

أنه للوقوف عليه، لان الغلة له فكان النظر إليه (والثالث) إلى الحاكم لانه يتعلق به حق الموقوف عليه وحق من ينتقل إليه فكان الحاكم أولى، فإن جعل الواقف النظر إلى اثنين من أفاضل ولده ولم يوجد فيهم فاضل إلا واحد ضم الحاكم إليه آخر لان الواقف لم يرض فيه بنظر واحد.

 

(فصل)

إذا اختلف أرباب الوقف في شروط الوقف وسبيله ولا بينة جعل بينهم بالسوية، فإن كان الواقف حيا رجع إلى قوله، لانه ثبت بقوله

فرجع إليه.

(الشرح) بعض هذه الفصول مضى ذكر أحكامها.

أما المسجد فإنه إذا انهدم وتعذرت اعادته فإنه لا يباع بحال لامكان الانتفاع به حالا بالصلاة في أرضه، وبهذا قال مالك رضى الله عنه.

وقال الرملي: وبه فارق ما لو وقف فرس على الغزو فكبر ولم يصلح حيث جاز بيعه.

نعم لو خيف على نقضه نقض وحفظ ليعمر به مسجد آخر ان رأى الحاكم ذلك، وان توقع عوده حفظ له، والا فإن أمكن صرفه إلى مسجد آخر صرف إليه، والا فمنقطع الآخر فيصرف لاقرب الناس إلى الواقف، فان لم يكونوا صرف إلى الفقراء والمساكين أو مصالح المسلمين.

أما غير المنهدم فما فضل من غلة الموقوف على مصالحه يشترى به عقار ويوقف عليه بخلاف الموقوف على عمارته يجب ادخاره لاجلها لانه يعرض للضياع أو لظالم يأخذه.

ولو وقف أرضا للزراعة فتعذرت وانحصر النفع في الغرس أو البناء فعل الناظر أحدهما أو آجرها كذلك، وقد أفتى البلقينى في أرض موقوفة لتزرع حناء

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 362)

________________________________________

فآجرها لتغرس كرما، فإن قوله لتزرع حناء متضمن لاشتراط أن لا يزرع غيره لان من المعلوم أنه يغتفر في الضمنى مالا يغتفر في المنطوق، على أن الفرض في مسألتنا أن لا يقصد تعطيل وقفه وثوابه، ومسألة البلقينى ليس فيها ضرورة فاحتاج إلى التقييد.

وقال أصحاب أحمد: إذا تعطلت منافع الوقف كدار انهدمت أو أرض عادت مواتا أو مسجد انصرف أهل القرية عنه وصار في موضع لا يصلى فيه أو ضاق بأهله ولم يمكن توسيعه في موضعه، أو تشعب جميعه فلم تمكن عمارته ولا عمارة بعضه الا

ببيع بعضه، جاز بيع بعضه لتعمر به بقيته، وان لم يمكن الانتفاع بشئ منه بيع جميعه.

وقال أحمد في رواية أبى داود صاحب السنن: إذا كان في المسجد خشبتان لهما قيمة جاز بيعهما وصرف ثمنهما عليه.

وقال في رواية صالح: يحول المسجد خوفا من اللصوص، وإذا كان موضعه قذرا، يعنى إذا كان ذلك يمنع من الصلاة فيه، ونص في رواية عبد الله على جواز بيع عرصته وتكون الشهادة في ذلك على الامام.

وقد روى على بن سعيد أن المساجد لا تباع انما تنقل آلتها.

وقال محمد بن الحسن: إذا خرب المسجد أو الوقوف عاد إلى ملك واقفه، لان الوقف انما هو تسبيل المنفعة، فإذا زالت منفعته زال حق الموقوف عليه منه فزال ملكه عنه.

دَلِيلُنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا يباع أصلها ولا تبتاع ولا توهب ولا تورث) ولان ما لا يجوز بيعه مع بقاء منافعه لا يجوز بيعه مع بقاء تعطلها كالمعتق، والمسجد أشبه الاشياء بالمعتق (فائدة، لا يصح عندنا وقف لاجل نقش مسجد أو زخرفته، أما دهانه وملاطه وتجصيصه فجائز، لقول عمر رضى الله عنه (أكن الناس من المطر واياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس) أفاده الشمس الرملي في النهاية (فرع)

إذا كان الوقف للاستغلال لم يتصرف فيه سواء ناظره الخاص أو العام أو لينتفع به الموقوف عليه، وأطلق أو قال: كيف شاء، فله استيفاء المنفعة بنفسه وبغيره بأن يركبه الدابة مثلا ليقضى له عليها حاجة فلا ينافى ذلك ما قيل في الاعارة والاجارة وما قيدناه به.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 363)

________________________________________

ثم إن شرط الواقف النظر لنفسه أو غيره اتبع كبقية شروطه، لما روى أن عمر (رض) ولى أمر صدقته لحفصة ما عاشت، ثم لاولى الرأى من أهلها، وقبول

من شرط له النظر كقبول الوكيل فيما يظهر لا الموقوف عليه ما لم يشرط له شئ من ريع الوقف، ودعوى السبكى أنه بالاباحة أشبه فلا يرتد بالرد بعيد، بل لو قبله ثم أسقط حقه منه سقط إلا أن يشترط نظره حال الوقف، فلا ينعزل بعزل نفسه على الراجح خلافا لمن زعم خلافه.

قال الرملي: نعم يقيم الحاكم متكلما غيره مدة إعراضه، فلو أراد العود لم يحتج إلى تولية جديدة، فإذا لم يشرط الواقف النظر لاحد فالنظر للقاضى الموجود ببلد الموقوف عليه كما مر نظيره في مال اليتيم، إذ نظره عام فهو أولى من غيره، ولو كان واقفا أو موقوفا عليه.

وما جزم به الماوردى من ثبوته للواقف بلا شرط في مسجد المحلة، والخوارزمي في سائر المساجد، وزاد أن ذريته مثله مردود.

هكذا أفده الرملي وشرط الناظر العدالة الباطنة مطلقا كما رجحه الاذرعى خلافا لاكفاء السبكى بالعدالة الظاهرة، ومن ثم ينعزل بالفسق المحقق بخلاف غيره بخلاف الكذب الذى يمكن أن يكون معذورا فيه.

وسواء في الناظر أكان هو الواقف أم غيره، ومتى انعزل بالفسق فالنظر للحاكم، كما تشترط الكفاية لما تولاه من نظر عام أو خاص وهى الاهتداء إلى التصرف الذى فوض له قياسا على الوصي والقيم، لانها ولاية على غيره، وعند زوال الاهلية يكون النظر للحاكم، هكذا رجحه السبكى وقد أفتى النووي بعدم عود النظر بعود الاهلية ما لم يكن نظره بشرط الواقف، لقوته بالشرط، إذ ليس لاحد عزله ولا الاستبدال به، وعارض فقد الاهلية مانع من تصرفه لا سالب لولايته.

ولو كان له النظر على مواضع فأثبت أهليته في مكان ثبتت في بقية الاماكن من حيث الامانة لا من حيث الكفاية إلا ان يثبت أهليته في سائر الاوقاف كما

قرره ابن الصلاح.

ووظيفة الناظر حفظ الاصول وثمرتها على وجه الاحتياط كولى اليتيم،

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 364)

________________________________________

كما يتولى الاجارة والعمارة والاقتراض على الوقف عند الحاجة إن شرطه له الواقف أو أذن له فيه الحاكم كما في الروضه وغيرها، خلافا للبلقينى، سواء في ذلك مال نفسه وغيره، كما انه منوط به تحصيل الغله وقسمتها على مستحقيها، ويلزمه رعاية زمن عينه الواقف، ويجوز تقديم تفرقة المنذور على الزمن المعين لشبهه بالزكاة المعجله، ولو كان له وظيفه فاستناب فيها فالاجرة عليه لا على الوقف وقال الاذرعى: إن الذى نعتقده أن الحاكم لا نظر له معه ولا تصرف، بل نظره معه نظر إحاطه ورعاية.

فإن فوض الواقف إليه بعض هذه الامور لم يتعده اتباعا للشرط، ويستحق الناظر ما شرط من الاجرة، كما يجوز له رفع الامر إلى الحاكم ليقرر له أجره قال العراقى في تحريره: ومقتضاه أنه يأخذ مع الحاجة إما قدر النفقة كما رجحه الرافعى أو الاقل من نفقته وأجرة مثله كما رجحه النووي، وقد رجح بعض المتأخرين من أصحابنا أن الظاهر هنا أنه يستحق أن يقرر له أجرة المثل، وإن كان أكثر من النفقة، وانما اعتبرت النفقة هنا لوجوبها على فرعه سواء أكان وليا على ماله أم لا، بخلاف الناظر ولو جعل النظر لعدلين من أولاده وليس فيهم سوى عدل نصب الحاكم آخر، وان جعله للارشد من أولاده فالارشد، فأثبت كل منهم أنه أرشد اشتركوا في النظر بلا استقلال ان وجدت الاهلية فيهم، لان الارشدية قد سقطت بتعارض البينات فيها ويبقى أصل الرشد، ولو تغير حال الارشد حين الاستحقاق فصار مفضولا انتقل النظر إلى من هو أرشد منه، ويدخل في الارشد من أولاد أولاده الارشد من أولاد البنات، وللواقف عزل

من ولاه نائبا عنه ان شرط النظر لنفسه ونصب غيره كالوكيل.

وأفتى النووي بأنه لو شرط النظر لانسان، وجعل له أن يسنده لمن شاء فأسنده لآخر، لم يكن له عزله ولا مشاركته، ولا يعود النظر إليه بعد موته.

قال الرملي: بنظير ذلك أفتى فقهاء الشام وعللوه بأن التفويض بمثابة التمليك، وخالفهم السبكى فقال: بل كالتوكيل، وأفتى السبكى بأن للناظر والواقف من جهته عزل المدرس ونحوه ان لم يكن مشروطا في الوقف ولو لغير مصلحه، وهو مردود بما في الروضة للنووي أنه لا يجوز للامام اسقاط بعض الاجناد المثبتين

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 365)

________________________________________

في الديوان بغير سبب، فالناظر الخاص أولى، ولا اثر للفرق بأن هؤلاء ربطوا أنفسهم للجهاد الذى هو فرض، ومن ربط نفسه لا يجوز إخراجه بلا سبب بخلاف الوقف فإنه خارج عن فروض الكفايات، بل يرد بأن التدريس فرض أيضا، وكذلك قراءة القرآن، فمن ربط نفسه بهما فحكمه كذلك على تسليم ما ذكر من أن الربط به كالتلبس به، وإلا فشتان ما بينهما، ومن ثم اعتمد البلقينى أن عزله من غير مسوغ لا ينفذ، بل هو قادح في نظره، وفى شرح المنهاج في الكلام على عزل القاضى بلا سبب ونفوذ العزل في الامر العام: أما الوظائف كأذان وإقامة وتدريس وطلب ونحوه فلا ينعزل أربابها بالعزل من غير سبب كما أفتى به كثير من المتأخرين، منهم ابن رزين فقال: من تولى تدريسا لم يجز عزله بمثله ولا بدونه ولا ينعزل بذلك، قال الرملي: وهذا هو المعتمد.

وإذا قلنا: لا ينفط عزره الا بسبب فهل يلزمه بيان مستنده؟ الفتوى أكثر المتأخرين بعدمه وقيده بعضهم بما إذا وثق بعلمه ودينه، وزيفه التاج السبكى بأنه لا حاصل له.

ثم بحث أنه ينبغى وجوب بيان مستنده مطلقا أخذا من قولهم: لا يقبل دعواه الصرف لمستحقين معينين، بل القول قولهم ولهم مطالبته بالحساب

وادعى الولى العراقى أن الحق التقييد وله حاصل لان عدالته غير مقطوع بها، فيجوز أن يختل وأن يظن ما ليس بقادح قادحا بخلاف من تمكن علما ودينا زيادة على ما يعتبر في الناظر من تمييز ما يقدم وما لا يقدح، ومن ورع وتقوى يحولان بينه وبين متابعة الهوى.

ولو طلب المستحقون من الواقف كتاب الوقف ليكتبوا منه نسخه حفظا لاستحقاقهم لزمه تمكينهم وذلك أخذا من افناء جماعة أنه يجب على صاحب كتب الحديث إذا كتب فيها سماع غيره معه لها أن يعيره اياها ليكتب سماعه منها ولو تغيرت المعاملة وجب ما شرطه الواقف مما كان يتعامل به حال الوقف، زاد سعره أم نقص سهل تحصيله أم لا، فإن فقد اعتبرت قيمته يوم المطالبة ان لم يكن له مثل حينئذ والا وجب مثله.

وإذا أجر الناظر الوقف على معين أو جهة اجارة صحيحة فزادت الاجرة

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 366)

________________________________________

في المدة أو ظهر بالزيادة لم ينفسخ العقد في الاصح لوقوعه بالغبطة في وقته فأشبه ارتفاع القيمة أو الاجرة بعد بيع أو اجارة مال المحجور.

والثانى: تنفسخ إذا كان للزيادة وقع، والظالب ثقة لتبين وقوعه على خلاف المصلحة، وقد مر في الاجارة أنه لو كان المؤجر المستحق أو مأذونه جاز ايجاره بأقل من أجرة مثله وعليه فالاوجه انفساخه بانتقالها لغيره ممن لم يأذن له في ذلك.

وأفتى ابن الصلاح فيما إذا أجر بأجرة معلومة شهد اثنان بأنها أجرة المثل حالة العقد ثم تغيرت الاحوال فزادت أجرة المثل بأنه يتبين بطلانها وخطؤهما لان تقويم المنافع المستقبله انما يصح حيث استمرت حالة العقد بخلاف ما لو طرأ عليها أحوال تختلف بها قيمة المنفعة فإنه بان أن المقوم لم يوافق تقويمه الصواب ولو حكم حاكم بصحة اجارة وقف، وان الاجرة وقف، وأن الاجرة أجرة المثل، فإن ثبت بالتواتر

أنها دونها تبين بطلان الحكم والاجارة.

(فرع)

نفقة الوقف من حيث شرط الواقف لانه لما اتبع شرطه في سبيله وجب اتباع شرطه في نفقته، فإن لم يمكن فمن غلته، لان الوقف اقتضى تحبيس أصله وتسبيل منفعته، ولا يحصل ذلك الا بالاتفاق عليه، فكان ذلك من ضرورته، وان تعطلت منافع الحيوان الموقوف فنفقتهن على الموقوف عليه لانه ملكه، ويحتمل وجوبها في بيت المال، والله تعالى أعلم بالصواب.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 367)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله تعالى:

 

‌كتاب الهبات

 

الهبة مندوب إليها لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (تهادوا تحابوا) وللاقارب أفضل لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (الراحمون يرحمهم الله، ارحموا من في الارض يرحمكم من في السماء، الرحم شجنة من الرحمن، فمن وَصَلَهَا وَصَلَهُ اللَّهُ، وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعَهُ اللَّهُ) وفى الهبة صلة الرحم، والمستحب أن لا يفضل بعض أولاده على بعض في الهبة لما روى النعمان بن بشير قال (أعطاني أبى عطية فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يا رسول الله إنى أعطيت ابني عطية وإن أمه قالت لا أرضى حتى تشهد رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَلْ أعطيت كل ولدك مثل ذلك؟ قال لا.

قال رسول الله اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم، أليس يسرك أن يكونوا في البر سواء؟ قال بلى قال فلا إذا) قال الشافعي رحمه الله: ولانه يقع في نفس المفضول ما يمنعه من بره، ولان الاقارب ينفس بعضها بعضا مالا ينفس العدى، فإن فضل بعضهم بعطية صحت

العطية، لما روى في حديث النُّعْمَانُ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (أشهد على هذا غيرى) فلو لم يصح لبين له ولم يأمره أن يشهد عليه غيره، ولا يستنكف ان يهب القليل ولا أن يتهب القليل، لما روى أبو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (لو دعيت إلى كراع لاجبت.

ولو أهدى إلى كراع أو ذراع لقبلت) (الشرح، الحديث الاول أخرجه البخاري في الادب المفرد والبيهقي وابن طاهر في مسند الشهاب من حديث محمد بن بكير عن ضمام بن اسماعيل عن موسى

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 368)

________________________________________

ابن وردان عن أبى هريرة عنه صلى الله عليه وسلم (تهادوا تحابوا) قال الحافظ ابن حجر وإسناده حسن، وقد اختلف فيه على ضمام.

قال الذهبي: لينه بعضهم بلا حجة.

وقال أحمد بن حنبل: صالح الحديث.

وسرد له ابن عدى في كامله أحاديث حسنة، ولما كان ضمام ختن أبى قبيل على ابنته فقد اختلف عليه، فقيل عنه: عن أبى قبيل عن عبد الله بن عمر أورده ابن طاهر ورواه في مسند الشهاب من حديث عائشة بلفظ (تهادوا تزدادوا حبا) وفى اسناده محمد بن سليمان.

قال ابن طاهر: لا اعرفه، وأورده أيضا من وجه آخر عن أم حكيم بنت وداع الخزاعية وقال: اسناده غريب وليس بحجة.

وروى مالك في الموطأ عن عطاء الخراساني رفعه (تصافحوا يذهب الغل، وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء) وفى الاوسط للطبراني من حديث عائشة (تهادوا تحابوا وهاجروا تورثوا أولادكم مجدا وأقيلوا الكرام عثراتهم) قال الحافظ بن حجر: وفى اسناده نظر وأخرج في الشهاب عن عائشة (تهادوا فان الهدية تذهب الضغائن) ومداره على محمد بن عبد النور عن أبى يوسف الاعشى عن هشام عن أبيه عنها.

والراوي له

عن محمد هو أحمد بن الحسن المقرى.

قال الدارقطني: ليس بثقة، وقال ابن ظاهر لا أصل له عن هشام.

ورواه ابن حبان في الضعفاء من طريق بكر بن بكار عن عائذ بن شريح عن أنس بلفظ (تهادوا فان الهدية قلت أو كثرت تذهب السخيمة) وضعفه بعائذ.

قال أبو حاتم: في حديثه ضعف.

وقال ابن طاهر: ليس بشئ وقد رواه عنه جماعة.

قال ورواه كوثر بن حكيم عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا.

وكوثر متروك.

وروى الترمذي من حديث ابى هريرة (تهادوا فان الهدية تذهب وحر الصدر) وفى اسناده أبو معشر المدنى تفرد به وهو ضعيف.

ورواه ابن طاهر في احاديث الشهاب من طريق عصمة بن مالك بلفظ (الهدية تذهب بالسمع والبصر) ورواه ابن حبان في الضعفاء من حديث ابن عمر بلفظ (تهادوا فان الهدية تذهب الغل) رواه محمد بن غيزغة قال: لا يجوز الاحتجاج به وقال فيه البخاري منكر الحديث وروى أبو موسى المدينى في الذيل في ترجمة زعبل، بالزاى والعين المهملة والباء

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 369)

________________________________________

الموحدة، يرفعه (تزاوروا وتهادوا فان الزيارة تثبت الوداد، والهدية تذهب السخيمة.

قال ابن حجر: وهو مرسل وليس لزعبل صحبة اما حديث عبد الله بن عمر رواه احمد في مسنده والطبراني باسناده صحيح عن عبد الله بن عمرو، ورواه مسلم عن عائشة، ورواه البخاري عن ابى هريرة بلفظ الرحم شجنة من الرحمن، قال الله: من وصلته ومن قطعته.

اما حديث النعمان بن بشير عند البخاري ومسلم واحمد بلفظ (ان اباه أتى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: انى نحلت ابني هذا غلاما كان لِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ فقال: لا، فقال: فارجعه) ولفظ مسلم (نصدق على ابى ببعض ماله، فقالت امى عمرة بنت رواحة

لا ارضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق ابى إليه يشهده على صدقتي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: افعلت هذا بولدك كلهم؟ قال: لا فقال: اتقوا الله واعدلوا في اولادكم، فرجع ابى في تلك الصدقة) وللبخاري مثله لكن ذكره بلفظ العطية لا بلفظ الصدقة.

وقد روى احمد وابو داود والنسائي والمنذري عن النعمان بن بشير قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (اعدلوا بين ابنائكم، اعدلوا بين ابنائكم، اعدلوا بين ابنائكم) وهذا الحديث سكت عنه أبو داود والمنذري ورجاله ثقات الا المفضل ابن المهلب بن ابى صفرة، وقد اختلف فيه وهو صدوق، وفى رواية لمسلم بلفظ (ايسرك ان يكونوا في البر سواء؟ قال: بلى، قال: فلا اذن وفى بابه عن ابن عباس عند الطبراني والبيهقي وسعيد بن منصور بلفظ (سووا بين اولادكم في العطية، ولو كنت مفضلا احدا لفضلت النساء) وفى اسناده سعيد ابن يوسف وهو ضعيف، وذكر ابن عدى في الكامل انه لم ير له انكر من هذا وقد حسن ابن حجر في الفتح اسناده.

أما حديث أبى هريرة فقد اخرجه البخاري بلفظ (ذلود دعيت إلى كراع أو ذراع لاجبت، ولو اهدى إلى ذراع أو كراع لقبلت) ورواه احمد والترمذي وصححه من حديث انس بلفظ (لو اهدى إلى كراع لقبلت، ولو دعيت عليه لاجبت) وفى بابه عن أم حكم الخزاعية عند الطبراني قالت (قلت: يا رسول الله

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 370)

________________________________________

تكره اللطف؟ قال: ما أقبحه، لو اهدى إلى كراع لقبلت) قوله: اللطف بالتحريك: اليسير من الطعام.

أما الهبة بكسر الهاء وتخفيف الباء الموحدة.

قال في الفتح: تطلق بالمعنى الاعم على انواع الابراء، وهو هبة الدين ممن هو عليه، والصدقة وهى هبة

ما يتمخض به طلب ثواب الاخرة، والهدية وهى ما يلزم به الموهوب له عوضه، ومن خصها بالحياة اخرج الوصية، وهى تكون أيضا بالانواع الثلاثة، وتطلق الهبة بالمعنى الاخص على مالا يقصد له بدل، وعليه ينطبق قول من عرف الهبة بانها تمليك بلا عوض اه والهبة والعطية والهدية والصدقة معانيها متقاربة وكلها تمليك في الحياة بغير عوض، واسم العطية شامل لجميعها، وكذلك الهبة والصدقة والهدية متغايران، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة.

وقال في اللحم الذى تصدق به على بريرة (هو عليها صدقة ولنا هدية) فالظاهر ان من أعطى شيئا يتقرب به إلى الله تعالى للمحتاج فهو صدقة.

ومن دفع إلى انسان شيئا بتقرب به إليه محبة له فهو هدية، وجميع ذلك مندوب إليه ومحثوث عليه لقوله صلى الله عليه وسلم (تهادوا تحابوا) وأما الصدقة فما ورد في فضلها اكثر من ان يمكننا حصره، وقد قال الله تعالى (ان تبدوا الصدقات فنعما هي، وان تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم سيئاتكم) إذا ثبت هذا فان المكيل والموزون لا تلزم فيه الصدقة والهبة الا بالقبض، وهو قول اكبر الفقهاء، منهم النخعي والثوري والحسن بن صالح وابو حنيفة والشافعي واحمد.

وقال مالك وابو ثور: يلزم ذلك بمجرد العقد لعموم قوله عليه الصلاة والسلام (العائد في هبته كالعائد في قيئه) ولانه ازالة ملك بغير عوض فلزم بمجرد العقد كالوقوف والعتق.

وربما قالوا: تبرع فلا يعتبر فيه القبض كالوصية والوقف، ولانه عقد لازم ينقل الملك فلم يقف لزومه على القبض كالبيع، وتطلق الهبة على الشئ الموهوب واحاديث النعمان بن بشير تمسك بها من اوجب التسوية بين الاولاد في

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 371)

________________________________________

العطيه، وبه صرح البخاري، وهو قول طاوس والثوري واحمد واسحاق وبعض المالكية، قال في الفتح: والمشهور عن هؤلاء انها باطلة.

وعن احمد تصح، ويجب ان يرجع.

وعنه يجوز التفاضل ان كان له سبب، كان يحتاج الولد لزمانته أو دينه أو نحو ذلك دون الباقين.

وقال أبو يوسف تجب التسوية ان قصد بالتفضيل الاضرار.

وذهب الجمهور إلى ان التسوية مستحبه، فان فضل بعضا صح وكره، وحملوا الامر على الندب وكذلك حملوا النهى الثابت في رواية لمسلم بلفظ (ايسرك ان يكونوا لك في البر سواء؟ قال بلى.

قال فلا اذن) على التنزيه.

واجابوا عن حديث النعمان باجوبة عشرة جاءت في فتح الباري، اختصرها الشوكاني ووضع عليها زيادات مفيدة (احدها) ان الموهوب للنعمان كان جميع مال والده حكاه ابن عبد البر، وتعقبه بان كثيرا من طرق الحديث مصرحة بالبعضيه، كما في حديث جابر وغيره ان الموهوب كان غلاما، وكما في لفظ مسلم عن النعمان (تصدق على ابى ببعض ماله) (الجواب الثاني) ان العطية المذكورة لم ينجز، وانما جاء بشير يستشير النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ فاشار عليه بان لا يفعل فترك، حكاه الطبري ويجاب عنه بان امره صلى الله عليه وسلم له بالارتجاع يشعر بالنجيز.

وكذلك قول عمرة (لا ارضى حتى تشهد) الخ (الجواب الثالث) ان النعمان كان كبيرا ولم يكن قبض الموهوب فجاز لابيه الرجوع.

ذكره الطحاوي.

قال الحافظ وهو خلاف ما في أكثر طرق الحديث خصوصا قوله (ارجعه) فانه يدل على تقدم وقوع القبض، والذى تظافرت عليه الروايات انه كان صغيرا وكان ابوه قابضا له لصغره فأمره برد العطيه المذكورة

بعدما كانت في حكم المقبوضة.

(الرابع) ان قوله (ارجعه) دليل على الصحة، ولو لم تصح الهبة لم يصح الرجوع، وانما امره بالرجوع لان للوالد ان يرجع فيما وهب لولده، وان كان الافضل خلاف ذلك، لكن استحباب التسوية رجح على ذلك فلذلك امره به.

وفى الاحتجاج بذلك نظر، والذى يظهر ان معنى قوله ارجعه، أي لا تمض الهبة

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 372)

________________________________________

المذكورة، ولا يلزم من ذلك تقدم صحة الهبة (الخامس) أن قوله: أشهد على هذا غيرى، إذن بالاشهاد على ذلك، وإنما امتنع من ذلك لكونه الامام، وكأنه قال: لا أشهد لان الامام ليس من شأنه أن يشهد وإنما من شأنه أن يحكم، حكاه الطحاوي وارتضاه ابن القصار، وتعقب بأنه لا يلزم من كون الامام ليس من شأنه أن يشهد أن يمتنع من تحمل الشهادة ولا من أدائها إذا تعينت عليه، والاذن المذكور مراد به التوبيخ لما تدل عليه بقية ألفاظ الحديث، وبذلك صرح الجمهور في هذا الموضع وقال ابن حبان: قوله (أشهد) صيغة أمر والمراد به نفى الجواز وهى كقوله لعائشة: اشترطي لهم الولاء اه.

ويؤيد هذا الوجه تسميته صلى الله عليه وسلم لذلك جورا كما في بعض الروايات المذكورة.

(السادس) التمسك بقوله: ألا سويت بينهم، على أن المراد بالامر الاستحباب وبالنهى التنزيه.

قال ابن حجر: وهذا جيد لولا ورود تلك الالفاظ الزائدة على هذه اللفظة ولا سيما رواية (سو بينهم) (السابع) قالوا المحفوظ في حديث النعمان (قاربوا بين اولادكم) لا سووا، وتعقب بانكم لا توجبون المقاربة كما لا توجبون التسوية (الثامن) في التشبيه الواقع بينهم في التسوية، بالتسوية بينهم، بالتسوية

فيهم في البر قرينة تدل على ان الامر للندب، ورد بأن إطلاق الجور على عدم التسوية والنهى عن التفضيل يدلان على الوجوب فلا تصلح تلك القرينة لصرفهما وإن صلحت لنفس الامر (التاسع) ما سيأتي في الفصل الذى بعد هذا من منحة أبى بكر لعائشة.

وقوله لها فلو كنت احترثته، وكذلك ما رواه الطحاوي عن عمر أنه نحل ابنه عاصما دون سائر ولده، ولو كان التفضيل غير جائز لما وقع من الخليفتين، وقال في الفتح وقد أجاب ابن عمر عن قصة عائشة بأن اخوتها كانوا راضين، ويجاب بمثل ذلك عن قصة عاصم.

ولا حجة في فعلهما لا سيما إذا عارض المرفوع (العاشر) أن الاجماع انعقد على جواز عطية الرجل ماله لغير ولده، فإذا جاز له أن يخرج جميع ولده من ماله لتمليك الغير جاز له أن يخرج بعض ولده

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 373)

________________________________________

بالتمليك لبعضهم.

ذكره ابن عبد البر.

قال الحافظ ابن حجر ولا يخفى ضعفه لانه قياس مع وجود النص، وقد رأى الشوكاني أن التسوية واجبة وأن التفضيل محرم واختلف الموجبون للتسوية في كيفيتها فقال محمد بن الحسن وأحمد وإسحاق وبعض الشافعية والمالكية العدل أن يعطي الذكر حظين كالميراث، واحتجوا بان ذلك حظه من المال لو مات عنه الواهب.

وقال غيرهم لا فرفق بين الذكر والانثى، وظاهر الامر بالتسوية معهم.

على أن حديث النعمان بن بشير رواه عنه عدد كثير من التابعين، منهم عروة ابن الزبير عند مسلم والنسائي وأبى داود، وأبو الضحى عند النسائي وابن حبان وأحمد والطحاوى، والمفضل بن المهلب عند أحمد وأبى داود والنسائي، وعبد الله بن عتبه بن مسعود عند أحمد، وعون بن عبد الله عند أبى عوانة والشعبى عند الشيخين وأبى داود وأحمد والنسائي وابن ماجه وابن حبان وغيرهم

وقد رواه النسائي من مسند بشير والد النعمان فشذ بذلك.

وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:

(فصل)

وما جاز بيعه من الاعيان جاز هبته لانه عقد يقصد به ملك العين فملك به ما يملك بالبيع وما جاز هبته جاز هبة جزء منه مشاع لما روى عمر بْنِ سَلَمَةَ الضَّمْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج من المدينة حتى أتى الروحاء فإذا حمار عقير، فقيل يا رسول الله هذا حمار عقير، فقال دعوه فانه سيطلبه صاحبه، فجاء رجل من فهر فقال يا رسول الله انى أصبت هذا فشأنكم به، فأمر النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ بقسم لحمه بين الرفاق، ولان القصد منه التمليك والمشاع كالمقسوم في ذلك.

 

(فصل)

وما لا يجوز بيعه من المجهول وما لا يقدر على تسليمه وما لم يتم ملكه عليه كالمبيع قبل القبض لا تجوز هبته لانه عقد يقصد به تمليك المال في حال الحياة فلم يجز فيما ذكرناه كالبيع

(فصل)

ولا يجوز تعليقها على شرط مستقبل لانه عقد يبطل بالجهالة فلم يجز تعليقه على شرط مستقبل كالبيع

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 374)

________________________________________

(الشرح) حديث عمرو بن سلمة الضمرى كذا في نسخ المهذب وفى مواطن مختلفة من فصول المهذب وصوابه عمير بن سلمة الضمرى بالتصغير.

قال الحافظ ابن حجر في التهذيب: له صحبة وحديث، وهذا الحديث أخرجه أحمد والنسائي ومالك في الموطأ وصححه ابن خزيمة وغيره عن عمير بن سلمة الضمرى عن رجل من بهز (أنه خرج مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يريد مكه حتى إذا كانوا في بطن واد الروحاء وجد الناس حمار وحش عقيرا فذكروه للنبى صلى الله عليه وسلم فقال: أقروه حتى يأتي صاحبه فأتى البهرى وكان صاحبه فقال: يارسول الله

شأنكم هذا الحمار فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا بكر فقسمه في الرفاق، وهم محرمون، قال: ثم مررنا حتى إذا كنا بالاتاية إذا نحن بظبى حاقف في ظل فيه سهم فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا أن يقف عنده حتى يخير الناس عنه) .

ولاحمد والبخاري ومسلم من حديث قتادة قال (كنت يوما جالسا مع رجال مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في منزل في طريق مكه ورسول الله صلى الله عليه وسلم أمامنا والقوم محرمون وأنا غير محرم عام الحديبية فَأَبْصَرُوا حِمَارًا وَحْشِيًّا وَأَنَا مَشْغُولٌ أَخْصِفُ نَعْلِي فلم تؤذنوني، وَأَحَبُّوا لَوْ أَنِّي أَبْصَرْتُهُ فَالْتَفَتُّ فَأَبْصَرْتُهُ فَقُمْتُ إلَى الْفَرَسِ فَأَسْرَجْتُهُ ثُمَّ رَكِبْتُ وَنَسِيتُ السَّوْطَ وَالرُّمْحَ فَقُلْتُ: لَهُمْ نَاوِلُونِي السَّوْطَ وَالرُّمْحَ، فَقَالُوا: لا والله لا نعينك عليه، فَغَضِبْتُ فَنَزَلْتُ فَأَخَذْتهمَا ثُمَّ رَكِبْتُ فَشَدَدْتُ عَلَى الْحِمَارِ فَعَقَرْتُهُ ثُمَّ جِئْتُ بِهِ وَقَدْ مَاتَ فوقعوا فيه يَأْكُلُونَهُ، ثُمَّ إنَّهُمْ شَكُّوا فِي أَكْلِهِمْ إيَّاهُ وَهُمْ حُرُمٌ، فَرُحْنَا وَخَبَأْتُ الْعَضُدَ مَعِي فَأَدْرَكْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلْنَاهُ عن ذلك فقال: هل معكم منه شئ فقلت: نعم، فناولته العضد فأكلها وهو محرم) ولمسلم (هل أشار إليه إنسان أو أمره بشئ قالوا: لا، قال: فكاوه) وللبخاري (قال منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها؟ قالوا: لا، قال: فكلوا ما بقى من لحمها) قلت.

وهذا الخبر صريح في صحة هبة المشاع، وبه قال مالك والشافعي وأحمد، سواء في ذلك ما أمكن قسمته أو لم يمكن

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 375)

________________________________________

وقال أصحاب الرأى لا تصح هبة المشاع الذى يمكن قسمته لان القبض شرط في الهبة، ووجوب القسمة يمنع صحة القبض وتمامه، فإن كان مما لا يمكن قسمته صحت هبته لعدم ذلك فيه، وإن وهب وأحد اثنين شيئا مما ينقسم لم يجز عند

أبى حنيفة، وجاز عند صاحبيه، وان وهب اثنان اثنين شيئا مما ينقسم لم يصح في قياس قولهم، لان كل واحد من المتهبين قد وهب له جزء مشاع.

ولنا حديث عمرو بن سلمة في الفصل، ولانه يجوز بيعه فجازت هبته كالذى لا ينقسم، ولانه مشاع فاشبه ما لا ينقسم.

وقولهم: إن وجوب القسمة يمنع صحة القبض لا يصح، فإنه لم يمنع صحته في البيع فكذا ههنا، ومتى كانت الهبة لاثنين فقبضاه بإذنه ثبت ملكهما فيه، وإن قبضه أحدهما ثبت الملك في نصيبه أما قوله ما جاز بيعه من الاعيان جاز هبته، فظاهر في عموم ثبوت الملك بالقبض بالهبة فيما يجوز امتلاكه بالعوض، والجواز هنا اعتبار الشئ في حق حكمه، وأما صحته بانعقاد اللفظ بحيث إذا انضم إليه القبض اعتبر، ويثبت حكمه وفى معنى البيع، قال الشافعي رضى الله عنه ولو تغيرت عند الموهوب له بزيادة كان له أخذها وكان كالرجل يبيع الشئ وله فيه الخيار.

ولما كانت الهبة تمليكا لمعين في الحياة لم يجز تعليقها على شرط كالبيع، فان علقها على شرط كقول النبي صلى الله عليه وسلم لام سلمة (إن رجعت هذيتنا إلى النجاشي فهى لك) كان وعدا، وإن شرط في الهبة شروطا تنافى مقتضاها نحو أن يقول وهبتك هذا بشرط أم لا، تهبه أو لا تبيعه أو بشرط أن تهبه أو تبيعه أو بشرط أن تهب فلانا شيئا لم يصح.

وفى حصة الهبة وجهان على الشروط الفاسدة في البيع، وان وقت الهبة، فقال وهبتك هذا سنة ثم يعود إلى لم يصح، لانه عقد تمليك لعين فلم يصح مؤقتا.

وجملة ذلك أن التمليك إذا كان لعين بغير عوض عن غير احتياج كان هبة، فإن كان عن احتياج فصدقة، فإن كان للمنفعة بغير عوض فعارية أو بعوض فأجارة وإن كان للعين بعوض فبيع.

(فرع)

لا يجوز هبة المجهول أو غير المملوك أو جعله في الذمة.

قال النووي

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 376)

________________________________________

وما لا يجوز بيعه كمجهول ومغصوب لمن لا يقدر على انتزاعه، وضال وآبق فلا يجوز هبته.

قال الرملي: بجامع أن كلا منهما تمليك في الحياة ولا ينافيه خير: زن وأرجح، لان الرجحان المجهول وقع تابعا لمعلوم، عل أن الاوجه كون المراد بأرجح تحقق الحق حذرا من التساهل فيه، ولا قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عنه في المال الذى جاء من البحرين: خذ منه - الحديث، لان الظاهر أن ما ذكر في المجهول إنما هو بالمعنى الاخص بخلاف هديته وصدقته فيصحان فيما يظهر، واعطاء العباس الظاهر صدقة لا هبة، لكونه من جملة المستحقين.

وقد اختلف الفقهاء في ترك الدين المستقر الذى في الذمة للمدين، فقال أبو حنيفة والثوري وإسحاق: إن وهب الدين لغير من هو في ذمته أو باعه إياه لم يصح.

وقال أحمد: إذا كان لك على رجل طعام قرضا فبعه من الذى هو عليه بنقد، ولا تبعه من غيره عرضا بمالك عليه.

وقال الشافعي: إن كان الدين على معسر أو مماطل أو جاحد له لم يصح البيع لانه معجوز عن تسليمه، وإن كان على ملئ باذل له ففيه قولان.

 

(أحدهما)

يصح لانه ابتاع بمال ثابت في الذمة فصح، كما لو اشترى في ذمته ويشترط أن يشتريه بعين أو يتقابضان في المجلس لئلا يكون بيع دين بدين.

 

(والثانى)

لا يصح.

وفى نهاية المحتاج بحث حول ترك الدين المستقر الذى في الذمة المدين لغيره هل يعد هبة أم يعد إبراء فحسب بأنه لا يعد هبة في الاصح لانه غير مقدور على تسليمه، فإن قلنا: بصحة بيعه لغير من هو عليه قياسا على بيع الموصوف فإنه لا يوهب والدين مثله بلى أولى، وفرق ما بين صحة بيعه وعدم صحة هبته بأن بيع ما في الذمة التزام لتحصيل المبيع في مقابلة الثمن الذى استحقه والالتزام فيها صحيح بخلاف هبته فإنها لا تتضمن الالتزام إذ لا مقابل فيها،

فكانت بالوعد أشبه فلم يصح.

ووارد على ما لا يجوز بيعه من المجهول أنه إذا خلط متاعه بمتاع غيره فوهب أحدهما نصيبه لصاحبه فيصح مع جهل قدره وصفته للضرورة، وكذلك لو قال:

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 377)

________________________________________

أنت في حل مما تأخذ أو تعطى أو تأكل من مالى فله الاكل فقط لانه إباحة وهى صحيحة بالمجهول بخلاف الاخذ والاعطاء قاله العبادي، قال: وفى خذ من عنب كرمى ما شئت لا يزيد على عنقود لانه أقل ما يقع عليه الاسم، وما استشكل به يرد بأن الاحتياط المبنى عليه حق أوجب ذلك التقدير، وأفتى القفال في: أبحت لك من ثمار بستاني ما شئت بأنه إباحة، وظاهرة أن له أخذ ما شاء، وما قاله العبادي أحوط.

وفى الانوار: لو قال ابحت لك جميع مافى دارى أو مافى كرمى من العنب: فله اكله دون بيعه وحمله واطعامه لغيره.

وتقتصر الاباحة على الموجود في الدار أو في الكرم.

ولو قال ابحت لك جميع مافى دارى اكلا واستعمالا ولم يعلم المبيح لم تحصل الاباحة اه.

ومتى قلنا لا تصح الهبة في غير مقدور عليه أو فيما لا يمكن تسليمه كالعبد الابق والجمل الشارد والمغصوب لغير غاصبه ممن لا يقدر على اخذه بهذا قال ابو حنيفة والشافعي واحمد رضى الله عنهم لانه عقد يفتقر إلى القبض فلم يصح في ذلك كالبيع وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

 

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:

(فصل)

ولا تصح الا بالايجاب والقبول لانه تمليك ادمى لادمي فافتقر إلى الايجاب والقبول كالبيع والنكاح ولا يصح القبول الا على الفور.

وقال أبو العباس يصح على التراخي، والصحيح هو الاول، لانه تمليك مال في حال الحياة فكان

القبول فيه على الفور كالبيع،

(فصل)

ولا يملك الموهوب منه الهبة من غير قبض، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (أَنَّ اباها نحلها جذاذ عشرين وسقا من ماله فلما حضرته الوفاة قال يا بنية ان أحب الناس غنى بعدى لانت وان أعز الناس على فقرا بعدى لانت، وأنى كنت نحلتك جذاذ عشرين وسقا من مالى ووددت انك جذذته وحزته وانما هو اليوم مال الوارث وانما هما اخواك واختاك.

قالت هذان اخواى فمن أختاى، قال ذو بطن بنت خارجه، فانى اظنها جارية، فان مات قبل القبض قام وارثه مقامه،

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 378)

________________________________________

ان شاء قبض وان شاء لم يقبض، ومن اصحابنا من قال.

يبطل العقد بالموت، لانه غير لازم فبطل بالموت كالعقود الجائزة، والمنصوص انه لا يبطل لانه عقد يؤل إلى اللزوم فلم يبطل بالموت كالبيع بشرط الخيار، فإذا قبض ملك بالقبض ومن أصحابنا من قال يتبين انه ملك بالعقد، فان حدث منه نماء قبل القبض كان للموهوب له، لان الشافعي رضى الله عنه قال فيمن وهب له عبد قبل ان يهل عليه هلال شوال، وقبض بعدما أهل ان فطرة العبد على الموهوب له والمذهب الاول، وما قال في زكاة الفطر فرعه على قول مالك رحمه الله.

(الشرح) خبر عائشة رضى الله عنها، رواه مالك في الموطأ من طريق ابن شهاب عن عروة عنها، وروى البيهقى من طريق ابن وهب عن مالك وغيره عن ابن شهاب.

وعن حنظلة بن ابى سفيا عن القاسم بن محمد نحوه قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْأُمِّ بلغنا عن ابى بكر رضى الله عنه انه نحل عائشة أم المؤمنين جداد عشرين وسقا من نخل له بالعالية فلما حضره الموت قال لعائشة (انك لم تكوني قبضتيه، وانما هو مال الوارث) فصار بين الورثة لانها لم تكن قبضته.

اما لغات الفصل: فان قوله نحل عائشة أي اعطاها والنحلة العطية، والوسق ستون صاعا، وحزته أي قبضته، ولو قال: حزتيه لكان جائزا ولكن الحذف افصح، واما قوله ذو بطن بنت خارجه.

فان ذو تأتى بمعنى الاسم الموصول في لغة طئ قال شاعرهم: قالوا جننت فقلت كلا

* وربى ما جننت ولا انتشيت ولكني ظلمت فكدت أبكى

* من الظلم المبين أو بكيت فان الماء ماء أبى وجدى

* وبئري ذو حفرت وذو طويت وقد تزوج أبو بكر رضى الله عنه ذو بطن بنت خارجة بن ابى زهير بالسنح في بنى الحارث من الخزوج قريب المدينة واسمها حبيبة وبنتها ام كلثوم بنت أبى بكر رضى الله عنه.

أما الاحكام: فان الهبة لا تصح الا بإذن الواهب لانه بالخيار قبل القبض

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 379)

________________________________________

ان شاء أقبضها وامضاها وان شاء رجع فيها ومنعها، فان قبضها الموهوب له قبل اذنه لم تتم الهبة ولم يصح القبض.

وحكى عن ابى حنيفة انه إذا قبضها في المجلس صح، وان لم ياذن له، لان الهبة قامت مقام الاذن في القبض لكونها دالة على رضاه بالتمليك الذى لا يتم الا بالقبض.

ومذهب الشافعي واحمد رضى الله عنهما انه قبض الهبة بغير اذن الواهب فلم يصح كما بعد في المجلس، أو كما لو نهاه عن قبضها، ولان التسليم غير مستحق على الواهب فلا يصح التسليم الا باذنه، كما لو اخذ المشترى المبيع من البائع قبل تسليم ثمنه، ولا يصح جعل الهبة اذنا في القبض بدليل ما بعد المجلس، ولو اذن الواهب في القبض ثم رجع عن الاذن أو رجع في الهبة صح رجوعه لان ذلك

ليس بقبض.

وان رجع بعد القبض لم ينفع رجوعه، لان الهبة قد تمت إذا عرف هذا عرف ان شرط الهبة الايجاب، كوهبتك وملكتك ومنحتك وأكرمتك وعظمتك ونحلتك، وكذا أطعمتك ولو في غير طعام كما نص عليه، وقبول، كقبلت ورضيت واتهبت متلفظا باحدب هذه الكلمات أو بإشارة من اخرس مفهومه في حقه بالقبول، لان القبول ينعقد بالكناية.

ومن أركانها ان يكون القبول مطابقا للايجاب، ومن أركانها اعتبار الفور في الصيغة، ولا يضر الفصل.

نعم في الاكتفاء بالاذن قبل وجود القبول نظر، لاننا إذا تصورنا ان الواهب لا يفترق عن الراهن عند تقديمه المعين إلى المتهب الا في الصيغة، تبين لنا أهمية الصيغة وضرورتها عند العقد واعتبار القبول على الفور لفظا، ولا يكفى لفظ يحتمل القبول والرفض الا إذا اقترن اللفظ بالقبض وتسليط اليد، كقوله شكرا فانه لفظ يحتمل الاعتذار عن قبول الهبة ويحتمل القبول وأفتى بعض الاصحاب فيمن بعث بنته وجهازها إلى دار الزوج بأنه ان قال هذا جهاز بنتى فهو ملك لها، والا فهو عارية ويصدق بيمينه ولا يشترط الايجاب والقبول في الصدقة بل يكفى الاعطاء والاخذ، ولا في الهدية بل يكفى البعث من هذا ويكون كالايجاب والقبض من ذلك، ويكون كالقبول لجريان عادة السلف بل الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، ومع ذلك كانوا يتصرفون فيه

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 380)

________________________________________

تصرف الملاك فسقط ما يتوهم منه انه كان اباحة.

هذا هو الصحيح.

والثانى يشترطان كالهبة.

وفرق هنا بين التمليك وبين نقل الحق أو اليد إلى غيره، كلين شاة الاضحية أو صوفها أو تنازل إحدى الضرتين عن نوبتها للاخرى (فرع)

لا يملك الموهوب الهبة الا بقبضها، فقد روى عروة عن عائشة رضى الله عنه ان ابا بكر رضى الله عنه نحلها جذاذ عشرين وسقا من ماله بالعالية

فلما مرض قال: يا بنية ما أحد أحب إلى غنى بعدى منك، ولا أحد أعز على فقرا منك، وكنت نحلتك جذاذ عشرين وسقا وددت انك حزتيه أو قبضتيه، وهو اليوم مال الوارث اخواك واختاك، فاقتسموا على كتاب الله عزوجل.

وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: ما أبال أقولام ينحلون أولادهم، فإذا مات أحدهم قال: مالى وفى يدى.

وإذا مات هو قال: كنت نحلته ولدى، لا نحلة الا نحلة يحرز الولد دون الوالد فان مات ورثه) فإذا مات الواهب أو الموهوب له قبل القبض، فان قلنا بانه عقد يؤول إلى اللزوم لم يبطل بموت احد المتعاقدين بل يقوم ورثته مقامه، وهذا قول أكثر اصحابنا، وهو قو أبى الخطاب من الحنابلة حيث يقول: إذا مات الواهب قام وارثه مقامه في الاذن في القبض والفسخ.

وان قلنا بقول بعض الاصحاب بانه من العقود الجائزة يبطل بموت أحد المتعاقدين كالوكالة والشركة، وهو قول الامام أحمد حيث قال في رواية أبى طالب وأبى الحارث في رجل اهدى هدية فلم تصل إلى المهدى حتى مات، فانها تعود إلى أصحابها ما لم يقبضها.

وروى باسناده عن ام كلثوم بنت سلمة قالت (لما تزوج رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ سلمة قال لها (انى قد اهديت إلى النجاشي حلة وأواقى مسك، ولا أرى النجاشي الا قد مات، ولا أرى هديتي الا مردودة على، فان ردت فهى لك.

قالت فكان مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وردت عليه هديته، فاعطى كل امرأة من نسائه أوقية من مسك وأعطى أم سلمة بقية المسك والحلة) ووجه ضعف القول بانفساخ العقد بموت أحدهما أن ليس المدار على القبول

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 381)

________________________________________

بل على الايلولة للزوم كما قررنا، وهو جار في الهدية والصدقة أيضا، ويجرى

الخلاف في الجنون والاغماء، ولولى المجنون قبضها قبل الافاقة وفرق الحنابلة بين المكيل والموزون وغيرهما، فالمكيل والموزون لا يصح التمليك بغير قبض أما في غيهما يصح بغير القبض لما روى عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا انهما قالا: الهبة جائزة إذا كانت معلومة قبضت أو لم تقبض، وهو قول مالك وابى ثور.

وعن احمد رواية اخرى لا تلزم الهبة في الجميع لا بالقبض، وهو قول أكثر أهل العلم.

قال المروزى: اتفق أبو بكر وعمر وعثمان وعلى، على ان الهبة لا تجوز الا مقبوضة، ويروى ذلك عن النخعي والثوري والحسن بن صالح والعنبري والشافعي وأصحاب الرأى لما ذكرنا ومن أصحابنا من قال: انما يستغنى عن القبض إذا تحقق الايجاب والقبول واستقر العقد بينهما، ولانه عقد تمليك فافتقر إلى الايجاب والقبول كالنكاح، وعلى هذا القول إذا حدث نماء في الهبة قبل القبض كانت للموهوب له، والمنصوص ان النماء بعد القبض كان للموهوب قال في الام: وإذا وهب الرجل للرجل جارية أو دار، فزادت الجارية في يديه، أو بنى الدار فليس للواهب الذى ذكر انه وهب للثواب ولم يشترط ذلك ان يرجع في الجارية، أي حال ما كانت زادت خيرا أو نقصت، كما لا يكون له إذا أصدق المرأة جاريه فزادت في يديها ثم طلقها ان يرجع بنصفها زائدة.

اه قلت: وليست الفطرة التى لزمت الموهوب له منفعة تعود عليه، وانما هي قربة صادفت محلها فلا شبه بينها وبين النماء عائد، والفطرة بذل واخراج والله تعالى أعلم بالصواب.

 

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

فان وهب لغير الولد وولد شيئا وأقبضه لم يملك الرجوع فيه، لما روى ابن عمر وابن عباس رضى الله عنهما رفعاه إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ (لَا يحل للرجل ان يعطى العطية فيرجع فيها الا الوالد فيما أعطى ولده)

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 382)

________________________________________

وان وهب للولد أو ولد الولد وان سفل جاز له أن يرجع للخبر، ولان الاب لا يتهم في رجوعه، لانه لا يرجع الا لضرورة أو لاصلاح الولد، وان تصدق عليه فالمنصوص ان له أن يرجع كالهبة.

ومن أصحابنا من قال لا يرجع، لان القصد بالصدقة طلب الثواب وإصلاح حاله مع الله عزوجل، فلا يجوز ان يتغير رأيه في ذلك، والقصد من الهبة إصلاح حال الولد، وربما كان الصلاح في استرجاعه فجاز له الرجوع.

وإن تداعى نسب مولود ووهبا له مالا لم يجز لواحد منهما أن يرجع لانه لم يثبت له بنوته، فإن لحق بأحدهما ففيه وجهان

(أحدهما)

أنه يجوز لانه ثبت أنه ولده

(والثانى)

لا يجوز لانه لم يثبت له الرجوع في حال العقد، وإن وهب لولده ووهب الولد لولده ففيه وجهان

(أحدهما)

يجوز لانه في ملك من يجوز له الرجوع في هبته

(والثانى)

لا يجوز لانه رجوع على غير من وهب له فلم يجز، وإن وهب لولده شيئا فأفلس الولد وحجر عليه ففيه وجهان

(أحدهما)

يرجع لانه حقه سابق لحقوق الغرماء.

 

(والثانى)

لانه تعلق به حق الغرماء فلم يجز له الرجوع كما لو رهنه

(فصل)

وإن زاد الموهوب في ملك الولد أو زال الملك فيه ثم عاد إليه فالحكم فيه كالحكم في المبيع إذا زاد في يد المشترى أو زال الملك فيه ثم عاد إليه ثم أفلس في رجوع البائع، وقد بيناه في التفليس (الشرح) حديث ابن عمر وابن عباس رواه طاوس أن ابن عمر وابن عباس رفعاه إلَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (لَا يحل للرجل أن يعطى العطية فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطى ولده، ومثل الرجل يعطى العطية ثم ايرجع فيها الا

الوالد فيما يعطى ولده.

ومثل الرجل يعطى العطية ثم يرجع فيها كمثل المكلب أكل حتى إذا شبع قاء ثم رجع في قيئه) أخرجه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه، وكذلك ابن حبان والحاكم وصححاه وقد استدل بالحديث على تحريم الرجوع في الهبة، لان القئ حرام فالمشبه به مثله، ووقع في رواية أخرى للبخاري وغيره: كالكلب يرجع في قيئه، وهى

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 383)

________________________________________

تدل على عدم التحريم، لان الكلب غير متعبد فالقئ ليس حراما عليه، وهكذا قوله: كمثل الكلب الخ، وتعقب بأن ذلك للمبالغة في الزجر كقوله صلى الله عليه وسلم فيمن لعب بالنردشير (فكأنما غمس يده في لحم خنزير) وأيضا الرواية الدالة على التحريم غير منافية للرواية الدالة على الكراهة على تسليم دلالتها على الكراهة فقط، لان الدال على التحريم قد دل على الكراهة وزيادة، وقد قدمنا في باب نهى المتصدق أن يشترى ما تصدق به من كتاب الزكاة عن القرطبى أن التحريم هو الظاهر من سياق الحديث.

وقدمنا أيضا أن الاكثر حملوه على التنفير خاصة لكون القئ مما يستقذر.

ويؤيد القول بالتحريم قوله صلى الله عليه وسلم (وليس لنا مثل السوء) في حديث ابن عباس عند أحمد والبخاري.

وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: لا يحل للرجل.

قال في الفتح: وإلى القول بتحريم الرجوع في الهبة بعد أن تقبض ذهب جمهور العلماء إلا هبة الوالد لولده، وذهب الحنفية والزيدية إلى حل الرجوع في الهبة دون الصدقة، إلا إذا حصل مانع من الرجوع، كالهبة لذى رحم ونحو ذلك من الموانع.

وقال الطحاوي: ان قوله (لا يحل) لا يستلزم التحريم.

قال وهو كقوله صلى الله عليه وسلم (لا تحل الصدقة لغنى) وانما معناه لا تحل له من حيث تحل

لغيره من ذوى الحاجة، وأراد بذلك التغليظ في الكراهة وقال الطبري: يخص من عموم هذا الحديث من وهب بشرط الثواب ومن كان والدا والموهوب له ولده والهبة لم تقبض، والتى ردها الميراث إلى الواهب لثبوت الاخبار باستثناء كل ذلك.

وأما ما عدا ذلك كالغنى يثيب الفقير ونحو من يصل رحمه فلا رجوع.

قال: ومما لا رجوع فيه مطلقا الصدقة يراد بها ثواب الآخرة.

قال ابن حجر: اتفقوا على أنه لا يجوز الرجوع في الصدقة بعد القبض وقد أخرج مالك عن عمر أنه قال: من وهب هبة يرجو ثوابها فهى رد على صاحبها ما لم يثب منها.

ورواه البيهقى عن ابن عمر مرفوعا وصححه الحاكم.

قال ابن حجر: والمحفوظ من رواية ابن عمر عن عمر ورواه عبد الله بن موسى مرفوعا، قيل وهو وهم وصححه الحاكم وابن حزم، ورواه ابن حزم أيضا عن

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 384)

________________________________________

أبى هريرة مرفوعا بلفظ (الواهب أحق بهبته ما لم يثب منها) وأخرجه أيضا ابن ماجة والدارقطني ورواه الحاكم من حديث الحسن عن سمرة مرفوعا بلفظ (إذا كانت الهبة لذى رحم لم يرجع.

ورواه الدارقطني من حديث ابن عباس.

قال ابن حجر وسنده ضعيف.

وقال ابن الجوزى: أحاديث ابن عمر وأبى هريرة وسمرة ضعيفة وليس منها ما يصح.

وأخرج الطبراني في الكبير عن ابن عباس مرفوعا (من وهب هبة فهو أحق بها حتى يثاب عليها، فان رجع في هبته فهو كالذى يقئ ويأكل منه) فان صحت هذه الاحاديث كانت مخصصة لعموم حديث طاوس الا أنها لم تثبت، كما رأيت من كلام ابن الجوزى وابن حجر وغيرهما من فقهاء المحدثين.

وقد استدل الجمهور بحديث الفصل على أن للاب أن يرجع فيما وهب لابنه، وقال أحمد (لا يحل للواهب أن يرجع في هبته مطلقا) ويؤيد ما ذهب إليه الجمهور

حديث عائشة عند أحمد والبخاري ومسلم وأبى داود والترمذي مرفوعا (ان أطيب ما أكلتم من كسبكم، وان أولادكم من كسبكم) وفى لفظ (ولد الرجل من أطيب كسبه فكلوا من أموالهم هنيئا) رواه أحمد وحديث جابر أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لى مالا وولدا وان أبى يريد أن يجتاح مالى، فقال (أنت ومالك لابيك) رواه ابن ماجه وحديث عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أن أعرابيا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ (أن أبى يريد أن يجتاح مالى، فقال أنت ومالك لوالدك، ان أطيب ما أكلتم من كسبكم، وان أولادكم من كسبكم، فكلوه هنيئا) رواه أحمد وأبو داود.

وقال الشافعي رضى الله عنه وأبو حنيفة ومالك: ومالك: ليس للوالد أن يأخذ من مال ولده الا بقدر حاجته، لحديث (ان دماءكم وأموالكم عليكم حرام، الخ.

الحديث متفق عليه وقال النووي في المنهاج وللاب الرجوع في هبة ولده وكذا لسائر الاصول على المشهور، قال الرملي، بالمعنى الاعم الشامل للهديه والصدقه على الراجح،

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 385)

________________________________________

بل يوجد التصريح بذلك في بعض النسخ، ولا يتعين الفور، بل له ذلك متى شاء وإن لم يحكم به حاكم، أو كان الولد صغيرا فقيرا مخالفا دينا للخبر وساقه.

واختص بذلك لانتفاء التهمة فيه، إذ ما طبع عليه من إيثاره لولده على نفسه يقضى بأبه إنما رجع لحاجة أو مصلحة، ويكره الرجوع من غير عذر، فإن وجد ككون الولد عاقا، أو يصرفه في معصية أنذره به فإن أصر لم يكره.

وبحث الاسنوى ندبه في العاصى وكراهته في العاق إن زاد عقوقه وندبه ان أزاله وإباحته إن لم يفد شيئا، والاذرعى ذهب إلى عدم كراهته إن احتاج

الاب لنفقة أو دين، بل ندبه حيث كان الولد غير محتاج له، ووجوبه في العاصى إن غلب على الظن تعينه طريقا إلى كفه عن المعصية، ويمتنع الرجوع كما بحثه البلقينى في صدقة واجبة كنذر وزكاة وكفارة، وكذا في لحم اضحية تطوع، لانه انما يرجع ليستقل بالتصرف وهو ممتنع هنا.

وكذا له الرجوع لسائر الاصول وان علوا أو سفلوا على المشهور، وأفهم كلامه اختصاص الرجوع بالواهب فلا يجوز ذلك لابيه لو مات ولم يرثه فرعه الموهوب له لمانع قام به وورثه.

جده، لان الحقوق لا تورث وحدها انما تورث بتبعية المال وهو لا يرثه.

ولا يملك الوالد الرجوع الا إذا كانت باقيه في ملك الابن، فان فان خرجت عن ملكه لم يكن له الرجوع فيها لانه ابطال لغير ملك الابن فإن عادت إليه بسبب جديد كبيع أو ارث أو وصية لم يملك الرجوع أيضا لان ملكها لم يستفده من جهة ابيه، أما ان عادت بفسخ أو اقالة فله الرجوع على أحد الوجهين.

(فرع)

إذا تداعى رجلان نسب مولود ووهب له كل منهما مالا فليس لواحد منهما أن يرجع في هبته لان نسبه لم يثبت لواحد منهما، أما إذا لحق بأحدهما ففيه وجهان

(أحدهما)

يجوز لثبوت البنوة

(والثانى)

لا يجوز لانه لم يكن ثبت له الرجوع في حال العقد والله تعالى أعلم بالصواب

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

فان وهب شيئا لمن هو دونه لم يلزمه أن يثيبه بعوض، لان

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 386)

________________________________________

القصد من هبته الصلة فلم تجب المكافأة فيه بعوض كالصدقه.

وان وهب لمن هو مثله لم يلزمه أيضا أن يثيبه، لان القصد من اكتساب المحبة وتأكيد الصداقه، وان وهب لمن هو أعلى منه ففيه قولان، قال في القديم: لم يلزمه أن

يثيبه عليه بعوض، لان العرف في هبة الادنى للاعلى أن يلتمس به العوض فيصير ذلك كالمشروط.

وقال في الجديد: لا يجب لانه تمليك بغير عوض فلا يوجب المكافأة بعوض كهبة انظير للنظير فان قلنا: لا يجب فشرط فيه ثوابا معلوما ففيه قولان

(أحدهما)

يصح لانه تمليك مال بمال فجاز كالبيع، فعلى هذا يكون كبيع بلفظ الهبة في الربا والخيار وجميع أحكامه.

 

(والثانى)

أنه باطل، لانه عقد لا يقتضى العوض فبطل شرط العوض كالرهن، فعى هذا حكمه حكم البيع الفاسد في جميع أحكامه، وان شرط فيه ثوابا مجهولا بطل قولا واحدا لانه شرط العوض، ولانه شرط عوضا مجهولا وان قلنا انه يجب العوض ففى قدره ثلاثة أقوال (أحدها) انه يلزمه أنه يعطيه إلى أن يرضى، لما روى ابن عباس رضى الله عنه (أن أعرابيا وهب للنبى صلى الله عليه وسلم هبة فأثابه عليها.

قال أرضيت قال لا، فزاده وقال أرضيت؟ فقال نعم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لقد هممت أن لا أتهب الا من قرشي أو أنصارى أو ثقفي)

(والثانى)

يلزمه قدر قيمته لانه عقد يوجب العوض، فإذا لم يكن مسمى وجب عوض المثل كالنكاح.

(والثالث) يلزمه ما جرت العادة في ثواب مثله، لان العوض وجب بالعرف فوجب مقداره في العرف، فان قلنا انه يجب العوض فلم يعطه ثبت له الرجوع، فان تلفت العين رجع بقيمتها، لان كل عين ثبت له الرجوع بها إذا تلفت وجب الرجوع إلى بدلها كالمبيع.

ومن أصحابنا من قال لا يجب لان حق الواهب في العين، وان نقصت العين رجع فيها، وهل يرجع بأرش ما نقص؟ فيه وجهان كالوجهين في رد القيمه إذا تلفت.

وان شرط عوضا مجهولا لم تبطل، لانه شرط ما يقتضيه العقد، لان العقد

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 387)

________________________________________

على هذا القول يقتضى عوضا مجهولا، وإن لم يدفع إليه العوض وتلف الموهوب ضمن العوض بلا خلاف، وإن شرط عوضا معلوما ففيه قولان

(أحدهما)

أن العقد يبطل، لان العقد يقتضى عوضا غير مقدر فبطل بالتقدير

(والثانى)

يصح لانه إذا صح بعوض مجهول فلان يصح بعوض معلوم أولى

(فصل)

وإن اختلف الواهب والموهوب له، فقال الواهب وهبتك ببدل وقال الموهوب له: وهبتني على غير بدل.

ففيه وجهان، أحدهما أن القول قول الواهب، لان لم يقر لخروج الشئ من ملكه إلا على بدل.

والثانى أن القول قول الموهوت له، لان الواهب أقر له بالهبة وادعى بدلا الاصل عدمه.

(الشرح) حديث ابن عباس رواه أحمد وابن حبان.

وقال الهيثمى: رجال أحمد رجال الصحيح، وأخرجه أبو داود والنسائي من حديث أبى هريرة بنحوه، وطوله الترمذي ورواه من وجه آخر، وبين أن الثواب كان ست بكرات، وكذا رواه الحاكم وصححه على شرط مسلم.

وقد روى أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي من حَدِيثُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ (كَانَ رَسُولُ الله صلى لله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها) أي يعطى المهدى بدلها.

والمراد بالثواب المجازات وأقله ما يساوى قيمة الهداية، ولفظ ابن أبى شيبة ويثيب ما هو خير منها.

وقد أعل حديث عائشة بالارسال.

قال البخاري: لم يذكر وكيع ومحاضر عن هشام عن أبيه عن جده عن عائشة، وقد استدل بعض المالكية به على وجوب المكافأة على الهدية إذا أطلق المهدى وكانت ممن مثله يطلب الثواب، كالفقير للغنى بخلاف ما يهبه الاعلى للادنى

ووجه الدلالة منه مواظبته صلى الله عليه وسلم، ومن حيث المعنى أن الذى أهدى قصد أن يعطى أكثر مما أهدى، فلا أقل من أن يعوض بنظير هديته، وبه قال الشافعي في القديم، ويجاب بأن مجرد الفعل لا يدل على الوجوب، ولو وقعت المواهبه كما تقرر في الاصول وذهبت الحنفية والشافعي في الجديد أن الهبة للثواب باطلة لا تنعقد لانها بيع

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 388)

________________________________________

مجهول، ولان موضع الهبة التبرع.

وفى رواية الفصل (إلا من قرشي الخ) وفى رواية أبى داود (وإيم الله لا أقبل هدية بعد يومى هذا من أحد إلا أن يكون مهاجريا أو قرشيا أو أنصاريا أو دوسيا أو ثقفيا) وسبب همه صلى الله عليه وسلم بذلك ما رواه الترمذي من حديث أبى هريرة قال (أهدى رجل من فزارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ناقة من إبله فعوضه منها بعض العوض فتسخطه، فسمعت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ على المنبر (إن رجالا من العرب يهدى أحدهم الهدية فأعوضه عنها بقدر ما عندي فيظل يسخط على) الحديث.

وقد كان ابن رسلان يحكى أن بعض أهل العلم والفضل يمتنع هو وأصحابه من قبول الهدية من أحد أصلا لا من صديق ولا من قريب ولا غيرهما.

وذلك لفساد النيات في هذا الزمان.

أما أحكام الفصل فقد قال النووي في المنهاج: ولا رجوع لغير الاصول في هبة مقيدة بنفى الثواب.

ومتى وهب مطلقا فلا ثواب إن وهب لدونه وكذا لا على منه في الاظهر.

قال في النهاية: كما لو أعاره داره إلحاقا للاعيان بالمنافع.

ولان العادة ليس لها قوة الشرط في المعارضات

(والثانى)

يجب الثواب لا طراد العادة بذلك، وكذلك لا ثواب له وإن نواه إن وهب لنظيره على المذهب، لان القصد من مثله الصلة وتأكد الصداقه

والطريق الثاني: طرد القولين السابقين، والهدية في ذلك كالهبه كما قاله النووي تفقها ونقله في الكفايه عن تصريح البندنيجى ومثل ذلك الصدقة.

وان اختار الاذرعى دليلا أن العادة متى اقتضت الثواب وجب هو أو رد الهديه والاوجه كما بحثه أيضا أن التردد ما إذا لم يظهر حالة الاهداء قرينة حاليه أو لفظيه دالة على طلب الثواب، والا وجب هو أو الرد لا محالة ولو قال.

وهبتك ببدل.

فقال بل بلا بدل، صدق المتهب بيمينه، لان الاصل عدم البدل.

ولو أهدى له شيئا على أن يقضى له حاجة فلم يفعل لزمه رده ان بقى والا فبدله كما قاله الاصطخرى، فإن كان فعلها حل، أي وإن تعين عليه تخليصه بناء على الاصح أنه يجوز أخذ العوض على الواجب إذا كان فيه كلفة، خلافا لما يوهمه كلام الاذرعى وغيره هنا

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 389)

________________________________________

فإن وجب الثواب على مقابل المذهب أو على البحث المار لتلف الهديه أو عدم إرادة المتهب ردها فهو قيمة الموهوب، أي قدرها يوم قبضه، ولو مثليا في الاصح، فلا يتعين للثواب جنس من الاموال بل الخيرة فيه للمتهب، والثانى يلزمه ما يعد ثوابا لمثله عادة، وقيل إلى أن يرضى ولو بإضعاف قيمته، فإن قلنا بوجوب إنابته ولم يثبه هو ولا غيره فله الرجوع في هبته ان بقيت وبدلها ان تلفت ولو وهب بشرط ثواب معلوم عليه، كوهبتك هذا على أن تثيبني كذا فقبل فالاظهر صحة العقد نظرا للمعنى إذ هو معاوضة بمال معلوم نصح، كما لو قال بعتك، والثانى بطلانه نظرا إلى اللفظ لتناقضه، فإن لفظ الهبة يقتضى التبرع، ومن ثم يكون بيعا على الصحيح، فيجرى فيه عقب العقد أحكامه كالخيارين كما مر بما فيه، والشفعة وعدم توقف الملك على القبض، والثانى يكون هبه نظرا للفظ فلا تلزم قبل القبض أو بشرط ثواب مجهول فالمذهب بطلانه لتعذر صحته بيعا

لجهالة العوض، وهبه لذكر الثواب بناء على الاصح أنها لا تقتضيه، وقيل تصح هبة بناء على أنها تقتضيه ولو بعث هدية لم يعده بالباء لجواز الامرين كما قاله أبو على خلافا لتصويب الحريري تعين تعديته بها في ظرف، أو وهب شيئا في ظرف من غير بعث، فإن لم يجر العادة برده، كقوصرة تمر (وهى الوعاء الذى يكنز فيه من نحو خوص ولا يسمى بذلك الا وهو فيه، والا فزنبيل) وكعلبة حلوى فهو هدية أو هبه أيضا تحكيما للعرف المطرد وكتاب الرسالة يملكه الكتوب إليه ان لم تدل قرينة على عودة، قاله المتولي وهو أوجه من قول غيره أنه باق على ملك الكاتب ويملك المكتوب له الانتفاع به على وجه الاباحة، والا ان اعتيد رده أو اضطربت العادة كما اقتضاه ابن المقرى فلا يكون هديه، بل أمانه في يده كالوديعه، ويحرم استعماله لانه انتفاع بملك غيره بغير اذنه الا في أكل الهديه منه ان اقتضته العادة عملا بها، ويكون عاريه حينئذ ويسن رد الوعاء حالا، قال الاذرعى: وهذا في مأكول، أما غيره فيختلف رد ظرفه باختلاف عادة النواحى، فيتجه في كل ناحية بعرفهم وفى كل قوم عرفهم باختلاف طبقاتهم، ولو ختن ولده وحملت له هدايا ملكها الاب.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 390)

________________________________________

وقضية ذلك أن ما جرت به عادة بعض أهل البلاد من وضع طاسة (صينية) بين يدى صاحب الفرح ليضع الناس فيها دراهم: وفى الاسكندرية رأيت الناس يكتبون قائمة بأسماء الواهبين ومقدار ما دفعوه في الطاسة وهم حريصون على رد ما يأخذونه في أفراح من أعطوهم وربما زاد بعضهم على ما أخذ، وفى القاهرة تفشو هذه العادة إلا أن الحرص على الرد أقل من الاسكندرية.

قال الرملي: ثم يقسم على المزين ونحوه يجرى في ذلك التفصيل، فإن قصد

المزين وحده أو مع نظر انه المعاونين له عمل بالقصد، وان أطلق كان ملكا لصاحب الفرح يعطيه لمن يشاء، وبهذا يعلم عدم اعتبار العرف هنا، أما مع قصد خلافه فظاهر، وأما مع الاطلاق فلان حمله على من ذكر من الاب والخادم وصاحب الفرح نظرا للغالب أن كلا من هؤلاء هو المقصود هو عرف الشرع، فيقدم على العرف المخالف له بخلاف مالا عرف للشرع فيه فيحكم بالعادة فيه.

قال الشافعي رضى الله عنه: إذا وهب الرجل شقا من دار فقبضه ثم عوضه الموهوب له شيئا فقبضه الواهب سئل الواهب، فإن قال: وهبتها للثواب كان فيها شفعة، وإن قال: وهبتها لغير الثواب لم يكن فيها شفعة، وكانت المكافأة كابتداء الهبة، وهذا كله في قول من قال: للواهب الثواب إذا قال أردته فأما من قال: لا ثواب للواهب إن لم يشترطه في الهبة فليس له الرجوع في شئ وهبه ولا الثواب منه، قال الربيع وفيه قول آخر، وإذا وهب واشترط الثواب فالهبة باطلة من قبل أنه اشترط عوضا مجهولا، وإذا وهب لغير الثواب وقبضه الموهوب فليس له أن يرجع في شئ وهبه، وهو معنى قول الشافعي: وإذا وهب الرجل للرجل هبه فلم يقبضها الموهبة له حتى مات، فإن أبا حنيفة كا يقول: الهبة في هذا باطل لا تجوز وبه يأخذ، ولا يكون له وصيه إلا أن يكون ذلك في ذكر وصيه، وكان ابن ليلى يقول: هي جائزة من الثلث اه.

(فرع)

إذا اختلف الواهب ولموهوب فقال الواهب: ببدل، وقال الموهوب له على غير بدل فوجهان.

أحدهما: القول قول الواهب لانه منكر لخروج الشئ من ملكه بغير بدل

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 391)

________________________________________

والثانى: القول قول الموهوب، لان المقر بالهبة والاصل فيها عدم البدل.

وقد ادعاه الواهب وأنكره الموهوب فالقول قول المنكر.

ولو وهبه وأقبضه

ومات ادعاه الوارث صدوره في المرض، وادعى المتهب كونه في الصحة صدق المتهب بيمينه، ولو أقاما بينتين قدمت بينة الوارث لان معها زيادة علم، ثم محل ما تقرر إن كان الولد حرا، ولو أبرأه من دين له عليه لم يملك الرجوع سواء أقلنا: إنه تمليك أم إسقاط، إذ لا بقاء للدين فأشبه ما لو وهبه شيئا فتلف، والله تعالى أعلم بالصواب.

 

قال المصنف رحمه الله تعالى

 

باب العمرى والرقبى العمرى هو أن يقول: اعمرتك هذه الدار حياتك، أو جعلتها لك عمرك وفيها ثلاث مسائل (إحداها) أن يقول: أعمرتك هذه الدار حياتك ولعقبك بعدك، فهذه عطية صحيحة، تصح بالايجاب والقبول، ويملك فيها بالقبض، والدليل عليه ما رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قال (أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه فإنها للذى أعطيها لا ترجع إلى الذى أعطاها لانه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث، والثانية أن يقول: أعمرتك هذه الدار حياتك، ولم يشرط شيئا ففيه قولان.

قال في القديم هو باطل لانه تمليك عين قدر بمدة فأشبه إذا قال أعمرتك سنة أو أعمرتك حياة زيد.

وقال في الجديد: هو عطية صحيحة، ويكون للمعمر في حياته ولورثته بعده وهو الصحيح، لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من أعمر عمرى حياته فهى له ولعقبه من بعده يرثها من يرثه من بعده) ولان الاملاك المستقرة كلها مقدرة بحياة المالك، وتنتقل إلى الورثة، فلم يكن ما جعله له في حياته منافيا لحكم الاملاك (والثالثة) أن يقول: أعمرتك حياتك، فإن مت عادت إلى إن كنت حيا وإلى ورثتي إن كنت ميتا فهى كالمسألة الثانية، فتكون على قولين.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 392)

________________________________________

أحدهما: تبطل.

والثانى تصح لانه شرط أن تعود إليه بعد ما زال ملكه أو إلى وارثه، وشرطه بعد زوال الملك لا يؤثر في حق المعمر فيصير وجوده كعدمه.

 

(فصل)

وأما الرقبى فهو أن يقول: أرقبتك هذه الدار أو دارى لك رقبى ومعناه وهبت لك وكل واحد منا يرقب صاحب، فإن مت قبلى عادت إلى، وان مت قبلك فهى لك، فتكون كالمسألة الثالثة من العمرى، وقد بينا أن الثالثة كالثانية فتكون على قولين، وقال المزني: الرقبى أن يجعلها لآخرهما موتا وهذا خطأ، لما روى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ من (أعمر عمرى أو أرقب رقبى فهى للمعمر يرثها من يرثه) .

 

(فصل)

ومن وجب له على رجل دين جاز له أن يبرئه من غير رضاه، ومن أصحابنا من قال: لا يجوز الا بقبول من عليه الدين لانه تبرع يفتقر إلى تعيين المتبرع عليه فافتقر إلى قبوله كالوصية والهبة، ولان فيه التزاما منه فلم يملك من غير قبوله كالهبه، والمذهب الاول، لانه اسقاط حق ليس فيه تمليك مال فلم يعتبر فيه القبول كالعتق والطلاق، والعفو عن الشفعة والقصاص، ولا يصح الابراء من دين مجهول لانه ازالة ملك لا يجوز تعليقه على الشرط فلم يجز مع الجهالة كالبيع والهبة.

(الشرح) حديثا جابر أخرجهما أحمد والبخاري ومسلم بلفظ (قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالعمرى لمن وهبت له) وفى لفظ عند أحمد ومسلم (قال: أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها، فمن أعمر عمرى فهى الذى أعمر حيا وميتا ولعقبه) وفى رواية عند أحمد والبخاري ومسلم وأبى داود والترمذي (العمرى جائزة لاهلها والرقبى جائز لاهلها) .

وفى رواية لاحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه (من أعمر رجلا عمرى له

ولعقبه فقد قطع قوله حقه فيها، وهى لمن أعمر وعقبه) وفى رواية لابي داود والنسائي والترمذي وصححه (ايما رجل اعمل عمرى له ولعقبه فإنها للذى يعطاها لا ترجع إلى من أعطاها لانه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث) وفى رواية عند

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 393)

________________________________________

أحمد ومسلم (إنما العمرى التى أجازها رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ يقول هي لك ولعقبك، فأما إذا قال: هي لك ما عشت فإنها ترجع إلى صاحبها) وفى رواية عند النسائي (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بالعمرى أن يهب الرجل للرجل ولعقبه الهبة ويستثنى إن حدث بك حدث ولعقبك فهى إلى وإلى عقبى إنها لمن أعطيها ولعقبه) ورواه الشافعي عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن طاوس عن حجر المدرى عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ العمرى للوارث، ورواه عن سفيان عن ابن جريج عن عطاء عن جابر مرفوعا (لا تعمروا ولا ترقبوا فمن أعمر شيئا أو أرقبه فهو سبيل الميراث) .

أما حديث عبد الله بن الزبير فقد رأيت نظيره عن أبى هريرة وزيد بن ثابت وفيه النهى عن الرقبى (لا ترقبوا.

من أرقب شيئا فهو سبيل الميراث) وفى لفظ (الرقبى جائزة) وهى عند أحمد وابى داود والنسائي، وفى لفظ عند احمد (جعل الرقبى للوارث) ورواه أحمد والنسائي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا تعمروا ولا ترقبوا فمن أعمر شيئا أو أرقبه فهو له حياته ومماته) .

قال الربيع: سألت الشافعي عمن أعمر عمرى له ولعقبه فقال: هي للذى يعطاها لا ترجع إلى الذى أعطاها فقلت: ما الحجة في ذلك، قال: السنة ثابتة من حديث الناس، وحديث مالك رضى الله عنه: أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن أبى سلمة بن عبد الرحمن عن جابر مر فوعا (أيما رجل أعمر عمرى له

ولعقبه فإنها للذى يعطاها لا ترجع إلى الذى أعطاها لانه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث) .

قال الشافعي: وبهذا نأخذ ويأخذ عامة أهل العلم في جميع الامصار بغير المدينة وأكابر أهل المدينة.

وقد روى هذا مع جابر زيد بن ثابت عنه صلى الله عليه وسلم فقلت للشافعي فإنا نخالف هذا فقال تخالفونه وأنتم تروونه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت.

إن حجتنا فيه أن مالكا قال.

أخبرني يحيى بن سعيد عن عبد الرحمن بن القاسم أنه سمع مكحولا الدمشقي يسأل القاسم بن محمد عن العمرى وما يقول الناس فيها فقال له القاسم ما أدركت إلا وهم على شروطهم في أموالهم وفيما أعطوا

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 394)

________________________________________

إلى أن قا الشافعي بعد حوار وحجاج.

وكذلك علمنا قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي العمرى بخبر ابن شهاب عن أبى سلمة عن جابر وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم فإذا قبلنا خبر الصادقين فمن روى هَذَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرجح مما روى هذا عن القاسم لا يشك عالم أن مَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أولى أن يقال به مما قاله ناس بعده، قد يمكن فيهم ان لا يكونوا سمعوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا بلغهم عنه شئ، وانهم أناس لا نعرفهم، فلان قال قائل لا يقول القاسم قال الناس إلا لجماعة مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أو من أهل العلم لا يجهلون للنبي صلى الله عليه وسلم سنة ولا يجتمعون أبدا من جهة الرأي ولا يجتمعون الا من جهة السنة.

(قوله) العمرى بضم وسكون الميم مع القصر.

قال في الفتح: وحكى ضم الميم مع ضم أوله.

وحكى فتح أوله مع السكون وهى مأخوذة من العمر وهو الحياة سميت بذلك لانهم كانوا في الجاهلية يعطى الرجل الرجل الدار ويقول له أعمرتك إياها، أي أبحتها لك مدة عمرك وحياتك فقيل لها عمرى لذلك.

والرقبى بوزنها مأخوذة من الرقبة، لان منهما يرقب الاخر متى بموت لترجع إليه، وكذا ورثته يقومون مقامه.

هذا أصلها لغة قال ابن حجر: ذهب الجمهور إلى أن العمرى إذا وقعت كانت ملكا للآخر، ولا ترجع إلى الاول الا إذا صرح باشتراط ذلك، والى أنها صحيحة جائزة.

وحكى الطبري عن بعض الناس والماوردي عن داود وطائفة وصاحب البحر عن قوم من الفقهاء أنها غير مشروعة، ثم اختلف القائلون بصحتها إلى ما يتوجه التمليك، فالجمهور أنه يتوجه إلى الرقباء كسائر الهبات حتى لو كان المعمر عبدا فأعتقه الموهوب له نفذ، بخلاف الواهب أو يتوجه إلى المنفعة دون الرقبة، وهو قول مالك والشافعي في القديم، وهل يسلك بها مسلك العارية أو الوقف؟ روايتان عند المالكية، وعند الحنفية التمليك في العمرى يتوجه إلى الرقبة، وفى الرقبى إلى المنفعة، وعنهم أنها باطلة.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 395)

________________________________________

وقد حصل من مجموع الروايات ثلاثة أحوال (الاول) أن يقول أعمرتكها ويطلق.

فهذا تصريح بأنها للموهوب له، وحكمها حكم المؤبدة لا ترجع إلى الواهب.

وبذلك قالت الحنفية.

لان المطلقة عندهم حكمها حكم المؤبدة.

وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ والجمهور.

وله قول آخر أنها تكون عارية ترجع بعد الموت إلى الملك.

وقد قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن المطلقة للمعمر والوثته من بعده كما تفيده الاحاديث التى مضى ذكرها الحال الثاني: أن يقول هي لك ما عشت، فإذا مت رجعت إلى فهذه عارية مؤقتة ترجح إلى المعير عند موت المعمر.

وبه قال أكثر العلماء، ورجحة جماعة من أصحابنا، والاصح عند أكثرهم لا ترجح إلى الواهب.

واحتجوا بأنه

شرط فاسد فيلغى.

واحتجوا بحديث جابر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حكم على الانصاري الذى أعطى أمه الحديقة حياتها أن لا ترجع إليه، بل تكون لورثتها ونصه: أن رجلا من الانصار أعطى أمه حديقة من نخيل حياتها فماتت فجاء إخوته فقالوا نحن فيه شرع سواء.

قال فأبى، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقسمها بينهم ميراثا) رواه أحمد ويؤيده حَدِيثُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى في العمرى مع الاستثناء بأنها لمن أعطيها، ويعارض ذلك ما في حديث جابر أيضا بلفظ (فأما إذا قلت: هي لك ما عشت فانها ترجع إلى صاحبها) ولكنه قال معمر كان الزهري يفتى به الحال الثالث: أن يقول هي لك ولعقبك من بعدك، أو يأتي بلفظ يشعر بالتأبيد، فهذا حكمها حكم الهبة عند الجمهور: وروى عن مالك أنه يكون حكمها حكم الوقف إذا انقرض المعمر وعقبه رجعت إلى الواهب، والاحاديث القاضية بأنها ملك للموهوب ولسقبه ترد عليه وقد ورد عن على رضى الله عنه أن العمرى والرقبى سواء.

وقال طاوس: من أرقب شيئا فهو على سبيل الميراث.

وقال الزهري: الرقبى وصية يعنى إذا أنا فهذالك وقال الحسن

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 396)

________________________________________

ومالك وأبو حنيفة: الرقبى باطلة، لما روى أنه صلى الله عليه وسلم أجاز العمرى وأبطل الرقبى.

وقال أحمد: هذا حديث لا نعرفه، ولا نسلم أن معناها ما ذكروه.

والخلاصة: إذا شرط في العمرى أنها للمعمر وعقبه فهذا تأكيد لحكمها وتكون للمعمر وورثته، وهذا قول جميع القائلين بها، وإذا أطلقها فهى للمعمر وورثته أيضا

لانها تمليك للرقبة فأشبهت الهبة، شرط أنك إذا مت فهى لى، فعن أحمد في احدى الروايتين عنه والشافعي في القديم والقاسم بن محمد وزيد بن قسط والزهرى ومالك وأبو سلمة بن عبد الرحمن وابن أبى ذئب وأبى ثور وداود: صحة العقد والشرط، ومتى مات المعمر رجعت إلى المعمر وعن أحمد في الرواية الاخرى عنه، وهو ظاهر مذهبه، والشافعي في الجديد وأبى حنيفة أنها تكون للمعمر إذا ثبت هذا فان العمرى يصح في العقار وغيره من الحيوان والثياب لانها نوع هبه فصحت في ذلك كسائر الهبات ومن ثم إذا قال: سكنى هذاه الدار لك عمرك أو اسكنها عمرك أو نحو ذاك فليس ذلك بعقد لازم لانه في التحقيق هبة المنافع، ولمنافع انما تستوفى بمضي الزمان شيئا فشيئا، فلا تلزم الا في قدر ما قبضه منها واستوفاه بالسكنى، وللمسكن الرجوع متى شاء، وأيهما مات بطلت الاباحه، وبهذا قال أكثر العلماء وجماعة أهل الفتوى، ومنهم الشعبى والثوري والنخعي والشافعي واسحاق وأحمد وأصحاب الرأى، وروى معنى ذلك عن حفصه رضى الله عنها، والله تعالى أعلم بالصواب

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 397)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله تعالى:

 

‌كتاب الوصايا

من ثبتت له الخلافة على الامة جاز له أن يوصى بها إلى من يصلح لها، لان أبا بكر رضى الله عنه وصى إلى عمر ووصى عمر رضى الله عنه إلى أهل الشورى رضى الله عنهم ورضيت الصحابة رضى الله عنهم بذلك

(فصل)

ومن ثبتت له الولاية في مال ولده ولم يكن له ولى بعده جاز له أن يوصى إلى من ينظر في ماله لما روى سفيان بن عيينة رضى الله عنه عن هشام بن

عروة قال: أوصى إلى الزبير تسعة مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، منهم عثمان أموالهم والمقداد وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود رضى الله عنهم فكان يحفظ عليهم أموالهم وينفق على أبنائهم من ماله، وان كان له جد لم يجز أن يوصى إلى غيره لان ولاية الجد مستحقة بالشرع فلا يجوز نقلها عنه بالوصية (الشرح) الوصايا جمع وصية كعطايا وعطية مأخودة من قولهم: وصيت الشئ أصيبه من باب وعد وصلته، ووصيت إلى فلان توصية وأوصيت إليه ايصاء، وفى السبعة (فمن خاف من موص) بالتخفيف والتثقيل، والاسم الوصاية بالكسر والفتح لغة، وهو وصى فعيل بمعنى مفعول والجمع الاوصياء، وأوصيت إليه بمال جعلته له، وأوصيته عليه وهذا المعنى لا يقتضى الايجاب، وأوصيته بالصلاة أمرته بها.

قال تعالى (ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون) وقوله (يوصيكم الله في أولادكم.

وفى حديث خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأوصى بتقوى الله، أي أمر فيعم الامر بأى لفظ كان، وهى في الشرع عهد خاص مضاف إلى ما بعد الموت والوصية في الخلافة أن يعهد لمن يصلح لها من بعده بتوليها.

والوصية بالمال التبرع به بعد الموت، والاصل فيها الكتاب والسنة والاجماع.

وأما الزبير فإنه ابن عَمَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة الذين مات رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عنهم راض، وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم على حراء فتحرك فقال اسكن حراء فما عليك الا نبى أو صديق أو شهيد، وكان عليه أبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 398)

________________________________________

وخبر ابن عيينة الذى ساقه المصنف رويناه في مسند أحمد عن سفيان بن عيينت عن هشام بن عروة عن أبيه قال: أوصى إلى الزبير سبعة من الصحابة،

منهم عثمان وابن مسعود وعبد الرحمن، فكان ينفق على الورثة من ماله، ويحفظ أموالهم ومناقب الزبير أجل من أن تحصى، ساق الذهبي بعضها في سير أعلام النبلاء.

قال تعالى (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية) إلخ.

الاية، قال مجاهد: الخير في القران كله المال (وانه لحب الخير لشديد) (إنى احببت حب الخير عن ذكر ربى) (فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا) وقال شعيب (إنى أراكم بخير) أي بغنى وأوجه ما قيل في الخير في القرآن ما قاله الشافعي رضى الله عنه: الخير كلمة يراد ما أريد بها بالمخاطبة بها.

قال تعالى (أولئك هم خير البرية) فقلنا: إنهم خير البرية بالايمان وعمل الصالحات لا بالمال، وقال تعالى (أولئك لهم خير) فقلنا: ان الخير المنفعة بالاجر لا ان لهم مالا، وقال (ان ترك خيرا الوصية) فقلنا: ان ترك مالا، لان المال هو المتروك.

وفى الوصية للاقربين ثلاثة تأويلات.

 

(أحدهما)

انهم الاولاد الذين لا يسقطون في الميراث دون غيرهم من الاقارب الذين يسقطون

(والثانى)

انهم الورثة من الاقارب كلهم.

(والثالث) انهم كل الاقارب من وارث وغير وارث، فدل ذلك على وجوب الوصية للوالدين والاقربين حقا واجبا وفرضا لازما، فلما نزلت آية المواريث فسخ فيها الوصية للوالدين وكل وارث وبقى فرض الوصية لغير الورثة من الاقربين على حاله، وهو قول طاوس وقتادة والحسن البصري وجابر بن زيد.

واختلف في القدر الذى يجب عليه ان يوصى منه على أقاويل.

(أحدها) انه الف درهم، وهو قول على بن ابى طالب

(والثانى)

خمسمائة وهذا قول النخعي (والثالث) تجب في قليل المال وكثيره، وهذا قول الزهري

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 399)

________________________________________

فهدا قول من جعل حكم الآية ثابتا، وذهب الفقهاء وجمهور أهل التفسير إلى نسخها بالمواريث، واختلفوا بأى آية نسخت، فقال ابن عباس نسخت بآية الوصايا بقوله تعالى (للرجال نصيب مما ترك) الخر وقال آخرون نسخت بقوله تعالى (وأولو الارحام بعضهم اولى ببعض) الآية.

والوصية على ثلاثة اقسام قسم لا يجوز وقسم يجوز ولا يجب وقسم مختلف في وجوبه فما التى لا يجوز فالوصية للوارث لحديث شر حبيل بن مسلم عن ابى امامه سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ (ان الله تعالى قد أعطى كل ذى حق حقه فلا وصيه لوارث) وأما التى تجوز ولا تجب فالوصية للاجانب وهذا مجمع عليه، وقد أوصى البراء بن معرور للنبى صلى الله عليه وسلم بثلث ماله فقبله ثم رده على ورثته.

واما التى اختلف فيها فالوصية للاقارب، وذهب اهل الظاهر مع من قدمنا ذكره في تفسير الآيه إلى وجوبها للاقارب تعالقا بظاهر قوله تعالى (الوصية للوالدين والاقربين بالمعروف حقا على المتقين) وبما ورد عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ مَنْ مات من غير وصية مات ميتة جاهليه، والدليل على انها غير واجبه للاقارب والاجانب، ماروى ابن عباس وعائشة وابن ابى اوفى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يوص، وحديث سعد بن ابى وقاص الذى فيه (انك ان تدع ورثتك اغنياء خيرا من ان تدعهم فقراء يتكففون الناس) فاقتصر صلى الله على وسلم في الوصيه على ما جعله خارجا مخرج الجواز لا مخرج الايجاب ثم بين ان غنى الورثة بعده أولى من فقرهم إلى الصدقة، ولان الوصيه لو وجبت لاجبر عليها ولاخذت من ماله عند موته ان امتنع منها كالديون والزكوات.

ولان الوصايا عطايا فأشبهت الهبات، فاما الآية فمنع الوالدين من الوصيه مع تقديم ذكرهما فيه دليل على نسخها.

وأما قوله صلى الله على وسلم من مات من غير وصيه مات ميتة جاهلية، فمحمول على أحد أمرين: أما وجوبها قبل النسخ، واما على من كانت عليه ديون وحقوق لا يوصل إلى أربابها الا بالوصية، فتصير بذكرها وادائها واجبه ويجوز الوصيه بتعيين الناظر في ماله بعد موته، فان كان له أب أو جد لم يجز أن يوصى إلى غره بالنظر، لان ولاية الجد مستحقه بالشرع.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 400)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

ومن ثبت له الولاية في تزويج ابنته لم يجز ان يوصى إلى من يزوجها، وقال أبو ثور: يجوز كما يجوز أن يوصى إلى من ينظر في ماله، وهذا خطأ لما روى ابن عمر قال (زوجنى قدامة بن مظمون ابنة اخيه عثمان بن مظعون فأتى قدامة رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: انا عمها ووصى ابيها، وقد زوجتها من عبد الله بن عمر، فقال صلى الله عليه وسلم: انها يتيمة لا تنكح الا بإذنها، ولان ولاية النكاح لها من يستحقها بالشرع فلا يجوز نقلها بالوصية كالوصية بالنظر في المال مع وجود الجد.

 

(فصل)

ومن عليه حق يدخله النيابة من دين آدمى أو حج أو زكاة أو رد وديعه جاز ان يوصى إلى من يؤدى عنه، لان إذا جاز أن يوصى في حق غيره فلان يجوز في خاصة نفسه أولى.

(الشرح) حديث ابن عمر رواه أحمد والدارقطني واورده الحافظ ابن حجر في التلخيص وسكت عنه، وقال الهيثمى في مجمع الزوائد: ورجال أحمد ثقات ويؤخذ من الحديث الذى نسوقه كاملا أن النبي صلى الله عليه وسلم أبطل وصية عثمان بن مظعون لاخيه قدامه في ابنته.

قال ابن عمر: توفى عثمان بن مظعون وترك ابنه له من خولة بنت حكيم بن أميه بن حارثه بن الاوقصى وأوصى إلى

اخيه قدامه بن مظعون.

قال عبد الله: وهما خالاى، فخطبت إلى قدامه بن مظعون ابنة عثمان بن مظعون فزوجنيها، ودخل المغيرة بن شعبه يعنى إلى امها فارغبها في المال، فحطت إليه وحطت الجارية إلى هوى أمها فأبتا حتى ارتفع أمرهما إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال قدامة بن مظمون: يارسول الله ابنة أخى أوصى بها إلى فزوجتها ابن عمتها فلم أقصر بها في الصلاح ولا في الكفاءة ولكنها امرأة وانما حطت إلى هوى أمها قال: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هي يتيمه ولا تنكح الا بإذنها، قال: فانتزعت والله منى بعد أن ملكتها فزوجوها المغيرة بن شعبة) والحديث

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 401)

________________________________________

دليل على ان الولى لا يجوز له ان يوصى إلى أخ له أو غيره لتزويجها خلافا لابي ثور الذى جعل الوصيه إلى من ينظر في تزويجها كالوصية إلى من ينظر في مالها، والحديث صريح وقول أبى ثور خطأ، ولان استحقاق الولاية في النكاح لا يتأسس بوصيه، وسيأتى تفصيل ذلك في أبواب المناكحات ان شاء الله.

(فرع)

إذا كان عليه دين دنيوى من حقوق الادميين أو دين أخروى من حقوق الله تعالى فانه يجوز له أن يوصى إلى من يتولى الاداء عنه لانه إذا كان يجوز له ان يوصى في اداء حقوق غيره فلان يوصى لمن يؤدى ما يتعلق بخاصة نفسه أولى.

وقال بعض الاصحاب: بوجوب الوصيه في مثل من عليه دين أو عنده وديعه أو عليه واجب يوصى بالخروج منه، فان الله تعالى فرض اداء الامانات، وطريقه في هذا الباب الوصيه فتكون فرضا عليه، وأما الوصية بجزء من ماله فليست بواجبه على أحد في قول الجمهور، وبذلك قال الشعبى والنخعي والثوري ومالك والشافعي وأصحاب الرأى وغيرهم.

وقال ابن عبد البر: أجمعوا على أن الوصية غير واجبة الا على من عليه حقوق بغير بينة، وأمانه بغير اشهاد الا طائفة شذت فأوجبتها وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:

(فصل)

ومن ملك التصرف في ماله بالبيع والهبة مالك الوصية بثلثا في وجوه البر، لما روى عامر بن سعد عن ابيه قال: مرضت مرضا أشرفت منه على الموت فَأَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعودني فقلت: يارسول الله لى مال كثير وليس يرثنى الا ابنتى أفأتصدق بمالى كله قال: لا، قلت: اتصدق بثلثي مالى قال: لا، قلت أتصدق بالشطر قال: لا، قلت أتصدق بالثلث قال: الثلث، والثلث كثير انك أن تترك ورثتك اغنياء خير من ان تتركهم عالة يتكففون الناس ولا يجب ذلك لقوله تعالى (وأولوا الارحام بعضمهم اولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين، الا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا) وفسر بالوصية، فجعل ذلك

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 402)

________________________________________

إليهم فد على انها لا تجب، ولانه عطيه لا تلزم في حياته فلم تلزم الوصية به قياسا على ما زاد على الثلث.

 

(فصل)

وان كانت ورثته فقراء فالمستحب ان لا يستوفى الثلث لقوله صلى الله عليه وسلم (الثلث كثير انك إن تترك وثتك اغنياء خير من ان تتركهم عالة يتكففون الناس) فاستكثر الثلث وكره أن يترك ورثته فقراء فدل على أن المستحب أن لا يستوفى الثلث.

وعن على رضى الله عنه أنه قال (لان أوصى بالخمس أحب إلى من أن أوصى بالثلث) وإن كان الورثة أغنياء فالمستحب أن يستوفى الثلث لانه لما كره الثلث إذا كانوا فقراء دل على أنه يستحب إذا كانوا أغنياء أن يستوفيه.

(الشرح) حديث عامر بن سعد بن أبى وقاص رواه الستة وأحمد في مسنده

بلفظ (جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني من وجع اشتد بى فقلت: يا رسول الله إنى قد بلغ بى من الوجع ما ترى وانا ذو مال ولا يرثنى الا ابتة لى افاتصدق بثلثي مالى؟ قال: لا، قلت: فالشطر يا رسول الله؟ قال: لا، قلت: فالثلث؟ قال: الثلث، والثلث كثير أو كبير، انك ان تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس) .

وفى رواية أكثرهم (جاءني يعودني في حجة الوداع) وفى لفظ (عَادَنِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مرضى فقال: أوصيت؟ قلت: نعم، قال: بكم قلت: بمالى كله في سبيل الله، قال: فما تركت لولدك؟ قلت: هم أغنياء، قال: أوصى بالعشر، فما زال يقول واقول حتى قال: أوصى بالثلث، والثلث كثير أو كبير) رواه النسائي وأحمد بمعناه الا أنه قال (قلت: نعم جعلت مالى كله في الفقراء والمساكين وابن السبيل) ورواه الشافعي عن سفيان عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه بلفظ: مرضت عام الفتح، وساق الحديث.

أما قوله تعالى (واولوا الارحام بعضهم اولى ببعض) الآية.

قيل انه أراد بالمؤمنين الانصار والمهاجرين قريضا، وفيه قولان

(أحدهما)

انه ناسخ للتوارث بالهجرة.

حكى سعيد عن قتادة قال: كان نزل

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 403)

________________________________________

في سورة الانفال (والذين امنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شئ حتى يهاجروا) فتوارث المسلمون بالهجرة، فكان لا يرث الاعرابي المسلم من قريبه المسلم شيئا حتى يهاجر، ثم نسخ ذلك.

وفى هذه الآية (وأولوا الارحام الخ) (الثاني) ان ذلك ناسخ لتوارث بالحلف والمؤاخاة في الدين، روى هشام ابن عروة عن ابيه عن جده واولوا الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله وذلك انا معشر قريش لما قدمنا المدينة قدمنا ولا أموال لنا، فوجدنا الانصار

نعم الاخوان فآخيناهم فأورثونا وأورثناهم، فآخى أبو بكر خارجه بن زيد.

وآخيت انا كعب بن مالك، فجئت فوجدت السلاح قد أثقله، فوالله لقد مات عن الدنيا ما ورثه غيرى حتى أنزل الله هذه الآية فرجعنا موارثنا وثبت عن عروة ان النبي صلى الله عليه وسلم اخى بين الزبير وبين كعب بن مالك فارثت كعب يوم أحد، فجاء الزبير يقوده بزمام راحلته، فلو مات يومئذ كعب عن الضح والريح لورثه الزبير، فانزل الله تعالى الآية، فبين تعالى أن القرابة أولى من الحلف، فتركت الوراثة بالحلف وورثوا بالقرابة قال ابن العربي: وأولوا الارحام بالاجماع لان ذلك يوجب تخصيصا ببعض المؤمنين، ولا خلاف في عمومها، وهذا حل اشكالها وأما أثر على كرم الله وجهه فانه يفيد استحباب النقص عن الثلث وهو من فقهه الذى لا يخلو من أثر عن النبي صلى اله عليه وسلم، وبهذا الفقه أخذ الشافعي رضى الله عنه من قوله صلى الله عليه وسلم (الثلث والثلث كثير) ولحديث ابن عباس قال (لو ان الناس غضوا من الثلث إلى الربع فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الثلث والثلث كثير) رواه أحمد والبخاري ومسلم، وقد اخذ ذلك من وصفه صلى الله عليه وسلم للثلث بالكثرة، ويبدو ان (أو) التى جاءت بين كثير وكبير جاءت من الراوى بعد عهد الترقيم لان ورود (كبير) هكذا بغير اعجام تقرأ كبير وتقرأ كثير فخروجا من حرج أن اللفظ النبوى أحدهما وضع اللفظان مفصولين بأو.

اما الاحكام: فان كل ما جاز الانتفاع به من مال ومنفعة جازت الوصية به

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 404)

________________________________________

وسواء كان المال عينا أو دينا حاضرا أو غائبا معلوما أو مجهولا مشاعا أو محوزا وتقدر الوصية بالثلث، وليس للوصي الزيادة عليه لحديث سعد (الثلث والثلث

كثير) وان نقص من الثلث جاز، وأولى الامرين به أن يعتبر حال الورثة، فان كانوا فقراء كان النقصان من الثلث أولى به من استيعاب الثلث لقول على كرم الله وجهه (لان أوصى بالخمس أحب إلى من أن أوصى بالثلث) وقد أورده الماوردى في الحاوى الكبير عن رواية أخرى (لان أوصى بالسدس أحب إلى من أن أوصى بالربع، وبالربع أحب إلى من الثلث) وان كان ورثته أغنياء وكان في ماله سعة فاستبقاء الثلث أولى به.

وقد قال عمر رضى الله عنه: الثلث وسط، لا بخس ولا شطط.

ولو استوعب الثلث من قليل المال وكثيره، ومع فقر الورثة وغناهم، وصغيرهم وكبيرهم، كانت وصيته ممضاة له.

فأما الزيادة على الثلث فهو ممنوع منها في قليل المال وكثيره، لان النبي صلى الله عليه وسلم منع سعدا من الزيادة عليه، فان وصى بأكثر من الثلث أو بجميع ماله نظرت فان كان له وارث كانت الوصية موقوفة على إجازته ورده.

فان ردها رجعت الوصية إلى الثلث، وان اجازها صحت.

ثم فها قولان

(أحدهما)

ان إجازة الورثة ابتداء عطية منه لا تتم الا بالقبض، وله فيها ما لم يقبض، وان كانت قبل القبض بطلت كالهبات

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

وينبغى لمن رأى المريض يجنف في الوصية ان ينهاه لقوله تعالى (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا) قال أهل التفسير: إذا رأى المريض يجنف على ولده أن يقول اتق الله ولا توص بمالك كله، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى سعدا عن الزيادة على الثلث.

 

(فصل)

والافضل أن يقدم ما يوصى به من البر في حياته لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الصَّدَقَةِ أفضل؟ قال

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 405)

________________________________________

أن تتصدق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الْفَقْرَ وَلَا تُمْهِلْ حَتَّى إذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ قلت لفلان كذا ولفلان كذا، ولانه لا يأمن إذا وصى به أن يفرط به بعد موته فإن اختار أن يوصى فالمستحب ان لا يؤخر الوصية لما روى ابْنِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال (ما حق امرئ مسلم عنده شئ يوصى يبيت ليلتين الا ووصيته مكتوبة عنده) ولانه إذا اخر لم يأمن أن يموت فجاة فتفوته.

 

(فصل)

وأما من لا يجوز تصرفه في المال - فان كان ممن لا يميز كالمعتوه والمبرسم ومن عاين الموت - لم تصح وصيته لان الوصية تتعلق صحتها بالقول ولا قول لمن لا يميز، ولهذا لا يصح اسلامه ولا توبته فلم تصح وصيته، فان كان صبيا مميزا أو بالغا مبذرا ففيه قولان

(أحدهما)

لا تصح وصيته، لانه تصرف في المال فلم يصح من الصبى والمبذر كالهبة

(والثانى)

تصح، لانه انما منع من التصرف خوفا من اضاعة المال ليس في الوصيه اضاعة المال، لانه ان عاش فهو على ملكه، وان مات لم يحتج إلى غير الثواب، وقد حصل له ذلك بالوصية.

(الشرح) قوله تعالى (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم) الايه.

في هذه الآية وجهان كل وجحه لا يطرد في كل الناس، لان الناس منهم من يصلح لهم ان يكون معنى الآيه ما روى عن سعيد بن جبير: إذا حضر الرجل الوصيه فلا ينبغى ان يقول أوصى بمالك، فان الله تعالى رزاق ولدك، ولكن يقول قدم لنفسك واترك لولدك، فذلك قوله تعالى (فليتقوا الله) ومنهم من يصلح له ما قال مقسم وحضرمي: نزلت في عكس هذا، وهو ان يقول للمحتضر من يحضره: امسك

على ورثتك، وابق لولدك، فليس أحد أحق بمالك من أولادك، وينهاه عن الوصيه فيتضرر بذلك ذووا القربى وكل من يستحق ان يوصى له، فقيل لهم، كما تخشون على ذريتكم وتسرون بان يحسن إليهم فكذلك سددوا القول في جهة المساكين واليتامى، واتقوا الله في ضررهم وهذان القولان مبنيان على وقت وجوب الوصية قبل نزول آية المواريث

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 406)

________________________________________

وأحسن ما قيل فيها ما حكاه الشيباني قال: كنا على قسطنطنية في عسكر مسلمة ابن عبد الملك فجلسنا يوما في جماعة من أهل العلم فيهم ابن الديلمى فتذاكروا ما يكون من أهوال آخر الزمان.

فقلت له: يا أبا بشر، ودى الا يكون لى ولد.

فقال لى: ما عليك، ما من نسمة قضى الله بخروجها من رجل الا خرجت أحب أو كره، ولكن ان أردت أن تأمن عليهم فاتق الله في غيرهم، ثم تلا الآية.

وقوله (يجنف) من جنف يجنف كسمع يسمع إذا جاز والاسم منه جنف وجانف.

قال الاعشى تجانف عن حجر اليمامة ناقتي

* وما قصدت من أهلها لسوائكا ومنه قوله تعالى (فمن خاف من موص جنفا) قال الشاعر هم المولى وان جنفوا علينا

* وإنا من لقائهم لزور وقال لبيد: إنى امرؤ منعت أرومة عامر

* ضيمي وقد جنفت على خصومى وقال تَعَالَى (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لاثم) أي مائل إليه روى أبو دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (إنَّ الرجل أو المرأة ليعمل بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار) وترجم النسائي الصلاة على من جنف في وصيته

اخبرنا على بن حجر أنبأنا هشيم عن منصور - وهو زاذان - عن الحسن ابن سمرة عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ان رجلا اعتق ستة مملوكين له عند موته ولم يكن له مال غيرهم، فلغ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فغضب من ذلك وقال (لقد هممت ألا أصلى عليه) ثم دعا مملوكيه فجزاهم ثلاثة اجزاء ثم أقرع بينهم فاعتق اثنين وارق أربعة، واخرجه مسلم بمعناه الا انه قال في آخره وقال قولا شديدا بدل قوله (لقد هممت الا أصلى عليه) قال الماوردى في تأويل قوله تعالى، جنفا أو إثما ثلاثة أقاويل

(أحدهما)

ان الجنف الميل، والاثم أن يأثم في أثرة بعضهم على بعض.

وهذا قول عطاء وابن زيد

(والثانى)

ان الجنف الخطأ والاثم العمد، وهذا قول السدى (والثالث) انه

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 407)

________________________________________

الرجل يوصى لولد بنيه وهو يريد بنيه.

وهذا قول طاوس.

فالاضرار في الوصية ان يوص بأكثر من الثلث، والاضرار في الدين أن يبيع بأقل من ثمن المثل ويشترى بأكثر منه.

وقد روى عكرمة عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الاضرار في الوصية من الكبائر، وقال تعالى (ووصى بها ابراهيم بنيه) الآيه والافضل أن يقدم ما يوصى به حال حياته، لحديث أبى هريرة الذى ساقه المصنف قَالَ (سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أي الصدقة افضل؟ قال: ان تتصدق وانت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الْفَقْرَ، وَلَا تُمْهِلْ حَتَّى إذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ قلت لفلان كذا ولفلان كذا) وقد أخرج هذا الحديث الشيخان وأصحاب السنن الا الترمذي، ورواه أحمد في مسنده ولفظه في كثرها (جاء رجل فقال يارسول الله: أي الصدقة أفضل أو أعظم أجرا؟ قال: أما وأبيك لنفتأن أن تصدق وأنت شحيح صحيح تخشى

الفقر وتأمل البقاء، ولا تمهل حتى إذا بلغت الروح الحلقوم قلت لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان) وقوله (لتفتأن بالبناء لما لم يسم فاعله من الفتيا.

وفى نسخة لتنبأن من النبأ وقوله (أن تصدق بتخفيف الصاد على حذف إحدى التاءين، وأصله أن تتصدق والتشديد على الادغام.

قوله (شحيح) قال صاحب المنتهى: الشح بخل مع حرص، قال الخطابى فيه ان المرض يقصر يد المالك عن بعض ملكه، وأن سخاوته بالمال في مرضه لا تمحو عنه سمة البخل، فلذلك شرط صحه البدن في الشح بالمال لانه في الحالتين يجد للمال وقعا في قلبه لما يأمله من البقاء فيخذر معه الفقر قال ابن بطال وغيره، لما كان الشح غالبا في الصحة فالسماح فيه بالصدقة أصدق في النية وأعظم للاجر بخلاف من يئس من الحياة ورأى مصير المال لغيره وقوله (حتى إذا بلغت الروح الحلقوم) أي قاربت بلوغه، إذ لو بلغته حقيقة لم يصح شئ من تصرفاته، والحلقوم مجرى النفس

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 408)

________________________________________

قوله (قلت لفلان كذا) قال ابن حجر: الظاهر أن هذا المذكور على سبيل المثال، وقال الخطابين: فلان الاول والثانى الموصى له، وفلان الاخير الوارث لانه إن شاء أبطله وإن شاء أجازه، والمقصود أن الحديث يدل على أن تنجيز وفاء الدين والتصدق في حال الصحة أفضل منه حال المرض لانه في حال الصحة يصعب عليه إخراج المال غالبا لما يخوفه به الشيطان ويزينه له من الامل في الحياة والحاجة إلى المال، قال تعالى (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء، والله يعدكم مغفرة منه وفضلا) وفى معنى الحديث قوله تعالى (وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت) الآية، وفى معنى الحديث أيضا ما أخرجه

الترمذي بإسناد حسن وصححه ابن حبان عن أبى الدرداء مرفوعا (مثل الذى يعتق ويتصدق عنه موته، مثل الذى يهدى إذا شبع) .

وأما حديث ابن عمر فقد أخرجه اصحاب الكتب الستة وأحمد في مسنده بلفظ (ما حق إمرئ مسلم ببيت ليلتين وله شئ يريد أن يوصى فيه إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه) ورواه الشافعي بلفظ (ما حق إمرئ يؤمن بالوصية) أي يؤمن بأنها حق كما حكاه ابن عبد البر عن ابن عيينة، ورواه ابن عبد البر والطحاوى بلفظ (لا يحل لامرئ مسلم له مال) وقال الشافعي: معنى الحديث ما الحزم والاحتياط للمسلم إلا أن تكون وصيته مكتوبة عنده، وكذا قال الخطابى، قوله: مسلم.

قال ابن حجر في فتح الباري: هذا الوصف خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له أو ذكر للتهييج لتقع المبادرة إلى الامتثال لما يشعر به من نفى الاسلام عن تارك ذلك، وصية الكافر جائزة في الجملة.

وحكى ابن المنذر فيه الاجماع.

قوله يبيت صفة لمسلم.

قوله ليلتين في رواية البيهقى وأبى عوانه.

ليلة أو ليلتين، ولمسلم والنسائي ثلاث ليال، واختلاف الروايات في هذا يدل على أنه للتقريب لا للتحديد، والمعنى لا يمضى عليه زمان وإن كان قليلا إلا ووصيته مكتوبة، وفيه إشارة إلى اغتفار الزمن اليسير، وكأن الثلاث غاية الاخير، ولذلك قال ابن عمر رضى الله عنه لم أبت ليلة منذ سمعت

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 409)

________________________________________

رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ ذلك إلا ووصيتي عندي، وفى تخصيص الليلتين والثلاث بالذكر تسامح في إرادة المبالغة، أي لا ينبغى أن يبيت زمنا ما وقد سامحناه في الليلتين والثلاث، فلا ينبغى له أن يتجاوز ذلك.

أما قوله المبرسم وهو الذى أصيب بعلة الورم في الدماغ يصاب صاحبه بصداع وكراهية للضوء

وزوال للعقل، وقيل انه الموت لان بر بالسريانية الابن والسام الموت، ومنه حديث شفاء من كل داء الا السام.

قيل وما السام، قال الموت.

إذا ثبت هذا: فإن الوصايا تشتمل على أربعة شروط وهى موصى وموصى له وموصى به وموصى إليه، فأما الفصل الاول وهو الموصى فمن شرطه أن يكون مميزا حرا، فإذا اجتمع فيه هذان الشرطان صحت وصيته في ماله مسلما كان أو كافرا، فأما المجنون فلا تصح وصيته لانه غير مميز.

وأما الصبى فإن كان طفلا غير مميز فوصيته باطلة، وان كان مراهقا ففى جواز وصيته قولان.

 

(أحدهما)

لا تجوز، وبه قال أبو حنيفة، واختاره المزني لارتفاع القلم عنه كالمجنون، لان الوصية عقد فأشبهت سائر العقود.

(والقول الثاني) وبه قال مالك ان وصيته جائزة لرواية عمرو بن سليم الزرقى قال سئل عمر بن الخطاب ورضى الله عنه عن غلام يافع من غسان وصى لبنت عمه وله عشر سنين، وله وارث ببلد آخر، فأجاز عمر رضى الله عنه وصيته، ولان المعنى الذى لاجله منعت عقوده هو المعنى الذى أمضيت وصيته لان الحظ له في منع العقود لانه لا يتعجل بها نفعا، ولا يقدر على استدراكها إذا بلغ والحظ له في امضاء الوصية، لانه ان مات فله ثوابها وذلك أحط له من تركه عل ورثته، وان عاش وبلغ قدر على استدراكها والرجوع فيها، فعلى هذا لو أعتق في مرضه أو حابى أو وهب ففى صحة ذلك وجهان.

 

(أحدهما)

صحيح ممضى لان ذلك وصيه يعتبر من الثلث.

(والوجه الثاني) أنه باطل مردود لان الوصيه بقدر على الوجوع فيها ان صح، والعتق والهبه لا يقدر على الرجوع فيها ان صح.

فأما وصية المحجور عليه بالسفه.

فإن قيل يجواز وصية الصبى فوصية

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 410)

________________________________________

السفيه أجوز، وإن قيل ببطلان وصية الصبى بابطال عقوده بطلت وصية السفيه لبطلان عقوده وأما المحجور عليه بالفلس فإن ردها الغرماء بطلت، وإن أمضوها جازت، فإن قلنا: حجر الفلس كحجر المرض صحت، وإن قلنا: إنه كحجر السفه كان على وجهين، فأما العبد فوصيته باطلة، وكذلك المدبر وأم الولد والمكاتب لان السيد أملك منهم لما في أيديهم.

فأما الكافر فوصيته جائزة ذميا كان أو حربيا إذا أوصى بمثل ما يوصى به المسلم.

قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

وأما إذا أوصى بما زاد على الثلث، فإن لم يكن له وارث بطلت الوصية فيما زاد على الثلث، لان ماله ميراث للمسلمين، ولا مجيز له منهم فبطلت فإن كان له وارث ففيه قولان.

 

(أحدهما)

أن الوصية تبطل بما زاد على الثلث لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى سعدا عن الوصية بما زاد على الثلث، والنهى يقتضى الفساد، وليست الزيادة مالا للوارث فلم تصح وصيته به كما لو أوصى بمال للوارث من غير الميراث.

 

(والثانى)

أنها تصح وتقف على اجازة الوارث، فإن أجاز نفذت، وان ردها بطلت، لان الوصية صادفت ملكه، وانما يتعلق بها حق الوارث في الثاني فصحت ووقفت الاحازة كما لو باع ما فيه شفعه، فإن قلنا: على أنها باطلة كانت الاجازه هبة مبتدأة يعتبر فيها الايجاب والقبول باللفظ الذى تنعقد به الهبة، ويعتبر في لزومها القبض، وان كان الوصية عتقا لم يصح الا بلفظ العتق، ويكون الولاء فيه للوارث، وان قلنا انها تصح كانت الاجازة امضاء لما وصى به الموصى وتصح بلفظ الاجازة كما يصح العفو عن الشفعة بلفظ العفو، فإن كانت الوصيه عتقا كان الولاء للموصى، ولا يصح الرد والاجازة الا بعد الموت لانه لا حق

له قبل الموت فلم يصح اسقاطه كالعفو عن الشفعه قبل البيع.

 

(فصل)

فإن أجاز الوارث ما زاد على الثلث، ثم قال أجزت لانى ظننت أن المال قليل وأن ثلثه قليل، وقد بان أنه كثير لزمت الاجازة فيما علم والقول

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 411)

________________________________________

قوله فيما لم يعلم مع يمينه فإذا حلف لم يلزمه الاجازة في أحد القولين هبة، وفى الثاني إسقاط والجميع لا يصح مع الجهل به وان وصى بعيد فأجازه الوارث ثم قال أجزت لانى ظننت أن المال كثير، وقد بان أنه قليل ففيه قولان.

 

(أحدهما)

أن القول قوله كالمسألة قبلها

(والثانى)

أنه يلزمه الوصية لانه عرف ما أجازه ويخالف المسألة قبلها فان هناك لم يعلم ما أجازه.

(الشرح) الاحكام: الزيادة على الثلث ممنوع منها في قليل المال وكثيره لحديث سعد الذى مضى تخريجه وبيان طرقه الذى منع سعدا من الزيادة عليه، فإن وصى بأكثر من الثلث أو بجميع ماله نظر، فان كان له وارث كانت الوصية موقوفة على إجازته ورده، فان ردها رجعت الوصيه إلى الثلث، وان أجازها صحت، ثم فيها قولان.

 

(أحدهما)

أن اجازة الورثة ابتداء عطية منه لا تتم الا بالقبض وله الرجوع فيها ما لم يقبض، وان كانت قبل القبض بطلت كالهبات.

فان لم يكن للميت وارث فأوصى بجميع ماله ردت وصيته إلى الثلث في حق بيت المال.

وقال أبو حنيفة: وصيته إذا لم يكن له وارث نافذة في جميع ماله استدلالا بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما منع سعدا من الزيادة على الثلث قال: لان تدع ورثتك أغنياء خيرا من أن تدعهم عالة يتكففون الناس فجعل المنع من الزيادة حقا للورثة، فإذا لم يكن له وارث سقط المنع، وبما روى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قال لا وارث لمن وضع ماله حيث شاء، ولانه لما كانت الصدقة بجميع

ماله جازت وصيته بجميع ماله.

ودليلنا ما روى عن أبى الدرداء رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (ان الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة في حسناتكم ليجعلها لكم زيادة في أعمالكم) رواه الدارقطني ورواه أحمد والبيهقي والبزار وابن ماجه من حديث أبى هريرة بلفظ (ان الله تصدق عليكم عند موتكم بثل أموالكم زيادة لكم في أعمالكم) وقد ضعف الحافظ ابن حجر اسناده وأخرجه أيضا

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 412)

________________________________________

الدارقطني والبيهقي من حديث أبى أمامة بلفظ (أن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة في حسناتكم ليجعل لكم زكاة في أموالكم) وفى اسناده اسماعيل ابن عياش وشيخه عتبه بن حميد.

ولان الانصاري أعتق ستة مملوكين له لا مال له غيرهم فجزأهم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أجزاء على ما مضى ذكره، ولان مال من لا وارث له يصير إلى بيت المال إرثا لامرين.

أحدهما: أنه يخلف الورثة في الاستحقاق لماله.

والثانى: أنه يعقل عنه كورثته، فلما ردت الوصية إلى الثلث مع الوارث ردت إلى الثلث مع بيت المال لانه وارث، وقد يتحرر منه قياسان

(أحدهما)

أن كل جهة استحقت التركة بالوفاة منعت من الوصية بالجميع كالورثه

(والثانى)

أن ما منع من الوصايا مع الورثة منع منها مع بيت المال كالديون.

فأما الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لان تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة فهو أنه لم يجعل ذلك تعليلا لرد الزيادة على الثلث، ولو كان ذلك تعليلا لجازت الزيادة على الثلث مع غناهم إذا لم يصيروا عالة يتكففون الناس، وإنما قاله صلة في الكلام وتنبيها على الخط.

وأما قول ابن مسعود يضع ماله حيث يشاء، فماله الثلث وحده، وله وضعه حيث شاء، وأما الصدقة فهى كالوصية إن كانت في الصحة أمضيت مع وجود الوارث وعدمه، وإن كانت في المرض ردت إلى الثلث مع وجود الوارث وعدمه والله تعالى أعلم بالصواب.

 

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

واختلف أصحابنا في الوقت الذى يعتبر فيه قدر المال لاخراج الثلث، فمنهم من قال الاعتبار بقدر المال في حال الوصية لانه عقد يقتضى اعتبار قدر المال، فكان الاعتبار فيه بحال العقد، كما لو نذر أن يتصدق بثلث ماله، فعلى هذا لو أوصى وثلث ماله ألف فصار عند الوفاة ألفين لم تلزم الوصية في الزيادة، فان وصى بألف ولا مال له ثم استفاد مالا لم تتعلف به الوصية وان

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 413)

________________________________________

وصى وله مال فهلك ماله بطلت الوصية، ومنهم من قال: الاعتبار بقدر المال عند الموت وهو المذهب، لانه وقت لزوم الوصية واستحقاقها، ولانه لو وصى بثلث ماله ثم باع جميعه تعلقت الوصية بالثمن، فلو كان الاعتبار بحال الوصية لم تتعلق بالثمن، لانه لم يكن حال الوصية فعلى هذا لو وصى بثلث ماله وماله ألف فصار ألفين لزمت الوصية في ثلث الالفين، فإن وصى بمال ولا مال له ثم استفاد مالا تعلقت به الوصية، فان وصى بثلثه وله مال ثم تلف ماله تبطل الوصية.

(الشرح) الاحكام: تجوز الوصية بثلث ماله وإن لم يعلم قدره، واختلف أصحابنا هل يراعى بثلث ماله وقت الوصية أو عند الوفاة على وجهين

(أحدهما)

وهو قول مالك وأكثر البغداديين أنه يراعى ثلثه وقت الوصية، ولا يدخل فيها ما حدث بعده من زيادة لانها عقد، والعقود لا يعتبر فيها ما بعدها.

(والوجه الثاني) وهو قول أبى حنيفة وأكثر البصيريين أنه يراعى ثلث ماله

وقت الموت ويدخل فيه ما حدث قبله من زيادة، لان الوصايا تملك بالموت، فاعتبر بها وقت ملكها، فعلى هذين الوجهين إن وصى بثلث ماله ولا مال له ثم أفاد مالا فعلى الوجه الاول تكون الوصية باطلة اعتبارا بحال الوصية، وعلى الوجه الثاني تكون الوصية جائزة اعتبارا بحال الموت.

وعلى هذا لو وصى بفرس من خيله وهو لا يملك فرسا ولا خيلا ثم ملك قبل الموت خيولا صحت الوصيه ان اعتبر بها حال الموت، وبطلت ان اعتبر بها حال القول، وعلى هذا القول لو وصى بثلث ماله وله مال فهلك ماله وافاد غيره صحت الوصيه في المال المستفاد إن اعتبر بها حال الموت، وبطلت ان اعتبر بها حال الوصيه.

قال المصنف رحمه الله.

 

(فصل)

وأما الوصية بما لا قربة فيه كالوصيه للكنيسة والوصيه بالسلاح لاهل الحرب فهى باطله لان الوصيه إنما جعلت له ليدرك بها ما فات ويزيد بها الحسنات ولهذا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (ان الله تعالى أعطاكم ثلث

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 414)

________________________________________

أموالكم في آخر آجالكم زيادة في حسناتكم) وما ذكرناه ليس من الحسنات فلم تصح فيه الوصية، فإن وصى ببيع ماله من رجل من غير محاباة ففيه وجهان

(أحدهما)

يصح لانه قصد تخصيصه بالتمليك

(والثانى)

لا يصح لان البيع من غير محاباة ليس بقربة، فلم تصح الوصية به، وإن وصى لذمى جاز، لما روى أن صفية وصت لاخيها بثلثها ثلاثين ألفا وكان يهوديا، ولان الذمي موضع للقربة، ولهذا يجوز التصدق عليه بصدقة التطوع فجازت له الوصية، فإن وصى لحربي ففيه وجهان:

(أحدهما)

أنه لا تصح الوصية، وهو قول أبى العباس بن القاصر، لان القصد بالوصية نفع الموصى له، وقد أمرنا بقتل الحربى وأخذ ماله فلا معنى

للوصية له

(والثانى)

يصح وهو المذهب لانه تمليك يصح للذمي فصح للحربى كالبيع.

 

(فصل)

واختلف قول الشافعي رحمه الله تعالى فيمن وصى لقاتله فقال في أحد القولين: لا يجوز لانه مال يستحق بالموت فمنع القتل منه كالميراث، وقال في الثاني يجوز لانه تمليك يفتقر إلى القبول فلم يمنع القتل منه كالبيع، فإن قتلت أم الولد مولاها عتقت لان عتقها ليس بوصية، بدليل أنه لا يعتبر من الثلث فلم يمنع القتل منه.

فإن قتل المدبر مولاه فإن قلنا ان التدبير عتق بالصفة عتق لانه ليس بوصية، وإنما هو عتق بصفة وقد وجدت الصفه فعتق، وان قلنا إنه وصية وقلنا ان الوصية للقاتل لا تجوز لم يعتق، وان قلنا انها تجوز عتق من الثلث فإن كان على رجل دين مؤجل فقتله صاحب الدين حل الدين، لان الاجل حق للمقتول لا حظ له في بقائه، بل الحظ في إسقاطه ليحل الدين ويقضى فيتخلص منه (الشرح) حديث إن الله تعالى أعطاكم الخ.

فقد رواه الدارقطني عن أبى الدرداء وسكت ولم يتكلم عليه الحافظ بن حجر، ورواه وأخرجه أيضا أحمد وكذلك البيهقى وابن ماجه والبزار من حديث أبى هريرة.

قال الحافظ بن حجر وإسناده ضعيف، ورواه الدارقطني والبيهقي عن أبى أمامة، وفى اسناده اسماعيل ابن عياش، وهو ثقة في الشاميين ضعيف في غيرهم، وهو رواه عن شيخه عتبه

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 415)

________________________________________

ابن حميد الضبى صدوق له أوهام.

ورواه العقيلى في الضعفاء عن أبى بكر الصديق وفى إسناده حفص بن عمرو بن ميمون وهو متروك.

وعن حالد بن عبد الله السلمى عند ابن عاصم وابن السكن وابن قانع وأبى نعيم والطبراني وهو مختلف في صحبته، ورواه عنه ابنه الحارث وهو مجهول وأما وصية أم المؤمنين صفية رضى الله عنها فقد مضى تخريج الخبر في كتاب

الوصي فلا ضرورة لاعادته.

أما الاحكام فإن الوصية للبيع والكنائس باطلة لانها مجمع معاصيهم ومنتدى تأليههم للبشر، ومبادءة التثليث والتجسيد.

وكذلك الوصية لكتب التوراة والاناجيل لتبديلها وتغييرها، وسواء كان الموصى مسلما أو كافرا.

وأجازها أبو حنيفة من الكافر دون المسلم، وهكذا أجاز وصيته بالخمر والخنزيد يتصدقت بها على أهل الذمة.

وهذا فاسد لقوله تعالى (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم) وخالف أبا حنيفة صاحباه في الكنيسه ووافقنا فيما عداها.

فأما الوصيه للكافر فجائزة ذميا كان أو حربيا، وقال أبو حنيفة: الوصيه للحربى باطلة لان الله تعالى أباح للمسلمين أموال المشركين فلم يجز أن يبيح للمشركين أموال المسلمين وهذا فاسد من وجهين

(أحدهما)

أنه لما لم يمنع شرك الذمي لم يمنع شرك الحربى من الوصيه كالنكاح

(والثانى)

أنه لما جازت الهبة للحربى وهى أمضى عطية من الوصية كان أولى أن تجوز له الوصيه، وسواء كان الموصى مسلما أو كافرا.

فأما الوصية للمرتد فعلى ثلاثة أقسام ذكرناها في كتاب الوقف

(أحدهما)

أن يوصى لمن يرغب عن الاسلام فالوصية باطله لعقدها على معصية (الثاني) أن يوصى بها لمسلم فيرتد عن الاسلام بعد الوصية له فالوصيه جائزة لانها وصيه صادفت حال الاسلام (والثالث) أن يوصى بها لمرتد معين ففى الوصية وجهان، أحدهما باطلة.

والثانى: جائزة.

أما المحاباة في المرض، وهى أن يعاوض بماله ويسمع لمن عاوضه ببعض عوضه وهى أقسام (أحدها) المحاباة في البيع والشراء، ولا يمنع ذلك صحة في

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 416)

________________________________________

قول جمهور الفقهاء.

وقال أصحاب داود بن على: العقد باطل.

وعموم قوله تعالى: وأحل الله البيع دليل على صحة قول الجمهور، ولانه تصرف صدر من أهله في محله فصح كغير المريض، فلو باع في مرضه فرسا قيمته خمسون بعشرين فقد جابى المشترى بثلاثة أخماسه، وليس له المحاباة بأكثر من الثلث، فإن أجاز الورثة ذلك لزم البيع ن وإن لم يجيزوا واختار المشترى فسخ البيع فله ذلك لان الصفقة تبعضت عليه ن وإن اختار إمضاء البيع فالصحيح عند أصحاب أحمد وهو اختيار ابن قدامه في المغنى أنه يأخذ النصف للبيع بنصف الثمن ويفسخ البيع في الباقي.

وهذا أحد الوجهين عند أصحاب الشافعي.

والوجه الثاني أنه يأخذ ثلثى المبيع بالثمن كله، لانه يستحق الثلث بالمحاباة والثلث الآخر بالثمن.

وعند مالك له أن يفسخ ويأخذ ثلث المبيع بالمحاباة ويسمية أصحابه خلع الثلث ولاصحابنا كما ساق المصنف ذلك إذا وصى ببيع ماله من رجل من غير محاباة.

فإذا قلنا إن مجرد التخصيص بالتمليك يقوم مقام المحاباة صحت الوصية على هذا الوجه.

وإن قلنا إن البيع من غير محاباة ليس قربة والمراعى في الوصيه التقرب إلى الله تعالى لحديث أبى الدرداء لم تصح الوصيه (فرع)

تصح الوصيه للذمي باتفاق أهل العلم لا نعلم في ذلك خلافا، ولان الصدقة عليه جائزة فجازت الوصيه.

أما الحربى ففيه لاصحابنا وجهان

(أحدهما)

وهو المذهب وبه قال أحمد في المنصوص عنه وهو قول مالك أن الوصيه للحربى تصح وهو دار الحرب

(والثانى)

لا تصح وهو قول أبى حنيفه لقوله تعالى (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إلى قوله

تعالى انما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين) الآيه: فيدل ذلك على أن من قاتلنا لا يحل بره، وهو قول أبى العباس بن القاص من أصحابنا، لان القصد من الوصيه القربة إلى الله بنفع يعود إلى الموصى له، وقد أمرنا بقتل الحربى وأخذ سلبه، فلا معنى للوصيه مع قيام هذا كله.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 417)

________________________________________

دليلنا: أنه تمليك يصح للذمي فصح للحربى، ولما كانت تصح هبته فقد صحت الوصية له كالذمي، وقد رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعطى عمر حلة من حرير فقال (يا رسول الله كسوتنيها وقد قلت في حلة عطارد ما قلت، فقال: إنى لم أعطيكها لتلبسها، فكساها عمر أخا مشركا له بمكه) .

وعن أسماء بنت أبى بكر قالت (أتتنى أمي وهى راغبة تعنى عن الاسلام فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتتنى أمي وهى راغبه أفأصلها، قال: نعم وهذان الخبران فيهما صلة أهل الحرب وبرهم، والاية حجة لنا فيمن لم يقاتل، فأما المقاتل فقد نهى عن قوليه لا عن بره والوصية له، وقد رأينا كيف أن صلاح الدين الايوبي كان يبر المقاتلة من الصليبيين حتى كان مضرب المثل في المروءة وعلو الهمة فكان يداوى مرضاهم ويأسو جراحهم، بيد أنه لم يعف عمن طغى وتجبر وقطع طريق الحاج فأقسم لئن أظفره الله به ليضربن عنقه بيده، وعندما وقع في الاسر مع غيره من ملوك أوربة عفا عنهم جمعيا إلا ذلك فقتله بيده، برا بقسمه رغم ما عرضه الفرنجة عليه من فداء سخى بالمال بالغا ما بلغ قدره، فهذا هو طريق الشرع، وإن احتج بالمفهوم فإنه لا يراه حجة ثم قد حصل الاجماع على جواز الهبة.

والوصية في معناها، فأما المرتد فعند أبى الخطاب من أصحاب الامام أحمد تصح الوصية له كما تصح قبته.

وقال ابن أبى موسى: لا تصح لان ملكه غير مستقر ولا يرث ولا يورث فهو كالميت، ولان ملكه يزول عن

ماله بردته في قول جماعه منهم فلا يثبت له الملك بالوصية، وقد مضى مذهبنا فيه في الوقف.

(فرع)

الوصيه للقاتل فيها قولان.

أحدهما - وهو مذهب مالك رضى الله عنه تجوز الوصيه، وإن لم يرث كما تجوز الوصيه للكافر، وإن لم يرث، ولانه تمليك يراعى فيه القبول فلم يمنع منه القتل كالبيع، وهذا أحد الاوجه الثلاثه عند الحنابله حيث قال ابن حامد: تجوز الوصيه له.

وهو قول أبى ثور وابن المنذر أيضا.

والقول الثاني وهو قول أبى حنيفة رضى الله عنه وأحد الاوجه الثلاثة

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 418)

________________________________________

عند الحنابله: لا تصح الوصية له.

لان أحمد رضى الله عنه نص على أن المدبر إذا قتل سيده بطل تدبيره، وعندنا أنه يبطل إذا اعتبر التدبير وصية، أما إذا اعتبر صفة فإن التدبير ماض ويعتق بموت سيده ولو قتلا وهذا أيضا قول الثوري وأصحاب الرأى لان القتل يمنع الميراث الذى هو آكد من الوصية فالوصية أولى، ولان الوصية أجريت مجرى الميراث فيمنعها ما يمنعه، لان الميراث أقوى التمليكات فلما منع منه القتل كان أولى أن يمنع من الوصية.

فإذا تقرر هذان القولان فلا فرق بين أن يوصى له بعد جرحه إياه وجنايته عليه، وبين أن يوصى له قبل الجناية ثم يجنى عليه فيقتله في أن الوصية على قولين ولكن لو قال الموصى وليس بمجروح: قد وصيت بثلثي لمن يقتلين فقتله رجل لم تصح الوصية له قولا واحدا لامرين.

 

(أحدهما)

أنها وصية عقدت على معصية.

 

(والثانى)

أن فيها إغراء بقتله، فلو وصى بثلثه لقاتل زيد، فإن كان قبل القتل لم يجز لما ذكرنا، وإن كان بعد قتله جاز، وكان القتل تعريفا، وهكذا لو

وهب في مرضه لقاتله هبة أو حاباه في بيع أو أبرأه من حق فكل ذلك على قولين لانها وصية له تعتبر في الثلث، وهكذا لو أعتق في مرضه عبدا فقتل العبد سيده كان في عتقه قولان لانها وصية له، ولكن لو وهب هبة في صحته أو أبرأ من حق أو حابى في بيع أو أعتق عبدا، ثم إن الموهوب له قتل الواهب أو المبرأ قتل المبرئ أو المحابى قتل المحابى والعبد قتل السيد كان ذلك كله نافذا ماضيا، لان فعله في الصحة جرى مجرى الوصايا، ولو جرح رجل رجلا ثم إن المجروح وصى للجارح بوصية ثم جنى على الموصى آخر فذبحه جازت الوصية للجارح الاول، لان الذابح صار قاتلا، ولو لم يكن الثاني قد ذبحه ولكن لو جرحه صار الثاني والاول قاتلين، فردت الوصية للاول في أحد القولين، وهذا هو قول مالك وأبى ثور وابن المنذر وأحد القولين عند أحمد، وأظهر القولين للشافعي لان الهبة تصح فصحت الوصيه له كالذمي، وقال القاضى أبو بكر من الحنابله: لا تصح الوصيه له وهذا هو قول الثوري وأصحاب الرأى وأحد قولى الشافعي.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 419)

________________________________________

قال الماوردى في حاويه: وإذا قتل المدبر سيده فإن قيل: إن الدبير عتق بصفة لم يبطل عتقه، وإن قيل: إن التدبير وصيه ففى بطلان عتقه قولان لانه يعتق في الثلث، ولو قتلت أم الولد سيدها بعد عتقها صح عتقها قولا واحدا لامرين.

أحدهما: أن عتقها مستحق من رأس المال.

والثانى: أن في استبقائها على حالها إضرارا بالورثه لانهم لا يقدرون على بيعها، وخالف استبقاء رق المدبر للقدرة على بيعه ثم ينظر في أم الولد إذا كان قتلها عمدا - فان لم يكن ولدها باقيا قتلت قودا، وإن كان باقيا سقط القود عنها لان ولدها شريك للورثه في القود فيها ن وهو لا يستحق القود من أمه فسقط

حقه، وإذا سقط القود عنها في حق بعض الورثة سقط في حق الجميع اه.

ولو أن رجلا وصى لابن قاتله أو لابيه أو لزوجته صحت الوصيه لان القاتل غير الموصى له، ولو أوصى لعبد القاتل لم تجز في أحد القولين لانها وصيه للقاتل، ولو أقر رجل لقاتله بدين كان إقراره نافذا قولا واحدا لان الدين لازم وهو من رأس المال فخالف الوصايا، ولو كان للقاتل على المقتول دين مؤجل حل بموت المقتول ولا يبقى إلى أجله، لان الاجل حق لمن عليه الدين لا يورث عنه، وليس كالمال الموروث إذا منع القاتل منه صار إلى الورثة، وسواء كان القتل في الوصيه عمدا أو خطأ كما أن الميراث يمنع منه قيل العمد والخطأ، فلو أجاز الورثة الوصيه للقاتل، وقد منع منها في أحد القولين كان في إمضائها بإجازته وجهان من اختلاف قولين في إمضائها للوصيه للوارث.

فان قلنا: إن الوصية للوارث مردودة ولا تمضى باجازتهم ردت الوصية للقاتل ولم تمض باجازتهم، وإن قلنا إنه يمضى الوصية للوارث باجازتهم أمضيت الوصيه للقاتل باجازهم، والاصح إمضاء الوصيه للوارث بالاجازة، ورد الوصيه للقاتل مع الاجازة، لان حق الرد في الوصيه للقاتل انما هو للمقتول لما فيه من حسم الذرائع المفضيه إلى قتل نفسه فلم تصح الوصيه له.

باجازتهم،

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 420)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

واختلف قوله في الوصية فقال في أحد القولين لا تصح لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (لَا وصية لوارث) ولانها وصية لا تلزم لحق الوارث فلم تصح، كما لو أوصى بمال لهم من غير الميراث فعلى هذا الاجازة هبة مبتدأة يعتبر فيها ما يعتبر في الهبة.

والثانى تصح لما روى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: لا تجوز لوارث وصية

إلا ان شاء الورثة، فدل على أنهم إذا شاءوا كانت وصية، وليست الوصية في ملكه وإنما يتعلق بها حق الورثة في الثاني فلم يمنع صحتها كبيع ما فيه شفعة، فعلى هذا إذا أجاز الورثة نفذت الوصية

(فصل)

ولا تصح الوصية لمن لا يملك فإن وصى لميت لم تصح الوصية لانه تمليك فلم يصح للميت كالهبة، وإن وصى لحمل تيقن وجوده حال الوصية بأن وضعته لدون ستة أشهور من حين الوصية أو لستة أشهور وليست بفراش صحت الوصية لانه يملك بالارث فملك بالوصية، وان وضعته لستة أشهر وهى فراش لم تصح الوصية لانه يجوز أن يكون حدث بعد الوصيه فلم تصح الوصيه بالشك فإن ألقتله ميتا لم تصح الوصيه لانه لا يتيقن حياته حال الوصيه، ولهذا لا يحكم له بالارث فلم يحكم له بالملك بالوصية، فإن وصى لما تحمل هذه المرأة لم تصح الوصية.

وقال أبو إسحاق تصح والمذهب الاول لانه تمليك لمن لا يملك فلم يصح

(فصل)

فإن قال وصيت بهذا العبد لاحد هذين الرجلين لم يصح لانه تمليك لغير معين، فإن قال أعطوا هذا العبد أحد هذين الرجلين جاز لانه ليس بتمليك وانما هو وصية بالتمليك، ولهذا لو قال بعت هذا العبد من أحد هذين الرجلين لم يصح ولو قال لوكيله بع هذا العبد أحد هذين الرجلين جاز

(فصل)

فإن أوصى لعبده كانت الوصيه لوارثه، لان العبد لا يملك فكانت الوصيه للوارث، وقد بيناه، فإن وصى لمكاتبه صحت الوصيه، لان المكاتب يملك المال بالعقد فصحت له الوصيه، فإن وصى لام ولده صحت لانها حرة عند الاستحقاق، فإن وصى لمدبره وعتق من الثلث صحت له الوصيه

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 421)

________________________________________

لانه حر عند الموت فهو كأم الولد، فإن لم يعتق كانت الوصيه للوارث وقد بيناه فان وصى لعبد غيره كانت الوصيه لمولاه، وهل يصح قبوله من غير اذن المولى

فيه؟ وجهان

(أحدهما)

وهو الصحيح انه يصح ويملك به المولى يملك ما يصطاده بغير اذنه

(والثانى)

وهو قول أبى سعيد الاصطخرى أنه لا يصح لانه تمليك للسيد يعقد فلم يصح القبول فيه من غير اذنه، وهل يصح قبول السيد؟ فيه وجهان.

 

(أحدهما)

لا يصح لان الايجاب للعبد فلم يصح قبول السيد كالايجاب في البيع

(والثانى)

يصح لان القبول في الوصيه يصح لغير من أوجب له وهو الوارث بخلاف البيع.

(الشرح) حديث جابر أخرجه الدارقطني وصوب إرساله، ويبدو أن المصنف ساقه لاحتجاج الشافعي به في أحد قوليه، وإلا فحديث عمرو بن خارجه رواه البخاري ومسلم وأحمد والنسائي والترمذي وصححه والدارقطني والبيهقي (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ على ناقته وأنا تحت جرانها وهى تقصع بجرتها، وإن لغامها يسيل بين كنفى فسمعته يقول: ان الله قد أعطى كل ذى حق حقه فلا وصيه لوارث) وعن أبى أمامه عند أحمد والبخاري ومسلم وأبى داود والترمذي قَالَ (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: إن الله تعالى قد أعطى كل ذى حق حقه فلا وصيه لوارث) وأخرجه الدارقطني عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تجوز وصيه لوارث الا أن يشاء الورثة) وعن عمر وبن شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (لا وصية لوارث إلا أن يجيز الورثة) رواه الدارقطني.

وهذا الحديث قال فيه الشافعي رضى الله عنه: إن هذا المتن متواتر.

قال وجدنا أهل الفتيا ومن حفظنا عنهم من أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم لا يختلفون فِي إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عام الفتح: لا وصيه لوارث، ويأثرونه عمن يحفظونه

عنه ممن لقوه من أهل العلم، فكان نقل كافة عن كافه فهو أقوى من نقل واحد

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 422)

________________________________________

قلت: وقد ضعف الحافظ بن حجر جميع طرقه وقال: لا يخلو واحد منها من مقال ولكنه يسلم بأنها في مجموعها تصل إلى درجة الاحتجاج بها وقد عده السيوطي في الاحاديث المتواترة في كتابه الموسوم بالازهار المتناثرة في الاحاديث المتواترة.

وهو مروى عن أبى أمامة وعمرو بن خارجه وعلى وابن عباس وعمرو بن دينار وأبى جعفر وجابر بن الله وَعَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ وزيد بن أرقم والبراء بن عازب.

وقد نازع الفخر الرازي في كون هذا الحديث متواترا.

قال وعلى تقدير تسليم ذلك فالمشهور من مذهب الشافعي أن القرآن لا ينسخ بالسنة قال الحافظ بن حجر: لكن الحجة في هذا إجماع العلماء على مقتضاه، كما صرح به الشافعي وغيره.

ثم قال والمراد بعدم صحة وصية الوارث عدم اللزوم، لان الاكثر على أنها موقوفة على إجازة الورثة.

وقال الصنعانى في سبل السلام: الاقرب وجوب العمل به لتعدد طرقه، وإن نازع الفخر في تواتره، ولا يضر ذلك بثبوته.

وقبل إنها لا تصح الوصيه لوارث أصلا، وهو الظاهر لان النفى إما أن يتوجه إلى الذات، والمراد لا وصية شرعية.

وإما إلى ما هو أقرب إلى الذات وهو الصحة، ولا يصح أن يتوجه هاهنا إلى الكمال الذى هو أبعد المجازين.

وقد اختلف في تعيين ناسخ آية الوصية للوالدين، فقبل آية الفرائض، وقيل الاحاديث المذكورة في الباب.

وقيل دل الاجماع على ذلك وإن لم يتعين دليله أما الاحكام فقد قال الشافعي رضى الله عنه: أخبرنا ابن عيينه عن سليمان

الاحول عن مجاهد أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال (لا وصية لوارث) وما وصفت من أن الوصية للوارث منسوخة بآى المواريث وأن لا وصية لوارث مما لا أعرف عن احد ممن لقيت خلافا.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 423)

________________________________________

وإذا كانت الوصايا لمن أمر الله تعالى ذكره بالوصية منسوخة بآى المواريث وكانت السنه تدل على أنها لا تجوز لوارث، وتدل على أنها تجوز لغير قرابة دل ذلك على نسخ الوصية للورثة، وأشبه أن يدل على نسخ الوصايا لغيرهم قال ودل على أن الوصايا للوالدين وغيرهما ممن يرث بكل حال إذا كان في معنى غير وارث فالوصية له جائزة ومن قبل أنها إنما بطلت وصيته إذا كان وارثا، فإذا لم يكن وارثا فليس بمبطل للوصيه.

وإذا كان الموصى يتناول من شاء بوصيته كان والده دون قرابته إذا كانوا غير ورثه في معنى من لا يرث، ولهم حق القرابة وصلة الرحم.

وقال الشافعي رضى الله عنه في باب الوصيه للوارث من الام: ورأيت متظاهرا عند عامة من لقيت من أهل العلم بالمغازي (١) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في خطبته عام الفتح (لا وصية لوارث) فحكم الوصية لوارث حكم ما لم يكن، فمتى أوصى رجل لوارث وقفنا الوصيه، فان مات الموصى والموصى له وارث، فلا وصية له، وإن حدث للموصى وارث يحجبه أو خرج الموصى له من أن يكون يوم يموت وارثا له، بأن يكون أوصى صحيحا لامرأته ثم طلقها ثلاثا ثم مات مكانه، فالوصية لها جائزة لانها غير وارثه، وإنما ترد الوصيه وتجوز إذا كان لها حكم، ولا يكون لها حكم الا بعد موت الموصى حتى تجب أو تبطل.

ولو أوصى لرجل وله دونه وارث يحجبه فمات الوارث قبل الموصى فصار

الموصى له وارثا، أو لامرأة ثم نكحها ومات وهى زوجته بطلت الوصيه لهما معا، لانها صارت وصية لوارث

________________________________________

(١) لما كان أظهر ما في التاريخ من المحولات الاجتماعية والسياسيه هو المغازى فقد كان المؤرخون يسمون (أهل العلم بالمغازي)

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 424)

________________________________________

ولو أوصى لوارث وأجنبى بعيد أو دار أو ثوب أو مال مسمى بطل نصيب الواث وجاز للاجنبي ما يصيبه وهو النصف من جميع ما أوصى به للوارث والاجنبى، ولكن لو قال: أوصيت بكذا لفلان وفلان فإن كان سمى للوارث ثلثا ولاجنبي ثلثى ما أوصى به جاز للاجنبي ما سمى له، ورد عن الوارث ما سمى له، ولو كان له ابن يرثه ولابنه أم ولدته أو حضنته، أو أرضعته أو أب أرضعه أو زوجه أو ولد لا يرثه أو خادم أو غير فأوصى لهؤلاء كلهم أو لبعضهم جازت الوصيه لهم لان كل هؤلاء غير وارث وكل هؤلاء مالك لما أوصى له به لملكه لماله إن شاء منعه ابنه وإن شاء أعطاه إياه.

وقال الصنعانى في سبل السلام: وذهب الهادى وجماعة إلى جوازها مستدلين بقوله تعالى (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت) الآية، قالوا: ونسخ الوجوب لا ينافى بقاء الجواز، قلنا: نعم لو لم يرد هذا الحديث، فإنه ناف لجوازها إذ وجوبها قد علم نسخه من آية المواريث كما قال ابن عباس: كان المال للولد والوصية للوالدين، فنسخ الله سبحانه من ذلك ما أحب، فجعل للذكر مثل حظ الانثيين، وجعل للابوين لكل واحد منهما السدس وجعل للمرأة الثمن والربع وللزوج الشطر والربع.

وقوله في الحديث: إلا ان يشاء الورثة، دليل على صحة الوصية ونفاذها للوارث إن أجازها الورثة، لانهم قد أسقطوا حقهم.

وهو قول جمهور الفقهاء

ما عدا المزني من أصحاب الشافعي وداود بن على الظاهرى وأصحابه وبعض الحنابلة حيث قالوا: لا أثر لاجازتهم، والظاهر أن لهم أثرا في جوازها، لانه صلى الله عليه وسلم لما نهى عن الوصية للوارث قيدها بقوله إلا ان يشاء الورثة وأطلق لما منع الوصية عن الزائد عن الثلث، وليس لنا تقييد ما أطلقه ومن قيد هنالك قال: إنه يؤخذ القيد من التعليل بقوله (انك ان تذر..الخ) فإنه دل على أن المنع من الزيادة على الثلث كان مراعاة لحق الورثة، فان أجازوا سقط حقهم ولا يخلو عن قوة.

هذا في الوصية للوارث، واختلفوا إذا أقر المريض للوارث بشئ من ماله فأجازه الاوزاعي وجماعة مطلقا.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 425)

________________________________________

وقال أحمد: لا يجوز اقرار المريض لوارثه مطلقا، واحتج بأنه لا يؤمن بعد المنع من الوصية لوارثه أن يجعلها اقرارا، واحتج الاول بما يتضمن الجواب عن هذه الحجة فقال ان التهمه في حق المحتضر بعيدة وبانه وقع الاتفاق أنه لو أقر بوارث آخر صح اقراره مع أنه يتضمن الاقرار بالمال وبأن مدار الاحكام على الظاهر فلا يترك اقراره للظن المحتمل فإن أمره إلى الله.

(قلت) وهذا القول أقوى دليلا، واستثنى مالك ما إذا أقر لبنته ومعها من يشاركها من غير الولد، كابن العم قال: لانه يتهم في أنه يزيد لابنته، وينقص ابن العم، وكذلك استثنى ما إذا أقر لزوجته المعروف بمحبته لها وميله إليها، وكان بينه وبين ولده من غيرها تباعد لا سيما إذا كان له منها ولد في تلك الحال.

قلت: والاحسن ما قيل عن بعض المالكين واختاره الرويانى في بحر المذهب من أصحابنا: ان مدار الامر على التهمه وعدمها، فإن فقدت جاز والا فلا، وهى تعرف بقرائن الاحوال وغيرها.

وعن بعض الفقهاء: أنه لا يصح اقراره الا للزوجة بمهرها، وسياتى مزيد

ايضاح ان شاء الله.

وفائدة الخلاف أن الوصيه إذا كانت صحيحة فاجازة الورثة تنفيذ، فإذا اجازها الورثة لزمت الوصية، وان كانت باطله كانت هبة مبتدأه تفتقر إلى شروط الهبة من اللفظ والقبول والقبض، ولو رجع المجيز قبل القبض فيما يعتبر فيه القبض صح رجوعه.

وأما بقية الفصول من الوصيه للعبد والمكاتب وأم الولد وعبد غيره فعلى وجهها.

ولا تفتقر إلى مزيد والله تعالى أعلم بالصواب.

قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

وتجوز الوصيه بالمشاع والمقسوم لانه تمليك جزء من ماله فجاز في المشاع والمقسوم كالبيع، ويجوز بالمجهول كالحمل في البطن واللبن في الضرع وعبد من عبيد وبما لا يقدر على تسليمه كالطير الطائر والعبد الآبق لان الموصى له يخلف الميت في ثلثه كما يخلفه الوارث في ثلثه فلما جاز أن يخلف الوارث الميت

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 426)

________________________________________

في هذه الاشياء جاز أن يخلفه الموصى له، فان وصى بمال الكتابة جاز ذكرناه فان وصى برقبته فهو على القولين في بيعه.

 

(فصل)

فان وصى بما تحمله الجارية أو الشجرة صحت الوصيه لان المعدوم يجوز أن يملك بالسلم والمساقاة، فجاز أن يملك بالوصية، ومن أصحابنا من قال: أذا قلنا: ان الاعتبار بحال الوصيه لم تصح لانه لا يملك في الحال ما وصى به.

 

(فصل)

وتجوز الوصية بالمنافع لانها كالاعيان في الملك بالعقد والارث فكانت كالاعيان في الوصية ويجوز بالعين دون المنفعة وبالعين لواحد وبالمنفعه لآخر لان المنفعة والعين كالعين فجاز فيهما ما جاز في العينين ويجوز بمنفعة مقدرة بالمدة وبمنفعه مؤبدة لان المقدرة كالعين المعلومة والمؤبدة كالعين المجهولة فصحت الوصيه بالجمع.

 

(فصل)

وتجوز الوصيه بما يجوز الانتفاع به من النجاسات كالسماد والزيت النجس والكلب وجلد الميته لانه يحل اقتناؤها للانتفاع بها فجاز نقل اليد فيها بالوصية، ولا يجوز بما لا يحل الانتفاع به كالخمر والخنزير والكلب العقور لانه لا يحل الانتفاع بها ولا تقر اليد عليها فلم تجز الوصيه بها.

(الشرح) إذا أوصى لرجل بمعين من ماله، ولآخر بجزء مشاع منه كثلث المال وربعه فأجيز لهما، انفرد صاحب المشاع بوصيته من غير المعين ثم يشارك صاحب المعين فيه فيقتسمانه بينهما على قدر حقيهما فيه، ويدخل النقص على كل واحد منهما بقدر ماله في الوصية كمسائل العول وكما لو أوصى لرجل بماله ولاخر بجزء منه، فأما في حال الرد فان كانت وصيتهما لا تجاوز الثلث مثل أن يوصى لرجل بثلث ماله ولآخر بمعين قيمته سدس المال، فهى بحال الاجازة سواء إذ لا أثر للرد، وان جاوزت ثلثه رددنا وصيتهما إلى الثلث وقسمناه بينهما على قدر وصيتهما الا أن صاحب المعين يأخذ نصيبه من المعين والاخر يأخذ حقه من جميع المال، وقد رجح ابن قدامه من الحنابله أنهما يقتسمان الثلث على حسب مالهما في الاجازة وهذا قول ابن أبى ليلى وقال أبو حنيفة ومالك في الرد: يأخذ صاحب المعين نصيبه منه ويضم الاخر

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 427)

________________________________________

سهامه إلى سهام الورثة ويقتسمون الباقي على خمسة في مثل مسألة الخرقى لان له السدس، وللورثة أربعة أسداس وهو مثل كلام الخرقى من الحنابلة إلا أن الخرقى يعطيه السدس من جميع المال وعندهما أنه يأخذ خمس المائتين وعشر المعين.

واتفقوا على أن كل واحد من الوصيين يرجع إلى نصف وصيته، لان كل واحد منهما قد أوصى له بثلث المال وقد رجع إلى الوصيان إلى الثلث وهو نصف الوصيتين فيرجع كل واحد إلى نصف وصيته، ويدخل النقص على كل واحد منهما بقدر

ماله في الوصية.

قال الشافعي: ولو أوصى له بالثلث من دار أو أرض فأذهب السيل ثلثيها وبقى ثلثها، فالثلث الباقي للموصى له إذا خرج من الثلث، فسوى الشافعي رضى الله عنه بين استحقاق الثلثين مشاعا وبين ذهاب ثلثيها بالسيل محوزا في أن الوصيه تكون بالثلث الباقي بعد الاستحقاق والتلف بالسيل، والذى أراه الفرق بين المسألتين من أن استحقاقه لا يمنع من إمضاء الوصية بالثلث الباقي كله وذهاب الثلثين منها للسيل يمنع ان تكون الوصية بجميع الثلث الباقي، ويوجب أن تكون الوصية بثلث الثلث الباقي، فإذا استحق ثلثيها لم يمنع أن يكون الثلث الباقي شائعا في جميعها فصحت الوصيه في جميعه، فوجبت الوصيه في ثلث ما بقى وثلث ما هلك يكون كحم الاشاعة في الجميع باقيا.

ألا ترى لو أن رجلا اشترى من رجل نصف دار جميعها بيده، ثم استحق بعد الشراء نصفها كان النصف الباقي هو المبيع منها.

(فإن قيل) أفليس لو أوصى له برأس من غنمه فهلك جميعها إلا رأسا منها بقى، فإن الوصيه تتعين فيه ولا يكون الهالك وإن كان متميزا من الوصيه وغيرها فهلا كان ما هلك بالسيل كذلك.

قيل الوصيه برأس من غنمه يوجب الاشاعة في كل رأس منها؟ وإنما جعل إلى الوارث أن يعينه فيما شاء من ميراثه، وليس كذلك الوصيه بثلث الدار لان الثلث شائع في جميعها فافترقا فإذا تقرر ما وصفته من مذهب الشافعي في التسوية بين الاستحقاق والتلف وما رأيته من فافترق بين الاستحقاق والتلف ففرع على ذلك ما صح به الجواب.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 428)

________________________________________

(فرع)

إذا أوصى بشجرة مدة أو بما تثمر أبدا صحت لجواز ملك المعدوم ومن ثم لم يملك واحد من الموصى له أو الوارث إجبار الآخر على سقيها لانه

لا يجبر على سقى ملكه ولا سقى ملك غيره، وإذا أراد أحدهما سقى الشجرة على وجه لا يضر بصاحبه لم يملك الآخر منعه، وإذا يبست الشجرة كان حطبها للوارث، لان الموصى له ليس له منها إلا الثمرة، وان وصى له بثمرتها سنة بعينها لم يتحمل تلك السنة فلا شئ للموصى له.

وان قال: لك ثمرتها أول العام الذى تثمر فيه صح وله ثمرتها أول عام تثمر وكذلك إذا أوصى له بما تحمل شاته، وان أوصى لرجل بشجرة ولآخر بثمرتها صح وكان صاحب الرقبة قائما مقام الوارث وله ماله، وان وصى بلبن شاة وصوفها صح كما تصح الوصيه بثمرة الشجرة، وكذلك ان وصى بلبنها خاصة أو صوفها خاصة صح، ويقوم الموصى به دون العين.

(فرع)

تجوز الوصية بالمنافع فقد قال الشافعي رضى الله عنه: ولو أوصى بخدمة عبده أو بغلة داره وثمرة بستانه والثلث يحتمله جاز ذلك اه.

قلت: ان الوصايا بمنافع الاعيان جائزة كالوصايا بالاعيان لانه لما صح عقد الاجارة عليها صح بالاولى الوصيه بها، وسواء قدرت بمدة أو جعلت مؤبدة، وقال ابن أبى ليلى: ان قدرت بمدة تصح فيها الاجارة صحت، وان لم تقدر بمدة تصح فيها الاجارة بطلت، حملا للوصية على الاجارة.

وذهب الشافعي وأبو حنيفة وجمهور الفقهاء إلى جواز الوصية بها على التأبيد بخلاف الاجارة لان الو صايا تجوز مع الجهالة فإذا صح جوازها مقدرة ومؤبدة فقد ذكر الشافعي رضى الله عنه الوصيه بخدمة العبد وغلة الدار وثمرة البستان، فأما الوصية بخدمة العبد فله أن يؤاجره وله أن يستخدمه كما يجوز له أن يوصى لفلان بفرسه ولآخر بركوبها فيكون لاحدهما عينها وللآخر منفعتها عَلَى مَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(فرع)

الوصيه بالميته جائزة لانه قد يدبغ جلدها ويطعم بزاته لحمها، وكذلك

الوصيه بالروث والزبل، لانه قد ينتفع به في تسميد الارض واخصابها للغرس والزرع، ولاشك أن الشرع الحكيم بسماحته واحاطته بمصالح البشر لم يقف من

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 429)

________________________________________

النجاسات موقف العداء المطلق، فإنه متى ثبت أن لها فائدة ما في حياة الناس فلا بد أن تقتنص هذه الفائدة، وإننا في عصر تقدمت فيه العلوم الكيمياوئية حتى صنعت المواد السمادية من الهواء، فإنه يكثف بأجهرة التكثيف وستخرج منه أثقل الاجسام صلابه وثقلا كسلفات النشادر، ومع التطور العظيم في علوم الكيمياء والاسمدة، فان الاجماع بين المتخصصين منعقد على أن أعلى أنواع السماد وأسلمها للارض وأعظمها إخصابا للتربه هو الاسمدة العضوية كالروث والبراز الحيوانى والآدمي لهذا أجاز الوصية بكل نافع ولو كان نجسا.

أما الوصية بالخمر والخنيزير والكلب العقور فباطله، لان الانتفاع بها محرم فلو انه اوصى بجرة فيها خمر قال الشافعي رضى الله عنه: اريق الخمر ودفعت إليه الجرة، لان الجرة مباحة والخمر حرام.

فاما الوصية بالحيات والعقارب وحشرات الارض والسباع والذئاب فباطله لانه لا منفعة فيهجميعا.

فأما الوصية بالفيل فان كان منتفعا به فجائر لجواز ان يبيعه ويقوم في التركة ويعتبر من الثلث، وإن كان غير منتفع به فالوصيه باطلة.

فأما الفهد والنمر والشاهين والصقر فالوصيه بذلك جائزة لانها جوارح ينتفع بها للصيد وتقوم في التركة لجواز بيعها وتعتبر في الثلث، وأما الوصية بما تصيده الكلاب فباطلة لان الصيد لمن صاده

قال المصنف رحمه الله تعالى

(فصل)

ويجوز تعليق لوصية على شرط في الحياة لانها تجوز في المجهول فجاز تعليقها بالشرط كالطلاق والعتاق، ويجوز تعليقها على شرط بعد الموت

لان ما بعد الموت في الوصية كحال الحياة، فإذا جاز تعليقها على شرط في الحياة جاز بعد الموت.

 

(فصل)

وإن كانت الوصية لغير معين كالفقراء لزمت بالموت لانه لا يمكن اعتبار القبول فلم يعتبر، وإن كانت لمعين لم تلزم إلا بالقبول لانه تمليك لمعين

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 430)

________________________________________

فلم يلزم من غير قبول كالبيع، ولا يصح القبول إلا بعد الموت، لان الايجاب بعد الموت فكان القبول بعده.

فان قبل حكم له بالملك.

وفى وقت الملك قولان منصوصان.

 

(أحدهما)

تمليك بالموت والقبول، لانه تمليك يفتقر إلى القبول فلم يقع الملك قبله كالهبة.

 

(والثانى)

أنه موقوف، فان قبل حكمنا بأنه ملك من حين الموت، لانه لا يجوز أن يكون للموصى لان الميت لا يملك، ولا يجوز أن يكون للوارث لان الوارث لا يملك إلا بعد الدين والوصية، ولا يجوز أن يكون للموصى له لانه لو انتقل إليه لم يملك رده كالميراث، فثبت أنه موقوف.

وروى ابن عبد الحكم قولا ثالثا أنه يملك بالموت ووجهه أنه مال مستحق بالموت فانتقل به كالميراث.

 

(فصل)

وإن رد نظرت، فان كان في حياة الموصى لم يصح الرد لانه لا حق له في حياته فلم يملك اسقاطه كالشفيع إذا عفا عن الشفعه قبل البيع، وان رد بعد الموت وقبل القبول صح الرد لانه يثبت له الحق فملك اسقاطه كالشفيع إذا عفا عن الشفعه بعد البيع وان رد بعد القبول وقبل القبض ففيه وجهان

(أحدهما)

لا يصح الرد لانه ملكه ملكا تاما فلم يصح رده، كما لو قبضه

(والثانى)

أنه يصح الرد، وهو المنصوص لانه تمليك من جهة الآدمى من غير

بدل فصح رده قبل القبض كالوقف، وان لم يقبل ولم يرد كان للورثه المطالبة بالقبول أو الرد، فان امتنع من القبول والرد حكم عليه بالرد، لان الملك متردد بينه وبين الورثة، كما لو تحجر أرضا فامتنع من احيائها أو وقف في مشرعة ماء فلم يأخذ ولم ينصرف.

 

(فصل)

وان مات الموص له قبل الموصى بطلت الوصيه ولا يقوم وارثه مقامه لانه مات قبل استحقاق الوصية، وان مات بعد موته وقبل القبول قام وارثه مقامه في القبول والرد لانه خيار ثابت في تملك المال، فقام الوراث مقامه كخيار الشفعه.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 431)

________________________________________

(الشرح) تصح الوصية مطلقة ومقيدة فالمطلقة أن يقول: إن مت فثلثي للمساكين أو لفلان، والمقيدة أن يقول: إن مت من مرضى هذا أو في هذه البلدة أو في سفري هذا فثلثي للمساكين، فإن برأ من مرضه أو قدم من سفره أو خرج من البدة ثم مات بعد ذلك فليس له وصية، وبهذا قال الحسن والثوري والشافعي وأحمد وأبو ثور وأصحاب الرأى.

وقال مالك: إن قال قولا ولم يكتب كتابا فهو كذلك، وإن كتب كتابا ثم صح من مرضه وأقر الكتاب فوصيته بحالها ما لم ينقضها.

ولنا أنها وصية بشرط لم يوجد شرطها فبطلت: كما لو لم يكتب كتابا أو كما لو وصى لقوم فماتوا قبله، ولانه قيد وصينه بقيد فلا يتعداه كما ذكرنا، وإن قال لاحد عبديه: أنت حر بعد موتى، وقال للآخر: أنت حر إن مت في مرضى هذا فمات في مرضه فالعبدان سواء في التدبير.

وإن برأ من مرضه ذلك بطل تدبير المقيد وبقى تدبير المطلق بحاله، ولو وصى لرجل بثلثه وقال: ان مت قبلى فهو لعمرو وصحت وصيته على حسب ما شرطه له، وكذلك في سائر الشروط فَإِنَّ

النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (الْمُسْلِمُونَ على شروطهم) .

(فرع)

ولا يملك الموصى له الوصيه الا بالقبول في قول جمهور الفقهاء إذا كانت لمعين يمكن القبول منه لانه تمليك مال لمن هو من أهل الملك متعين، فاعتبر قبوله كالهبة والبيع، فأما ان كانت لغيره معين كالفقراء والمساكين ومن لا يمكن حصرهم كبنى هاشم وتميم أو على مصلحة كمسجد ومستشفى ومدرسة أو حج لم يفتقر إلى قبول ولزمت بمجرد الموت لان اعتبار القبول من جميعهم متعذر، فيسقط اعتباره كالوقف عليهم، ولا يتعين واحد منهم فيكتفى بقبوله، وذلك لو كان فيهم ذو رحم من الموصى به مثل ان يوصى بعبد للفقراء وأبوه فقير لم يعتق عليه، ولان الملك لا يثبت الموصى لهم بدليل ما ذكرنا من المسألة وإنما ثبت لكل واحد منهم بالفيض فيقوم قبضه مقام قبوله.

اما الادمى المعين فيثبت له الملك فيعتبر قبلوله لكن لا يعين القبول باللفظ بل يجزئ ما قام مقامه من الاخذ والفعل الدال على الرضى كقولنا في الهبة والبيع

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 432)

________________________________________

فإذا ثبت هذا: فان الوصية تشتمل على أمرين.

أحدهما: العطية، والثانى الولاية، فاما العطية فهو ما يوصى به الرجل من أمواله لمن أحب، فالوقت الذى يصح فيه قبول ذلك ودره بعد موت الموصى، فان قبل أو رد بعد موته صح، وكان على ما مضى من حكم القبول والرد، فأما في حياة الموصى فلم يصح قبوله ولا رده.

وقال أبو حنيفة: يصح الرد ولا يصح القبول، لان الرد أوسع حكما من القبول، وهذا فاسد لامور، منها ان الرد في مقابلة القبول لانهما معا يرجعان إلى الوصية، فلما امتنع أن يكون ما قبل الموت زمانا للقبول، امتنع أن يكون زمانا للرد وصار كزمان ما قبل الوصية الذى لا يصح فيه قبول ولا رد، وعكسه ما بعد الموت لما صح فيه القبول صح فيه الرد، ومنها ان الرد في حال

الحياة عرف، وقيل: وقت الاستحقاق، فجرى مجرى العفو عن القصاص قبل وجوبه، وعن الشفعة قبل استحقاقها، ومنها انه قبل الموت مردود عن الوصية فلم يكن رده لها مخالفا لحكمها.

وأما الوصية بالولاية على مال طفل أو تفريق ثلثه أو تنفيذ وصية فيصح قبولها وردها في حياة الموصى وبعد موته بخلاف وصايا العطايا، وكان قبوله في حياة العاقد أصح، وذلك عطية تقبل في زمان التمليك، ولو رد الوصية في حياة الموصى لم يكن له قبلوها بعد موته ولا في حياته، ولو قبلها في حياة الموصى صحت وكان له المقام عليها إن شاء والخروج منها إذا شاء في حياة الموصى وبعد موته.

وقال أبو حنيفة.

ليس له الخروج من الوصية بعد موت الموصى، ويجوز له الخروج منها في حياته إذا كان حاضرا، وان غاب لم يجز وهذا فاسد من وجهين

(أحدهما)

ان ما كان لازما من العقود استوى حكمه في الحياة وبعد الموت وما كان غير لازم بطل، فالموت والوصيه ان خرجت عن أحدهما صارت أصلا يفتقر إلى دليل

(والثانى)

لو كان حضور إلى شرطا في الخروج من الوصية لكان رضاه معتبرا، وفى اجماعهم على ان رضاه، وان كان حاضرا غير معتبر دليل على ان الحضور غير معتبر، ولا يخلو إذا رد الوصيه من خمسة أحوال،

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 433)

________________________________________

أ - أن يردها قبل موت الموصى، فلا يصح الرد لعدم وقوع الوصية فأشبه رد المبيع قبل ايجاب البيع، ولانه ليس بمحل للقبول فلا يكون محلا للرد كما قبل الوصية ب - أن يردها بعد الموت وقبل القبول، فيصح الرد وتبطل الوصية لا نعلم فيه خلافا لانه أسقط حقه في حال يملك قبوله واخذه فاشبه عفو الشفيع عن الشفعة بعد البيع.

ج - ان يرد بعد القبول والقبض فلا يصح الرد لان ملكه قد استقر فأشبه رده لسائر ملكه الا أن يرضى الورثة بذلك فتكون هبة

منه لهم تفتقر إلى شروط الهبة.

د - ان يرد بعد القبول وقبل القبض وفيه وجهان

(أحدهما)

يصح الرد لانهم لما ملكوا الرد من غير قبول ملكوا الرد من غير قبض، ولان ملك الوصي لم يستقر عليه قبل القبض فصح رده كما قبل القبول

(والثانى)

لا يصح الرد لان الملك يحصل بالقبول من غير قبض.

هـ - ان يمتنع عن القبول والرد وهذا يكون حكمه حكم الرد، لان الملك متردد بينه وبين الورثة، ومثاله من تحجر أرضا ثم امتنع من إحيائها.

أو وقف على جدول ماء فلم ياخذ ولم ينصرف وعطل مرور الماء على من ينتفعون به لارواء إنسان أو حيوان أو نبات، وفرق الحنابلة في (ج) بين المكيل والموزون وغيرهما وقد اختلف اصحابنا فيما قبل القبول وبعد الموت متى يحصل ملك الوصية للموصى له، وهل تكون باقية على ملك الموصى أو داخلة في ملك الورثة على وجهين.

أحدهما وهو قول ابن سريج وأكثر البصريين ان ملك الوصية منتقل عن الميت إلى ورثته ثم بالقبول تدخل في ملك الموصى له لزوال ملك الموصى بالموت.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وأكثر البغداديين أن الوصيه باقية على ملك الموصى بعد موته حتى يقبلها الموصى له فتدخل في ملكه بقبوله وتنتقل إليه عن الموصى لان الوصية تملك عنه كالميراث، ووجه هذا القول أن الوصية تملك بالقبول فلم يجز أن يتقدم الملك على قبولها كالهبات.

قال الشافعي: وهذا قول ينكسر، والقول الثاني وهو أصحها أن القبول يدل على حصول الملك بالموت فيكون الملك موقوفا مراعى، فان قبل دل على تقدم ملكه، وان لم يقبل دل على عدم ملكه، ووجه هذا القول انه لما امتنع ان يبقى للميت ملك وان الوارصث لا يملك الارث اقتضى أن يكون الملك موقوفا على

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 434)

________________________________________

قبول الموصى له ورده، وحقه في القبول باق ما لم يعلم، فإذا علم فان كان عند انفاذ

الوصايا وقسمة التركة فقبوله على الفور، فان قبل والا بطل حقه في الوصية، فاما بعد علمه وقبل انفاذا الوصايا وقسمة التركة، فمذهب الشافعي وقول جمهور أصحابه أن القول فيه على التراخي لاعلى الفور فيكون ممتدا ما لم يصرح بالرد حتى تنفذ الوصايا وتقسم التركة، وحكى أبو القاسم بن كج عن بعض أصحابنا ان القبول بعد علمه على الفور لانها عطيه كالهبات، وحكى ابن عبد الحكم عن الشافعي قولا ثالثا ان الوصية تدخل في ملك الموصى له بغير قبول ولا اختيار كالميراث، فاختلف أصحابنا في تخرجه قولا ثالثا للشافعي فخرجه أبو على بن أبى هريرة وأكثر متأخرى المتقدمين من أصحابنا قولا ثالثا تعليلا بالميراث، وامتنع أبو اسحاق المروزى واكثر قدامى المتقدمين من أصحابنا من تخريجه قولا ثالثا، وتأولوا رواية ابن عبد الحكم بأحد تأويلين، إما حكاية عن مذهب غيره، وإما على معنى أن بالقبول يعلم دخولها بالموت في ملكه، وفى طبيعة الوصية والفرق بينها وبين الميراث بأن الميراث عطية من الله تعالى فلم يراع فيه القبول، والوصية عطية من آدمى فروعي فيها القبول (فرع)

قال الشافعي: ولو مات قبل أن يقبل أو بعد موته، فإن مات الموصى له في حياة الموصى فالذي عليه جمهور الفقهاء أن الوصية له قد بطلت وليس لوارثه قبولها بعد موت الموصى.

وحكى عن الحسن البصري أن الوصية لا تبطل بموته، ولورثته قبولها.

قال الماوردى: وهذا فاسد من وجهين، أن الوصية في غير حياة الموصى غير لازمة، وما ليس بلازم من العقود يبطل بالموت، ولان الوصية له لا لورثته، وهو لا يملك الوصيه في حياة الموصى.

وإن مات الموصى له بعد موت الموصى لم يخل حال الموصى له قبل موته من ثلاثة أحوال، أحدها: أن يكون قد قبلها قبل موته وبعد موت الموصى فقد

بطلت برده وليس لوارثه قبولها بعد موته إجماعا.

والحال الثانية: أن يكون قد قبلها قبل موته وبعد موت الموصى فقد ملكها أو انتقلت بموته إلى وارثه، وسواء

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 435)

________________________________________

قبضها الموصى له في حياته أم لا، لان القبض ليس بشرط في تملك الوصيه، والحال الثالثة: أن يموت قبل قبوله ورده فعلى مذهب الشافعي يقوم وارثه مقامه في القبول والرد ولا تبطل الوصية بموته قبل القبول.

وقال أبو حنيفة: إذا مات قبل القبول بطلت الوصية له كالهبة، وهذا فاسد، لان ما استحقه في التركة لم يسقط بالموت كالدين، ولان كل سبب استحق به تملك عين بغير اختيار مالكها لم تبطل بموته قبل تملكها كالرد بالعيب، وفارقت الوصية الهبة من حيث إن الهبة قبل القبض غير لازمة فجاز أن تبطل بموت الموصى له قبل القبول لازمة فلم تبطل بالموت، فإذا ثبت أن الوصية لا تبطل بموت الموصى له قبل الرد والقبول فورثته يقومون مقامه في القبو والرد، ولهم ثلاثة أحوال، حال يقبل جميعهم الوصية، وحال يرد جميعهم الوصية، وحال يقبلها بعضهم ويردها بعضهم، فإن قبلوها جميعا فعلى القول الذى يجعل القبول دالا على عدم الملك بالموت، فالمالك للوصية بقبول الورثة هو الموصى له لا الورثة.

فأما على القول الذى يجعل القبلو ملكا، فقد اختلف أصحابنا هل تدخل الوصيه في ملك الموصى له بقبول ورثته أَمْ لَا، عَلَى وَجْهَيْنِ.

 

(أَحَدُهُمَا)

وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وأبى المرووذى: أن الوصيه يملكها الورثة دون الموصى له لحدوث الملك بقبولهم.

(والوجه الثاني) وهو الظاهر من المذهب، وبه قال أكثر البصريين وحكاه أبو القاسم بن كج عن شيوخه أن الوصيه يملكها الموصى له بقبول ورثته، وان كان القبول مملكا، لانها لو لم تدخل في ملكه لبطلت، لان الورثة غير موصى

لهم، فلم يجز أن يملك الوصيه من لم يوصى له، ولو رد الورثة بأجمعهم الوصية بطلت بردهم لها، والله أعلم وهو الموفق للصواب.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 436)

________________________________________

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:

 

‌بَابُ مَا يعتبر من الثلث

 

ما وصى به من التبرعات كالعتق والهبة والصدقة والمحاباة في البيع يعتبر من الثلث، سواء كانت في حال الصحة أو في حال المرض، أو بعضها في لصحة وبعضها في المرض، لان الزوم الجميع عند الموت، فأما الواجبات من ديون الآدميين وحقوق الله تعالى كالحج والزكاة فإنه إن لم يوص بها وتجب قضاؤها من رأس المال دون الثلث، لانه إنما منع من الزيادة على الثلث لحق الورثة، ولا حق للورثة مع الديون، فلم تعتبر من الثلث وإن وصى أن يؤدى ذلك من الثلث اعتبر من الثلث، لانها في الاصل من رأس المال فلما جعلها من الثلث علم أنه قصد التوفير على الورثة فاعترت من الثلث، وإن وصى بها ولم يقل إنها من الثلث، ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) أنه تعتبر من الثلث وهو ظاهر النص، لانها من رأس المال، فلما وصى بها علم أنه قصد أن يجعلها من جملة الوصايا فجعل سبيلها سبيل الوصايا.

 

(وَالثَّانِي)

وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إنه إن لم يقرن بها ما يعتبر من الثلث اعتبر من رأس المال، وان قرن بها ما يعتبر من الثلث اعتبر من الثلث، لانها في الاصل من رأس المال، فإذا عريت عن القرينة بقيت على أصلها، وان قرن بها ما يعتبر من الثلث علم أنه قصد أن يكون مصرفهما واحدا.

(والثالث) أنه تعتبر من رأس المال وهو الصحيح.

لانها في الاصل من رأس المال والوصية بها تقتضي التأكيد والتذكار بها، والقرينة تقتضي التسوية

بينهما في الفعل، لا في السبيل، فبقيت على أصلها.

 

(فصل)

وأما ما تبرع به في حياته ينظر فيه فإن كان في حال الصحة لم يعتبر من الثلث لانه مطلق التصرف في ماله لا حق لاحد في ماله فاعتبر من رأس المال، وان كان ذلك في مرض غير مخوف لم يعتبر من الثلث، لان الانسان لا يخلو من عوارض فكان حكمه حكم الصحيح، وان كان ذكك في مرض مخوف

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 437)

________________________________________

واتصل به الموت اعتبر من الثلث، لما روى عمران ابن الحصين (أن رجلا أعتق ستة أعبد له عند موته لم يكن له مال غيرهم، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ للرجل قولا شديدا ثم دعاهم فجزأهم فأفرع بينهم، فأعتق اثنين وأرق أربعة، ولانه في هذا الحالة لا يأمن الموت فجعل كحال الموت، وإن برئ من المرض لم يعتبر من الثلث لانه قد بان أنه لم يكن في ماله حق أحد، وان وهب في الصحة وأقبض في المرض اعتبر من الثلث لانه لم يلزم الا بالقبض وقد وجد ذلك منه في المرض.

 

(فصل)

وان باع في المرض بثمن المثل أو تزوج امرأة بمهر المثل صح العقد ولم يعتبر العوض من الثلث لانه ليس بوصية، لان الوصية أن يخرج ولم يخرج ههنا شيئا من غير عوض وان كاتب عبدا اعتبر من الثلث، لان ما يأخذ من العوض من كسب عبده وهو مال له فيصير كالعتق بغير عوض.

وان وهب له من يعتق عليه في المرض المخوف فقبله اعتبر عتقه من الثلث فإذا مات لم يرثه.

وقال أبو العباس: يعتبر عتقه من رأس المال ويرثه، لانه ليس بوصية، لانه لم يخرج من ملكه شيئا بغير عوض، والمذهب الاول، لانه ملكه بالقبول وعتق عليه، والعتق في المرض وصية، والميراث والوصيه لا يجتمعان، فلو

ورثناه بطل عتقه، وإذا بطل العتق بطل الارث فأثبتنا العتق وأبطلنا الارث

(فصل)

والمرض المخوف كالطاعون والقولنج وذات الجنب والرعاف الدائم والاسهال المتواتر، وقيام الدم والسل في انتهائه، والفالج الحادث في ابتدائه، والحمى المطبقه، لان هذه الامراض لا يؤمن معها معاجلة الموت فجعل كحال الموت.

فأما غير المخوف فهو كالجرب ووجع الضرس والصداع اليسير وحمى يوم أو يومين، واسهال يوم أو يومين من غير دم، والسل قبل انتهائه، والفالج إذا طال، لان هذه الامراض يؤمن معها معالجة الموت فإذا اتصل بها الموت علم أنه لم يكن موته من هذه الامراض، وان أشكل شئ من هذه الامراض رجع فيه إلى نفسين من أطباء المسلمين، ولا يقبل فيه قول الكافر، وان ضرب الحامل الطلق

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 438)

________________________________________

فهو مخوف لانه منه الموت، وفيه قول آخر انه مخوف لان السلامة منه أكثر (الشرح) حديث عمران بن حصين رواه أحمد ومسلم وأصحاب الاربعة بلفظ المصنف، وفى رواية لاحمد (أن رجلا أعتق عند موته ستة رجلة له فجاء ورثته من الاعراب، فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما صنع.

قال أو فعل ذلك لو علمنا ان شاء الله ما صلينا، فأقرع بينهم فأعتق منهم اثنين وأرق أربعه) ورواه أحمد وأبو داود عن أبى زيد الانصاري (أن رجلا أعتق ستة أعبد عند موته ليس له مال غيرهم فأعتق اثنين وأرق أربعه) وفى رواية أبى داود (لو شهدته قبل أن يدفن لم يدفن في مقابر المسلمين) وهذا النص تفسير للقول الشديد الذى أبهم في رواية عمران، وفيه تغليض وذم بالغان، لان الله تعالى لم يأذن للمريض بالتصرف الا بالثلث، فإذا تصرف في أكثر منه كان مخالفا لحكمه تعالى ومشابها لمن وهب غير ماله:

والحديثان يدلان على أن تصرفات المريض انما تنفذ من الثلث ولو كانت منجزة في الحال، ولم تضف إلى بعد الموت، وقد أسلفنا القول بالاجماع على عدم جواز الوصيه بأكثر من الثلث لمن كان له وارث، على أن التنجيز حال المرض المخوف حكمه حكم الوصيه.

واختلف الفقهاء هل تعتبر الثلث من التركة حال الوصيه أو حال الموت، وهما وجهان لاصحابنا أصحهما الموت، وبه قال أبو حنيفة وأحمد وهو قول على كرم الله وجهه وجماعة من التابعين، وقال بحال الوصية مالك وأكثر العراقيين والنخعي وعمر بن عبد العزيز، وتمسكوا بأن الوصيه عقد والعقود تعتبر بأولها، وبأنه لو نذر أن يتصدق بثلث ماله اعتبر ذلك حال النذر اتفاقا، وأجيب بأن الوصيه ليست عقدا من كل وجه، ولذلك لا يعتبر فيها الفورية ولا القبول، وبالفرق بين النذر والوصيه بأنها يصح الرجوع فيها والنذر يلزم، وثمرة هذا الخلاف تظهر فيما لو حدث له مال بعد الوصيه، واختلفوا أيضا هل يحسب الثلث من جميع المال، أو يتقيد بما علمه الموصى دون ما خفى عليه أو تجدد له ولم يعلم به وبالاول قال الجمهور وبالثانى قال مالك، وحجه الجمهور أنه لا يشترط أن يستحضر مقدار المال حال الوصيه اتفاقا، ولو كان عالما بجنسه فلو كان العلم به شرطا لما جاز ذلك.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 439)

________________________________________

والكلام على الاحكام أن ما وصى به من التبرعات والهبات والصدقات والمحاباة في البيع بأن يكون المبيع مقوما بعشرة فيوصى ببيعه بخمسة مثلا بعد موته، فإن الخمسة الباقية وهى قدر المحاباة تحسب من الثلث الذى أجاز الله له التصرف فيه بالوصية سواء وقعت الوصية في حال الصحة أم في حال المرض وكذلك إن أسقط عن وارثه دينا أو أوصى بقضاء دينه أو أسقطت المرأة صداقها عن زوجها أو عفا عن جناية موجبها المال فهو كالوصية.

وإن عفا عن القصاص وقلنا: الواجب القصاص عينا سقط إلى غير بدل وإن قلنا: الواجب أحد شيئين سقط القصاص ووجب المال، وإن عفا عن حد القذف سقط مطلقا، وان وصى الغريم وارثه صحت الوصية، وكذلك إن وهب له، وبهذا قال أحمد والشافعي وأبو حنيفة.

وقال أبو يوسف: هو وصية للوارث، لان الوارث ينتفع بهذه الوصية وتستوفى ديونه منها.

ولنا أنه وصى لاجنبي فصح كما لو وصى لمن عادته الاحسان إلى وارثه، وإن وصى لوالد وارثه صح، فإن كان يقصد بذلك نفع الوارث لم يجز فيما بينه وبين الله تعالى.

قال طاوس في قوله تعالى: فمن خاف من موص جنفا، قال أن يوصى لولد ابنته وهو يريد نفع ابنته (فرع)

قال الشافعي: ويجوز نكاح المريض.

قلت: إذا تزوج إمرأة صح نكاحها ولها الميراث والصداق إن لم يزد على صداق مثلها، فإن زاد ردت الزيادة إن كانت وارثة، وأمضيت ان كانت غير وارثة وهكذا المريضة إذا نكحت رجلا صح نكاحها وورثها الزوج، وعليه صداقتها إن كان مهر المثل فما زاد، فإن نكحته بأقل من صداق مثلها، فالمحاباة بالنقصان وصية له فترد إن كان الزوج وارثا وتمضى في الثلث ان كان غير وارث.

وقال مالك: نكاح المريض فاسد لا يستحق به ميراثا.

ولا يجب فيه صداق الا أن يكون راضيا به، فيلزمه مهر المثل من الثلث مقدم على الوصايا، وكذلك نكاح المريض فاسد ولا ميراث للزوجة.

وقال ابن أبى ليلى: النكاح في المرض جائز والميراث من الثلث.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 440)

________________________________________

وقال ابن أبى هريرة: النكاح في المرض جائز ولا ميراث.

وقال الحسن البصري: ان ظهر منه الاضرار في تزويجه لم يجز، وان لم يضهر منه الاضرار،

وظهر منه الحاجة إليه في خدمة أو غيرها جاز.

ودليلنا عموم قوله تعالى: فانكحوا ما طاب لكم من النساء، ولم يفرق بين صحيح ومريض، وقال معاذ بن جبل في مرضه: زوجوني حتى لا ألقى الله عزبا.

وقال عبد الله بن مسعود: لو لم يبق من أجلى الا عشرة أيام ما أوجبت الا أن يكون لى زوجة، وروى هشام بن عروة عن أبيه أن الزبير رضى الله عنه دخل على قدامة يعوده فبشر عنده بجارية فقال قدامة زوجوني بها فقال: ما تصنع بها وأنت على هذه الحال، فقال ان أنا عشت نسبت الزبير، وان مت فهم أحق من يرثنى، ولانه فراش لا يمنع منه الصحيح فوجب أن لا يمنع منه المريض، ولانه عقد فلم يمنع منه المرض كالبيع والشراء، ولانه لا يخلو عمله أن يكون لحاجة أو شهوة، فإن كان لحاجة لم يجز منعه، وان كان لشهوة فهى مباحة له كما أبيح له أن يلتذ بما شاء من أكل أو لبس.

فإذا ثبت اباحة النكاح في المرض فله أن يتزوج ما أباحه الله تعالى من واحدة إلى أربع كهو في الصحة ولهن الميراث ان مات من ذلك المرض أو غيره.

وأما الصداق فإن كان أمهرهن صداق أمثالهن فلهن الصداق مع الميراث، وان كانت عليه ديون شاركن الغرماء في التركة وضربن معهم بالحصص، وان تزوجهن أو واحدة منهن بأكثر من صداق مثلها كانت الزيادة على صداق المثل وصيه في الثلث فإن كانت الزوجة وارثة ردت الوصية لانه لا وصية لوارث، وان كانت غير وارثه لرق أو كفر دفعت الزيادة إليها ان احتملها الثلث، أو ما احتمله منها يتقدم على الوصايا كلها لانها عطية في الحياة، وهكذا لو كانت الزوجه حرة مسلمه فماتت قبله صحت لها الزيادة ان احتملها الثلث لانها بالموت قبله غير وارثه فلو كانت حين نكاحها في المرض أمة أو ذميه فأعتقت الامه أو أسلمت الذميه صارت وارثه ومنعت من الزيادة على صداق مثلها، ولو صح المريض من مرضه

ثم مات من غيره أو لم يمت صحت الزيادة على صداق المثل من رأس المال لوارثه

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 441)

________________________________________

وغير وارثه، فعلى هذا لو تزوج في مرضه على صداق ألف درهم وصداق مثلها خمسمائة ومات ولا مال له غير الالف التى هي صداقها أعيت من الالف ستمائة وستة وستين درهما وثلثا، لان لها خمسمائة من المال، وتبقى خمسمائة هي جميع التركة وهى وصية لها فأعطيت ثلثها وذلك مائة درهم وستة وستون درهما وثلث درهم تأخذها مع صداق مثلها، ولو خلف مع الصداق خمسمائة صارت التركة بعد صداق المثل ألف درهم فلها ثلثها ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون درهما وثلث، ولو خلف مع الصداق ألف درهم خرجت الزيادة على صداق المثل من الثلث وأخذت الالف كلها.

إذا ثبت هذا: فإن التبرعات المنجزة كالعتق والمحاباة والهبة المقبوضة والصدقه والوقف والابراء من الدين والعفو عن الجناية الموجبه للمال إذا كانت هذه كلها في الصحه فهى من رأس المال لا نعلم في هذا خلافا، وإن كانت في مرض مخوف اتصل به الموت فهى من ثلث المال في قول جمهور العلماء.

وحكى عن أهل الظاهر في الهبة المقبوضة أنها من رأس المال، وليس بصحيح لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم زيادة لكم في أعمالكم) رواه ابن ماجه وغيره، وهذا يدل بمفهومه على أنه ليس له أكثر من الثلث، وقد أسلفنا القول في بسط ما يكون من رأس المال وما يكون من الثلث فاسدد به يديك.

وحكم العطايا في مرض الموت المخوف حكم في خمسه أشياء.

(أحدها) أن يقف نفوذها على خروجها من الثلث أو إجازة الورثة.

(الثاني) أنها لا تصح لوارث إلا بإجارة بقيه الورثة.

(الثالث) أن فضيلتها ناقصه عن فضيلة الصدقة في الصحه.

(الرابع) أن يزاحم بها الوصايا في الثلث.

(الخامس) أن خروجها من الثلث معتبر حال الموت لا قبله ولا بعده، ويفارق الوصيه في ستة أشياء.

أحدها: أنها لازمه في حق المعطى ليس له الرجوع فيها وان كثرت، ولان

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 442)

________________________________________

المنع على الزيادة من الثلث إنما كان لحق الورثة لا لحقه فلم يملك إجازتها ولا ردها، وإنما كان له الرجوع في الوصية لان التبرع بها مشروط بالموت فلم يملك إجازتها ولا ردها، وإنما كان له الرجوع في الوصية، لان التبرع مشروط بالموت ففيما قبل الموت لم يوجد التبرع ولا العطية بخلاف العطية في المرض، فانه قد وجدت العطية منه والقبول من المعطى والقبض فلزمت الوصية إذا قبلت بعد الموت وقبضت.

(الثاني) أن قبولها على الفور في حال حياة المعطى وكذلك ردها.

والوصايا لا حكم لقبولها ولا ردها إلا بالموت.

فتعتبر شروطه وقت وجوده والوصية تبرع بعد الموت فتعتبر شروطه بعد الموت (الثالث) أن العطية تفتقر إلى شروطها المشروطة لها في الصحة من العلم وكونها لا يصح تعليقها على شرط وغرر في غير العتق، والوصية بخلافه (الرابع) أنها تقدم على الوصية.

وهذا قول أحمد والشافعي وجمهور العلماء، وبه قال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر إلا في العتق فانه حكى عنهم تقديمه، لان العتق يتعلق به حق الله تعالى ويسرى وقفه وينفذ في ملك الغير فيجب تقديمه (الخامس) العطايا إذا عجز العتق عن جميعها بدئ بالاول فالاول سواء كان الاول عتيقا أو غيره وبهذا قال أحمد والشافعي.

وقال أبو حنيفة رضى الله عنه: الجميع سواء إذا كانت من جنس واحد.

وإن كانت من أجناس وكانت المحاباة متقدمة قدمت وان تأخرت سوى بينها وبين

العتق.

وإنما كان كذلك لان المحاباة حق آدمى على وجه المعاوضة فقدمت إذا تقدمت كقضاء الدين، وإذا تساوى جنسها سواى بينها لانها عطايا من جنس واحد تعتبر من الثلث فسوى بينها كالوصية وقال أبو يوسف ومحمد: يقدم العتق تقدم أو تأخر.

(السادس) أن الواهب إذا مات قبل القبض للهبة المنجزة كانت الخيرة للورثة ان شاء واقبضوا وان شاء وامنعوا، والوصية تلزم بالقبول بعد الموت بغير رضاهم، وما لزم المريض في مرضه من حق لا يمكنه دفعه واسقاطه كأرش الجناية وما عاوض عليه بثمن المثل.

وما يتغابن الناس بمثله فهو من رأس المال لا نعلم فيه خلافا، وهذا عند الشافعي وأصحاب الرأى وأحمد بن حنبل، وكذلك النكاح بمهر المثل جائز من رأس المال لانه صرف لماله حاجة في نفسه

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 443)

________________________________________

فيقدم بذلك على وارثه.

ويعتبر في المريض الذى هذه أحكامه شرطان أحدهما: أن يتصل بمرضه الموت ولو صح في مرضه الذى أعطى فيه ثم مات بعد ذلك فحكم عطيته حكم عطية الصحيح، لانه ليس بمرض الموت.

(الثاني) أن يكون مخوفا، والامراض على ثلاثة أقسام غير مخوف كوجع الضرس والعين والاطراف والصداع وارتفاع الحرارة الطارئ فهذا حكمه حكم الصحيح لانه لا يخاف منه في العادة.

 

(والثانى)

الامراض المزمنة كالجذام والربو والفالج والذبحة الصدرية والسل فهذا الضرب ان أضنى صاحبه على فراشه فهو مخوف، وقال الاوزاعي والثوري ومالك وأبو حنيفة وأصحابه وأبو ثور وأحمد: ان وصية المجذوم والمفلوج من الثلث لانه محمول على أنهما صاحبي فراش، ومذهب الشافعي.

أنه لا يخاف تعجيل الموت فيه، وان كان لا يبرأ فهو كالهرم لا سيما الفالج إذا أزمن

(الثالث) من تحقق تعجيل موته فينظر فيه فان كان عقله قد اختل مثل نزيف المخ أو الحمى الشوكية أما من اشتد مرضه وصح عقله صح تبرعه عند أصحاب أحمد، وجمله ما مضى أن العطايا في المرض مقدمة على الوصايا إذا ضاق الثلث عنها لان تلك ناجزة وهذه موقوفة، فلو ضاق الثلث عن العطايا للمريض قدم الاسبق فالاسبق، ولو ضاق الثلث عن الوصايا لم يقدم الاسبق لان عطايا المرض تملك بالقبض المترتب فثبت حكم المتقدم.

والوصايا كلها تملك بالموت فاستوى حكم المتقدم والمتأخر إلا أن يرتبها المريض فتمضى على ترتيبه ما لم يتخلل الوصايا عتق، فان تخللها عتق فان كان واجبا في كفارة أو نذر قدم على وصايا التطوع، وان كان تطوفا ففيه قولان أحدهما أن العتق مقدم على جميع الوصايا لقوته بالبراءة في غير الملك وبه قال من الصحابة ابن عمر ومن التابعين شريح والحسن ومن الفقهاء مالك والشورى، والقول الثاني أن العتق والوصايا كلها سواء في مزاحمة الثلث لان جميعها تطوع، وبه قال من التابعين ابن سيرين والشعبى ومن الفقهاء أبو ثور، على أن المريض مرض الموت إذا أشكل أمره رجع في ذلك إلى طبيبين مسلمين، لان الامراض في زماننا هذا قد تشعبت أصنافها وتعددت اختصاصات العالمين من الاطباء بها، فقد يكون المرض في رأى أحدهم

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 444)

________________________________________

مخالف لرأى الآخر، فإذا اجتمعا وتشاورا أمكن اتفاقهما على حكم يؤخذ في الوصية به.

ويا حبذا لو تفقه أطباء المسلمين في أحكام الدين المتصلة بعلمهم ومهنتهم إذن لكانت منهم أمه هاديه ناصحه راشدة.

 

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

وإن كان في الحرب وقد التحمت طائفتان متكافئتان، أو كان في

البحر وتموج، أو في كفار يرون قتل الاسارى، أو قدم للقتل في المحاربة، أو الرجم في الزنا، ففيه قولان.

 

(أحدهما)

أنه كالمرض المخوف يعتبر تبرعاته فيه من الثلث، لانه لا يأمن الموت كما لا يأمن في المرض المخوف

(والثانى)

أنه كالصحيح لانه لم يحدث في جسمه ما يخاف منه الموت فإن قدم لقتل القصاص فالمنصوص إنه لا تعتبر عطيته من الثلث ما لم يجرح.

واختلف أصحابنا فيه على طريقين، فقال أبو إسحاق: هي على قولين قياسا على الاسير في يد كفار يرون قتل الاسارى، ومن أصحابنا من قال: لا تعتبر عطيته من الثلث لانه غير مخوف لان الغالب من حال المسلم أنه إذا قدر رحم وعفا، فصار كالاسير في يد من لا يرى قتل الاسارى.

(الشرح) الاحكام: يحصل التخويف يغير ما ذكرناه في مواضع خمسة تقوم مقام المرض.

١ - إذا التحم الجيشان واختلط الفريقان في القتال وكانت كل فرقة متكافئة للاخرى أو مقهورة أمامها، فأما الفئة الغالبة منهما فليست حائفة بعد ظهورها، وكذلك إذا لم يلتحما بل كانت كل منهما متميزة، سواء كان بينهما تبادل بالرماية أو لم يكن فليست هذه بحالة خوف، ولا فرق بين كون الطائفتين متفقتين في الدين أو مفترقتين فعن الشافعي رضى الله عنه قولان.

أحدهما: هذا، وبه قال مالك والاوزاعي والثوري، وأحمد، ونحوه عن مكحول، والثانى: ليس بخوف.

ليس بمريض.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 445)

________________________________________

٢ - إذا قدم ليقتل قصاصا أو غيره أو كمن قدم ليرجم في حد الزنا فقولان أيضا.

أحدهما: أنه مخوف.

والثانى: إن حرج فهو مخوف، وإلا فلا، لانه

صحيح البدن، والظاهر العفو عنه، وبالاول قال أحمد، لان التهديد بالقتل جعل إكراها يمنع وقوع الطلاق وصحة البيع، ويبيح كثيرا من المحرمات ولولا الخوف لم تثبت هذه الاحكام.

٣ - إذا ركب البحر، فإن كان ساكنا فليس بمخوف، وإن تموج واضطرب وهبت الريح العاصف فهو مخوف، فإن الله تعالى وصفهم بشدة الخوف بقوله تعالى (هو الذى يسيركم في البحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف، وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذة لنكونن من الشاكرين) .

٤ - الاسير والمحبوس إذا كان من عادته القتل فهو خائف عطيته من الثلث وإلا فلا.

وهذا أحد قولى الشافعي، وبه قال أبو حنيفة ومالك وابن أبى ليلى وأحمد بن حنبل.

وقال الحسن: لما حبس الحجاج إياس ليس له من ماله إلا الثلث، وقال القاضى أبو بكر: عطية الاسير من الثلث، ولم يفرق، وبه قال الزهري والثوري وإسحاق وحكاه ابن المنذر عن أحمد.

وقال الشعبى ومال: الغازى عطيته من الثلث.

وقال مسروق: إذا وضع رجله في الغرز.

وقال الاوزاعي: المحصور في سبيل الله والمحبس ينتظر القتل أو تفقأ عيناه هو في ثلثه، والصحيح إن شاء الله ما ذكرنا من التفضيل، لان مجرد الحبس والاسر من غير خوف القتل ليس بمرض ولا هو في معنى المرض في الخوف فلم يجز إلحاقه به، وإذا كان المريض الذى لا يخاف التلف عطيته من رأس ماله فغيره أولى.

هذا إذا كان مأسورا لطائفة من المسلمين فإن المذهب أنه ليس مخوفا، لان المسلمين لا يقتلون أسراهم من الكفار إلا بشروط فما بالك إذا كان الاسير مسلما ٥ - وقوع الطاعون في بلد فعن أحمد أنه مخوف، والمذهب عندنا أنه ليس

بمرض، وإنما يخالف المرض والله تعالى أعلم بالصواب.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 446)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

وإن عجز الثلث عن التبرعات لم يخل إما أن يكون في التبرعات المنجزة في المرض أو في الوصايا، فإن كان في التبرعات المنجزة في المرض، فإن كانت في وقت واحد نظرت، فان كانت هبات أو محاباة قسم الثلث بين الجميع لتساويهما في اللزوم، فان كانت متفاضلة المقدار قسم الثلث عليها على التفاضل، وإن كانت متساوية قسم بينها على التساوى كما يفعل في الديون ن وإن كان عتقا في عبيد أقرع بينهم لما ذكرناه من حديث عمران بن الحصين، ولان القصد من العتق تكميل الاحكام، ولا يحصل ذلك إلا بما ذكرناه، فان وقعت متفرقة قدم الاول فالاول عتقا كان أو غيره، لان الاول سبق فاستحق به الثلث فلم يجز إسقاطه بما بعده، فان كان له عبدان سالم وغانم فقال لسالم إن أعتقت غانما فأنت حر، ثم أعتق غانما قدم عتق غانم لان عتقه سابق.

فان قال ان أعتقت غانما فأنت حر حال عتق غانم ثم أعتق غانما فقد قال بعض أصحابنا: يعتق غانم، لان عتقه غير متعلق بعتق غيره، وعتق سالم متعلق بعتق غيره، فإذا أعتقناهما في وقت واحد احتجنا أن نقرع بينهما فربما خرجت القرعة على سالم فيبطل عتق غانم، وإذا بطل عتقه بطل عتق سالم فيؤدى إثباته إلى نفيه فسقط ويبقى عتق غانم لانه أصل، ويحتمل عندي أن لا يعتق واحد منهما، لانه جعل عتقهما في وقت واحد، ولا يمكن أن يقرع بينهما لما ذكرناه، ولا يمكن تقديم عتق أحدهما لانه لا مزية لاحدهما على الآخر بالسبق فوجب أن يسقطا وإن كانت التبرعات وصايا وعجز الثلث عنها لم يقدم بعضها على بعض بالسبق لان ما تقدم وما تأخر يلزم في وقت واحد وهو بعد الموت، فان كانت كلها

هبات أو كلها محاباة أو بعضها هبات وبعضها محاباة قسم الثلث بين الجميع على التفاضل إن تفاضلت وعلى التساوى إن تساوت.

وإن كان الجميع عتقا أقرع بين العبيد لما ذكرناه في القسم قبله.

وإن كان بعضها عتقا وبعضها محاباة أو هبات ففيه قولان

(أحدهما)

أن الثلث يقسم بين الجميع، لان الجميع يعتبر من الثلث، ويلزم

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 447)

________________________________________

في وقت واحد

(والثانى)

يقدم العتق بماله من القوة، وان كان بعضها كتابة وبعضها هبات ففيه طريقان

(أحدهما)

أنه لا تقدم الكتابة أنه ليس له قوة وسراية فلم تقدم كالهبات

(والثانى)

أنها على قولين لانها تتضمن العتق فكانت كالعتق.

 

(فصل)

وإن وصى أن يحج عنه حجة الاسلام من الثلث أو يقضى دينه من الثلث ووصى معها بتبرعات، ففيه وجهان

(أحدهما)

يقسط الثلث على الجميع لان الجميع يعتبر من الثلث، فان كان ما يخص الحج أو الدين من الثلث لا يكفى تمم من رأس المال، لانه في الاصل من رأس المال، وانما اعتبر من الثلث بالوصية، فإذا عجز الثلث عنه وجب أن يتمم من أصل المال

(والثانى)

يقدم الحج والدين، لانه واجب ثم يصرف ما فضل في الوصايا

(فصل)

وان وصى لرجل بمال وله مال حاضر ومال غائب أو له عين ودين دفع إلى الموصى له ثلث الحاضر وثلث العين.

وإلى الورثة الثلثان، وكل ما حضر من الغائب أو نض من الدين شئ قسم بين الورثة والموصى له، لان الموصى له شريك الورثة بالثلث فصار كالشريك في المال.

وان وصى لرجل بمائة دينار وله مائة حاضرة وله ألف غائبة فللموصى له ثلث الحاضرة ويوقف الثلثان، لان الموصى له شريك الوارث في المال، فصار

كالشريك في المال.

وان أراد الموصى له التصرف في ثلث المائة الحاضرة ففيه وجهان

(أحدهما)

تجوز لان الوصية في ثلث الحاضرة ماضية، فمكن من التصرف فيه

(والثانى)

لا يجوز لانا منعنا الورثة من التصرف في الثلثين الموقوفين.

فوجب أن نمنع الموصى له من التصرف في الثلث، وان دبر عبدا قيمته مائة وله مائتان غائبة، ففيه وجهان

(أحدهما)

يعتق ثلث العبد، لان عتق ثلثه مستحق بكل حال

(والثانى)

وهو ظاهر المذهب أنه لا يعتق، لانا لو أعتقنا الثلث حصل للموصى له الثلث، ولم يحصل للورثه مثلاه.

وهذا لا يجوز

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 448)

________________________________________

(الشرح) قال الشافعي: ولو أوصى بغلامه وهو يساوى خمسمائة وبداره لآخر وهى تساوى ألفا وبخمسمائة لآخر والثلث ألف درهم، دخل على كل واحد منهم عول نصف فصار للذى له الغلام نصفه، وللذى له الدار نصفها، وللذى له الخمسمائة نصفها.

قلت: إذا ضاق الثلث عن الوصايا فللورثة حالتان: حالة يجيزون، وحالة يردون، فإن ردوا قسم الثلث بين أهل الوصايا بالحصص، وتسوى منه الوصية بالمعين والمقدر.

وحكى عن أبى حنيفة أن الوصية بالمعين مقدمة على الوصية بالمقدر.

استدلالا بأن المقدر يتعلق بالذمة.

فإذا ضاق الثلث فيها زال تعلقها بالذمة.

وهذا غير صحيح، لان محل الوصايا في التركة سواء ضاق الثلث أو اتسع لها فاقتضى ان يستوى المعين والمقدر مع ضيق الثلث كما يستويان مع اتساعه، ولان الوصية بالمقدر أثبت من الوصية بالمعين، لان المعين إن تلف

بطلت الوصية به، والمقدر إن تلف بعض المال لم تبطل الوصية فإذا تقرر استواء المعين والمقدر مع ضيق الثلث عنها وجب أن يكون عجز الثلث داخلا على أهل الوصايا بالحصص، فإذا أوصى بسيارته لرجل وقيمتها خمسمائة، وبداره لآخر وقيمتها الف وبخمسمائة لآخر، فوصايا الثلاثة كلها تكون ألفين، فان كان الثلث ألفين فصاعدا فلا عجز.

وهى ممضاة، وإن كان الثلث ألفا فقد غجز الثلث عن نصفها فوجب أن يدخل العجز على جميعها.

ويأخذ كل موصى له بشئ نصفه فيعطى الموصى له بالسيارة نصفها، وذلك مائتان وخمسون ويعطى الموصى له بالدار نصفها وذلك خمسمائة.

ويعطى الموصى له بالخمسمائة نصفها وذلك مائتان وخمسون وعلى قول أبى حنيفة تسقط الوصية بالخمسمائة المقدرة، ويجعل الثلث بين الموصى له بالسيارة والدار، فيأخذ كل واحد منهما ثلثى وصيته لدخول العجز بالثلث منها، فلو كان الثلث في هذه الوصايا خمسمائة فهو ربع الوصايا الثلاثه فيعطى كل واحد ربع ما جعل له، ولو كان الثلث ألفا وخمسمائة فيجعل لكل واحد منهم ثلاثة أرباع وصيته ثم على هذا القياس

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 449)

________________________________________

وإن أجازوا الوصايا كلها مع ضيق الثلث عنها ودخول العجز بالنصف عليها ففى إجازتهم قولان.

 

(أحدهما)

أن إجازتهم ابتداء عطية منهم لامرين.

أحدهما: أن ما زاد على الثلث منهى عنه، والنهى يقتضى فساد المنهى عنه.

 

(والثانى)

أنهم لما كانو بالمنع مالكين لما منعوه وجب أن يكون بالاجارة معطين لما أجازوه فعلى هذا قد ملك أهل الوصايا نصفا بالوصية لاحتمال الثلث لها ولا يفتقر بملكهم لها إلى قبض ونصفها بالعطية لعجز الثلث عنها، ولا يتم ملكهم

إلا بقبضه.

والثانى: وهو أصح، وبه قال أبو حنيفة: إن إجازة الورثة تنفيذ أو إمضاء لفعل الميت، وإن ذلك مملوك بالوصية دون العطية لامرين

(أحدهما)

أن ما استحقوه من الخيار في عقود الميت لا يكونون بالامضاء عاقدين لها كالمشترى سلعة إذا وجد وارثه به عيبا فأمضى الشراء ولم ينسخه كان تنفيذا ولم يكن عقدا فكذلك خياره في إجازة الوصية

(والثانى)

أن لهم رد ما زاد على الثلث في حقوق القسمة، فإذا أجازوه سقطت حقوقهم منه، فصار الثلث وما زاد عليه سواء في لزومه لهم، فإذا استوى الحكم في الجميع مع اللزوم اقتضى أن يكون جميعه وصية لا عطية فعلى هذا يلزمهم نصف الوصايا بالوصية من غير إجازة لاحتمال الثلث لها، ونصف بالاجازة بعد الوصيه من غير قبض تعيين، ولا رجوع يسوغ (فرع)

قد أسلفنا القول في عطايا المرض وتقديمها على الوصايا إذا ضاق الثلث عنها، وقلنا عن ترتيب المريض لها ما لم يتخلل الوصايا عتق، وأقوال الفقهاء الوارد عليه، أما إذا أوصى أن يحج عنه حجة الاسلام المكتوبة من الثلث أو يقضى دينه من الثلث فقال الشافعي رضى الله عنه: ولو أوصى أن يحج عنه ولم يحج حجة الاسلام فإن بلغ ثلثه حجته من بلده أحج عنه من بلده، وان لم يبلغ أحج عنه من حيث بلغ.

قال المزني: والذى يشبه قوله أن يحج عنه من رأس ماله لانه في قوله دين عليه وجملة ذلك أن للمستدل في الحج عنه حالتان، حالة يوصى به وحاله لا يوصى به، فإن لم يوص به فلا يخلو حاله من أحد أمرين اما أن يكون عليه حج واجب

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 450)

________________________________________

أولا حج عليه، فإن لم يكن عليه حج لم يجز أن يتطوع عنه بالحج، وان كان عليه حجة الاسلام فمات من غير أن يوصى بها فواجب أن يحج عنه من رأس ماله بأقل ما يوجد من ميقات بلده، وكذلك يخرج عنه من رأس ماله ما وجب

عليه من زكوات وكفارات، وان لم يوص بها.

وقال أبو حنيفة: لا يصح الحج عنه ولا الزكاة ولا الكفارة الا بوصية منه وهذا فاسد بما ذكره النووي في الحج بأقوى حجاج، ولان ما تعلق وجوبه بالمال ازم أداؤه وان لم يوص به كالديون.

وإذا لزم أداؤه عنه فمن رأس المال كالديون وتخرج منه أجرة المثل من الميقات لا من بلده، وان كانت استطاعته من بلده شرطا وجوب حجه، لانه إذا كان حيا لزمه أداؤه بنفسه فصار نفقة معتبرة في استطاعته، وإذا مات لم يتعين الثلث عنه أن يكون في بلده، وانما لزم أن يؤتى بالحج من ميقات بلده فلذلك اعتبر أجرة المثل من ميقات بلده.

(فرع)

إذا أوصى أن يحج عنه، فإن كان عليه حج فلا يخلو حاله من ثلاثة أقسام.

أحدها: أن يجعل الحج من رأس ماله، فهذا على ضربين.

أحدهما: أن يذكر قدر ما يحج به عنه، والثانى: أن لا يذكر، فإن لم يذكر أخرج عنه من رأس ماله قدر أجرة المثل من ميقات بلده، ولا يستفاد بوصية الا التذكير والتأكيد، وسواء ذكر القدر أم لم يذكر، فإن أجرة المثل أتم إذا كانت من الميقات وخروجها من رأس المال.

والقسم الثاني: أن يوصى بالحج من ثلثه فهذا على ضربين.

 

(أحدهما)

أن يجعل كل الثلث مصروفا إلى الحجه الواجبة عليه فهذا الحج عنه بالثلث من بلده أن أمكن، ولا يجوز أن يدفع إلى وارثه ان زاد على أجرة المثل، ويجوز أن يدفع إليه ان لم يزد، فإن عجز الثلث عن الحج من بلده أحج به عنه من حيث أمكن من طريقه فان عجز الا من ميقات البلد أحج به عنه من ميقات البلد، فان عجز عنه وجب اتمام أجرة المثل من ميقات بلده من رأس المال وصار فيها دور، لان ما يتمم به أجرة المثل من رأس ماله يقتضى نقصان رأس المال.

(والضرب الثاني) أن لا يجعل كل الثلث مصروفا إلى الحج بل يقول: أحجوا

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 451)

________________________________________

عنى من ثلثى، فهذا إما أن يذكر قدرا فلا يزاد عليه إن وجد ويستأجر من يؤديه من بلده أو من الميقات فان لم يوجد من يحج بها من ميقاته وجب إتمامها من رأس المال لا من ثلثه لان القدر الذى حدده من الثلث لا يزاد عليه منه وإنما تؤخذ الزيادة من رأس المال، وإما أن لا يذكر القدر فيخرج من ثلثه قدر أجرة المثل ثم فيها وجهان أحدهما وهو قول أبى اسحق المروزى: الظاهر من كلام الشافعي أجرة المثل من بلد الموصى لان الوصية في الثلث تقتضي الكمال.

والوجه الثاني: أجرة مثل الميقات كما لو جعله من رأس المال وما زاد عليه تطوع لا يخرج إلا بالنص، فإن عجز الثلث عن جميع الاجرة تمم الجميع مثل أجرة الميقات من رأس المال.

فلو كان في الثلث مع الحج وصايا وعطايا ففى تقديم الحج على الوصايا وجهان حكاهما أبو إسحق المروزى.

أحدهما، يقدم الحج على جميع الوصايا في الثلث لانه مصروف في فرض ثم يصرف ما فضل بعد الحج في أهل الوصايا، والوجه الثاني أنه يسقط الثلث على الحج والوصايا بالحصص لان الحج وإن وجب فله محل غير الثلث تساوى في الثلث أهل الوصايا ثم تمم أجرة المثل من رأس المال، وعلى هذين الوجهين لو كانت عليه ديون واجبة أوصى بقضائها من ثلثه أحدهما يتقدمون بها على أهل الوصايا.

والثانى: يحاصونهم ثم يستكملون ديونهم من رأس المال فهذا حكم القسم الثاني إذا جعله من ثلثه.

القسم الثالث: أن يطلق الوصية فلا يجعله من الثلث ولا من رأس المال فالذي نص عليه الشافعي في الجديد في مناسك الحج أنه يحج عنه من رأس المال، وقال في الوصايا: يحج عنه من ثلثه، فاختلف أصحابنا فكان أبو الطَّيِّبِ بْنُ سَلَمَةَ

وَأَبُو حَفْصِ بْنُ الْوَكِيلِ يخرجان ذلك على قولين أحدهما: يكون من رأس المال كما لو لم يوص به لوجوبه كالديون، والقول الثاني: أن يكون من الثلث ليستفاد بالوصية ما لم يكن مستفادا بغيرها.

وقال أبو على بن خيران: ليس هذا على اختلاف قولين وإنما هو تبعيض الحكم على حالين فالذين جعله في الثلث هو أجرة

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 452)

________________________________________

مثل المسير من بلده إلى الميقات، والذى جعله من رأس المال هو أجرة المثل من الميقات.

وقال أبو إسحق المروزى وأبو علي بن أبى هريرة: يكون ذلك من رأس المال قولا واحدا، والذى قاله ههنا أنه يكون في الثلث إذا خرج بأنه في الثلث توفيرا على ورثته، ألا تراه قال: فان لم يبلغ تمم من رأس المال.

وإذا وصى بالحج تطوعا عنه بمال ففيه قولان أحدهما: أن الوصية باطلة والثانى: جائزة وقد بسط النووي توجيهها في كتاب الحج.

(فرع)

قال مالك بن أنس رضى الله عنه: إذا أوصى لرجل بمائة دينار له حاضرة وترك غيرها ألف دينار دينا غائبة فالورثة بالخيار بين امضاء الوصية بالمائة كلها عاجلا، سواء حل الدين وسلم الغائب أم لا، وبين أن يسلموا ثلث المائة الحاضرة وثلث الدين من المال الغائب ويصير الموصى له بالمائة شريكا بالثلث في كل التركة، وإن كثرت وسمى ذلك خلع الثلث، استدلالا بأن للموصى ثلث مائة، فإذا غير الوصية بالثلث في بعضه فقد أدخل الضرر عليهم بتعيينه، فصار لهم الخيار بين التزام الضرر بالتعيين وبين العدول إلى ما كان يستحقه الموصى، فهذا دليل مالك، وما عليه في هذا القول.

واستدل اسماعيل بن اسحق بأن تعيين الموصى للمائة الحاضرة من جملة التركة الغائبة بمنزلة العبد الجاني إذا تعلقت الجناية في رقتبه فسيده بالخيار بين افتدائه

بأرش جنايته أو تسليمه، فهذا مذهب مالك ودليلاه.

ومذهب الشافعي رضى الله عنه أن الموصى له ثلث المائة الحاضرة، وثلثاها الباقي موقوف على قبض الدين أو من الغائب ما يخرج المائة كلها من ثلثه أمضيت الوصية بجميع المائة، وإن وكل ما يخرج بعضها أمضى قدر ما احتمله الثلث منها، فإن برئ الدين وتلف الغائب استقرت الوصية في ثلث المائة الحاضرة وتصرف الورثة في ثلثيها، لانها صارت جميع التركة.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 453)

________________________________________

واختلف أصحابنا إذا انتظر بالوصية قبض الدين ووصول الغئب هل يمكن الموصى له من ثلث المائة؟ على وجهين.

 

(أحدهما)

يمكن من التصرف فيها لانه ثلث ممضى.

(والوجه الثاني) يمنع من التصرف فيها لانه لا يجوز أن يتصرف الموصى له فيما لا يتصرف الورثة في مثليه، وقد منع الورثة من التصرف في ثلثى المائة الموقوف، فوجب أن يمنع الموصى له من التصرف في الثلث الممضى، والدليل على فساد ما ذهب إليه مالك أنه يؤول إلى أحد أمرين يمنع الوصية منهما، لانه إذا أجبر الورثة بين التزام الوصيه في ثلث كل التركة أو إمضاء الوصية في كل المائة فكل واحد من الامرين خارج عن حكم الوصية لانهم اختاروا منعه من كل المائه فقد ألزمهم ثلث كل التركة، وذلك غير موصى به.

وإن اختاروا أن لا يعطوا ثلث التركة فقط ألزمهم إمضاء الوصية بكل المائه فعلم فساد مذهبه بما يؤول إليه حال كل واحد من الخيارين، فإذا جعلتم تعيين الوصية بالمائة الحاضرية إدخال ضرر أو جنايه فالضرر قد رفعناه يوقف الثلثين على قبض الدين ووصول الغائب، فصار الضرر بذلك مرتفعا، وإذا زال الضرر ارتفت الجناية منه فبطل الخيار فيه.

فإذا تقرر ما وصفنا تفرع على ذلك أن يوصى بمائة دينار حاضرة وباقى تركته التى تخرج كل المائه من ثلثها دين أو غائب، فيخرج ثلث المائة ويوقف ثلثاها على قبض الدين ووصول الغائب، فإذا قبض ووصل منهما أو أحدهما ما يخرج كل المائة من ثلثه خرج جميعها.

وهل يمكن الورثة في حال وقف الثلثين على قبض الدين ووصول الغائب من استخدام فرس إن كان الموصى به فرسا أو سيارة إن كانت وصيه أو غير ذلك، فتركب ويتصرف في منفعتها أم لا، على وجهين.

 

(أحدهما)

يمكن ذلك لئلا يلزمهم إمضاء الوصيه بما لم ينتفعوا بثلثيه، وهذا على الوجه الذى يقول: إن الموصى له بالمائة إذا وقف ثلثها منع من التصرف في ثلثيها اعتبارا بالتسويه، فعلى هذا ان برئ الدين وتلف الغائب استقر ملكهم على ما وقف من ثلثيها وكان لهم التصرف في الثلثين أو بيع ثلثى الفرس أو السيارة

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 454)

________________________________________

وان اقتضى من الدين أو قدم من الغائب ما يخرج جميعه من ثلثه رجع الموصى له بالفرس أو السيارة عليهم بما أخذوه من كسبهما أو أجرة، وليس للورثة أن يرجعوا على الموصى له بما اتفقوا على الفرس أو السيارة من نفقات السياسه أو الصياية، وقد كان لهم اجازة الوصية فصاروا متطوعين بالنفقه.

(والوجه الثاني) أنهم يمنعون من ذلك كما يمنعون من التصرف بالبيع، لان الظاهر نفوذ الوصية بعتقه، وعلى هذا الوجه الذى يجوز للموصى له التصرف في ثلث المائة، وان منع الورثة من التصرف في ثلثيها، فعلى هذا ان برئ الدين وتلف الغائب ولم يتصرف الورثة في استغلال الموصى به أدى الموصى له ثلثى غلة كسب الموصى به أو أجره مثله للورثة لانه لا يستحق في الوصيه الا ثلثها والباقى للورثة، وقد فوت عليهم منافع ثلثى المال وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

 

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى

 

(فصل)

وان وصى له بثلث عبد فاستحق ثلثاه وثلث ماله يحتمل الثلث الباقي من العبد نفذت الوصية فيه على المنصوص، وقال أبو ثور وأبو العباس: لا تنفذ الوصيه الا في ثلث الباقي كما لو وصى بثلث ماله ثم استحق من ماله الثلثان والمذهب الاول، لان ثلث العبد ملكه، وثلث ماله يحتمله، فنفذت الوصيه فيه كما لو أوصى له بعبد يحتمله الثلث، ويخالف هذا إذا أوصى بثلث ماله ثم استحق ثلثاه، لان الوصية هناك بثلث ماله، وماله هو الباقي بعد الاستحقاق، وليس كذلك ههنا لانه يملك الباقي وله مال غيره يخرج الباقي من ثلثه.

 

(فصل)

وان وصى له بمنفعة عبد سنه، ففى اعتبارها من الثلث وجهان.

أحدهما: يقوم العبد كامل المنفعة، ويقوم مسلوب النفعه في مدة سنه، ويعتبر ما بينهما من الثلث.

والثانى: تقوم المنفعة سنه، فيعتبر قدرها من الثلث.

ولا تقوم الرقبة لان الموصى به هو المنفعة، فلا يقوم غيرها، وان وصى له بمنفعة عبد على التأبيد ففى اعتبار منفعته من الثلث ثلاثة أوجه.

أحدهما: تقوم المنفعة في حق الموصى له والرقبة مسلوبة المنفعة في حق

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 455)

________________________________________

الوارث، لان الموصى له ملك المنفعة، والوارث ملك الرقبة، وينظر كم قدر التركة مع قيمة الرقبه مسلوبة المنفعة، وينظر قيمة المنفعة فتعتبر من الثلث.

والثانى: تقوم المنفعة في حق الموصى له لانه ملكها بالوصية، ولا تقوم الرقبة في حق الموصى له، لانه لم يملكها ولا في حق الوارث لانها مسلوبة المنفعة في حقه لا فائدة له فيها، فعلى هذا ينظركم قدر التركة وقيمة المنفعة، فتعتبر من الثلث، والثالث وهو المنصوص: تقوم الرقبه بمنافعها في حق الموصى له، لان المقصود من الرقبه منفعتها، فصار كما لو كانت الرقبه له فقومت في حقه، وينظر قدر التركة فتعتبر قيمه الرقبه من ثلثها، وإن وصى بالرقبة لواحد وبالمنفعه لواحد

قومت الرقبه في حق من وصى له بها، والمنفعة في حق من اوصى له بها، لان كل واحد منهما يملك ما وصى له به فاعتبر قيمتها من الثلث.

(الشرح) قال الشافعي رضى الله عنه: ولو أوصى له بشئ بعينه فاستحق ثلثه كان له الثلث الباقي إذا احتمله الثلث، وإذا أوصى له بتلت دار هو في الظاهر مالك لجميعها فاستحق تلتا الدار وبقى على ملك الموصى تلتها، فالتلت كله للموصى له إذا احتمله التلت، وهو قول الجمهور.

وقال أبو ثور: يكون له تلت التلت استدلالا بأنه لما أوصى له بتلتها، وهو في الظاهر مالك لجميعها تناولت الوصيه ثلث ملكه منها، فإذا بان ان ملكه منها التلت وجب ان تكون الوصيه بتلت التلت، لانه كان ملكه منها كمن أوصى بتلت ماله وهو ثلاثه الاف درهم فاستحق منها الفان كانت الوصيه بتلت الالف الباقيه هكذا قال أبو ثور من الفهاء وابو العباس بن سريج من اصحابنا، وهو فاسد من وجهين، احدهما: ان ما طرأ من استحقاق التلتين ليس بأكثر من أن يكون عند الوصيه غير مالك للتلتين، وقد ثبت انه لو أوصى له بتلت دار هو قدر ملكه منها كان له جميع التلت إذا احتمله التلت، كذلك إذا اوصى له بتلتها فاستحق ما زاد على التلت منها.

والثانى: هو ان رفع يده بالاستحقاق كزوال ملكه بالبيع، وقد ثبت انه لو

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 456)

________________________________________

باع بعد الوصية بالثلت منها ما بقى من ثلثها صحت الوصيه بكل الثلث الباقي بعد البيع، فكذلك تصح بالثلث الباقي بعد المستحق، وليس بما ذكراه من استدلال بثلث المال وجه، لان الوصية لم تعتبر الا في ثلث ملكه، وملكه هو الباقي بعد الاستحقاق، ولو فعل مثل ذلك في الوصية بالدار فقال قد اوصيت لك بثلث

ملكى من هذه الدار فاستحق ثلثا ها كان له ثلث ثلثها الباقي (مسالة) إذا ابتدأ الوصية بتلت ماله لرجل، اوصى ان يحج عنه رجل بمائة درهم، ثم اوصى بالباقي من تلت المال لاخر، فقد اختلف اصحابنا في الموصى له بالباقي في هذه المسالة إذا قدم الوصية بالتلت على وجهين

(أحدهما)

وهو قول أبى اسحاق المروزى: انها باطلة لان تقديم الوصية بالتلت يمنع من ان يبقى شئ من التلت، فجعل نصف اجار الورثة الوصية بالتلت وبالمائة امضيا وان لم يجيزوها ردا إلى التلت، فجعل نصف التلت لصاحب التلت، وكان النصف الاخر بين الموصى له بالمائة وبين الموصى له بالباقي على ما مضى من الوجهين (فرع)

الوصية بالمنفعة كما اسلفنا القول كالوصيه بالعين، فلما كان لموصى له بالرقبة يجوز له المعاوضه عليها لانه قد ملكها بالوصية كان الموصى له بالخدمه ايضا يجوز له المعاوضه عليها لانه قد ملكها بالوصية، فإذا ثبت هذا قالوصيه بالمنفعه ضربان مقدرة بمقدرة بمدة ومؤبدة.

فان قدرت بمدة كان قال: قد اوصيت لزيد بخدمة عبى سنه فالوصيه جائزة له بخدمة سنه، والمعتبر في التلت منفعة السنة دون الرقبه.

وفى كيفيه اعتبارها وجهان

(أحدهما)

وهو قول أبى العباس بن سريج انه يقوم العبد كامل المنفعة في زمانه كله.

فإذا قيل مائة دينار قوم وهو مسلوب المنفعة سنه.

فإذا قيل ثمانون دينارا فالوصيه بعشرين دينارا.

وهى خارجه من التلت ان لم يكن على الموصى دين والوجه الثاني: وهو الذى اراه مذهبنا انه يقوم خدمة مثله سنه فتعتبر من التلت، ولا تقوم الرقبه لان المنافع المستهلكة في العقود والعصوب هي المقومه دون الاعيان، فلو اراد ان يستاجر دكانا فان ذلك يعد معاوضة على المنفعة فلا تقوم العين على حدة والمنفعة على حدة، وانما العقد لا يكون الا على المنفعة فكذلك في الوصايا، فإذا علم القدر الذى تقومت به خدمة السنة اما من العين

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 457)

________________________________________

على الوجه الاول أو من المنافع على الوجه الثاني نظر، فان خرج جميعه من الثلث صحت الوصية له بخدمة جميع السنة.

وان خرج ثلثه من الثلث رجعت الوصية إلى ثلثها واستخدمه ثلث السنة فإذا تقرر انه على هذه العبرة استحق استخدامه جميع السنة، فلا يخلو ان يكون في التركة مال غير العبد أم لا.

فان كان في التركة مال غيره إذا امكن الموصى من استخدامه سنة امكن الورثة أن يتصرفوا من التركة في تلك السنة بما يقابل مثل العبد، فللموصى له ان يستخدم جميع العبد سنة متوالية حتى يستوفى جميع وصيته، والورثة لا يمنعون من التصرف في رقبة العبد حتى تمضى السنة فإن باعوا الموصى بمنافعه عبدا كان أو فرسا أو سيارة أو بينا قبل مضى السنة كان في بيبعه قولان كالعبد المؤاجر.

وان لم يكن في التركة مال غير الموصى بمنافعه ولا خلف الموصى سواه ففى كيفية انتفاع الموصى له سنة ثلاثة اوجه حكاها ابن سريج.

احدها انه ينتفع به سنة متواليه ويمنع الورثة من استخدامه والتصرف فيه حتى يستكمل الموصى له سنة وصيته، ثم حينئذ يخلص للورثة بعد انقضائها.

والوجه الثاني: انه يستخدم ثلث الموصى به ثلاث سنين، ويستخدم الورثة ثلثيه حتى يستوفى الموصى له سنة وصيته في ثلاث سنين لئلا يختص الموصى له بما لم يحصل للورثه مثلاه.

والوجه الثالث: ان يتهايأ عليه الموصى له والورثة، فيستخدمه الموصى له يوما والورثة يومين حتى يستوفى سنة وصيته في ثلاث سنين.

والوجه الاول أصح لانهم قد صاروا إلى ملك الرقبة فلم يلزم ان يقابلوا الموصى له بمثلى المنفعة لان حق الموصى له في استخدام الموصى به جميعه، فلم يجز ان يجعل في ثلثه، ولان حقه مفضل ومعجل فلم يجز ان يجعل مرجأ أو مفرقا وإذا كانت الوصية بالمنفعة على التأبيد، كان قال أوصيت لزيد باستخدام

سيارتي أبدا فالوصيه جائزة إذا حملها التلت واختلف اصحابنا في الذى يعتبر قيمته في التلت على وجهين

(أحدهما)

قاله الشافعي رضى الله عنه في اختلاف العراقيين، وهو اختيار ابى العباس بن سريج انه تقوم جميع الرقبه في التلت، وان اختصت الوصيه بالمنفعة كما تقوم رقبة الوقف في التلت.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 458)

________________________________________

وان ملك الموقوف عليه المنفعة فعلى هذا هل يصير الموصى له مالكا، وان منع من بيعها أم لا.

على وجهين

(أحدهما)

لا يملكها لاختصاص الوصية بمنافعها

(والثانى)

يملكها كما يملك ام الولد.

وان كان ممنوعا من بيعها لتقويمها عليه في الثلث، وهذا قول ابى حامد المروروذى.

هذا إذا قيل ان الرقبة هي المقرمة والوجه الثاني: انه يقوم مناعفع الموصى به في الثلث دون الرقبة، لان التقويم انما يختص بما تضمنته الوصية، ولا يجوز ان يتجاوز بالتقويم إلى غيره ولانه لو اوصى بالمنفعة لرجل وبالرقبة لرجل لم يقوم في حق صاحب المنفعة الا المنفعة دون الرقبة.

كذلك إذا استبقى الرقبة على ملك الورثة واعتبار ذلك ان يقوم: كم قيمة الموصى به بمنافعه.

فإذا قيل مائة دينار، قيل: وكم قيمته مسلوب المنافع، فذا قيل عشرون دينارا علم ان قيمة منافعه ثمانون دينارا فتكون هي القدر المعتبر من الثلث.

فعلى هذا هل يحتسب الباقي من قيمة الرقبة وهو عشرون دينارا على الورثة في ثلثيهم أم لا.

على وجهين

(أحدهما)

يحتسب به عليهم، لانه قد دخل ملكهم وهذا قول أبى اسحاق المروزى (والوجه الثاني) لا يحتسب به عليهم لان ما زالت عنه المنفعة زال عنه التقويم.

فإذا ثبت ما ذكرناه وخرج القدر الذى اعتبرناه من الثلث صحت الوصية

بجميع المنفعة، وكان للموصى له استخدامه أبدا ما كان حيا وأخذ جميع أكسابه المألوفة، وهل يملك ما كان غير مألوف منها، على وجهين: أصحهما يملكه.

وفى نفقته ثلاثة أوجه (أحدها) وهو قول ابى سعيد الاصطخرى انها على الموصى له بالمنفعة، لان النفقة تختص بالكسب

(وَالثَّانِي)

وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ انها على الورثة لوجوبها بحق الملك (والثالث) وهو ما حكاه أبو حامد الاسفرايينى تجب في بيت المال لان كل واحد من مالكى المنفعة والرقبة لم يكمل فيه استحقاق وجوبها عليه فعدل بها إلى بيت المال، فان مات الموصى له فهل تنتقل المنفعة إلى وارثه املا، على وجهين حكاهما أبو على الطبري في الافصاح

(أحدهما)

ان المنفعة تنتقل إلى ورثته لتقويمها على الابد في حقه، فعلى هذا تكون المنفعة مقدرة بحياة العين.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 459)

________________________________________

والوجه الثاني: قد انقطعت الوصيه بموت الموصى له لانه وصى له في عينه بالخدمة لا لغيره.

فعلى هذا تكون المنفعة مقدرة بحياة الموصى له ثم تعود بعد موته إلى ورثة الموصى فاما بيع الموصى بمنفعته، فان أراد الموصى له بالمنفعة ببيعه لم يجز سواء ملك جميع المنفعة أو بعضها، وسواء قيل انه مالك أو غير مالك.

وان أراد ورثة الموصى بيعه ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) يجوز لثبوت الملك

(والثانى)

لا يجوز لعدم المنفعة (والثالث) يجوز بيعه من الموصى له بالمنفعة ولا يجوز من غيره، لان الموصى له ينتفع به دون غيره.

والله تعالى أعلم بالصواب

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

وان وصى له بثمرة بستانه، فان كانت موجودة اعتبرت قيمتها من الثلث، وان لم تخلق - فان كانت على التأبيد - ففى التقويم وجهان:

 

(أحدهما)

يقوم جميع البستان

(والثانى)

يقوم كامل المنفعة، ثم يقوم مسلوب المنفعة، ويعتبر ما بينهما من الثلث، فان احتلمه الثلث نفذت الوصيه فيما بقى من البستانى.

وان احتمل بعضها كان للموصى له قدر ما احتمله الثلث يشاركه فيه الورثة، فان كان الذى يحتمله النصف كان للموصى له من ثمرة كل عام النصف وللورثه النصف والله أعلم.

(الشرح) الاحكام: إذا أوصى له بثمرة فذلك ضربان: ان تكون الثمرة موجودة فالوصية جائزة وتعتبر قيمتها من الثلث عند موت الموصى لا حين الوصية فان خرجت من الثلث فهى للموصى له، وان خرج بعضها كان له منها قدر ما احتمله الثلث، وكان الورثة شركاءه فيها بما لم يحتمله الثلث منها والضرب الثاني ان يوصى بثمرة لم تخلق فهذا على ضربين

(أحدهما)

أن يوصى بثمرته على الابد فالوصية جائزة، وفيما يقوم في الثلث وجهان.

احدهما: جميع البستان.

والثانى يقوم كامل المنفعة، ثم يقوم مسلوب المنفعة ثم يعتبر مابين القيمتين من الثلث، فان احتمله نفذت الوصية بجميع الثمرة أبدا ما بقى البستان، وان احتمل بعضه كان للموصى له قدر ما احتمله الثلث يشارك فيه الورثة، مثل ان يحتمل

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 460)

________________________________________

النصف فيكون للموصى له النصف من ثمره كل عام وللورثه النصف الباقي، وإذا احتمل الثلث جميع القيمه وصارت الثمرة كلها للموصى له فاحتاجت إلى سقى فلا يجب على الورثة السقى بخلاف بائع الثمرة حيث وجب عليه سقيها للمشترى إذا احتاجت إلى السقى، لان البائع عليه تسليم ما تضمنه العقد كاملا والسقى من كماله وليس كذلك الوصية لان الثمرة تحدث على ملك الموصى له ولا يجب على الموصى له سقيها، لانها بخلاف البهيمة الموصى بخدمتها في الحرث والسقى، لان نفقة البيهيمة مستحقة لحرمة نفسها ووجوب حفظها بخلاف الثمرة، وكذلك لو احتاجت

النخل إلى سقي لم يلزم واحدا منهما، وأيهما تطوع به لم يرجع به على صاحبه، فان مات النخل استقطع جذاعه للورثه دون الموصى له، وليس للموصى له أن يغرس مكانه ولا ان غرس الورثة مكانه نخيلا كان له فيه حق، لان حقه كان في النخل الموصى له به دن غيره والضرب الثاني: ان يوصى بثمره مدة مقدرة، كان اوصى له بثمره عشر سنين، فمن أصحابنا من ذهب إلى بطلان الوصية مع التقدير بالمدة بخلاف المنفعة لان تقويم المنفعة المقدرة ممكن، وتقويم الثمار المقدرة المدة غير ممكن.

وذهب سائر اصحابنا إلى جوازها كالمنفعة، وفيما تقدم في الثلث وجهان احدهما: انه يقوم البستان كامل المنفعة، ويقوم مسلوب المنفعة، ثم يعتبر ما بين القيمتين في الثلث.

والوجه الثاني: ان ينظر اوسط ما تثمره النخل غالبا في كل عام ثم تعتبر قيمة الغالب من قيمة الثمرة في أول عام، ولا اعتبار بما حدث بعده من زيادة ونقص.

فان خرج جميعه من الثلث فقد استحق جميع الثمرة في تلك المدة، وان خرج نصفه فله النصف من ثمرة كل عام إلى انقضاء تلك المدة، وليس له ان يستكمل هذه كل عام في نصف تلك المدة، لانه قد تختلف ثمرة كل عام في المقادير والاثمان.

فخالف منافع العبد والبهيمة والدار.

ومثل الوصية بثمرة البستان ان تكون الماشية فيوصى له بدرها ونسلها، وتجب نفقة الماشية كما أسلفنا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 461)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله تعالى:

 

‌باب جامع الوصايا

 

إذا وصى لجيرانه صرف إلى أربعين دارا من كل جانب، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (حق الجوار أربعون دارا هكذا وهكذا وهكذا وهكذا، يمينا وشمالا وقداما وخلفا) .

 

(فصل)

وان وصى لقراء القرآن صرف إلى من يقرأ جميع القرآن، وهل يدخل فيه من لا يحفط جميعه، في وجهان.

 

(أحدهما)

يدخل فيه لعموم اللفظ.

 

(والثانى)

لا يدخل فيه، لانه لا يطلق هذا الاسم في العرف الا على من يحفظه، وان وصى للعلماء صرف إلى علماء الشرع، لانه لا يطلق هذا الاسم في العرف الا عليهم، ولا يدخل فيه من يسمع الحديث ولا يعرف طرقه، لان سماع الحديث من غير علم بطرقه ليس بعلم.

(الشرح) حديث ابى هريرة مرفوعا (حق الجار اربعون دارا هكذا وهكذا وهكذا وهكذا يمينا وشمالا وقدام وخلف) هكذا ورد بغير تنوين قدام وخلف وقد سافها المصنف منونا لهما والحديث اخرجه أبو يعلى عن شيخه محمد بن جامع العطار، وهو ضعيف هكذا افاده الهيثمى في مجمع الزوائد على ان القول بهذا الحديد لم ينهض الحديث حجة له يجوز على قول من يقول بتقديم الحديث الضعيف على الاجتهاد، وبه قال احمد وغيره من الفقهاء، على ان المعروف من مذهب الشافعي وبناء على اصله (إذا صح الحديث فهو مذهبي) انه لا عبرة بحديث لم يصح سنده في الاصول ولا في الفروع، والعبرة في هذا بالعرف فهو يقوم مقام النص عند عدمه، الا ان الماوردى قال في حاويه في الغارمين.

قال الشافعي: ويعطى من له الدين عليهم أحب للبر، ولو أعطوه في دينهم رجوت ان يتبع، فان ضمنه في اثنين ضمن حصة الثالث، وفيه وجهان.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 462)

________________________________________

(أحدهما)

يضمن ثلث الثلث.

 

(والثانى)

انه يضمن اقل ما يجزئ ان يعطيه ثالثا ويخص به غارما في بلد المال، ومن كان منهم ذا رحم أولى لما في صلتها من زيادة الثواب، فان لم يكونوا فجيران المال لقوله تعالى (والجار ذى القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب) ولقوله صلى الله عليه وسلم (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت انه سيورثه) قال الشافعي: واقصى الجوار منهم اربعون دارا من كل ناحية، وهكذا لو أوصى لجيران كان جيرانه منتهى اربعين دارا من كل ناحية، وقال قتادة.

الجار الدار والداران، وقال سعيد بن جبير: هم الذين يسمعون الاقامة، وقال أبو يوسف هم اهل المسجد.

ودليلنا ما روى ان رجال كان نازلا بين قوم فاتى للنبى صلى الله عليه وسلم يشكوهم، فبعث النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ وعمر وعليا رضى الله عنهم وقال: اخرجوا إلى باب المسجد وقولوا: الا أن الجوار أربعون دارا.

قلت: فإذا صح ما استدل به الماوردى من بعث الصحابة الثلاثة ليبلغوا عنه صلى الله عليه وسلم هذا كان دليلا مسندا للمذهب والا كان تحديد الاربعون اجتهادا وعرفا يصار اليهما على انه قد استغل بعض السفهاء من واضعى الحديث حث القرآن والسنة على حسن الجوار فجعلوه مرتعا لاحاديث غير شريفة، من ذلك ماروى عن جابر رضى الله عنه مرفوعا (الجيران ثلاثه: جار له حق واحد وهو ادنى الجيران وجار له حقان وجار له ثلاثة حقوق، فاما الذى له حق واحد فجار مشرك لا رحم له، له حق الجوار، واما الذى له الحقان فجار مسلم له حق الاسلام وحق الجوار، واما الذى له ثلاثة حقوق فجار مسلم ذو رحم له حق الاسلام وحق الجوار وحق الرحم، وهذا الحديث رواه البزار عن شيخه محمد الحارثى وهو وضاع، وفيما روى من الاحاديث الصحيحة غنى، الا ان الحديث الذى ساقه الماوردى قد رواه الطبراني عن كعب بن مالك ولفظه، أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فقال: يا رسول الله انى نزلت في محلة بنى فلان، وان أشدهم

لى اذى اقربهم لى جوارا فبعث رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بكر وعمر وعليا

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 463)

________________________________________

يأتون باب المسجد فيقولون على بابه فيصيحون: الا ان أربعين دارا جار، ولا يدخل الجنة من خاف جاره بوائقه.

وفى إسناده يوسف بن السفر، أبو الفيض الدمشقي كاتب الاوزاعي وراويه كما روى عن مالك.

قال النسائي: ليس بثقة.

وقال الدارقطني متروك يكذب.

وقال ابن عدى: روى بواطيل، وقال البيهقى: هو في عداد من يضع الحديث، وقال أبو زرعة وغيره متروك فإذا وصى لقراءة القرآن وكان المضاف إليه معروفا بال وهو يقتضى إما العهد أو الاستغراق، فان قلنا بالاول، فعلى الوجه الذى يجعل الوصية لمن يحفظ القرآن كله ويخرج بذلك من لا يحفظه جميعا، وان قلنا بالثاني فكل ما قرئ من القرآن فهو قرآن دخل من لا يحفظه كله لاشتماله لفظه عليه، فإذا وصى وقال لقراء القرآن، شمل من يحفظه كله ومن يحفظ آية واحدة قولا واحدا.

فان وصى للعلماء صرف إلى علماء وفقهاء الاحكام، ودارسي الفروع، لانه لا يطلق عرفا عند من يوصون للقربة الا عليهم ولا يدخل فيهم صغار المتعلمين الحديث لانهم يسمعون الحديث، ولا يشتغلون باختلاف اسانيده، واسماء رواته، ومعرفة الثقة العدل الضابط منهم والمجروح بدلس أو سوء حفظ أو تصديق لكل ما يسمع، أو شذوذ أو نكارة أو وضع أو صاحب مقالة في الاسلام أو غلو في مذهب يخرج به عن حد العدالة إلى غير ذلك مما ينبغى العلم به وارتشاف مورده، وبذل الوسع في خدمته، لان الحديث أشرف علوم الدين واعظمها مرتقى، وأرجاها عاقبة، والله تعالى اعلم بالصواب.

قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

فإن وصى للايتام لم يدخل فيه من له اب، لان اليتم في بنى آدم

فقد الاب، ولا يدخل فيه بالغ، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا يُتْمَ بَعْدَ الحلم) وهل يدخل فيه الغنى، فيه وجهان.

 

(أحدهما)

يدخل فيه، لانه تيتم بفقد الاب.

(الثاني) لا يدخل فيه، لانه لا يطلق هذا الاسم في العرف على غنى، فإن وصى للارامل دخل فيه من لا زوج لها من النساء، وهل يدخل فيه من

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 464)

________________________________________

لا زوجة له من الرجال، فيه وجهان (احدهما) لا يدخل فيه، لانه لا يطلق هذا الاسم في العرف على الرجال

(والثانى)

يدخل فيه لانه قد يسمى الرجل أرملا كما قال الشاعر: كل الارامل قد قضيت حاجتهم

* فمن لحاجة هذا الارمل الذكر وهل يدخل فيه من لها مال، على وجهين كما قلنا في الايتام.

 

(فصل)

وان وصى للشيوخ اعطى من جاوز الاربعين، وان وصى للفتيان والشباب أعطى من جاوز البلوغ إلى الثلاثين، وان وصى للغلمان والصبيان أعطى من لم يبلغ.

لان هذه الاسماء لا تطلق في العرف الا على ما ذكرناه.

(الشرح) حديث (لا يتم بعد الحلم) رواه أبو داود عن على كرم الله وجهه قال (حفظت عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يُتْمَ بَعْدَ احْتِلَامٍ وَلَا صُمَاتَ يَوْمٍ إلى الليل) وفى إسناده يحيى بن محمد المدنى الجارى، نسبة إلى الجار بلدة على الساحل بالقرب من المدينة المنورة، قال البخاري: يتكلمون فيه، وقال ابن حبان: يجب التنكب عما انفرد به من الروايات.

وقال العقيلى: لا يتابع يحيى المذكور على هذا الحديث، وفى الخلاصة ان العجلى وابن عدى وثقاه.

قال المنذرى: وقد روى هذا الحديث من رواية جابر بن عبد الله وانس بن مالك وليس فيها شئ يثبت، وقد أعل هذا الحديث ايضا عبد الحق وابن القطان

وغيرهما، وحسنه النووي فيما سلف من أجزاء المجموع متمسكا بسكوت ابى داود عليه، ورواه الطبراني بسند آخر عن على، ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده واخرج نحوه ايضا ابن عدى عن جابر، وهذه الروايات يقوى بعضها بعضا فترقى بالحديث إلى درجة الحسن.

وقد استدل بالحديث على ان الاحتلام من علامات البلوغ، وتعقب بانه بيان لغاية مدة اليتم، وارتفاع اليتم لا يستلزم البلوغ الذى هو مناط التكليف، إنما يكون عند إدراكه لمصالح آخرته، ويؤيد مفهومه عند القائلين بان الاحتلام من علامات البلوغ روايه احمد وابى داود والحاكم من حديث على رضى الله عنه وفيه (وعن الصبى حتى يحتلم) وقد اسلفنا القول في ابواب الحجر في تعريف اليتيم

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 465)

________________________________________

ما ينفع في هذا فليراجع.

على انه إذا اوصى للايتام ووجد من الايتام الفقراء من يفيدون من وصيته بما لا يبقى منه فضل كانوا أولى من اليتيم الغنى وإن شمله التعريف.

فإن وصى للارامل فهو للنساء اللاتى فارقهن ازواجهن يموت أو غيره، وهو من أرمل المكان إذا صار ذا رمل، وأرمل الرجل إذا صار بغير زاد لنفاده وافتقاره.

وارملت المرأة فهى أرملة، وهى التى لا زوج لها لافتقارها إلى من ينفق عليها.

قال الازهرى: لا يقال لها أرملة الا إذا كانت فقيرة، فإذا كانت موسرة فليست بأرمله، والجمع أرامل حتى قبل: رجل ارمل إذا لم يكن له زوج وهو قليل، لا يذهب زاده بفقد امرأته لانها ام تكن قيمة عليه.

قال ابن السكيت والارامل المساكين رجالا كانوا أو نساء وقال احمد بن حنبل في رواية حرب، وقد سئل عن رجل اوصى لارامل بنى فلان فقال: قد اختلف الناس فيها، فقال قوم هو للرجال والنساء، والذى

يعرف في كلام الناس ان الارامل النساء.

وقال الشعبى واسحاق: هو للرجال والنساء.

وانشد احدهما: هذى الارامل قد قضيت حاجتها

* فمن لحاجة هذا الارمل الذكر وقال الاخر: أحب أن أصطاد ظبيا سخيلا

* رعى الربيع والشتاء أرملا فعلى الوجه بانه لا يدخل في الوصية أرامل الرجال ان المعروف في كلام الناس انه النساء فلا يحمل لفظ الموصى الا عليه، ولان الارامل جمع ارملة فلا يكون جمعا للذكر، لان ما يختلف لفظ الذكر والانثى في واحده يختلف في جمعه، وقد أنكر ابن الانباري على قائل القول الاخر وخطأه، والشعر الذى احتج به حجة عليه بالرواية التى سقناها، اما على الرواية التى ساقها المصنف: كل الارامل قد قضيت حاجتهم فانه يدل على شمول الارامل للذكر والانثى إذ لا خلاف بين أهل اللسان في أن اللفظ متى كان للذكر والانثى ثم رد عليه ضمير غلب فيه لفظ التذكير وضميره، وهذا يؤيد الوجه القائل بشمول الوصية

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 466)

________________________________________

لارامل الرجال.

فيكون ارامل جمع أرمل كأكابر وأعاظم وأصاغر وأسافل جمع أكبر وأعظم وأصغر وأسفل على ان هناك الفاظا مشتركة بين الرجال والنساء غلب استعمالها للنساء لكثرة شيوعها فيهن وقلتها بين الرجال، فالايامي من قوله تعالى (وانكحوا الايامى منكم) وفى الحديث: أعوذ بالله من بوار الايم.

قالوا يطلق ذلك على الرجال والنساء الذين لا أزواج لهم لما روى عن سعيد بن المسيب قال: آمت حفصة بنت عمر من زوجها.

وآم عثمان من رقية.

والعزاب للرجال والنساء، والثيب للرجال والنساء والبكر للرجال والنساء.

فإذا أوصى للارامل فهل يدخل فيه من لها مال.

على الخلاف الذى مضى في اليتيم اما إذا وصى الشيوخ أعطى من جاوز الاربعين لان ما دون الاربعين كهولة وما دون الكهولة فتوة أو شباب وما دون ذلك يفاعة، وما دونه صبى وما دونه طفل، فهو إلى السابعة طفل.

ثم إلى العاشرة صبى.

ثم إلى الخامسة عشرة يافع ثم إلى الثلاثين شاب أو فتى، ثم إلى الاربعين كهل، ثم بعد الاربعين شيخ، ثم بعد الستين هرم

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

وان وصى لفقراء جاز ان يدفع إلى الفقراء والمساكين، وان وصى للمساكين جاز ان يدفع إلى المساكين والفقراء، لان كل واحد من الاسمين يطلق على الفريقين، وان وصى للفقراء والمساكين جمع بين الفريقين في العطية، لان الجمع بينهما يقتضى الجمع في العطيه كما قلنا في آية الصدقات، وان وصى لسبيل الله تعالى ذفع إلى الغزاة من اهل الصدقات، لانه قد ثبت لهم هذا الاسم في عرف الشرع.

فان وصى للرقاب دفع إلى المكاتبين، لان الرقاب في عرف الشرع اسم للمكاتبين.

وان وصى لاحد هذه الاصناف دفع إلى ثلاثة منهم، لانه قد ثبت لهذه الالفاظ عرف الشرع في ثلاثة، وهو في الزكاة، فحملت الوصية عليها، فان وصى لزيد والفقراء فقد قال الشافعي رحمه الله: هو كاحدهم.

فمن اصحابنا من قال: هو بظاهره انه يكون كأحدهم يدفع إليه ما يدفع إلى أحدهم، لانه أضاف

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 467)

________________________________________

إليه واليهم فوجب ان يكون كأحدهم.

ومنهم من قال: يصرف إلى زيد نصف الثلث ويصرف النصف إلى الفقراء، لانه اضاف إليه واليهم، فوجب ان يساويهم.

ومنهم من قال: يصرف إليه الربع ويصرف ثلاثة ارباعه إلى الفقراء لان اقل الفقراء ثلاثة، فكأنه وصى لاربعة، فكان حق كل واحد منهم الربع

وان وصى لزيد بدينار وبثلثه للفقراء - وزيد فقير - لم يعط غير الدينار، لانه قطع الاجتهاد في الدفع بتقدير حقه في الدينار

(فصل)

وان وصى لقبيلة عظيمد كالعلويين والهاشميين وطى وتميم ففيه قولان

(أحدهما)

ان الوصية تصرح وتصرف إلى ثلاثة منهم، كما قلنا في الوصية للفقراء

(والثانى)

ان الوصية باطله، لانه لا يمكن ان يعطى الجميع ولا عرف لهذا اللفظ في بعضهم فبطل بخلاف الفقراء، فانه قد ثبت لهذا اللفظ عرف وهو في ثلاثة في الزكاة.

(الشرح) قال الامام الشافعي: وإذا اوصى الرجل فقال: ثلث مالى في المساكين فكل من لا مال له ولا كسب يغنيه داخل في هذا المعنى وهو للاحرار دون المماليك ممن لم يتم عتقه.

قال وينظر اين كان ماله فيخرج ثلثه في مساكين أهل ذلك البلد الذى به ماله دون غيرهم، كثر حتى يغنيهم نقل إلى أقرب البلدان له، ثم كان هكذا حيث كان له مال صنع به هذا.

وهكذا لو قال: تلت مالى في الفقراء كان مثل المساكين يدخل فيه الفقير والمسكين، لان المسكين فقير، وللفقير مسكين إذا افر الموصى القول هكذا.

ولو قال ثلث مالى في الفقراء والمساكين، علمنا انه أراد التمييز بين الفقراء والمسكنة، فالفقير الذى لا مال له ولا كسب يقع منه موقعا والمسكين من له مال أو كسب يقع منه موقعا ولا يغنيه، فيجعل الثلث بينهم نصفين، ونعنى به مساكين أهل البلد الذى بين اظهرهم ماله، وفقراءهم وان قل.

ومن اعطى في فقراء أو مساكين فانما أعطى لمعنى فقر، فينظر في المساكين فان كان فيهم من يخرجه من المسكنه مائة واخر يخرجه من المسكنة خمسون، اعطى الذى يخرجه من المسكنه مائه سهمين، والذى يخرجه خمسون سهما وهكذا يصنع في الفقراء

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 468)

________________________________________

على هذا الحساب، ولا يدخل فيهم، ولا يفضل ذو قرابة على غيره إلا بما وصفت في غيره من قدر مسكنته أو فقره، لان العطيه له صدقة وصلة، وما جمع ثوابين كان أفضل من التفرد بأحدهما، فان صرف الثلث في أقل من ثلاثة من الفقراء والمساكين ضمن، فان صرفه في إثنين كان في قدر ما يضمنه وجهان

(أحدهما)

وهو الذى نص عليه الشافعي في الام انه يضمن ثلث الثلث، لان أهل الاجزاء ثلاثة.

والظاهر تساويهم فيه والوجه الثاني: انه يضمن من الثلث قدر مالو دفعه إلى ثلاثة أجزأ، ولا ينحصر بالثلث لان له التسوية بينهم والتفضيل، ولو كان اقتصر على واحد فاحد الوجهين ان يضمن ثلثى الثلث.

والوجه الثاني انه يضمن ما يجزئه من دفعه اليهما فلو أوصى بثلث ماله للفقراء أو المساكين صرف الثلث في الصنفين بالسوية ودفع السدس إلى الفقراء وأقلهم ثلاثة، ودفع السدس الاخر إلى المساكين وأقلهم ثلاثة.

فان صرفه في أحد الصنفين ضمن السدس للصنف الاخر وجها واحدا، ثم عليه صرف الثلث في فقراء البلد الذى فيه المال دون المالك كالزكاة، فان تفرق ماله اخرج في كل بلد ثلث ما فيه، فان لم يوجدوا فيه نقل إلى أقرب البلاد به كما سلف القول في زكاة المال من المجموع فأما زكاة الفطر ففيها وجهان:

(أحدهما)

تخرج في بلد المال دون المالك كزكاة المال

(والثانى)

تخرج في بلد المالك دون المال لانها عن فطرد بدنه وطهرة لصومه فان نقل الزكاة من بلد المال إلى غيره كان في الاجزاء قولان فاما نقل الوصية فقد اختلف أصحابنا في اخراجه على قولين كالزكاة، ومنهم من قال يجزئ قولا واحدا وان أساء، لان الوصية عطية من آدمى قد كان له

ان يضعها حيث شاء.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 469)

________________________________________

فان وصى في سبيل الله صرف في الغزاة لما قلناه في الزكاة ويصرف ذلك في ثلاثة فصعادا من غزاة البلد ومحاربيه أغنى بلد المال على حسب منازلهم في القرب والبعد ومن كان فيهم فدائيا أو نظاميا، طيارا أو آليا أو من المشاة أو الفرسان فان لم يوجدوا في البلد نقل إلى أقرب البلاد به.

(فرع)

إذا أوصى بثلثه في الرقاب صرف في المكاتبين، وبه قال أبو حنيفة وقال مالك: يشترى به رقاب يعتقون، وأصل هذا اختلافهم في سهم الرقاب في الزكاة، هل ينصرف في العتق أو في المكاتبين، والدليل على ذلك قوله تعالى (إنما الصدقات للفقراء) فأثبت ذلك لهم بلام الملك والعبد لا يملك فيصرف إليه والمكاتب يملك فوجب صرفه إليه، ولانه مصروف في ذوى الحاجات، ولان مال الزكاة مصروف لغير نفع يعود إلى ربه، فلو صرف في العتق لعاد إليه الولاء فإذا تقرر ان سهم الرقاب في الزكاة مصروف في المكاتبين، وجب ان يكون سهم الرقاب في الوصايا مصوفا في المكاتبين، لان مطلق الاسماء المشتركة محمولة على عرف الشرع.

(فرع)

إذا اوصى بشئ لزيد وللمساكين فقال الشافعي رضى الله عنه: يكون كأحدهم ان عمهم أعطاه كواحد منهم، ومن أصحابنا من قال: يصرف إليه ربع الوصية وثلاثة ارباعها للفقراء، ومنهم من قال: يصرف لزيد نصف الوصية والباقى للفقراء، لانه جعل الوصية لجهتين فوجبت القسمة بينهما وبهذا قال أحمد وأصحابه وأبو حنيفة ومحمد.

وعن محمد قول اخر: لزيد ثلثه وللمساكين ثلثاه، لان أقل الجمع اثنان، فان كان اوصى لزيد بدينار وبثلثيه للفقراء، وزيد فقير لم يدفع إليه من سهم الفقراء

شئ، وليس له غير الدينار، وبه قال الحسن البصري واسحاق بن راهويه، لان عطفهم عليه يدل على المغايرة بنهما، إذ الظاهر المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، ولان تجويز ذلك يفضى إلى تجويز دفع الجميع إليه، ولفظه يقتضى خلاف ذلك.

(فرع)

وقوله: فإن وصى لقبيلة عظيمة كالعلويين هم أبناء على كرم الله وجهه

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 470)

________________________________________

وهم يطلقون هذا على من كان من ولد محمد بن الحنفيه، ولذلك أطلق بعض من يريد كمال الشرف منهم لقب الفاطميين على انفسهم حتى ينفوا انهم من ابناء ابن الحنفية فكل فاطمي علوى وليس العكس.

أما الهاشميون فهم بنو هاشم بن عبد مناف واسمه عمرو وسمى هاشما لهشمه الثريد أيام المجاعه.

عمرو الذى هشم الثريد لقومه ورجال مكه مسنتون عجاف وولده عبد المطلب بن هاشم وكان لعبد المطلب اثنا عشر ولدا، عبد الله أبو النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو طالب، والزبير، وعبد الكعبة، والعباس وشرار، وحمزة، وحجل، وأبو لهب، وقثم، والغيداق المقب بالمقوم، والحارث أعمام النبي صلى الله عليه وسلم.

والعقب منهم لسته حمزه والعباس وأبو لهب والحارث وأبو طالب وعبد الله وقد ذكر ابن حزم وغيره أن حمزة انقرض عقبه.

أما طئ بفتح الطاء وتشديد الياء بهمزة في الآخر أخذا من الطاءة على وزن الطاعه، وهى الايغال في المرعى وهم بنو طئ بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان، وإليهم ينسب حاتم الطائى المشهور بالكرم، وأبو تمام الطائى الشاعر المشهور وهم من العرب العاربه من حمير، كانت منازلهم باليمن ثم افترقوا

بعد سيل العرم فنزلوا بنجد والحجاز، ثم غلبوا بنى أسد على جبلى أجأ وسلمى من بلاد نجد فنزلوهما فعرفا بجبلى طئ ثم افترقوا في أول الاسلام زمن الفتوحات في الاقطار، ومنهم بنو ثعل وزيد الخبل، وبنو تميم من العرب المستعربة وكانت منازلهم بأرض نجد ومن بطونهم طانجه ومن بطونها مزينه وهم بنو عثمان وأوس ابني عمر بن أد بن طانجه ومزينه أمهما عرفوا بها وهى بنت وبرة، ومنهم كعب ابن زهير المزني صاحب قصيدة بانت سعاد التى ألقاها أمام النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم الامام إسماعيل بن ابراهيم المزني صاحب الامام الشافعي رضى الله عنه.

أما االاحكام: فانه إن وصى لبنى فلان وهم قبيلة ويدخل فيهم الذكر والانثى والخنثى ففى جواز الوصيه قولان.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 471)

________________________________________

(أحدهما)

تصح وتصرف إلى ثلاثة منهم فما فوق كما قلنا في الفقراء وبصحتها قال أحمد بن حنبل وقال: لا يدخل ولد البنات فيهم لانهم لا ينتسبون إلى القبيلة (والقول الثاني) لا تصح الوصية لعدم إمكان إعطاء الجميع ولا يطلق اللفظ في العرف على فخذ منهم بحيث لو أوصى لبنى طئ فلا يخص بنى مزينة، ولو أوصى لبنى هاشم فلا يخص بنى أبى طالب، فكان باطلا ويخالف الفقراء فانه ينطبق عرفا على ثلاثة منهم، والله تعالى أعلم بالصواب.

قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

وإن أوصى أن يضع ثلثه حيث يرى لم يجز أن يضعه في نفسه لانه تمليك ملكه بالاذن فلم يملك من نفسه كما لو وكله في البيع، والمستحب أن يصرفه إلى من لا يرث الموصى من أقاربه، فان لم يكن له أقارب صرف إلى أقاربه من الرضاع، فان لم يكونوا صرف إلى جيرانه لانه قائم مقام الموصى، ولمستحب للموصى أن يضع فيما ذكرناه فكذلك الوصي.

 

(فصل)

وإن وصى بالثلث لزيد ولجبريل، كان لزيد نصف الثلث وتبطل في الباقي، فان وصى لزيد وللرياح ففيه وجهان.

أحدهما: أن الجميع لزيد، لان ذكر الرباح لغو.

والثانى: أن لزيد النصف وتبطل الوصية في الباقي كالمسألة قبلها، فان قال: ثلثى لله ولزيد ففيه وجهان

(أحدهما)

أن الجميع لزيد، وذكر الله تعالى للتبرك كقوله تعالى: فأن لله خمسه وللرسول

(والثانى)

أنه يدفع إلى زيد نصفه والباقى للفقراء لان عامة ما يجب لله تعالى يصرف إلى الفقراء.

 

(فصل)

وإن وصى لحمل إمرأة فولدت ذكرا وأنثى صرف اليهما وسوى بينهما، لان ذلك عطية فاستوى فيه الذكر والانثى، وإن وصى إن ولدت ذكرا فله ألف، إن ولدت أنثى فلها مائة فولدت ذكرا وأنثى استحق الذكر الالف والانثى المائة، فان ولدت خنثى دفع إليه المائة لانه يقين ويترك الباقي إلى أن يتبين فان ولدت ذكرين أو أنثيين ففيه ثلاثه أوجه.

أحدها: أن الوارث يدفع الالف إلى من يشاء من الذكرين والمائة إلى من

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 472)

________________________________________

يشاء من الانثيين لان الوصية لاحدهما فلا تدفع اليهما، والاجتهاد في ذلك إلى الوارث كما لو أوصى لرجل بأحد عبديه.

والثانى: أنه يشترط الذكران في الالف والانثيان في المائة، لانه ليس أحدهما بأولى من الآخر فسوى بينهما، ويخالف العبد فانه جعله إلى الوارث، وههنا لم يجعله إلى الوارث.

الثالث: أنه يوقف الالف بين الذكرين والمائه بين الانثيين إلى أن يبلغا ويصطلحا، لان الوصيه لاحدهما فلا يجوز أن تجعل لهما ولا خيار للوارث، فوجب التوقف، فان قال: ما في بطنك ذكرا فله ألف، وان كان أنثى فله

مائة، فولدت ذكرا وأنثى لم يستحق واحد منهما شيئا لانه شرط أن يكون جميع ما في البطن ذكرا أو جميعه أنثى، ولم يوجد واحد منهما.

(الشرح) الاحكام: إذا أوصى بثلث ماله إلى رجل يضعه حيث يشاء هو أن يضعه أو حيث أراه الله لم يكن له أن يأخذ منه لنفسه شيئا، وان كان محتاجا لانه أمره بصرفه لا بأخذه ولم يكن له أن يصرفه إلى وارث الموصى، وان كان محتاجا لان الوارث ممنوع من الوصية وليس له أن يودعه عند نفسه ولا أن يودعه غيره، قال الشافعي رضى الله عنه: واختار له أن يعطيه أهل الحاجة من قرابة الميت حتى يغنيهم دون غيرهم، وليس الرضاع قرابة، فان لم يكن له قرابة من قبل الاب والام وكان له رضعاء أحببت أن يعطيهم، فان لم يكن له رضيع أحببت أن يعطى جيرانه الاقرب منهم فالاقرب، وأقصى الجوار منتهى أربعين دارا من كل ناحية وأحب أن يعطيه أفقر من يجده وأشدهم تعففا واستثارا، ولا يبقى في يده شيئا يمكن به أن يخرجه من ساعته.

(فرع)

ان وصى بالثلث لله ولزيد فقد كان لاصحابنا فيه وجهان.

أحدهما: أن الثلث لزيد واسم الله تعالى في الوصية ورد التبرك.

والثانى أن يصرف لزيد نصفه ويصرف النصف الباقي للفقراء، فعلى هذا الوجه إذا صرف إلى زيد الثلث كله صمن نصفه.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 473)

________________________________________

ولو قال: اصرفوا ثلثى الخير أو في سبيل البر أو في سبيل الثواب قال الشافعي رضى الله عنه: جزئ أجزاء فأعطى ذو قرابته فقراء كانوا أو أغنياء، الفقراء والمساكين، وفى الرقاب والغارمين وابن السبيل والحاج، ويدخل الضيف والسائل والمعتر منهم، فان لم يفعل الموصى ضمن سهم من منعه إذا كان موجودا.

(فرع)

قال الشافعي رضى الله عنه: تجوز الوصية لما في البطن وبما في البطن إذا كان يخرج لاقل من ستة إشهر فان خرجوا عددا ذكورا وإناثا فالوصية بينهم سواء وهم لمن أوصى بهم له، وهذه المسألة مشتملة على فصلين.

أحدهما: الوصية للمحمل.

والثانى: الوصية بالحمل، فأما الوصية بالحمل فجائزة، لانه لما ملك بالارث وهو أضيق ملك بالوصية التى هي أوسع، فلو أقر للحمل إقرارا مطلقا بطل في أحد القولين، والفرق بينهما أن الوصية أحمل للجهالة له من الاقرار، ألا ترى لو أوصى لمن في هذه الدار صح، ولو أقر له يصح، فإذا قال: قد أوصيت لحمل هذه المرأة بألف نظر حالها إذا ولدت، فان وضعته لاقل من ستة أشهر من حين تكلم بالوصية لا من حين الموت صحت له الوصية لعلمنا أن الحمل كان موجودا وقت الوصية، وان وضعته لاكثر من أربع سنين من حين الوصية فالوصية باطلة لحدوثه بعدها وأنه لم يكن موجودا وقت التكلم بها، وان وضعته لاكثر من ستة أشهر وقت الوصيه ولاقل من أربع سنين، فان كانت ذات زوج يمكن أن يطأ فيحدث ذلك منه فالوصيه باطله لامكان حدوثه فلم يستحق بالشك وان غير ذات زوج يطأ فالوصيه جائزة لان الظاهر تقدمه، والحمل يجرى عليه حكم الظاهر في اللحوق فكذلك في الوصيه فإذا صحت الوصيه له فان وضعت ذكرا أو انثى فالوصية له وان وضعت ذكر أو أنثى كانت الوصيه بينهما نصفين لانها هبه لا ميراث الا إذا فضل الموصى الذكر على الانثى أو العكس فيحمل على تفضيله، فلو قال إذا ولدت غلاما فله ألف، وان ولدت جاريه فلها مائة فولدت غلاما استحق ألفا أو جاريه استحقت مائه، وان ولدت غلاما وجاريه استحق الغلام ألفا والجاريه مائه،

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 474)

________________________________________

وإن ولدت خنثى دفع إليه مائة لانها يقين ووقف تمام الالف حتى يتبين، وهكذا

لو قال: إن كان في بطنك غلام فله ألف، وإن كان في بطنك جارية فلها مائة، فإن ولدت غلامين أو جاريتين صحت الوصية.

وفيها ثلاثة أوجه حكاها ابن سريج (أحدها) أن للورثه أن يدفع الالف إلى أي الغلامين شاءوا والمائة إلى أي الجاريتين شاءوا لانها فلم تدفع اليهما، ورجع فيها إلى بيان الوارث كالوصية بأحد عبديه (والوجه الثاني) أنه يشترك الغلامان في الالف والجاريتان في المائة، لانها وصية لغلام وجاريه، وليس أحد الغلامين أولى من الاخر، فشرك بينهما ولم يرجع فيه إلى خيار الوارث بخلاف الوصية باحد العبدين اللذين يملكهما الوارث فجاز أن يرجع إلى خياره فيهما.

(والوجه الثالث) أن الالف موقوفه بين الغلامين، والمائة موقوفة بين الجاريتين حتى يصطلحا عليهما بعد البلوغ، لان الوصيه لواحد فلم يشرك فيها بين اثنين، وليس للوارث فيها خيار فلزم فيها الوقف فلو قال: إن كان الذى في بطنك جاريه فلها مائه، فولدت غلاما وجاريه فلا شئ لواحد منهما، بخلاف قوله ان كان في بطنك غلام فله الالف، لانه إذا قال ان كان الذى في بطنك غلام فقد جعل كون الحمل غلاما شرطا في الحمل والوصيه معا، فإذا كان الحمل غلاما وجاريه لم يوجد الشرط كاملا فلم تصح الوصيه.

وإذا قال إن كان في بطنك غلام فلم يجعل ذلك شرطا في الحمل، وإنما جعله شرطا في الوصيه فصحت الوصيه.

وهكذا لو قال: ان كان ما في بطنك غلاما، فهو كقوله: إن كان الذى في بطنك جاريه، فإذا وضعت غلاما وجاريه فلا وصيه.

وكذلك لو قال: إن كان الذى في بطنك غلاما فله ألف فولدت غلامين ففى الوصيه وجهان

 

(أحدهما)

باطل كما لو ولدت غلاما وجاريه لانه لم يكن كل حملها غلاما.

والوجه الثاني أنها جائزة لان كل واحد منهما غلام فاشتركا في الصفه ولم تضر الزيادة، فعلى هذا يكون على الوجوه الثلاثه التى حكاها ابن سريج من قبل أنها

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 475)

________________________________________

ترجع إلى بيان الورثة في دفع الالف إلى أحدهما، والثانى يشتركان جميعا فيها.

والثالث توقف الالف بينهما حتى يصطلحا عليها.

(مسألة) لو قال قد أوصيت لحمل هذه المرأة من زوجها فجاءت بولد نفاه زوجها باللعان، ففى الوصية وجهان

(أحدهما)

وهو قول ابن سريج ان الوصية باطلة لان لعانه قد نفى أن يكون منه (وَالْوَجْهُ الثَّانِي) وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ان الوصية له جائزة، لان لعان الزوج إنما اختص بنفس النسب دون غيره من أحكام الاولاد.

ألا ترى أنها تعتد به.

ولو قذفها به قاذف حدث له.

ولو عاد واعترف به لحق به.

ولكن لو وضعت بعد أن طلقها ذلك الزوج ثلاثا ولاكثر من أربع سنين من وقت الطلاق ولاقل من ستة أشهر من حين الوصيه فلا وصيه لعلمنا أنه ليس منه.

وبخلاف الملاعن الذى يجوز أن يكون الولد منه.

(مسألة أخرى) إذا وضعت الموصى بحملها ولدا ميتا فلا وصية كما لا ميراث له، ولو وضعته حيا فمات صحت الوصية وكان لوارث الحمل كالميراث.

ولو ضرب ضارب بطنها فألقت جنينا ميتا كان فيه على الضارب قود، ولا وصية له كما لا ميراث له.

وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:

(فصل)

فإن أوصى لرجل بسهم أو بسقط أو بنصيب أو بجزء من ماله فالخيار إلى الوارث في القليل والكثير، لان هذه الالفاظ تستعمل في القليل والكثير.

 

(فصل)

فإن أوصى له بمثل نصيب أحد ورثته أعطى مثل نصيب أقلهم نصيبا لانه نصيب أحدهم، فإن وصى له بمثل نصيب ابنه وله ابن كان ذلك وصية بنصف المال، لانه يحتمل أن يكون قد جعل له الكل، ويحتمل أنه جعله مع ابنه فلا يلزمه الا اليقين، ولانه قصد التسوية بينه وبين ابنه ولا توجد التسوية إلا فيما ذكرناه، فإن كان له ابنان فوصى له بمثل نصيب أحد ابنيه جعل له الثلث، وإن وصى له بنصيب ابنه بطلت الوصية، لان نصيب الابن للابن فلا تصح الوصية به كما لو أوصى له بمال إبنه من غير الميراث.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 476)

________________________________________

ومن أصحابنا من قال: يصح ويجعل المال بينهما، كما أوصى له بمثل نصيب إبنه، فإن وصى له بمثل نصيب ابنه وله ابن كافر أو قاتل فالوصية باطله، لانه وصى بمثل نصيب من لا نصيب له، فأشبه إذا وصى بمثل نصيب أخيه وله ابن.

(الشرح) قال الشافعي رضى الله عنه: ولو قال لفلان نصيب أو حظ أو قليل أو كثير من مالى، فما أعرف لكثير حدا الاحكام: إذا أوصى لرجل بنصيب من ماله أو حظ أو قليل أو كثير ولم يحد ذلك بشئ فالوصية جائزة ويرجع في بيانها إلى الورثة، فما بينوه من شئ كان قولهم فيه مقبولا، فإن ادعى الموصى له أكثر لان هذه الاسماء كلها لا تختص في اللغة ولا في الشرع ولا في العرف بمقدار معلوم لاستعمالها في القليل والكثير ولان القليل والكثير حد، لان الشئ قد يكون قليلا إذا أضيف إلى ما هو أكثر منه، ويكون كثيرا إذا أضيف إلى ما هو أقل منه وحكى عنه عطاء وعكرمة أن الوصية بما ليس بمعلوم من الحظ والنصيب باطلة للجهل بها.

وهذا فاسد لان الجهل بالوصايا لا يمنع من جوازها، ألا ترى أنه لو أوصى بثلث ماله وهو لا يعلم قدره جازت الوصية مع الجهل بها، وقد

أوصى أنس بن مالك لثابت البنانى بمثل نصيب أحد ولده أما إذا أوصى له بسهم من ماله فقد اختلف الناس فيه، فحكى عن عبد الله ابن مسعود رضى الله عنه والحسن البصري وإياس بن معاويه وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل أن له سدس المال.

وقال شريح بدفع له بينهم واحد من سهام الفريضتين.

وقال أبو حنيفة يدفع إليه مثل نصيب أقل الورثة نصيبا ما لم يجاوز الثلث، فان جاوزه أعطى الثلث.

وقال أبو ثور أعطيه سهما من أربعة وعشرين سهما وقال أبو يوسف ومحمد يعطى مثل نصيب أقلهم نصيبا ما لم يجاوز الثلث فإن جاوزه أعطى الثلث وقال الشافعي السهم اسم عام لا يختص بقدر محدود لانطلاقه على القليل والكثير كالحظ والنصيب فيرجع فيه إلى بيان الوارث، فان قيل روى ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَ لرجل أوصى له سهما سدسا.

قيل هي قضية

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 477)

________________________________________

في عين يحتمل أن تكون البينة قائمة، فأمر بالسدس أو اعترف به الورثة، فإذا ثبت أنه يرجع فيه إلى بيان الورثة قبل منهم ما بينوه من قليل وكثير، فان نوزعوا أحلفوا، فلو لم يبينوا لم تخل حالهم من أن يكون عندهم بيان أو لا يكون، فان لم يكن عندهم بيان رجع إلى بيان الموصى له، فان نوزع أحلف، وان لم يكن عند الموصى له بيان فأبوا أن يبينوا ففيه وجهان من اختلاف قولين فيمن أقر بمجمل وامتنع أن يبين أحدهما يحبس الوارث حتى يبين، والثانى يرجع إلى بيان الموصى له (فرع)

إذا أوصى بمثل نصيب أحد ورثته ولم يسمه قال الشافعي رضى الله عنه (أعطيته مثل أقلهم نصيبا) (قلت) لان الوصايا لا يستحق فيها الا اليقين والاقل، فلا تعين الزيادة على شك، فان كان سهم الزوجة أقل أعطيته مثل سهمها، وان كان سهم غيرها من

البنات أو بنات الابن أقل أعطيته مثله، واعتبار ذلك باعتبار سهام كل واحد من الورثة من أصل فريضتهم، فتجعل للموصى له مثل سهام أقلهم، وتضمه إلى أهل الفريضة، ثم يقسم المال بين الموصى له والورثة على ما اجتمع معك من العددين وقد بيناه.

ولو وصى إليه بمثل أكثرهم نصيبا اعتبرته زودته على سهام الفريضة ثم قسمت ما اجتمع من العددين على ما وصفناه، فعلى هذا لو اختلف الورثة فقال بعضهم أراد مثل أقلنا نصيبا، وقال بعضهم بل أراد مثل أكثرنا نصيبا أعطيته من نصيب كل واحد من الفريقين حصة مما اعترف بها ومثاله أن يكون الورثة ابنين وبنتين فيكون لكل ابن سهمان ولكل بنت سهم وللموصى له بمثل نصيب الذكر، ولو أراد أنثى لكان المال مقسوما على سبعة اسم فريضه ابنين وثلاثة بنات ولو ترك ابنا وبنتا وأوصى لرجل بمثل نصيب البنت فذلك ضربان

(أحدهما)

أن يريد بمثل نصيب البنت قبل دخول الوصية عليها.

فعلى هذا يكون الموصى له بمثل نصيب الابن خمس المال وللموصى له بمثل نصيب البنت ربع المال، فيصير بالوصيتين بخمس المال وربعه فيوقف على اجازتهما.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 478)

________________________________________

والضرب الثاني: أن يريد بمثل نصيب البنت بعد دخول الوصية عليها فعلى هذا يكون الموصى له بمثل نصيب الابن خمس المال، وللموصى له بمثل نصيب البنت سدس المال فتصير الوصيتان بخمس المال وسدسه فتوقف على اجازتهما فلو ابتدأ فوصى لرجل بمثل نصيب البنت ولآخر بمثل نصيب الابن كان للموصى له بمثل نصيب البنت ربع المال، فأما الموصى له بمثل نصيب الابن،

فان أراد قبل دخول الوصية عليه كان له ثلث المال ثم على هذا القياس.

ولو ترك بنتا وأخا وأوصى لرجل بمثل نصيب البنت فقد اختلف أصحابنا في قدر ما يستحقه الموصى له على وجهين.

 

(أحدهما)

له الربع نصف حصة البنت، لانه لما استحق مع البنت الواحدة الربع لانه نصف نصيبها.

(والوجه الثاني) وهو اصح، له الثلث لانه يصير مع البنت الواحدة كبنت ثانية كما يصير مع الابن الواحد كابن ثان، وللواحدة من البنتين الثلث فكذلك للموصى له مثل نصيب البنت الواحدة الثلث، وهكذا لو وصى بمثل نصيب أخت مع عم كان فيما يستحقه بالوصية وجهان.

أحدهما: الربع، والثانى الثلث وهكذا لو لم يرث مع البنت والاخت غيرهما، لان لكل واحدة منهما إذا انفردت النصف، والباقى لبيت المال، فعلى هذا لو وصى بمثل نصيب أخ لام فله في أحد الوجهين نصف السدس، وفى الاخر السدس.

وجملة ذلك أن الموصى جعل وارثه أصلا وقاعدة حمل عليها نصيب الموصى له وجعله مثلا له، وهذا يقتضى أن لا يزاد عليه، فان كان الورثة يتساوون في الميراث كالبنين مثلا فله نصيب أحدهم إذا كانت الوصية بمثل نصيب أحد ورثته فان تفاضلوا فله مثل نصيب أقلهم ميراثا يزاد على الفريضة، فان أوصى بنصيب وارث معين فله مثل نصيبه مزادا على الفريضة، وبهذا قال الجمهور، وبه قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد.

وقال مالك وابن أبى ليلى وزفر وداود: يعطى مثل نصيب المعين أو مثل نصيب أحدهم إذا كانوا يتساوون من أصل المال غير مزيد، ويقسم الباقي بين الورثة

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 479)

________________________________________

لان نصيب الوارث قبل الوصيه من أصل المال، فلو أوصى بمثل نصيب ابنه،

وله ابن واحد فالوصية بجميع المال، وان كان له ابنان فالوصيه بالنصف، وان كانوا ثلاثه فالوصيه بالثلث.

وقال مالك: إن كانوا يتفاضلون نظر إلى عددهم فأعطى سهما من عددهم لانه لا يمكن اعتبار أنصبائهم لتفاضلهم فاعتبر عدد رؤوسهم، وقد أوضحنا أن الموصى جعل وارثه أصلا وقاعدة، وهذا يدل على فساد ما خالفه، لان قاعدة الجمهور تقتضي أن لا يزاد أحدهما على صاحبه، ومتى أعطى من أصل المال فما أعطى نصيبه ولا حصلت له التسوية، والعبادة تقتضي التسوية، وإنما جعل مثل أقلهم نصيبا لانه اليقين، وما زاد فمشكوك فيه فلا يثبت مع الشك.

(فرع)

قال الشافعي رضى الله عنه: إذا اوصى بمثل نصب ابنه ولا ابن له غيره فله النصف، فإن لم يجز الابن فله الثلث.

قلت وهذا قول أبى حنيفة وصاحبه: فإن أجازها الابن وإلا ردت على الثلث وقال الك وزفر بن الهذيل وداود بن على: هي وصية بجميع المال، استدلالا بأن نصيب ابنه إذا لم يكن له غيره الجميع فاقتضى أن تكون الوصية بمثل نصيبه وصية بجميع المال، ولانه لو كان وصى له بمثل ما كان نصيب ابنه كانت وصية بجميع المال إجماعا وجب إذا وصى له بمثل نصيب ابنه ان تكون وصيته بجميع المال حجاجا، وهذا فاسد من ثلاثة أوجه.

أحدها: ان نصيب الابن اصل والوصية بمثله فرع فلم يجز أن يكون الفرع رافعا لحكم الاصل.

والثانى: أنه لو جعلت الوصية بكل المال لخرج أن يكون للابن نصيب، وإذا لم يكن للابن نصيب بطلت الوصية التى هي مثله.

والثالث: أن الوصية بمثل نصيب ابنه توجب التسوية بين الموصى له وبين ابنه، فإذا وجب ذلك كانا نصفين ن وفى إعطائه اجميع إبطال للتسوية بينهما كما

قررنا، وأما قولهم.

إن نصيب الابن كل المال، فالجواب: أن له الجميع مع عدم الوصية، فأما مع الوصية فلا يستحق الجميع.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 480)

________________________________________

وأما قوله: وصيت لك بمثل ما كان نصيب ابني فالفرق بينهما أنه لم يجعل له مع الوصية نصيبا فلذلك كانت بكل المال.

فعلى هذا لو قال: وصيت لك بنصيب ابني فالذي عليه الجمهور من أصحابنا أن الوصية باطلة، وهو قول أبى حنيفة وأحمد لانها وصية بما لا يملك، لان نصيب الابن ملكه لا ملك أبيه.

وقال بعض أصحابنا الوصية جائزة، وهو قول مالك ويجريها مجرى قوله: بمثل نصيب ابنه فيجعلها وصيه بالنصف وعند مالك بالكل ولو أوصى بمثل نصيب ابنه ولا ابن له كانت الوصية باطلة، وكذلك لو كان له ابن كافر أو قاتل لانه لا نصيب له.

(فرع)

قال الشافعي رضى الله عنه: ولو قال: بمثل نصيب أحد ولدى فله مع الابنين الثلث ومع الثلاثة الربع حتى يكون كأحدهم.

قلت: وإلى هذا ذهب أحمد وأصحابه.

وقال مالك: يكون له مع الاثنين النصف ومع الثلاثة الثلث ومع الاربعة الربع، وقد ذكرنا وجه فساده لما فيه من تفضيل الموصى له على ابنه.

(قلت) ولو قال: بمثل نصيب ابني وله ولدان فالوصية باطلة، لانه يوصى بنصيب ابنه الذى هو ملك للابن فلا يملك الاب الوصية به كما لو أوصى بما يملكه ولده من كسبه لا من ميراثه، ومن أصحابنا من صحح الوصية وجعلها كقوله: بمثل نصبي أحد ابني، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

 

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى

(فصل)

فإن وصى بضعف نصيب أحد أولاده دفع إليه مثلا نصيب أحدهم

لان الضعف عبارة عن الشئ ومثله، ولهذا يروى أن عمر رضى الله عنه أضعف الصدقة على نصارى بنى تغلب، أي أخذ مثلى ما يوخذ من المسلمين فان وصى له بضعفي نصيب أحدهم أعطى ثلاثة أمثال نصيب أحدهم.

وقال أبو ثور يعطى أربعة أمثاله وهذا غلط، لان الضعف عبارة عن الشئ ومثله فوجب أن يكون الضعفان عبارة عن الشئ ومثليه.

 

(فصل)

فإن وصى لرجل بثلث ماله ولآخر بنصفه وأجار الورثة قسم

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 481)

________________________________________

المال بينهما على خمسة.

للموصى له بالثلث سهمان، وللموصى له النصف ثلاثة أسهم فإن لم يجيز واقسم الثلث بينهما على خمسه على ما ذكرناه لان ما قسم على التفاضل عند اتساع المال قسم على التفاضل عند ضيق المال كالمواريث، والمال بين الغرماء فان أوصى لرجل بجميع ماله ولآخر بثلثه وأجاز الورثة.

قسم المال بينهما على أربعة، للموصى له بالجميع ثلاثة أسهم، وللموصى له بالثلث سهم، لان السهام في الوصايا كالسهام في المواريث، ثم السهام في المواريث إذا زادت على قدر المال أعيلت الفريضة بالسهم الزائد، فكذلك في الوصية، فان لم يجيز واقسم الثلث بينهما على ما قسم الجميع.

(الشرح) قال الشافعي رضى الله عنه: ولو قال: ضعف ما يصيب أكثر ولدى نصيبا أعطيته مثله مرتين، ولو قال: ضعفين، فان كان نصيبه مائة أعطيته ثلاثمائة، فأكون قد أضعفت المائة التى تصيبه بميراثه مرة فلذاك ضعفان، وهكذا إن قال ثلاثة أضعاف وأربعة، ولم أزد على أن أنظر أصل الميراث فأضعفه له مرة بعد مرة حتى يستكمل ما أوصى له به اه اللغات: إذا أوصى لرجل بمثل ضعف نصيب أحد أولاده كان الضعف مثلى النصيب، فان كان نصيب الابن مائة كان للموصى له بالضعف مائتين، وبه قال

جمهور الفقهاء.

وقال أبو عبيدة القاسم بن سلام الضعف المثل، واستدل بقوله تعالى (يضاعف لها العذاب ضعفين) أي مثلين، وقوله تعالى (فآتت أكلها ضعفين) وإذا كان الضعفان مثلين فالواحد مثل.

ولنا ان الضعف مثلان بديل قوله تعالى (إذن لاذقناك ضعف الحياة وضعف الممات) وقال (فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا) ويروى عن عمر انه اضعف الزكاة على نصارى بنى تغلب فكان يأخذ من المائتين عشرة، وقال لحذيفة وعثمان بن حنيفة لعلكما حملتما الارض مالا تطيق؟ فقال عثمان لو أضعفت عليها لاحتملت، قال الازهرى الضعف المثل فما فوقه.

قال الماوردى في حاوية، والدليل عل ان الضعف مثلان هو ان اختلاف الاسماء يوجب اختلاف المسمى إلا ما خص بدليل.

ولان الضعف اعم في اللغة

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 482)

________________________________________

من المثل فلم يجز أن يسوى بينه وبين المثل، ولان انشقاق الضعف من المضاعفة والثنية من قولهم: أضعف الثوب إذا طويته بطاقين فأما الآية ففيها جوابان

(أحدهما)

ما حكاه أبو العباس عن الاثرم عن بعض المفسرين أنه جعل عذابهن إذا أتين بفاحشة ثلاثة أمثال عذاب غيرهن فلم يكن فيه دليل

(والثانى)

أن الضعف قد يستعمل في موضع المثل مجازا إذا صرفه الدليل عن حقيقته، وليست الاحكام تتعلق بالمجاز، وانما تتعلق بالحقائق فأما بيان الاحكام فإنه إذا أوصى له بضعفي نصيب ابنه فقد اختلفوا فيه على ثلاثة مذاهب (أحدها) وهو مذهب مالك أن له مثلى نصيبه لانه جعل الضعف مثلا فجعل الضعفين مثلين والمذهب الثاني وهو مذهب أبى ثور أن له أربعة أمثال نصيبه، لانه لما استحق بالضعف مثلين استحق بالضعفين أربعة أمثال

والمذهب الثالث وهو مذهب الشافعي رضى الله عنه وجمهور الفقهاء أن له بالضعفين ثلاثة أمثال نصيبه، فإن كان الابن نصيبه مائة استحق بالضعفين ثلاثمائة، لانه لما أخذ بالضعف سهم الابن ومثله حتى استحق مثلين.

وجب أن يأخذ بالضعفين لسهم الابن ومثليه يستحق به ثلاثة أمثاله.

فعلى هذا لو أوصى له بثلاثة أضعاف نصيب ابنه استحق أربعة أمثاله، وبأربعة أضعاف خمسة أمثاله وكذلك فيما زاد (فرع)

قال الشافعي رضى الله عنه: ولو أوصى لرجل بثلث ماله ولآخر بنصفه ولآخر بربعه فقد عالت وصاياه كل ماله، فلا يخلو حال ورثته من ثلاثة أحوال: إما أن يجيزوا جميعا أو يردوا جميعا، أو يجيزوا بعضها ويردوا بعضها، فان أجازوا جميعها قسم المال بينهم على قدر وصاياهم وأصلها من إثنى عشر لاجتماع الثلث والربع ويعول بسهم، وتصح من ثلثه عشر، لصاحب النصف ستة اسهم، ولصاحب الثلث أربعة أسهم، ولصاحب الربع ثلاثة أسهم، وكان النقص ببسهم العول داخلا على جميعهم كالمواريث.

وهذا متفق عليه ولم يخالف فيه أبو حنيفة ولا غيره

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 483)

________________________________________

(فصل)

فإن قال أعطوه رأسا من رقيقي ولا رقيق له، أو قال أعطوه عبدى الحبشى وله عبد سندى أو عبدى الحبشى وسماه باسمه ووصفه صفة من بياض أو سواد وعنده حبشي يسمى بذلك الاسم ومخالف له في الصفة فالوصية باطلة لانه وصى له بما لا يملكه، فإن كان له رقيق أعطى منه واحدا، سليما كان أو معيبا لانه لا عرف في هبة الرقيق فحمل على ما يقع عليه الاسلم، فإن مات ماله من الرقيق بطلت الوصية لانه فات ما تعلقت به الوصية من غير تفريط، فإن قتلوا فإن كان قبل موت الموصى بطلت الوصية لانه جاء وقت الوجوب ولا

رقيق له ن فإن قتلوا بعد موته وجبت له قيمة واحد منهم لانه يدل ما وجب له.

 

(فصل)

فإن وصى بعتق عبد أعتق عنه ما يقع عليه الاسم لعموم اللفظ.

ومن أصحابنا من قال: لا يجزى إلا ما يجزى في الكفارة لان العتق في الشرع له عرف وهو ما يجزى في الكفارة فحملت الوصية عليه، فإن وصى أن يعتق عنه رقبة فعجز الثلث عنها ولم تجز الورثة أعتق قدر الثلث من الرقبة لان الوصية تعلقت بجميعها، فإذا تعذر الجميع بقى في قدر الثلث، فان وصى أن يعتق عنه رقاب أعتق ثلاثة لان الرقاب جمع وأقله ثلاثة، فان عجز الثلث عن الثلاثة أعتق عنه ما أمكن، فان اتسع الثلث لرقبتين وتفضل شئ، فان لم يمكن أن يشترى بالفضل بعض الثالثة زيد في ثمن الرقبتين، وإن أمكن أن يشترى به بعض الثالثة ففيه وجهان.

 

(أحدهما)

يزاد في ثمن الرقبتين لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن أفضل الرقاب فقال (أكثرها ثمنا وأنفسها عند أهلها)

(والثانى)

أنه يشترى به بعض الثالثة لقوله صلى الله عليه وسلم (من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار) ولان ذلك أقرب إلى العدد الموصى به.

 

(فصل)

فان قال أعتقوا عبدا من عبيدى وله خنثى حكم له بأنه رجل، ففيه وجهان.

أحدهما أنه يجوز لانه محكوم بأنه عبد.

الثاني لا يجوز لان اسم العبد لا ينصرف إليه، فإن قال أعتقوا أحد رقيقي وفيهم خنثى مشكل فقد روى الربيع فيمن وصى بكتابة أحد رقيقه أنه لا يجوز الخنثى المشكل.

وروى المزني أنه يجوز

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 484)

________________________________________

فمن أصحابنا من قال: يجوز كما نقله المزني، لانه من الرقيق، ومنهم من قال لا يجوز كما نقله الربيع لان إطلاق اسم الرقيق لا ينصرف إلى الخنثى المشكل

(فصل)

فان قال أعطوه شاة جاز أن يدفع إليه الصغير والكبير والضأن

والمعز، لان اسم الشاة يقع عليه ولا يدفع إليه تيس ولا كبش على المنصوص ومن أصحابنا من قال يجوز الذكر والانثى، لان الشاة اسم للجنس يقع على الذكر والانثى كالانسان، يقع على الرجل والمرأة فان قال أعطوه شاة من غنمي والغنم إناث لم يدفع إليه ذكر، فان كانت ذكورا لم يدفع إليه أنثى لانه أضاف إلى المال وليس في المال غيره، فان كانت غنمه ذكورا وإناثا فعلى ما ذكرنا من الخلاف فيه إذا أوصى بشاة ولم يضف إلى المال.

فان قال أعطوه ثورا لم يعط بقرة، فان قال أعطوه جملا لم يعط ناقة، فان قال أعطوه بعيرا فالمنصوص أنه لا يعطى ناقة.

ومن أصحابنا من قال يعطى لان البعير كالانسان يقع على الذكر والانثى، فان قال أعطوه رأسا من الابل أو رأسا من البقر أو رأسا من الغنم جاز الذكر والانثى، لان ذلك اسم للجنس

(فصل)

فان قال أعطوه دابة فالمنصوص أنه يعطى فرسا أو بغلا أو حمارا واختلف أصحابنا فيه فقال أبو العباس: هذا قاله على عادة أهل مصر، فان الدواب في عرفهم الاجناس الثالثة، فان كان الموصى بمصر أعطى واحدا من الثلاثة.

وان كان في غيرها لم يعط إلا الفرس، لانه لا تطلق الدابة في سائر البلاد إلا على الفرس.

وقال أَبُو إِسْحَاقَ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: يعطى وحدا من الثلاثة في جميع البلاد، لان اسم الدواب يطلق على الجميع، فان قال: أعطوه دابة من دوابى، وليس عنده إلا واحد من الثلاثة أعطى منه، لانه أضاف إلى ماله وليس له غيره فان قال أعطوه دابة ليقاتل عليه العدو لم يعط إلا فرسا.

فان قال ليحمل عليه لم يعط إلا بغلا أو حمارا، فان قال لينتفع بنسله لم يعط إلا فرسا أو حمارا لان القرينة دلت على ما ذكرناه.

(الشرح) حديث (سئل عن أفضل الرقاب) رواه أحمد والبخاري ومسلم

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 485)

________________________________________

من حديث أبى ذر رضى الله عنه، وحديث (من أعتق رقبة) رواه ثلاثتهم أيضا عن أبى هريرة رضى الله عنه.

أما قوله: فإن قال (أعطوه شاة من غنمي الخ) فهو كما قال الشافعي رضى الله عنه: ولو أوصى بشاة من ماله، كأن قيل للورثه أعطوه أو اشتروها له، صغيرة كانت أو كبيرة، ضأنا أو معزا.

اه قلت: ومعنى هذا أن الوصية جائزة ترك غنما أو لم يترك، لانه جعلها في ماله ويعطيه الورثة ما شاءوا، ضأنا أو معزا كبيرا أو صغيرا سمينا أو هزيلا.

وفى استحقاق الانثى وجهان

(أحدهما)

وهو الظاهر من نصر الشافعي أنه لا يعطى إلا أنثى لان الهاء موضوعة للتأنيث (والوجه الثاني) وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أن للورثة الخيار في إعطئه ذكرا أو أنثى، لان الهاء من أصل الكلمة في اسم الجنس فاستوى فيه الذكر والانثى، ولكن لو قال شاة من غنمي وكانت غنمه كلها إناثا لم يعطى إلا أنثى.

وكذلك لو كانت كلها ذكورا لم يعط لا ذكرا منها.

وهكذا لو دل كلامه على المراد منها حمل عليه.

مثل قوله شاة ينتفع بدرها ونسلها لم يعط إلا كبيرة أنثى لتكون ذات در ونسل، وسواء كانت ضأنية أو معزية.

فان قال شاة ينتفع بصوفها لم يعط إلا من الضأن.

ولو قال ينتفع بشعرها لم يعط إلا من المعز، ولا يجوز إذا أوصى بشاة من ماله أن يعطى غزالا ولا ظبيا وان انطلق عليه اسم الشاة مجازا.

ولكن لو قال شاة من شياهى ولم يكن في ماله إلا ظبى ففيه وجهان

(أحدهما)

أن الوصية باطلة، لان اسم الشاة يتناول الغنم، وليس بتركته فبطت (والوجه الثاني) أنها تصح لانه لما اضاف ذلك إلى شائه وليس في ماله إلا ما ينطلق عليه مجاز الاسم دون الحقيقة حمل عليه، وانصرفت وصيته إلى

الظبى الموجود في تركته حتى لا تبطل وصيته (فرع)

قال الشافعي رضى الله عنه: ولو قال: بعيرا أو ثورا لم يكن لهم أن يعطوه ناقة ولا بقرة ولو قال: عشر أنيق وعشر بقرات لم يكن لهم أن يعطوه ذكرا.

ولو قال عشرة أجمال أو أثوار لم يكن لهم أن يعطوه أنثى، ولو قال: عشرة من إبلى أعطوه ما شاءوا

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 486)

________________________________________

قلت: وبهذا نعلم أنه إذا أوصى بثور لم يعط إلا ذكرا.

ولو قال بقرة لم يعط الا أنثى وكان بعض أصحابنا يخرج في البقرة وجها آخر أنه يجوز أن يعطى ذكرا أو أنثى كالشاة لان الهاء من أصل اسم الجنس ولا يجوز أن يعدل في الوصيه بالثور والبقرة إلى الجواميس بخلاف الشياء التى ينطلق عليها اسم الضأن والمعز إلا ان يكون في كلامه ما يدل عليه.

أو يقول بقرة من بقرى وليس له إلا الجواميس فتنصرف إلى الجواميس، وان كان اسم البقر يتناولها مجازا.

لان إضافة الوصية إلى التركة قد صرف الاسم عن حقيقته إلى مجازه.

ولا يجوز ان يعدل به إلى بقر الوحش، فان اضاف الوصية إلى بقره ولم يكن له الا بقر الوحش فعلى ما ذكرنا من الوجهين فأما إذا أوصى ببعين فمذهب الشافعي يانه لا يعطى إلا ذكرا، لان الاسم بالذكور أخص.

وقال بعض أصحابنا هو اسم للجنس فيعطى ما شاء الوارث من ذكر أو انثى.

فأما إذا اوصى له بحمل لم يعط الا ذكرا لاختصاص هذا الاسم بالذكور.

ولو أوصى بعشر من إبله اعطاه ما شاء الوارث من ذكور واناث، وسواء اثبت الهاء في العدد أو أسقطها.

ومن اصحابنا من قال: إذا أثبت الهاء في العدد فقال عشرة من ابلى لم يعط

الا من الذكور لان عددها باثبات الهاء كما هو معروف في قواعد النحو في العدد وان اسقط الهاء في العدد فقال: عشر من ابلى لم يعط الا من الاناث، لان عددها باسقاط الهاء لقوله تعالى (سبع ليال وثمانية أيام حسوما) وقوله (سبع سموات طباقا) وقوله (سبع بقرات سمان يأكلن سبع عجاف) وكما نقول عشر نسوة وعشرة رجال.

وهذا لا وجه له لان اسم الابل إذا كان يتناول الذكور والاناث تناولا واحدا صار العدد فيها محمولا على القدر دون النوع واما إذا قال اعطوه مطية أو راحلة فذلك يتناول الذكور والاناث فيعطيه ما شاء الوارث منها.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 487)

________________________________________

فأما إذا قال أعطوه دابة فقال الشافعي رضى الله عنه: أعطى من الخيل والبغال والحمير ذكرا أو أنثى صحيحا صغيرا أو كبيرا، أعجف أو سمينا.

(قلت) لان اسم الدواب يطلق على كل ما دب على الارض اشتقاقا من دبيبه غير أنه في العرف مختص ببعضها، فان قال: اعطهوه دابة من دوابى فقد اختلف أصحابنا في قول الشافع: أعطى من الخيل والبغال والحمير الخ، فقال أبو العباس ابن سريج يحمل ذلك على عرف الناس بمصر حيث قال ذلك فيهم، وذكره لهم اعتبارا بعرفهم.

أما بالعراق والحجاز فلا ينطلق إلا على الخيل وحدها ولا يتناول غيرها إلا مجازا يعرف بقرينة، فإن كان الموصى بمصر خير ورثته بين الاصناف الثلاثة، وإن كان بالعراق لم يعطوه إلا من الخيل.

وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْن أَبِي هريرة: بل الجواب محمول على ظاهره في كل البلاد، بأن اسم الدواب ينطلق على هذه الاجناس الثلاثة، فإن شذ بعض البلاد بتخصيص بعضها بالاسم لم يعتبر به حكم العرف العام، فلو قرن ذلك بما يدل على التخصيص حمل على قرينته، كقوله: اعطوه دابة يقاتل عليها

فلا يعطى إلا من الخيل عتيقا أو هجينا ذكرا أو أنثى ولا يعطى صغيرا ولا مما لا يطيق الركوب، ولو قال: دابة يحمل عليها أعطى من البغال والحمير دون الخيل، ولو قال ينتفع بنتاجها يعطى من الخيل والحمير ولا يعطى من البغال وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:

(فصل)

فإن وصى بكلب ولا كلب له فالوصية باطلة، لانه ليس عنده كلب ولا يمكن أن يشترى، فبطلت الوصية، فإن قال: أعطوه كلبا من كلابي وعنده كلاب لا ينتفع بها بطلت الوصية، لان مالا منفعة فيه من الكلاب لا يحل اقتناؤه فان كان ينتفع بها اعطى واحدا منها إلا أن يقرن به قرينة من صيد أو حفظ زرع فيدفع إليه مادلت عليه القرينة، فان كان له ثلاثة كلاب ولا مال له فأوصى بجميعها ولم تجز الوثة ردت إلى الثلث وفى كيفية الرد وجهان.

 

(أحدهما)

يدفع إليه من كل كلب ثلثه كسائر الاعيان

(والثانى)

يدفع إليه

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 488)

________________________________________

أحدها وتخالف سائر الاعيان لان الاعيان تقوم وتختلف أثمانها والكلاب لا تقوم فاستوى جميها وفيما يأخذ وجهان.

 

(أحدهما)

وهو قول أبى إسحاق أنه يأخذ واحدا منها بالقرعة.

 

(والثانى)

يعطيه الوارث ما شاء منها فان كان له كلب واحد فوصى به ولم تجز الورثة ولم يكن له مال أعطى ثلثه، فإن كان له مال ففيه وجهان

(أحدهما)

وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إنه يدفع الجميع إلى الموصى له لان أقل المال خير من من الكلب فأمضيت الوصية فيه كما لو أوصى له بشاة وله مال تخرج الشاة من ثلثه

(والثانى)

وهو قول أبى سعيد الاصطخرى انه يدفع إليه ثلث الكلب لانه لا يجوز ان يحصل للموصى له شئ إلا ويحصل للورثه مثلاه ولا يمكن اعتبار

الكلب من ثلث المال لانه لا قيمة له فاعتبر بنفسه.

 

(فصل)

وان وصى له بطبل من طبوله وليس له الا طبول الحرب اعطى واحدا منها وان لم يكن له إلا طبول اللهو نظرت، فان لم يصلح وهو طبل لغير اللهو، وإن فصل لمباح لم يقع عليه اسم الطبل فالوصية باطله لانه وصية بمحرم وإن كان يصلح لمنفعة مباحه مع بقاء الاسم جازت الوصيه لانه يمكن الانتفاع به في مباح، وإن كان له طبل حرب وطبل لهو ولم يصلح طبل اللهو لغير اللهو اعطى طبل الحرب لان طبل اللهو لا تصح الوصيه به فيصير كالمعدوم، وإن كان يصلح لمنفعه مباحه اعطاه الوارث ما شاء منهما.

 

(فصل)

فان وصى بعود من عيدانه وعنده عود اللهو وعود القوس وعود البناء كانت الوصيه بعود اللهو، لان اطلاق الاسم ينصرف إليه، فان كان عود اللهو يصلح لمنفعه مباحه دفع إليه ولا يدفع معه الوتر والمضراب لان اسم العود يقع من غير وتر ولا مضراب، وان كان لا يصلح لغير اللهو فالوصيه باطله لانه وصيه بمحرم.

ومن أصحابنا من قال: يعطى من عود القوس والبناء لان المحرم كالمعدوم كما قلنا فيمن وصى بطبل من طبوله، وعنده طبل حرب وطبل لهو انه تجعل الوصيه في طبل الحرب ويجعل طبل اللهو كالمعدوم.

والمذهب انه لا يعطى شيئا

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 489)

________________________________________

لان العود لا يطلع إلا على عود اللهو.

والطبل يطلق على طبل اللهو وطبل الحرب فإذا بطل في طبل اللهو حمل على طبل الحرب، فان قال أعطوه عودا من عيداني وليس عنده إلا عود القوس أو عود البناء أعطى منها لانه أضاف إلى ما عنده وليس عندها سواه.

 

(فصل)

فان وصى له بقوس كانت الوصية بالقوس الذى يرمى عنه النبل

والنشاب دون قوس الندف والجلاهق وهو قوس البندق، لان اطلاق الاسم ينصر إلى ما يرمى عنه ولا يعطى معه الوتر.

ومن أصحابنا من قال: يعطى معه الوتر لانه لا ينتفع به إلا مع الوتر، والصحيح أنه لا يعطى لان الاسم يقع عليه من غير وتر، فان قال: أعطهوه قوسا من قسى وليس عنده الا قوس الندف أو قوس البندق أعطى مما عنده لانه أضاف إلى ما عنده وليس عنده سواه، وان كان عنده قوس البندق وقوس الندف أعطى قوس البندق لان الاسم إليه أسبق.

 

(فصل)

فان وصى بعتق مكاتبه أو بالابراء مما عليه من الثلث أقل الامرين من قيمته أو مال الكناية لان الابراء عتق، والعتق إبراء فاعتبر أقلهما وألغى الاخر فان احتملهما الثلث عتق وبرئ من المال، وان لم يحتمل شيئا منه لديون عليه بطلت الوصية وأخذ المكاتب بأداء جميع ما عليه فان أدى عتق وإن عجز رق وتعلق به حق الغرماء والورثة، فان احتمل الثلث بعض ذلك مثل أن يحتمل النصف من أقل الامرين عتق نصفه وبقى نصفه على الكناية فان أددى عتق وان عجز رق، وان احتمل الثلث أحدهما دون الآخر اعتبر الاقل فعتق به فان لم يكن له مال غير العبد نظر، فان كان قد حل عليه مال الكناية عتق ثلثه في الحال وبقى الباقي على الكناية ان أدى عتق وان عجز رق، وان لم يحل عليه مال الكناية ففيه وجهان.

 

(أحدهما)

لا يتعجل عتق شئ منه لانه يحصل للموصى له الثلث ولم يحصل للورثة مثلاه وهذا لا يجوز كما لو أوصى بالثلث وله مال حاضر ومال غائب فانه لا تمضى الوصية في شئ حتى يحصل للورثة مثلاه.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 490)

________________________________________

(والثانى)

وهو ظاهر المذهب أنه يتعجل عتق ثلثه ويقف الثلثان على العتق

بالاداء أو الرق بالعجز لان الورثة على يقين من الثلثين اما بالاداء واما بالعجز بخلاف ما لو كان له مال حاضر ومال غائب لانه ليس على يقين من سلامة الغائب

(فصل)

فان قال: ضعوا عن مكاني أكثر ما عليه وضع عنه النصف وشئ لانه هو الاكثر، فان قال: ضعوا عنه ما شاء من كتابته فشاء الجميع فقد روى الربيع رحمه الله أنه يوضع عنه الجميع الا شيئا، وروى المزني أنه إذا قال ضعوا عنه ما شاء فشاءها كلها وضع الجميع لا شيئا، فمن أصحابنا من قال الصحيح ما رواه الربيع، لان قوله من كتابته يقتضى التبعيض وما رواه المزني خطأ في النقف والذى يقتضيه أن يوضع عنه الكل إذا شاء لان قوله ما شاء علم في الكل والبعض، وقال أبو إسحاق ما نقله الربيع صحيح على ما ذكرناه وما نقله المزني أيضا صحيح فانه يقتضى أن يبقى من الكل شئ، لانه لو أراد وضع الجميع لقال ضعوا عنه مال الكتابة فلما علقه على ما شاء دل على أنه لم يرد الكل.

فإن قال: ضعوا عنه ماقل وما كثر وضع الوارث عنه ما شاء من قليل وكثير لانه ما من قدر الا وهو قليل بالاضافة إلى ما هو أكثر وكثير بالاضافة إلى ما هو أقل منه.

فإن قال: ضعوا عنه أكثر نجومه وضع عنه أكثرها مالا لان اطلاق الاكثر ينصرف إلى كثرة المال دون طول المدة.

فإن قال ضعوا عنه أوسط النجوم واجتمع في نجومه أوسط في القدر واوسط في المدة وأوسط في العدد كان للوارث أن يضع أي الثلاثة شاء لان الوسط يقع على الثلاثة فإن استوى الجميع في المدة والقدر وضع عنه الاوسط في العدد، فان كانت النجوم ثلاثه وضع عنه الثاني، فان كانت أربعه وضع عنه الثاني والثالث، فان كانت خمسه وضع عنه الثالث وعلى هذا القياس.

 

(فصل)

وان كاتب عبده كتابة فاسدة ثم أوصى لرجل بما في ذمته لم تصح الوصيه لانه لا شئ له في ذمته فصار كما لو وصى بماله في ذمة حر ولا شئ له

في ذمته، وان وصى له بما يقبضه منه صحت الوصيه لانه أضاف إلى حال يملكه فصار كما لو وصى له برقبة مكاتب إذا عجزه وفى هذا عندي نظر لانه لا يملكه

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 491)

________________________________________

بالقبض وانما يعتق بحكم الصفة كما يعتق بقبض الخمر إذا كاتبه عليه ثم لا يملكه، وان وصى برقبته والكتابة فاسدة نظرت فان لم يعلم بفساد الكتابة ففيه قولان،

(أحدهما)

أن الوصية جائزة لانها صادفت ملكه.

 

(والثانى)

أنها باطلة لانه وصى وهو يعتقد أنه يملك الوصيه وان وصى بها وهو يعلم أن الكتابة فاسدة صحت الوصية قولا واحدا كما لو باع من رجل شيئا بيعا فاسدا ثم باعه من غيره وهو يعلم فساد البيع الاول، ومن أصحابنا من قال: القولان في الجميع ويخالف البيع فان فاسده لا يجرى مجرى الصحيح في الملك وفى الكتابة الفاسدة كالصحيح في العتق والصحيح هو الطريقة الاولى.

 

(فصل)

وان وصى بحج فرض من رأس المال حج عنه من الميقات لان الحج من الميقات.

وما قبله تسبب إليه فان وصى به من الثلث، فَفِيهِ وَجْهَانِ

(أَحَدُهُمَا)

وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ أنه يحج عنه من بلده، فان عجز الثلث عنه تمم من رأس المال لانه يجب عليه الحج من بلده.

 

(والثانى)

وهو قول أكثر أصحابنا أنه من الميقات لان الحج يجب بالشرع من الميقات فحملت الوصيه عليه، وان أوصى أن يجعل جميع الثلث في حج الفرض حج عنه من بلده، وان عجز الثلث عن ذلك حج عنه من حيث أمكن من طريقه، وان عجز عن الحج من الميقات تمم من رأس المال ما يحج به من الميقات لان الحج من الميقات مستحق من رأس المال وانما جعله من الثلث توفيرا على الورثة فإذا لم يف الثلث بالجميع بقى فيما لم يف من رأس المال.

 

(فصل)

وان أوصى بحج التطوع، وقلنا انه تدخله النيابة نظرت، فان

قال أحجوا بمائه من ثلثى حج عنه من حيث أمكن، وان لم يوجد من يحج بهذا القدر بطلت الوصيه وعاد المال إلى الورثة لانها تعذرت فبطلت كما لو أوصى لرجل بمال فرده، وان قال: أحجوا عنى بثلثي صرف الثلث فيما أمكن من عدد الحجج فان اتسع المال لحجة أو حجتين وفضل ما لا يكفى لحجة أخرى من بلده حج من حيث أمكن من دون بلده إلى الميقات، فان عجز الفضل عن حجة من الميقات رد الفضل إلى الورثة، وان أمكن أن يعتمر به لم يفعل لان الموصى له هو الحج

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 492)

________________________________________

دون العمرة، فإن قال أحجوا عنى حج عنه بأجرة المثل من حيث أمكن من بلده إلى الميقات، فإن عجز الثلث عن حجة من الميقات بطلت الوصية لما ذكرناه.

 

(فصل)

وإن وصى أن يحج عنه رجل بمائة ويدفع ما يبقى من الثلث إلى آخر وأوصى بالثلث لثالث فقد وصى بثلثي ماله، فان كان الثلث مائة سقطت وصيته للموصى له بالباقي لان وصيته فيما يبقى بعد المائة ولم يبق شئ، فان أجاز الورثة دفع إلى الموصى له بالثلث ثلثه وهو مائه وإلى الموصى له بالمائة مائه وان لم يجيزوا قسم الثلث بين الموصى له بالثلث وبين الموصى له بالمائة نصفين لانهما اتفقا في قدر ما يستحقان وهو المائه، فان كان الثلث أكثر من مائه وأجاز الورثة دفع الثلث إلى الموصى له بالثلث ودفع مائه إلى الموصى له بالمائة ودفع ما بقى إلى الموصى له بالباقي، وإن لم يجيزوا ما زاد على الثلث ردت الوصية إلى نصفها وهو الثلث، فيدفع إلى الموصى له بالثلث نصف الثلث، وفى النصف الآخر وجهان:

(أحدهما)

يقدم فيه الموصى له بالمائة ولا يدفع إلى الموصى له بالباقي شئ حتى يأخذ الموصى له بالمائة حقه لانه وإن ككان قد اعتد به مع الموصى له بالمائة

في إحراز الثلث إلا أن حقه فيما يبقى بعد المائة فلا يأخذ شيئا قبل أن يستوفى الموصى له بالمائة حقه كما اعتد بالاخ من الاب مع الاخ من الاب والام على الجد في إحراز ثلثى المال ثم لا يأخذ شيئا مع الاخ من الاب والام، فان كان النصف مائه أو أقل أخذه الموصى له بالمائة، وان كان أكثر أخذ الموصى له بالمائة مائه وأخذ الموصى له بالباقي ما يبقى.

(والوجه الثاني) أن الموصى له بالمائة والموصى له بالباقي يقسمان النصف على قدر وصبتهما من الثلث، فان كان الثلث مائتين اقتسما المائة نصفين لكل واحد منهما خمسون وإن كان مائه وخمسين اقتسما الخمسة والسبعين اثلاثا، الموصى له بالمائة خمسون، وللموصى له بالباقي خمسة وعشرون، وعلى هذا القياس، لانه إنما أوصى له بالمائة من كل الثلث لا من بعضه فلم يجز أن يأخذ

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 493)

________________________________________

من نصف الثلث ما كان يأخذ من جميعه، كأصحاب المواريث إذا زاحمهم من له فرض أو وصية.

 

(فصل)

وإن بدأ فوصى بثلث ماله لرجل ثم وصى لمن يحج عنه بمائة ووصى لآخر بما يبقى من الثلث فَفِيهِ وَجْهَانِ

(أَحَدُهُمَا)

وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ أن الوصية بالباقي بعد المائة باطلة لان الوصية بالثلث تمنع من أن يبقى شئ من الثلث فعلى هذا إن أجاز الورثة نفذت الوصيتان، وإن لم يجيز واردت الوصية إلى الثلث، فإن كان الثلث مائه استوت وصيتهما فيقتسمان الثلث بينهما نصفين، وإن كان الثلث خمسمائة قسم الثلث بينهما على ستة أسهم للموصى له بالثلث خمسة أسهم وللموصى له بالمائة سهم، فإن كان الثلث ألفا قسم على أحد عشر سهما للموصى له بالثلث عشرة أسهم وللموصى له بالمائة سهم.

والوجه الثاني: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إن الحكم في هذه المسألة

كالحكم في المسألة قبلها لانه إذا أوصى بالمائة بعد الثلث علم أنه لم يرد ذلك الثلث لان الوصيه الاولى قد استوعبته وإنما أراد ثلثا ثانيا، فإذا أوصى بعد المائه بما يبقى من الثلث دل على أنه أراد ما يبقى من الثلث الثاني، فصار موصيا بثلثي ماله كالمسألة قبلها.

 

(فصل)

وان وصى لرجل بعبد ولآخر بما بقى من الثلث قوم العبد مع التركة بعد موت الموصى، فان خرج من الثلث دفع إلى الموصى له فان بقى من الثلث شئ دفع إلى الآخر وان لم يبق شئ بطلت الوصيه بالباقي لان وصيته فيما في، وإن أصاب العبد عيب بعد موت الموصى قوم سليما ودفع إلى الموصى له الباقي لانه وصى له بالباقي من قيمته وهو سليم.

وإن مات العبد بعد موت الموصى بطلت الوصيه فيه وقوم وقت الموت مع التركة ودفع إلى الموصى له الباقي من الثلث لانهما وصيتان فلا تبطل إحداهما ببطلان الاخرى، كما لو وصى لرجلين فرد أحدهما.

 

(فصل)

فان وصى له بمنفعة عبد ملك الموصى له منافعه واكتسابه، فان كان

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 494)

________________________________________

جارية ملك مهرها لانه بدل منفعتها، ولا يجوز للمالك وطؤها لانه تملك الرقبه من غير منفعه ولا الموصى له وطؤها لانه تملك المنفعة من غير الرقبه والوطئ لا يجوز إلا في ملك تام ويجوز تزويجها لاكتساب المهر وفيمن يملك العقد ثلاثة أوجه (أحدها) يملكه الموصى له بالمنفعه لان المهر له

(والثانى)

يملكه المالك لانه يملك رقبتها (والثالث) لا يصح العقد إلا باتفاقهما لان لكل واحد منهما حقا فلا ينفرد به أحدهما دون الاخر، فان أتت بولد مملوك ففيه وجهان

(أحدهما)

أنه للموصى له لانه من جملة فوائدها فصار كالكسب

(والثانى)

أنه كالام رقبته للمالك ومنفعته للموصى له لانه جزء من

الام فكان حكمه حكم الام، فان قتل ففى قيمته وجهان

(أحدهما)

أنها للمالك لانها بدله فكانت له

(والثانى)

وهو الصحيح أنه يشترى به مثله للمالك رقبته وللموصى له منفعته لانه قائم مقام الاصل فكان حكمه حكم الاصل، فان جنى على طرفه ففى أرشه وجهان

(أحدهما)

أنه للمالك لانه يدل ملكه

(والثانى)

وهو الصحيح أن ما قابل منه ما نقص من قيمة الرقبه للمالك وما قابل منه ما نقص من المنفعة للموصى له لانه دخل النقص عليهما فقسط الارش عليهما، فان احتاج العبد إلى نفقة ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) وهو قول أبى سعيد الاصطخرى أن النفقه على الموصى له بالمنفعه لان الكسب له.

 

(والثانى)

أنها على المالك، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لان النفقة على الرقبه فكانت على مالكها (والثالث) أنها في كسبه فان لم يف الكسب ففى بيت المال لانه لا يمكن ايجابها على المالك لانه لا يملك الانتفاع ولا على الموصى له لانه لا يملك الرقبه فلم يبق الا ما قلناه، فان احتاج البستان الموصى بثمرته إلى سقى أو الدار الموصى بمنفعتها إلى عمارة لم يجب على واحد منهما، لانه لو انفرد كل واحد منهما بملك الجميع لم يجبر على الانفاق فإذا اشتركا لم يجب

(فصل)

فان أراد المالك بيع الرقبه ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) أنه يجوز لانه يملكها ملكا تاما

(والثانى)

أنه لا يجوز لانها عين مسلوبة المنفعة فلم يجر

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 495)

________________________________________

بيعها كالاعيان التى لا منفعه فيها (والثالث) يجوز بيعها من الموصى له لانه يمكنه الانتفاع بها ولا يجوز من غيره لانه لا يمكنه الانتفاع بها فان أراد أن يعتقه جاز لانه يملكه ملكا تاما وللموصى له أن يستوفى المنفعة بعد العتق لانه تصرف في

الرقبه فلم يبطل به حق الموصى له من المنفعة ولا يرجع العبد على المالك بأجرته كما يرجع العبد المستأجر على مولاه بعد العتق في أحد القولين لان هناك ملك المولى بدل منفعته ولم يملك المولى ههنا بدل المنفعة (الشرح) قال الشافعي رضى الله عنه: ولو قال أعطوه كلبا من كلابي أعطاه الوارث أيها شاء وهذا كما قال، فإن الوصية بالكلب المنتفع به جائزة، لانه لما جاز إقراره في يد صاحبه، وحرم انتزاعه من يد صاحبه جاز أن يكون وصيه وميراثا فإذا أوصى له بكلب ولا كلاب له فالوصية باطلة، لانه لا يصح أن يشترى ولا يلزم أن يستوهب، وإن كان له كلاب فضربان: منتفع به وغير منتفع، فان كانت كلابه كلها غير منتفع بها فالوصية باطله لحظر اقتنائه وتحريم إمساكه، وإن كانت كلها منتفعا بها فكان له كلب حرث وكلب ماشية وكلب صيد نظرت، فان كان الموصى له صاحب حرث وماشية وصيد فالوارث بالخيار في إعطائه أي كلب شاء من حرث أو ماشية أو صيد.

وإن كان الموصى له ليس بصاحب حرث ولا ماشية ولا صيد ففى الوصية وجهان.

أحدهما الوصية باطلة اعتبارا بالموصى له وأنه غير منتفع به، وإن كان الموصى له ممن ينتفع بأخذها بأن كان صاحب حرث لا غير أو صاحب صيد لا غير فالوصية جائزة، وفيها وجهان.

أحدهما: يلزم الوارث أن يعطيه الكلب الذى يختص بالانتفاع به دون غيره اعتبارا بالموصى له.

والثانى أن للوارث الخيار في إعطائه أي الكلاب شاء اعتبارا بالموصى به.

فأما الوصية بالجرو الصغير المعد للتعليم ففى جوازها وجهان من اختلاف الوجهين في اقتنائه.

أحدهما: أن اقتناءه غير جائز والوصية به باطله لانه غير منتفع به في الحال.

والثانى أن اقتناءه جائز والوصية به جائزة لانه سينتفع به في ثانى حال، ولان تعليمه منفعة في الحال.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 496)

________________________________________

ولو كان لرجل ثلاثة كلاب ولم يترك شيئا سواها فأوصى بجميعها لرجل، فإن أجازها الورثة له وإلا ردت الوصيه إلى الثلث، ثم في كيفية رجوعها إلى الثلث وجهان.

أحدهما أن تستحق من كل كلب ثلثه فيحصل له ثلث الثلاثة، ولا يستحق واحدا بكماله إلا عن مراضاته، والوجه الثاني: أنه قد استحق بالوصية أحدها بخلاف الاموال، لان الاموال مقومه تختلف اثمانها، وليس كالكلاب التى لا تقوم، فاستوى فيه حكم جميعها، فعلى هذا فِيهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ المروزى أنه يأخذ أحدها بالقرعة.

الثاني أن للورثة أن يعطوه أيها شاءوا فأما إن كان له كلب واحد ولا مال له غيره فأوصى به لرجل فهو كمن أوصى بجميع ماله، فإن أجازه الورثة وإلا كان للموصى له ثلثه وللورثه ثلثاه، ويكون بينهما على المهايأة.

وإن ملك مالا فأوصى بهذا الكلب الذى ليس له كلب سواه ففى الوصية وجهان.

أحدهما وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أن الوصيه جائزة في الكلب كله للموصى به له، لان قليل المال خير من الكلب الذى ليس بمال.

والوجه الثاني - وهو قول ابى سعيد الاصطخرى - ان للموصى له ثلث الكلب إذا منع الورثة من جميعه.

وإن كثر مال التركة لانه ممالا يمكن أن يشترى فيساويه الورثة فيما صار إليهم من المال، فاختص الكلب بحكمه وصار كأنه جميع التركة، فلو ترك ثلاثة كلاب ومالا، وأوصى بجميع كلابه الثلاثة، فعلى قول أبى على بن أبى هريرة: الوصيه بجميع الكلاب الثلاثه ممضاة وإن قل مال التركة وعلى قول أبى سعيد الاصطخرى تصح الوصيه في أحدها إذا امنع الورثة من جميعها (فرع)

قال الشافعي رضى الله عنه: ولو قال أعطوه طبلا من طبولي وله طبلان للحرب واللهو أعطاه أيهما شاء، فإن لم يصلح الذى للهو الا للطرب لم

يكن لهم أن يعطوا إلا الذى للحرب وأصل هذه المسائل أن الوصيه بما لا منفعة فيه باطله والوصيه بما فيه منفعة مباحه ومنفعة محظورة ومنفعة مشتركة بين الحظر والاباحه ن فإن كانت المنفعة مباحه جاز بيع ذلك والوصيه به، وان كانت المنفعة محظورة لم يجز بيعه ولا الوصيه به وان كانت مشتركة جاز بيعه والوصيه به لاجل الاباحه ونهى عن استعماله في الحظر

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 497)

________________________________________

فإذا ثبت هذا: وأوصى له بطبل من طبوله، فان لم يكن له إلا طبول الحرب فالوصية به جائزة، لان طبل الحرب مباح، ثم ينظر، فإن كان اسم الطبل يطلق عليه بغير جلد دفع إليه الطبل بغير جلد، وإن كان لا يطلق عليه الاسم الا بالجلد دفع إليه مع جلده، وإن كانت طبوله كلها طبول اللهو فإن كانت لا تصلح إلا للهو فالوصية باطله لان طبول اللهو محظورة، وإن كانت تصلح لغير اللهو في غير المنافع المباحة جازت الوصية بها.

وإن كانت طبوله نوعين طبول حرب وطبول لهو فإن كانت طبول اللهو لا تصلح لغير اللهو لم يعط إلا طبل الحرب، وان كانت طبول اللهو تصلح لغيره من المباحات كان الوارث بالخيار في اعطائه ما شاء من طبل لهو أو حرب لانطلاق الاسم عليه، إلا أن يدل كلامه على أحدهما فيحمل عليه، كقوله: أعطوه طبلا للجهاد أو الارهاب فلا يعطى إلا طبل الحرب، وإن قال: طبلا للفرح والسرور لم يعط إلا طبل اللهو.

فأما الوصية بالدف العربي فجائزة لورود الشرع باباحة الضرب به في المناكح (مسألة) قال الشافعي رضى الله عنه: ولو قال: عودا من عيداني، وله عبدان يعزف بها وعيدان قسى وعصى وغيرها، فالعود إذا وجه به المتكلم للعود الذى يضرب به دون ما سواه مما يقع عليه اسم عود، فان كان العود يصلح لغير الضرب جازت الوصية ولم يكن عليه إلا اقل ما يقع عليه اسم عود وأصغره بلا

وتر، وان كان لا يصلح لغير الضرب بطلت عندي الوصية.

ومعنى كلام الشافعي أنه إذا قال: اعطوه عودا من عيداني فمطلق هذا الاسم يتناول عيدان الضرب والعزف واللهو دون عيدان القسى والعصى، فان كان عود الضرب لا يصلح لغير الضرب واللهو فالوصيه باطله، وان كان يصلح لغير اللهو فالوصية جائزة، ويعطاه بغير وتر لانطلاق الاسم عليه، وان لم يكن عليه وتر ينظر فان كان لا يصلح لغير اللهو الا بعد تفصيله وتخليعه فصل وخلع ثم دفع إليه، وان كان يصلح لغير اللهو لم يفصل ودفع إليه غير مفصل.

(مسألة) قال الشافعي رضى الله عنه (وكذلك المزمار) يعنى أنه ان كان

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 498)

________________________________________

لا يصلح الا للهو فالوصية باطله، وان كان يصلح لغير اللهو فالوصية به جائزة، ثم الكلام في التفصيل على ما مضى.

فأما الشبابه التى ينفخ فيها مع طبل الحرب وفى الاسفار، فالوصية بها جائزة.

وقال الشافعي رضى الله عنه: ولو قال: أعطوه قوسا من قسى وله قسى معمولة، وقسى غير معمولة أو ليس منها شئ فقال: اعطوه عودا من القسى كان عليهم أن يعطوه قوسا معمولة أي قوس شاءوا - صغيرة أو كبيرة.

عربية أو أي عمل شاءوا - إذا وقع عليه اسم قوس ترمى بالنبل أو النشاب أو الحسبان ومعنى هذا الكلام أنه إذا أوصى بقوس من القسى فمطلق القوس يتناول قوس السهام والحربة دون قوس النداف والجلاهق الذى هي منها البندق، فلا يعطى الا قوس السهام الحربية سواء أعطاه قوس نشاب وهى الفارسية، أو قوس نبل وهى العربية أو قوس حسبان، والخيار فيها إلى الوارث لاشتراك الاسم في جميعها، ولا يلزم أن يدفع الوتر معه، لانه يسمى قوسا بغير وتر، وهكذا لو أوصى له بدابة لم يعط سرجها.

فأما أن قال: أعطوه قوسا من قسى وله قوس نداف وقوس جلاهق أعطى قوس الجلاهق التى يرمى عنها لانها أخص بالاسم، فان لم يكن له الا قوس نداف دفع إليه، ولو اقترن بكلامه ما يدل على مراده عمل على ما دل عليه كلامه من القسى الثلاث.

أما بقية الفصول فقد مضى الكلام على بعضها، ومنها ما هو على وجهه من كلام المصنف، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 499)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله تعالى

 

باب الرجوع في الوصية يجوز الرجوع في الوصية لانها عطية لم تزل الملك فجاز الرجوع فيها كالهبة قبل القبض، ويجوز الرجوع بالقول والتصرف لانه فسخ عقدا قبل تمامه فجاز بالقول والتصرف كفسخ البيع في مدة الخيار، وفسخ الهبة قبل القبض، وإن قال هو حرام عليه فهو رجوع لانه لا يجوز أن يكون وصية له وهو محرم عليه، فان قال: لوارثي فهو رجوع لانه لا يجوز أن يكون للوارث وللموصى له، وإن قال هو تركتي ففيه وجهان.

أحدهما: أنه رجوع لان التركة للورثة، والثانى: أنه ليس برجوع لان الوصية من جملة التركة.

 

(فصل)

وإن وصى لرجل بعبد ثم وصى به لاخر لم يكن ذلك رجوعا لامكان أن يكون نسى الاول أو قصد الجمع بينهما، فان قال ما وصيت به لفلان فقد وصيت به لاخر فهو رجوع، ومن أصحابنا من قال: ليس برجوع كالمسألة قبلها والمذهب الاول لانه صرح بالرجوع.

 

(فصل)

وإن باعه أو وهبه وأقبض أو أعتقه أو كاتبه أو أوصى أن يباع أو يوهب ويقبض أو يعتق أو يكاتب قهو رجوع، لانه صرفه عن الموصى له، وإن عرضه للبيع أو رهنه في دين أو وهبه ولم يقبضه فهو رجوع، لان تعريضه

لزوال الملك صرف عن الموصى له.

ومن أصحابنا من قال: إنه ليس برجوع لانه لم يزل الملك، وليس بشئ، وإن وصى بثلث ماله ثم باع ماله لم يكن ذلك رجوعا لان الوصية بثلث المال عند الموت لا بثلث ما باعه، فإن وصى بعبد ثم دبره - فإن قلنا: ان التدبير عتق بصفة - كان ذلك رجوعا، لانه عرضه لزوال الملك، وإن قلنا: إنه وصية وقلنا في أحد القولين: إن العتق يقدم على سائر الوصايا - كان ذلك رجوعا لانه أقوى من الوصية فأبطلها، وان قلنا: إن العتق كسائر الوصايا ففيه وجهان

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 500)

________________________________________

(أحدهما)

أنه ليس برجوع، فيكون نصفه مدبرا ونصفه موصى به، كما لو أوصى به لرجل ثم وصى به لآخر

(والثانى)

أنه رجوع، لان التدبير أقوى، لانه يتنجز من غير قبول، والوصية لا تتم إلا بالقبول، فقدم التدبير كما يقدم ما تنجز في حياته من التبرعات على الوصية.

 

(فصل)

وان وصى له بعبد ثم زوجه أو أجره أو علمه صنعة أو ختنه لم يكن ذلك رجوعا، لان هذه التصرفات لا تنافى الوصية، فإن كانت جاريه فوطئها لم يكن ذلك رجوعا لانه استيفاء منفعة فلم يكن رجوعا كالاستخدام.

وقال أبو بكر بن الحداد المصرى: ان عزل عنها لم يكن رجوعا، وان لم يعزل عنها كان رجوعا لانه قصد التسرى بها.

 

(فصل)

وان وصى بطعام معين فخلطه بغيره كان ذلك رجوعا لانه جعله على صفة لا يمكن تسليمه، فإن وصى بقفيز من صبرة ثم خلط الصبرة بمثلها لم يكن ذلك رجوعا، لان الوصية مختلطة بمثلها، والذى خلطه به مثله، فلم يكن رجوعا، فإن خلطه بأجود منه كان رجوعا، لانه أحدث فيه بالخلط زيادة لم يرض بتمليكها، فان خلطه بما دونه ففيه وجهان.

 

(أحدهما)

وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: انه ليس برجوع، لانه نقص أحدثه فيه فلم يكن رجوعا كما لو أتلف بعضه.

 

(والثانى)

أنه رجوع لانه يتغير بما دونه كما يتغير بما هو أجود منه، فان نقله إلى بلد أبعد من بلد الموصى له ففيه وجهان

(أحدهما)

أنه رجوع لانه لو لم يرد الرجوع لما أبعده عنه

(والثانى)

أنه ليس برجوع لانه باق على صفته.

 

(فصل)

فان وصى بحنطة فقلاها أو بذرها كان ذلك رجوعا، لانه جعله كالمستهلك، وان وصى بحنطة فطحنها أو بدقيق فعجنه، أو بعجين فخبزه، كان ذلك رجوعا، لانه أزال عنه الاسم، ولانه جعله للاستهلاك، وان وصى له بخبز فجعله فتيتا ففيه وجهان.

 

(أحدهما)

أنه رجوع لانه أزال عنه اطلاق اسم الخبز، فأشبه إذا ثرده.

 

(والثانى)

ليس برجوع، لان الاسم باق عليه، لانه يقال خبز مدقوق،

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 501)

________________________________________

وان وصى برطب فجعله تمرا ففيه وجهان.

أحدهما: أنه رجوع لانه أزال عنه اسم الرطب.

والثانى: ليس برجوع لانه أبقى له وأحفظ على الموصى له.

(الشرح) قال الشافعي رضى الله عنه: وللرجل إذا أوصى بوصية تطوع بها أن ينقضها كلها أو يبدل منها ما شاء التدبير أو غيره ما لم يمت، وإن كان في وصيته إقرار بدين أو غيره أو أعتق بثاث فذلك شئ واجب عليه أوجبه على نفسه في حياته لا بعد موته، فليس له أن يرجع من ذلك في شئ.

ثم قال في باب ما يكون رجوعا في الوصية وتغييرا لها وما لا يكون رجوعا ولا تغييرا: وإذا أوصى رجل بعبد بعينه لرجل ثم أوصى بذلك العبد بعينه لرجل فالعبد بينهما نصفان، ولو قال: العبد الذى أوصيت به لفلان لفلان، أو قد أوصيت بالذى أوصيت به لفلان لفلان كان هذا ردا للوصية الاولى، وكانت وصيته

للآخر منهما، ولو أوصى لرجل بعبد ثم أوصى أن يباع ذلك العبد كان هذا دليلا على إبطال وصيته به للاول، ولو أوصى لرجل بعبد ثم باعه أو كاتبه أو دبره أو وهبه كان هذا كله ابطالا للوصية فيه.

ثم قال: ولو أوصى به لرجل ثم أذن له في التجارة أو بعثه تاجرا إلى بلد أو أجره أو علمه كتابا أو قرآنا أو علما أو صناعة أو كساه أو وهب له مالا أو زوجه لم يكن شئ من هذا رجوعا في الوصية، ولو كان الموصى به طعاما فباعه أو وهبه أو أكله أو كان حنطة فطحنها أو دقيقا فعجنه أو خبزه، أو حنطة فجعلها سويقا كان هذا كله كنقض الوصية، ولو أوصى له بما في هذا البيت من الحنطة ثم خلطها بحنطة غيرها كان هذا ابطالا للوصية، ولو أوصى له بما في البيت بمكيلة حنطة ثم خلطها بحنطة مثلها لم يكن هذا ابطالا للوصية وكانت له المكيلة التى أوصى بها له.

اه قلت: ما أورد الشافعي في هذا الكلام صور لما يمكن أن يكون رجوعا بالصرف وابطالا، أو تصرفا لا يعد رجوعا ولا يؤثر في صحتها، وبيان هذا أنه إذا أوصى لرجل بمعين من ماله ثم وصى به لاخر أو وصى بثله له ثم وصى لآخر بثلثه أو وصى بجميع ماله لرجل ثم وصى به لاخر فهو بينهما، ولا يكون ذلك رجوعا

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 502)

________________________________________

في الوصية الاولى، وبهذا قال ربيعة ومالك والشورى والشافعي وإسحاق وأحمد ابن حنبل وابن المنذر وأصحاب الرأى.

وقال جابر بن زيد والحسن وعطاء وطاوس وداود بن على وصيته للآخر منهما، لانه وصى للثاني بما وصى به للاول فكان رجوعا، كما لو قال: ما وصيت به لبشر فهو لبكر، ولان الثانية تنافى الاولى، فإذا أتى بها كان رجوعا، كما لو قال: هذا لورثتي ولنا أنه وصى لهما فاستويا فيها، كما لو قال لهما: وصيت لكما بسيارتى، وما

قاسوا عليه صرح فيه بالرجوع عن وصيته.

وفى مسألتنا يحتمل أنه قصد التشريك فلم تبطل وصية أحدهما بالشك.

وإن قال: ما أوصيت به لبشر فهو لبكر كان ذلك رجوعا في الوصية لبشر.

وهذا قول الشافعي وأبى ثور وأصحاب الرأى، وهو أيضا مذهب الحسن وعطاء وطاوس ولا نعلم فيه مخالفا، لانه صرح بالرجوع عن الاول بذكره أن ما أوصى به مردود إلى الثاني، فأشبه ما لو قال رجعت عن وصيتى لبشر وأوصيت بها لبكر بخلاف ما إذا أوصى بشئ واحد لرجلين أحدهما بعد الاخر، فانه يحتمل أنه قصد التشريك بينهما، وقد ثبتت وصية الاول يقينا فلا تزول بالشك وإن قال ما أوصيت به لفلان فنصفه أو ثلثه كان رجوعا في القدر الذى وصى به للثاني خاصة وباقيه للاول.

وأجمع أهل العلم على أن للوصي أن يرجع في جميع ما أوصى به وفى بعضه الا الوصية بالاعتاق،، وبعضهم على جواز الرجوع في الوصية به أيضا.

وروى عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يغير الرجل ما شاء من وصيته، وبه قال عطاء وجابر بن زيد والزهرى وقتادة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور.

وقال الشعبى وابن سيرين وشبرمة والنخعي: يغير منها ما شاء الا العتق، لانه اعتاق بعد الموت فلم يملك تغيير تغييره كالتدبير.

ولنا أنها وصيه فملك الرجوع عنها كغير العتق، ولانها عطيه تنجز بالموت فجاز له الرجوع عنها قبل تنجيزها، كهبة ما يفتقر إلى القبض قبل قبضه، وفارق التدبير فانه تعليق على شرط فلم يملك تغييره كتعليقه على صفه الحياة

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 503)

________________________________________

ويحصل الرجوع بقوله: رجعت في وصيتى أو أبطلتها أو غيرتها أو ما أوصيت به لفلان فهو لفلان أو فهو لورثتي أو في ميراثي، وإن أكله أو أطعمه أو أتلفه

أو وهبه أو تصدق به أو باعه، أو كان ثوبا غير مفصل ففصله ولبسه، أو جارية فأحبلها أو ما أشبه ذلك فهو رجوع ولا يعد من الرجوع جماع الجارية بخلاف ما لو أحبلها.

قال ابن المنذر: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أنه إذا أوصى لرجل بطعام فأكله أو بشئ فأتلفه أو تصدق به أو وهبه أو بجارية فأحبلها أو أولدها أنه يكون رجوعا.

وحكى عن أصحاب الرأى أن بيعه ليس برجوع لانه أخذ بدله بخلاف الهبة، ولانه أزال ملكه عنه فكان رجوعا كما لو وهبه، وإن عرضه على البيع أو وصى ببيعه أو أوجب الهبة فلم يقبلها الموهوب له أو كاتبه أو وصى بإعتاقه أو دبره كان رجوعا، لانه يدل على اختياره للرجوع بعرضه على البيع وإيجابه للهبة ووصيته ببيعه أو إعتاقه لكونه وصى بما ينافى الوصية الاولى، والكتابة، بيع والتدبير أقوى من الوصية لانه ينجز بالموت فيسبق أخذ الموصى له وإن رهنه كان رجوعا لانه علق به حقا يجوز بيعه فكان أعظم من عرضه على البيع، وفيه وجه آخر أنه ليس برجوع، وهو وجه لاصحاب أحمد لانه لا يزيل الملك فأشبه إجارته، وكذلك الحكم في الكتابة.

(فرع)

وإن وصى بجب ثم طحنه أو بدقيق فعجبنه أو بعجين فخبزه أو بخبز ففته كان رجوعا، لانه أزال اسمه وعرضه للاستعمال، فدل على رجوعه، وبهذا قال أحمد وأصحابه.

أما تفتيته ودقه فقد قال أصحاب أحمد: يعد رجوعا ولا صحابنا فيه وجهان حكاهما المصنف.

وإن وصى بشئ معين ثم خلطه بغيره على وجه لا يتميز منه كان رجوعا لانه يتعذر بذلك تسليمه.

وإن وصى بقفيز قمح من صبرة ثم خلطها بغيرها نظرت فإن كان بخير منها كان ذلك رجوعا لانه أحدث فيه زيادة ليست من الوصيه.

أما إذا خلطه بما دونه ففيه وجهان

(أحدهما)

وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ

ان ذلك ليس رجوعا قياسا على ما إذا تلف بعضه فصار الباقي على وصته.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 504)

________________________________________

(والثانى)

انه رجوع، وقد ذهب احمد واصحابه إلى ان الخلط بما هو خير منه أو بما دونه أو بمثله لا يعد رجوعا لانه كان مشاعا وبقى مشاعا وعندهم وجه ضعيف فيما خلط بخير منه انه يكون رجوعا، لانه لا يمكنه تسليم الموصى به إلا بتسليم خير منه، ولا يجب على الوارث تسليم خير منه فصار متعذر التسليم بخلاف ما إذا خلطه بمثله أو دونه، والله تعالى أعلم بالصواب

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

وإن وصى بقطن فغزله أو بغزل فنسجه كان ذلك رجوعا، لانه أزال عنه الاسم، وان أوصى له بقطن فحشى به فراشا ففيه وجهان

(أحدهما)

انه رجوع لانه جعله للاستهلاك

(والثانى)

ليس برجوع لان الاسم باق عليه.

 

(فصل)

وان أوصى له بثوب فقطعه أو بشاة فذبحها، كان رجوعا، لانه ازال عنه الاسم، ولانه جعله للاستهلاك، وان وصى له بحلم فطبخه أو شواه كان ذلك رجوعا، لانه جعله للاكل، وان قدده ففيه وجهان كما قلنا في الرطب إذا جعله تمرا.

 

(فصل)

وان وصى له بثوب فقطعه قميصا أو بساج فجعله بابا ففيه وجهان

(أحدهما)

انه رجوع، لانه ازال عنه اطلاق اسم الثوب والساج.

ولانه جعله للاستعمال.

 

(والثانى)

انه ليس برجوع، لان اسم الثوب والساج باق عليه

(فصل)

وان وصى بدار فهدمها كان رجوعا لانه تصرف ازال به الاسم فكان رجوعا، كما لو وصى بحنطة فطحنها، وان تهدمت نظرت لان لم يزل عنها

اسم الدار فالوصية باقية فيما بقى.

وأما ما انفصل عنها فالمنصوص انه خارج من الوصية لانه انفصل عن الموصى به في حياة الموصى.

وحكى القاضى أبو القاسم ابن كج رحمه الله وجهان آخر: انه للموصى له لانه تناولته الوصيه فلم يخرج منها بالانفصال، وإن زال عنها اسم الدار ففى الباقي من العرصة وجهان (احدهما) انه تبطل فيه الوصية لانه ازال عنها اسم الدار

(والثانى)

لا تبطل لانه لم يوجد من جهته ما يدل على الرجوع.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 505)

________________________________________

(فصل)

وان وصى له بأرض فزرعها لم يكن ذلك رجوعا، لانه لا يراد للبقاء، وقد يحصل قبل الموت فلم يكن رجوعا، وإن غرسها أو بنى فيها ففيه وجهان

(أحدهما)

أنه رجوع لانه جعلها لمنفعة مؤبدة، فدل على الرجوع،

(والثانى)

ليس برجوع لانه استيفاء منفعة فهو كالزراعة، فعلى هذا في موضع الاساس وقرار الغراس وجهان.

 

(أحدهما)

أنه لا تبطل فيه الوصية كالبياض الذى بينهما فإذا مات الغراس أو زال البناء عاد إلى الموصى له.

 

(والثانى)

أنه تبطل الوصية فيه لانه جعله تابعا لما عليه.

 

(فصل)

وإن أوصى له بسكنى دار سنة فأجرها دون السنة لم يكن ذلك رجوعا، لانه قد تنقضي الاجارة قبل الموت، فان مات قبل انقضاء الاجارة ففيه وجهان

(أحدهما)

يسكن مدة الوصية بعد انقضاء الاجارة

(والثانى)

انه تبطل الوصية بقدر ما بقى من مدة الاجارة وتبقى في مدة الباقي.

(الشرح) إذا وصى بكتان أو قطن فغزله أو وصى بغزل فنسجه أو بثوب فقطعه أو بسبيكة فصاغها أو شاة فذبحها كان ذلك رجوعا، وبهذا قال اصحاب الراى والشافعي في ظاهر المذهب وهو الراجع من أحمد، واختار أبو الخطاب

من الحنابله انه ليس برجوع، وهو قول ابى ثور لانه لا يزيل الاسم.

دلينا: انه عرضة للاستعمال فصار رجوعا كالمسائل قبله، ولا يصح قوله انه لا يزيل الاسم، فان الثوب لا يسمى غزلا، والغزل لا يسمى كتابا.

(فرع)

قال الشافعي رضى الله عنه: ولو اوصى له بدار وقبل كانت له وما ثبت فيها من ابوابها وغيرها دون ما فيها.

قلت لان الوصيه إذا كانت بالدار دخل فيها كل ما كان من الدار ولها ولم يدخل في الوصيه كل ما كان في الدار إذا لم يكن منها، فالداخل في الوصيه حيطانها وسقوفها وابوابها المنصوبة عليها، وما كان متصلا بها من زخرفها ودرجها، ولم يخل فيها ما انفصل عنها من ابوابها ورفوفها وسلاليمها المنفصلة عنها.

وجملة ذلك ان كل ما جعلناه داخلا في البيع معها دخل في الوصيه بها، وكل

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 506)

________________________________________

ما لم نجعله داخلا في البيع لم يدخل في الوصية، فلو كان الموصى به أرضا دخل في الوصيه نخلها وشجرها، ولم يدخل فيه زرعها، ولو كان نخلها عند الوصية مثمرا لم يدخل ثمرها في الوصية إن كان مؤبرا، وفى دخوله فيها إن كان غير مؤبر وجهان

(أحدهما)

يدخل كالبيع

(والثانى)

لا يدخل لخروجه عن الاسم، وان كان متصلا، وهذان الوجهان مخرجان من اختلاف قوليه في دخوله في الرهن.

إذا ثبت هذا فقد قال الشافعي رضى الله عنه: ولو انهدمت في حياة الموصى كانت له إلا ما انهدم منها فصار غير ثابت فيها، وصورتها في رجل أوصى لرجل بدار فانهدمت فلا يخلو انهدامها من ثلاثة أحوال.

 

(أحدهما)

أن تنهدم في حياة الموصى.

 

(والثانى)

بعد موته وبعد قبول الموصى له.

(والثالث) بعد موته وقبل قبول الموصى، فان انهدمت في حياة الموصى،

فهذا على ضربين.

أحدهما: أن يزول اسم الدار عنها بالانهدام.

والثانى: أن لا يزول، فان لم يزل اسم الدار عنها لبقاء بنيان فيها تسمى دارا، فالوصية جائزة وله ما كان ثابتا فيها من بنيانها، فأما المنفصل عنها بالهدم فالذي نص عليه الشافعي ان يكون خارجا من الوصية، فذهب الجمهور من أصحابنا إلى حمل ذلك على ظاهره، وأنه خارج من الوصية، لان ما انفصل عنه لا يسمى دارا، فلم يكن للموصى له بالدار فيها حق.

وحكى أبو القاسم بن كج وجها آخر عن بعض أصحابنا أن نص الشافعي على خروج ما نهدم من الوصية محمول على انه هدمه بنفسه فصار بذلك رجوعا فيه، ولو انهدمت بسبب من السماء لا ينسب لفعل الموصى كان للموصى له باقى الدار لانه منهما وانما بان عنها بعد أن تناولته الوصية، وان كانت الدار بعد انهدامها لا تسمى دارا لانها صارت عرصة لا بناء فيها ففى بطلان الوصية وجهان.

 

(أحدهما)

لا تبطل وهذا قول من جعل الالة بعد انفصالها ملكا للموصى له (والوجه الثاني) أن الوصية بها باطلة وهو الاصح، لانها إذا كانت عرصة لم تسم دارا، ألا ترى لو حلف لا يدخلها لم يحنث بدخول عرصتها بعد ذهاب

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 507)

________________________________________

بنائها، وهذا قول من جعل ما انفصل عنها غير داخل في الوصية، فأما إن كان انهدامها بعد موت الموصى وبعد قبول الموصى له فالوصية بهما ممضاة، وجميع ما انفصل عنها من البناء كالمتصل يكون ملكا للموصى له لاستقرار ملكه عليها بالقبول.

فاما إن كان انهدامها بعد موت الموصى وقبل قبول الموصى له، فان لم يزل اسم الدار عنها فالوصية بحالها، فإذا قبلها الموصى له، فان قيل: ان القبول يبنى عن تقدم الملك بموت الموصى وكل ذلك ملك للموصى له المنفصل منه والمتصل

فان قيل: إن القبول هو المملك فله الدار وما اتصل بها من البناء.

وفى المنفصل وجهان (احدهما) للموصى له

(والثانى)

للورثة، وإن لم تسم الدار بعد انهدامها دارا.

(فان قلنا) إن القبول يبنى عن تقدم الملك، فالوصية جائزة وجهان واحدا وله العرصة وجميع ما فيها من منفصل أو متصل، إذا كان عند الموت متصلا، وان قيل: إن القبول هو المملك مع بطلان الوصية بانهدامها على مضى من الوجهين

(أحدهما)

باطلة

(والثانى)

جائزة وله ما اتصل بها.

وفى المنفصل وجهان: وما بقى من كلام المصنف فعلى وجهه وليس فيه أقاويل تذكر، والله تعالى أعلم بالصواب.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 508)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله تعالى:

 

‌باب الأوصياء

 

لا تجوز الوصية الا إلى بالغ عاقل حر عدل، فأما الصبى والمجنون والعبد والفاسق فلا تجوز الوصيه إليهم، لانه لاحظ للميت ولا للطفل في نظر هؤلاء ولهذا لم تثبت لهم الولاية، واما الكافر فلا تجوز الوصية إليه في حق المسلم، لقوله عز وجل (لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا، ودوا ما عنتم) ولانه غير مأمون على المسلم، ولهذا قال الله تعالى (لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمه) وفى جواز الوصية إليه في حق الكافر وجهان (احدهما) انه يجوز لانه يجوز أن يكون وليا له فجاز ان يكون وصيا له كالمسلم

(والثانى)

لا يجوز كما لا تقبل شهادته للكافر والمسلم.

 

(فصل)

وتجوز الوصية إلى المرأة لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وصى إلى ابنته حفصة في صدقته ما عاشت، فإذا ماتت فهو إلى ذوى الرأى من أهلها،

ولانها من أهل الشهادة فجازت الوصية إليها كالرجل.

واختلف أصحابنا في الاعمى فمنهم من قال: تجوز الوصية إليه لانه الشهادة فجازت الوصية إليه كالبصير، ومنهم من قال: لا تجوز الوصية لانه تفتقر الوصية إلى عقود لا تصح من الاعمى، وفضل نظر لا يدرك الا بالعين.

(الشرح) تصح الوصيه إلى الرجل العاقل المسلم الحر العدل اجماعا، ولا تصح إلى مجنون ولا طفل ولا وصية مسلم إلى كافر بغير خلاف نعلمه، لان المجنون والطفل ليسا من أهل التصرف في أموالهما، فلا يليان على غيرهما، والكافر ليس من أهل الولاية عن مسلم، لقوله تعالى (لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفى صدورهم أكبر) .

قال ابن أبى حاتم حدثنا أبى حدثنا أبو أيوب محمد بن الوزان حدثنا عيسى ابن يونس عن أبى حيان التيمى عن أبى النباع عن ابن أبى الدهقانة قال: قيل

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 509)

________________________________________

لعمر بن الخطاب رضى الله عنه: إن ههنا غلاما من أهل الحيرة حافظ كاتب فلو اتخذته كاتبا؟ فقال: قد اتخدت إذن بطانة من دون المؤمنين.

فعلى هذا الاثر مع هذه الآية دليل على أن أهل الذمة لا يجوز استعمالهم في الكتابة التى فيها استطالة على المسلمين واطلاع على دواخل أمورهم التى يخشى أن يفشوها إلى الاعداد من أهل الحرب، ولهذا قال تعالى (لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم) وما هنا مصدرية فيكون المصدر الصريح المفعول لودوا (عنتكم) .

وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا إسحاق بن إسرائيل حدثنا هشيم حدثنا العوام عن الازهر بن راشد قال: كانوا أنسا فإذا حدثهم بحديث لا يدرون ما هو أتوا الحسن البصري فيفسره لهم قال: فحدث ذات يوم عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا تستضئوا بنار المشركين ولا تنقشوا في خواتيمكم عربيا) فأتوا

الحسن ففسر لهم الاستضاءة: لا تستشيروا المشركين في شئونكم تصديق ذلك في كتاب الله وتلا الاية، ويقول الشافعي رضي الله عنه في الأم في باب الاوصياء ولا تجوز الوصيه الا إلى بالغ مسلم عدل.

وروى ابن اسحاق وغيره عن ابن عباس قال: كان رجال من المسلمين يواصلون رجالا من اليهود، لما كان بينهم من الجوار والحلف في الجاهلية، فانزال الله تعالى فيهم ينهاهم عن مباطنتهم تخوف الفتنة عليهم هذه الاية، وأخرج عبد بن حميد انها نزلت في المنافقين من أهل المدينة، هي المؤمنون ان يتولوهم ومن ثم فلا تصح وصيه مسلم إليه لانه لا يلى على مسلم، ولانه ليس من أهل الشهادة ولا العدالة فلم تصح الوصيه إليه كالمجنون والفاسق، وأما وصيه الكافر إليه، فان لم يكن عدلا في دينه لم تصح الوصيه إليه، لان عدم العدالة في المسلم يمنع صحة الوصية إليه فمع الكفر أولى، وان كان عدلا في دينه ففيه وجهان.

أحدهما: تصح الوصيه إليه، وهو قول أصحاب الرأى لانه يلى بالنسب فيلى الوصية كالمسلم.

والثانى: لا تصح، وهو قول أبى ثور لانه فاسق فلم تصح الوصية إليه كفاسق المسلمين.

ولاصحاب أحمد وجهان كهذين، وأما وصية الكافر إلى المسلم الا أن تكون تركته خمرا أو خنزيزا.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 510)

________________________________________

أما الوصية إلى المرأة فإنها تصح في قول أكثر أهل العلم، وروى ذلك عن شريح.

وبه قال مالك الثوري والاوزاعي والحسن بن صالح واسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأى وأحمد بن حنبل، ولم يجزه عطاء، لانها لا تكون قاضية فلا تكون وصية.

دليلنا أن عمر رضى الله عنه اوصى إلى حفصة، ولانها من أهل الشهادة فاشبهت الرجل، وتخالف القضاء، فان المعتبر له الكمال في الخلقة والاجتهاد

بخلاف الوصية، وتصح الوصية للاعمى في أحد الوجهين لانه من أهل الشهادة وهو قول أحمد وأصحابه، ولم يسلم القائلون بالجواز لمخالفيهم حكمهم، لانه يمكنه التوكيل فيما يحتاج إلى نظر، ثم انه من أهل الشهادة والولاية في النكاح، والولاية على أولاده الصغار، فصحت الوصية إليه كالبصير.

وعلى الوجه الاخر عند أصحابنا انه لا تصح الوصية إليه بناء على انه لا يصح بيعه ولا شراؤه فلا يوجد فيه معنى الولاية، وقد مضى في البيوع وفى السلم وفى غيرهما مزيد بيان.

أما الصبى العاقل فلا تصح الوصيه إليه لانه ليس من أهل الشهادة والاقرار، ولا يصح تصرفه الا بإذن، فلم يكن من أهل الولاية بطريق الاولى، ولانه مولى عليه، فلا يكون واليا كالطفل والمجنون وهو الصحيح من مذهب الحنابلة وليس عندهم نص عن أحمد فيه، وانما رجح أكثرهم مذهبنا في الصبى الا القاضى فقد قال: قياس المذهب صحة الوصية إليه، لان احمد قد نص على صحة وكالته وأما الفاسق فان الوصيه إليه لا تصح في قول مالك والشافعي واحمد.

وفى رواية عن احمد صحة الوصية إليه في رواية ابن منصور عنه وعند الخرقى من الحنابلة إذا كان خائنا ضم إليه أمين وقال ابن قدامه: وهذا يدل على صحة الوصية إليه ويضم الحاكم إليه امينا.

وقال أبو حنيفة تصح الوصية إليه وينفذ تصرفه وعلى الحاكم عزله لانه بالغ عاقل فصحت الوصيه إليه كالعدل، وبهذا يكون على قول أصحاب الحمد عدم جواز إفراده بالوصية.

وعند ابى حنيفة لا يجوز إقراره على الوصيه.

وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 511)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

واختلف أصحابنا في الوقت الذى تعتبر فيه الشروط التى تصح بها

الوصية إليه، فمنهم من قال يعتبر ذلك عند الوفاة، فإن وصى إلى صبى فبلغ أو كافر فاسلم أو فاسق فصار عدلا قبل الوفاة صحت الوصية، لان التصرف بعد الموت فاعتبرت الشروط عنده كما تعتبر عدالة الشهود عند الاداء أو الحكم دون التحمل، ومنهم من قال: تعبتر عند العقد وعند الموت، ولا تعتبر فيما بينهما، لان حال العقد حال الايجاب، وحال الموت حال التصرف فاعتبر فيهما.

ومنهم من قال: تعتبر في حال الوصية وفيما بعدها، لان كل وقت من ذلك يجوز ان يستحق فيه التصرف بان يموت، فاعتبرت الشروط في الجميع.

 

(فصل)

وإن وصى إلى رجل فتغير حاله بعد موت الموصى - فإن كان لضعف - ضم إليه معين امين، وإن تغير بفسق أو جنون بطلت الوصيه إليه ويقيم الحاكم من يقوم مقامه.

 

(فصل)

ويجوز ان يوصى إلى نفسين.

لما روى أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعلت النظر في وقفها إلى على كرم الله وجهه، فإن حدث به حدث رفعه إلى ابنيها فيليانها، ويجوز ان يجعل اليهما والى كل واحد منهما لانه تصرف مستفاد بالاذن، فكان على حسب الاذن، فإن جعل إلى كل واحد منهما جاز لكل واحد منهما ان ينفرد بالتصرف، فان ضعف احدهما أو فسق أو مات جاز للآخر ان ينصرف ولا يقام مقام الاخر غيره لان الموصى رضى بنضر كل واحد منهما وحده، فان وصى اليهما لم يجز لاحدهما ان ينفرد بالتصرف لانه لم يرض بأحدهما، فان ضعف احدهما ضم إليه من يعينه، فان فسق أحدهما أو مات أقام الحاكم من يقوم مقامه لان الموصى لم يرض بنظره وحده، فان اراد الحاكم ان يفوض الجميع إلى الثاني لم يجز لانه لم يرضى الموصى باجتهاده وحده فان ماتا أو فسقا فهل للحاكم ان يفوض إلى واحد.

فيه وجهان

(أحدهما)

يجوز، لانه سقط حكم الوصية بموتهما وفسقهما فكان الامر

فيه إلى الحاكم

(والثانى)

لا يجوز لانه لم يرضى بنظر واحد، وان اختلف

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 512)

________________________________________

الوصيان في حفظ المال جعل بينهما نصفين، فإذا بلغا إلى التصرف - فان كان التصرف إلى كل واحد منهما - تصرف كل واحد منهما في الجميع، وان كان اليهما لم يجز لاحدهما ان ينفرد بالتصرف دون الاخر.

 

(فصل)

ومن وصى إليه في شئ لم يصر وصيا في غيره ومن وصى إليه إلى مدة لم يصر وصيا بعد المدة لانه تصرف بالاذن فكان على حسب الاذن.

(الشرح) الشروط التى اسلفنا تقريرها هل تعتبر في الوصي حال العقد أو حال الموت أو حال العقد والموت؟ على اختلاف بين اصحابنا، والى اعتبارها حال العقد ذهب أحمد وأصحابه في أحد الوجهين عندهم، لانها شروط لعقد فتعتبر حال وجوده كسائر العقود فلا ينفع وجودها بعده، وعلى الوجه الثاني لو كانت الشروط كلها منتفية أو بعضها حال العقد ثم وجدت حالة الموت لصحت الوصية إليه، وهو الوجه الثاني عند أصحاب أحمد.

والوجه الثالث: ان تعتبر حال صدور العقد عند الوفاة، ولا تعتبر حالة فيما بينهما من الزمن كما سيأتي.

(فرع)

الوصية ولاية وامانة والفاسق ليس من اهلهما، فعلى هذا إذا كان الوصي فاسقا فحكمه حكم من لا وصى له عند أصحاب أحمد، وينظر الحاكم في ماله، وعند أحمد أن الوصية باطلة ابتداء كالذى طرا عليه فسقه بعد الوصية تزول ولايته ويقيم الحاكم مقامه امينا، وهذا هو قول الثوري والشافعي واسحاق واحمد ابن حنبل.

وعلى قول بعض الحنابلة كالخرقي تصح الوصية ويضم إليه امين ينظر معه، وروى ذلك عن الحسن وابن سيرين لانه امكن حفظ المال بالامين، تعين ازالة يد الفاسق الخائن وقطع تصرفه، لان حفظ المال على اليتيم اولى من رعاية قول الموصى الفاسد.

واما العدل الذى يعجز عن النظر لعلة أو ضعف طرا، فان الحاكم يضم إليه امينا، ولا تزول يده عن المال ولا نظره ويكون الاول هو الوصي دون الثاني، وهذا معاون له، لان ولاية الحاكم انما تكون عند عدم الوصي، وهذا قول الشافعي وابى يوسف واحمد بن حنبل ولا اعلم لهم مخالفا.

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 513)

________________________________________

اما إذا تغير حال الوصي بجنون أو كفر أو سفه أو فسق زالت ولايته وصار كانه لم يوص إليه، ويرجع الامر إلى الحاكم فيقيم امينا ناظرا الميت في امره وامر اولاده من بعده كما لو لم يخلف وصيا اما إذا تغيرت حالته بعد الوصية وقبل الموت ثم عاد فكان عند الموت جامعا لشروط الوصية صحت الوصية إليه.

لان الشروط موجودة حال العقد والموت فصحت الوصية كما لو لم تتغير حاله.

هذا وجه ووجه آخر تبطل لان كل حالة منها حالة للقبول والرد فاعتبرت الشروط فيها.

فاما ان زالت بعد الموت وانعزل ثم عاد فكمل الشروط لم تعد وصيته لانها زالت فلا تعود الا بعقد جديد.

إذا ثبت هذا فانه يجوز للرجل الوصية إلى اثنين.

فمتى اوصى اليهما مطلقا لم يجز لواحد منهما الانفراد بالتصرف، فان مات احدهما أو جن أو وجد منه ما يوجب عزله اقام الحاكم مقامه امينا، لان الموصى لم يرض بنظر هذا الباقي منهما وحده، فان اراد الحاكم رد الباقي منهما فوجهان: احدهما: لا يجوز.

والثانى: يجوز.

لان النظر لو كان له لموت الموصى عن غير وصية كان له رده إلى واحد كذلك ههنا، فيكون ناظرا بالوصية من الموصى والامانة من جهة الحاكم.

ولنا ان الموصى لم يرض بتصرف هذا وحده فوجب ضم غيره إليه، لان الوصية مقدمة على نظر الحاكم واجتهاده.

فان كانت الوصية بالاذن لكل واحد منهما ان يتصرف منفردا، فإذا مات

احدهما أو جن أو ارتد أو فسق جاز للاخر ان يتصرف ولا يقام مقام الاخر غيره لان تصرف الباقي منهما على حسب الاذن مستفاد منه، ولانه رضى بنظر كل واحد منهما وحده، فلا سبيل إلى اقامه بديل لمن بطل عقده.

وان تغيرت حالهما جميعا بموت أو غيره فهل للحاكم ان ينصب مكانهما واحدا؟ فيه وجهان احدهما له ذلك، لانه لما عدم الوصيان صار الامر إلى الحاكم بمنزلة ما لم يوص، ولو لم يوص لاكتفى بواحد، كذا ههنا، ويفارق ما إذا كان احدهما حيا لان الموصى بين انه لا يرضى بهذا وحده بخلاف ما إذا ماتا معا

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 514)

________________________________________

والثانى: لا يجوز ان ينصب الا اثنين لان الموصى لم يرض بواحد فلم يقتنع به كما لو كان احدهما حيا فاما ان جعل لكل واحد منهما التصرف منفردا فمات احدهما أو خرج من الوصية لم يكن للحاكم ان يقيم مقامه امينا لان الباقي منهما له النظر بالوصية فلا حاجة إلى غيره، وان ماتا معا أو خرجا عن الوصية فللحاكم ان يقيم واحدا يتصرف، وان تغيرت حال احد الوصيين تغييرا لا يزيله عن الوصية كالعجز عنها لضعف أو علة ونحو ذلك، وكان لكل واحد منهما التصرف منفردا، فليس للحاكم ان يضم اليهما امينا، لان الباقي منهما يكفى، الا ان يكون الباقي منهما يعجز عن التصرف وحده لكثرة العمل ونحوه، فله ان يقيم امينا، وان كانا ممن ليس لاحدهما التصرف على الانفراد فعلى الحاكم ان يقيم مقام من ضعف منهما عنها امينا يتصرف معه على كل حال فيصيرون ثلاثة: الوصيان والامين معهما.

وليس لواحد منهم التصرف وحده (فرع)

قوله: ومن وصى إليه في شئ لم يصر وصيا في غيره الخ.

وهذا

صحيح لانه يجوز ان يوصى إلى رجل بشئ دون شئ، مثل ان يوصى إلى انسان بتفريق وصيته دون غيرها أو بقبض معاشه أو بقضاء ديونه، أو بالنظر في امر أطفاله فحسب، فلا يكون له غير ما جعل إليه ويجوز ان يوصى إلى انسان بقبض معاشه لصغره، وبآخر للانفاق عليهم من هذا المعاش، والى آخر بقضاء ديونه، والى آخر بالانفاق على أطفاله، فلا يكون لكل واحد منهم الا ما جعل له دون غيره، ومتى اوصى إليه بشئ لم يصر وصيا في غيره.

وبهذا قال الشافعي واحمد بن حنبل وقال أبو حنيفة: يصير وصيا في كل ما يملكه الوصي، لان هذه ولاية تنقل من الاب بموته، فلا تتبعض كولاية الجد ولنا انه استفاد التصرف بالاذن من جهة انسان، فكان مقصورا على ما اذن فيه كالوكيل.

وولاية الجد ممنوعة ثم ولاية الجد استفادها بقرابته وهى لاتتبعض والاذن يتبعض فافترقا.

وكذلك إذا اوصى له إلى زمن معين موصوف، كان إذا بلغ الصبى أو قدم

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 515)

________________________________________

المسافر، أو معين كقوله إلى سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة بعد الاف، وهو العام الذى نخط فيه هذا الشرح، فانه لا يجوز ان يتجاوزه لان الاذن موقت بالعام المذكور.

وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:

(فصل)

وللوصي ان يوكل فيما لم تجربه العادة ان يتولاه بنفسه كما قلنا في الوكيل، ولايجوز ان يوصى إلى غيره، لانه يتصرف بالاذن فلم يملك الوصية كالوكيل، فان قال اوصيت اليك: فان مت فقد اوصيت إلى فلان صح، لان عمر رضى الله عنه وصى إلى حفصة، فإذا ماتت فالى ذوى الراى من اهلها،

ووصت فاطمة رضى الله عنها إلى على كرم الله وجهه، فإذا مات فالى ابنيها، ولانه علق وصية التالى على شرط، فصار كما لو قال وصيت اليك شهرا ثم قال إلى فلان، فان اوصى إليه واذن له ان يوصى إلى من يرى فقد قال في الوصايا لا يجوز.

وقال في اختلاف العراقيين يجوز.

فمن اصحابنا من قال يجوز قولا واحدا لانه ملك الوصية والتصرف في المال، فإذا جاز ان ينقل التصرف في المال إلى الوصي جاز ان ينقل الوصية إليه، وما قال في الوصايا اراد إذا اطلق الوصية ومنهم من قال فيه قولان (احدهما) يجوز لما ذكرناه

(والثانى)

لا يجوز لانه يعقد الوصية عن الموصى في حال لا ولاية له فيه.

وان وصى إليه واذن له ان يوصى بعد موته إلى رجل بعينه ففيه وجهان (احدها) يجوز لانه قطع اجتهاده فيه بالتعيين

(والثانى)

انه كالمسالة الاولى لان علة المسالتين واحدة

(فصل)

ولا تتم الوصية إليه االا بالقبون لانه وصية فلا تتم الا باقبول كالوصيه له.

وفى وقت القبول وجهان (احدهما) يصح القبول في الحال لانه اذن له في التصرف فصح القلو في الحال كالوكالة

(والثانى)

لا يصح الا بعد الموت كالقبول في الوصية له.

 

(فصل)

وللموصى ان يعزل الوصي إذا شاء، وللوصي ان يعزل

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 516)

________________________________________

نفسه متى شاء، لانه تصرف بالاذن فجاز لكل واحد منهم فسخه كالوكالة.

 

(فصل)

إذا بلغ الصبى واختلف هو والوصى في الفقه، فقال الوصي انفقت عليك، وقال الصبى لم تنفق على، فالقول قول الوصي لانه امين وتتعذر عليه إقامة البينة على النفقة، فإن اختلفا في قدر النفقة فقال: انفقت عليك في كل سنة مائة دينار.

وقال الصبى بل انفقت على خمسين دينارا، فان كان ما يدعيه

الوصي النفقة بالمعروف فالقول قوله لانه امين، وان كان اكثر من النفقة بالمعروف فعليه الضمان لانه فرط في الزيادة وان اختلفا في المدة فقال الوصي: انفقت عشر سنين، وقال الصبى خمس سنين، ففيه وجهان (أَحَدُهُمَا) وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ أَنَّ القول قول الوصي، كما لو اختلفا في قد النفقة

(والثانى)

وهو قول اكثر اصحابنا ان القول قول الصبى، لانه اختلاف في مدة، الاصل عدمها

(فصل)

وان اختلفا في دفع المال إليه فادعى الوصي انه دفعه إليه وانكر الصبى، ففيه وجهان

(أحدهما)

وهو المنصوص ان القول قول الصبى لانه لم ياتمنه على حفظ المال فلم يقبل قوله عليه، كالمودع إذا ادعى دفع الوديعة إلى وارث المودوع، والملتقط إذا ادعى دفع اللقطة إلى مالكها

(والثانى)

ان القول قول الوصي كما قلنا في النفقة.

(الشرح) الاحكام: إذا اوصى له في شئ لا يحسن القيام به بنفسه جاز له ان يوكل عنه من يتولاه، كان كان ما عهد إليه بالوصية فيه كثير الجوانب متعدد الجهات بحيث يحتاج الوصي إلى من يعينه على ادائه وكذلك لو كان العمل شاقا لا يقدر مثله على القيام به ويحتاج إلى شخص قوى يؤديه، أو كان اغلعمل يفتقر إلى مهارة أو فن خاص له دارسوه والمتخصصون فيه كالهندسة ونحوها جاز له

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 517)

________________________________________

توكيل غيره ممن بمثل هذه الامور، وكذلك لو كان العمل سهلا ولكن من الاعمال التى يترفع الوصي في العادة عن مثلها لدناءتها جاز له أن يوكل من يقوم بها أما الوصية إلى غيره بغيره إذن من الموصى فانه لا يصح ذلك منه قولا واحدا.

أما إذا قال: أوصيت اليك ومن بعدك إلى فلان، فان ذلك جائز ولا كلام لما روينا عن عمر أنه وصى إلى حفصة، فإذا ماتت فالى ذوى الرأى من قومها، ولذا جاز أن وصى إلى من يخلفه بالتعيين كأوصيت إلى فلان فإذا مات فالاى فلان كما أوصيت فاطمة إلى على ومن بعده إلى ولديها السبطين رضى الله عنهما، كما يجوز ان يوصى إلى من يخلفه بالوصف كقول عمر: فالى ذوى الرأى من قومها، وتجرى هذه الوصية مجرى المعلق على شرط كالوصية إلى أجل معين أو موصوف على ما مضى في الفصل قبله.

أما إذا أوصى إليه ثم أذن له أن يوصى إلى من يرى أو إلى من يشاء، أو كل من أوصيت إليه فقد أوصيت إليه أو فهو وصى فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الوصايا من الام: ولو أوصى رجل إلى رجل فمات الموصى إليه وأوصى بما أوصى به إلى رجل لم يكن وصى الوصي وصيا للميت الاول، لان الميت الاول لم يرض الموصى الآخر.

ولو قال: أوصيت إلى فلان فان حدث به حدث فقد أوصيت إلى من وصى إليه لم يجز ذلك لانه انما أوصى بمال غيره.

وقال في اختلاف العراقيين في نسخة السراج البلقينى باب الوصي من اختلاف العراقيين، وهى بعد وصية الامام الشافعي رضى الله عنه التى كتبها قبل موته قال الشافعي رحمه الله تعالى: ولو أن رجلا أوصى إلى رجل فمات الموصى إليه فأوصى إلى آخر، فان أبا حنيفة كان يقول: هذا الاخر وصى الرجلين جميعا وبهذا يأخذ، وكذلك بلغنا عن ابراهيم، وكان ابن أبى ليلى يقول: هذا الآخر وصى الذى أوصى إليه، ولا يكون وصيا للاول الا أن يقول الثاني: قد أوصيت اليك في كل شئ، أو يذكر وصية الاخر.

فمن أصحابنا من قال بالجواز قولا واحدا لانه ملك الوصية والتصرف في المال

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 518)

________________________________________

ورضى الموصى باجتهاده واجتهاد من يراه فصح كما لو وصى اليهما معا، وهذا قول أكثر أهل العلم، واليه ذهب أحمد وأصحابه.

وقالوا لانه مأذون له في الاذن في التصرف فجاز له أن يأذن لغيره كالوكيل إذا أمر بالتوكيل، وما قال الشافعي في الوصايا أراد إذا أطلق الوصية.

ومن أصحابنا من قال: فيه فولان.

أحدهما: يجوز لما أثبتناه، والثانى: لا يجوز لانه ليس له أن يوصى لانه بتوليه فلا يصح أن يولى فيما لا ولاية له فيه.

أما إذا وصى له وأذن له في أن يوصى إلى فلان بعده بعينه ففيه وجهان

(أحدهما)

يجوز، لانه لم يترك له اعمال الوصع ولا بذل الجهد في تعيينه فقد أذن له أن يوصى إليه معينا باسمه فصح كما لو أوصى له ثم من بعده إلى فلان، والثانى: أنه كالمسأله قبلها لانه كان بوسعه أن يوصى إليه من بعده، ولكنه أذن له في الوصية فكأنه جعل الوصية من شأنه.

وجملة ذلك أنه لا يجوز للوصي أن يوصى إلى غيره، وهو قول الشافعي واسحاق وأحد قولى أحمد.

والظاهر من مذهب الخرقى من الحنابلة لقوله في ذلك في الوكيل لانه يتصرف بتوليه فلم يكن له التفويض كالوكيل.

وقال مالك وابو حنيفة والثوري وابو يوسف وأحمد في أحد قوليه له أن يوصى إلى غيره.

(فرع)

يصح قبول الوصية وردها في حياة الموصى، لانها اذن في التصرف فصح قبوله بعد العقد كالوكيل، وهى لا تتم الا بالقبول كالوصية له، والفرق بينهما أن الاولى اذن له في التصرف والثاينة تمليك في وقت فلم يصح القبول قبل الوقت، هذا وجه والوجه الاخر أنه يجوز تأخير القبول إلى ما بعد الموت لانها نوع وصية فصح قبولها بعد الموت كالوصية له، ومتى قبل صار وصيا وله عزل نفسه متى شاء مع القدرة والعجز في حياة الموصى، وبعد موته بمشهد منه وفى

غيبته، وبهذا قال الشافعي وأحمد.

وقال أبو حنيفة: لا يجوز له ذلك بعد الموت بحال ولا يجوز في حياته الا بحضرته: لانه غره بالتزام وصيته ومنعه بذلك الايصاء إلى غيره، وذكر ابن ابى موسى رواية عن أحمد: ليس له عزل نفسه بعد الموت لذلك، وهذا فاسد لانه متصرف باذن فكان له عزل

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 519)

________________________________________

نفسه كلوكيل، فأما اختلاف الوصي والوصى فقد مضى كلامنا فيه في الحجر وفى الوكالة، وبعض صوره في الوديعة، والله تعالى أعلم بالصواب.

قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

ولا يلحق الميت مما يفعل عنه بعد موته بغير إذانه إلا دين يقضى عنه أو صدقة يتصدق بها عنه أو دعاء يدعى له، آفأما الدين فالدليل عليه ما روى أن إمرأة من خثعم (سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الحج عن أبيها فأذن لها، فقالت: أينفعه ذلك؟ قال نعم كما لو كان على أبيك دين فقضيته نفعه) وأما الصدقة فالدليل عليها ما روى ابن عباس (أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن أمة توفيت أفينفعها أن أتصدق عنها؟ فقال: فإن لى مخرفا فأشهدك أبى قد تصدقت به عنها) : وأما الدعاء فالدليل عليه قوله عز وجل (والذين جاؤا من بعدهم يقولون: ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان) فأثنى الله عز وجل عليهم بالدعاء لاخوانهم من الموتى، واما ما سوى ذلك من القرب كقراءة القرآن وغيرها فلا يلحق الميت ثوابها.

لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إذا مات الانسان انقطع عنه عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ، صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، أَوْ عِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو له) واختلف أصحابنا فيمن مات وعليه كفارة يمين فأعتق عنه، فمنهم من قال: لا يقع العتق عن الميت بل يكون للعتق لان

العتق غير متحتم على الميت لانه كان يجوز له تركه إلى غيره فلم يقع عنه، كما لو تطوع بالعتق عنه في غير الكفارة، ومنهم من قال: يقع عنه لانه لو أعتق في حياته سقط به الفرض، وبالله التوفيق.

(الشرح) حديث المرأة الخثعمية رواه أصحاب الكتب الستة وأحمد في مسنده عن ابن عباس، وأخرجه أحمد والترمذي وصححه والبيهقي من حديث عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

وعن عبد الله بن الزبير قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ خَثْعَمَ إلَى رَسُولِ الله صلى لله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إنَّ أَبِي أَدْرَكَهُ الْإِسْلَامُ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 520)

________________________________________

لَا يَسْتَطِيعُ رُكُوبَ الرَّحْلِ وَالْحَجُّ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ أَنْتَ أَكْبَرُ وَلَدِهِ؟ قَالَ نَعَمْ.

قَالَ أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دين فقضيته عنه أكان يجزى ذلك عَنْهُ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَاحْجُجْ عَنْهُ) رَوَاهُ أحمد ولنسائي بمعناه ؤ وقال الحافظ ابن حجر سناده صالح.

وعن ابن عباس أيضا أن امرأة من جهينة جاءت إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إنَّ أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال نعم حجى عنها.

أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته، اقضوا الله فالله أحق بالوفاء.

رواه البخاري والنسائي بمعناه.

وعند أحمد ورواية أخرى للبخاري بنحو ذلك وفيها قال: جاء رجل فقال إن أختى نذرت أن تحج، وهو يدل على صحة الحج عن الميت من الوارث وغيره حيث لم يستفصله أوارث هو أم لا، وشبهه بالدين وروى الدارقطني عن ابن عباس أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إن أبى مات وعليه حجة الاسلام أفأحج عنه؟ الحديث) أما حديث ابن عباس أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إن أمي توفيت أينفعها إن تصدقت عنها؟ قال نعم قال: فإن لى مخرقا فأنا أشهدك أنى قد تصدقت به عنها) فقد رواه البخاري والترمذي وأبو داود والنسائي وقد

ورد اسم الرجل الذى سأل النبي صلى الله عليه وسلم في رواية البخاري أنه سعد ابن عبادة، ويؤيد ذلك أن احمد والنسائي أخرجا حديثا عن الحسن عن سعد بن عبادة أن أمه ماتت فقال (يارسول الله إنَّ أُمِّي مَاتَتْ أَفَأَتَصَدَّقُ عَنْهَا؟ قَالَ نَعَمْ قلت: فأى الصدقة أفضل؟ قال سقى الماء، قال الحسن: فتلك سقاية آل سعد بالمدينة) أما حديث (إذا مات ابن آدم) فقد رواه مسلم وأصحاب السنن مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

لفظ مسلم (إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، أَوْ عِلْمٌ يُنْتَفَعُ به، أو ولد صالح يدعو له) أما قوله تعالى من سورة الحشر (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولا خواننا الذين سبقونا بالايمان) فقد روى عن سعد بن أبى وقاص قال: الناس على ثلاث منازل قد مضت منزلتان يعنى قوله تعالى (للفقراء المهاجرين الذى أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 521)

________________________________________

الله ورسوله أولئك الصادقون، والذين تبوءوا الدار والايمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا إلى قوله تعالى المفلحون) ثم قال: وبقيت منزلة، فأحسن ما أنتم كاثنون عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التى بقيت، ثم قرأ: والذين جاءوا من بعدهم.

الآيه أما اللغات فقوله: فإن لى مخرفا.

في رواية مخراف، والمخرف والمخراف الحديقة من النخل أو العنب أما أحاديث الفصل فإنها تدل على ان الصدقة من الولد تلحق الوالدين بعد موتهما بدون وصية منهما، ويصل اليهما ثوابها فيخصص العام من قَوْله تَعَالَى (وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سعى) اخبرنا الربيع بن سليمان قال حدثنا الشافعي إملاء قال: يلحق الميت من فعل غيره وعمله ثلاث: حج يؤدى عنه، ومال

يتصدق به عنه أو يقضى، ودعاء.

فأما ما سوى ذلك من صلاة أو صيام فهو لفاعله دون الميت، وانما قلنا بهذا دون ما سواه استدلالا بالسنة في الحج خاصة قياسا.

وذلك الواجب دون التطوع ولا يحج احد عن احد تطوعا لانه عمل على البدن.

فأما المال فإن الرجل يجب عليه فيما له الحق من الزكاة وغيرها فيجزيه ان يؤدى عنه بأمره لانه إنما اريد بالفرض فيه تأديته إلى اهله لا عمل البدن، فإذا عمل امرؤ عنى ما فرض من مالى فقد ادى الفرض عنى.

واما الدعاء فإن الله عز وجل ندب العباد إليه.

وامر رسوله صلى الله عليه وسلم به فإذا جاز ان يدعى للاخ حيا جاز ان يدعى له ميتا، ولحقه ان شاء الله تعالى بركة ذلك، مع ان الله عز ذكره واسع لان يوفى الحى اجره ويدخل على الميت منفعته.

وكذلك كلما تطوع رجل عن رجل صدقة تطوع اه وقال شيخنا النووي في كتاب الاذكار في باب ما ينفع الميت من قول وغيره اجمع العلماء على ان الدعاء للاموات ينفعهم ويصلهم ثوابه: واحتجوا بقول الله تعالى (والذين جاءوا من بعدهم) الآيه وغير ذلك من الآيات المشهورة بمعناها.

وفى الاحاديث المشهورة كقوله صلى الله عليه وسلم: اللهم اغفر لاهل بقيع الغرقد، وكقوله صلى الله عليه وسلم: اللهم اغفر لحينا وميتنا وغير ذلك.

واختلف العلماء في وصول ثواب قراءة القرآن، فالمشهور من مذهب الشافعي

المجموع شرح المهذب - جـ 15(ص: 522)

________________________________________

وجماعة أنه لا يصل.

وذهب أحمد بن حنبل وجماعة من العلماء وجماعة من أصحاب الشافعي إلى أنه يصل، والمختار أن يقول بعد القراءة: اللهم أوصل ثواب ما قرأته، والله أعلم اه وقال ابن النحوي في شرح المنهاج: لا يصل إلى الميت عندنا ثواب القراءة على المشهور.

والمختار الوصول إذا سأل الله أيصال ثواب قراءته، وينبغى الجزم به لانه دعاء، فإذا جاز الدعاء للميت بما ليس للداعى، فلان يجوز بما هو له أولى، ويبقى الامر فيه موقوفا على استجابة الدعاء، وهذا المعنى لا يخص بالقراء بل يجرى في سائر الاعمال، والظاهر أن الدعاء متفق عليه انه ينفع الميت والحى القريب والبعيد بوصية وغيرها.

وعلى ذلك أحاديث كثيرة، بل كان أفضل الدعاء ان يدعو لاخيه بظهر الغيب وقد حكى النووي في شرح مسلم الاجماع على وصول الدعاء إلى الميت، وكذا حكى أيضا الاجماع على أن الصدقة تقع عن الميت ويصل ثوابها ولم يقيد ذلك بالولد.

وحكى الاجماع على لحوق قضاء الدين، والحق أنه يخصص عموم الاية بالصدقة من الولد كما في أحاديث الفصل وبالحج من الولد كما في حديث الخثعمية ومن غير الولد أيضا كما في حديث المحرم عن أخيه شبرمة.

وقد نشرت مطبعة الامام رسالة في هذا الموضوع مستوفاة اسمها (تفسير سورة يس) للسيد صديق حسن خان وجعلت في آخرها ما يتعلق بهذا الموضوع وهو يغنى عن التطويل هنا.

تم الجزء الخامس عشر ويليه الجزء السادس عشر وأوله كتاب العتق


Next Post Previous Post
No Comment
Add Comment
comment url