مكاشفة القلوب

مكاشفة القلوب

المقرب الى حضرة علام الغيوب

فى علم التصوف

حجة الاسلام ابى حامد محمد بن محمد الغزالى

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحَمْدُ لله الَّذِيْ اَحْسَنَ تَدْبِيْر الكَائِنَات وخلق الارضين والسموات وانزل الماء من المعصرات وانشأ الحب والنبات وقدر الارزاق والاقوات واثاب على الاعمال الصالحات والصلاة والسلام على سيدنا محمد ذى المعحجزات الظاهرات الذى حصل من نوره وجود الكائنات. وبعد فهذا كتاب اختصرته من الكتاب البديع حسن الصنيع المسمى بمكاشفة القلوب المقرب الى علام الغيوب المنسوب الى الشيخ الغزالى وقد سميته كأصله بمكاشفة القلوب وأعوذ بالله من الشرك والذنوب واقتصرت فيه على مائة و احد عشر بابا ليحفظ ما فيها اولو العلم والالباب.

الباب الاول فى بيان الخوف

جَاءَ فِى الْخَبَرِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قال اِنَّ اللهَ تعالى خَلَقَ مَلَكًا لَهُ جناح فى المشرق وجناح فى المغرب ورأسه تحت العرش ورجلاه تحت الارض السابعة وعليه بعدد خلق الله تعالى ريش فإذا صلى رجل او امرأة من امتى عليّ، امره الله تعالى بأن ينغمس فى بحر من نور تحت العرش فينغمس فيه ثم يخرج وينفض جناحه فيقطر من كل ريشة قطرة فيخلق الله تعالى من كل قطرة ملكا يستغفرله الى يوم القيامة.

قال بعض الحكماء سلامة الجسد فى قلة الطعام وسلامة الروح فى قلة الاثام وسلامة الدّين فى الصلاة على خير الأنام. قال تعالى (يا أيها الذين امن اتقوا الله) يعنى إخشوا الله (ولتنظر نفس ما قدمت لغد) يعنى عملت ليوم القيامة (واتقوا الله ان الله خبير بما تعملون) [١] من الخير والشر. فان الملئكة والسماء والارض والليل والنهار يوم القيامة يشهدون بما عمل ابن آدم من خير أو شر طاعة أو معصية حتى أن جوارحه تشهد عليه. والارض تشهد للمؤمن والزاهد فتقول صلى عليّ وصام وحج وجاهد فيفرح المؤمن والزاهد وتشهد على الكافر والعاصى فتقول أشرك عليّ وزنى وشرب الخمر وأكل الحرام فياويله ان الناقشه فى الحساب أرحم الراحمين.

[١] سورة الحشر : آية ١٨.

المؤمن هو الذي يخاف الله تعالى بجميع جوارحه كما قال الفقيه أبو الليث: علامة خوف الله تعالى تظهر فى سبعة اشياء اولها لسانه فيمنعه من الكذب والغيبة والنميمة والبهتان وكلام الفضول ويجعله مشغولا بذكر الله تعالى وتلاوة القرآن ومذاكرة العلم، والثانى قلبه فيخرج منه العداوة والبهتان وحسد الاخوان لأن الحسد يمحو الحسنات كما قال ﷺ : الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب. واعلم أن الحسد من الامراض العظيمة فى القلوب ولا تداوى أمراض القلوب الّا بالعلم والعمل،والثالث نظره فلاينظر الى الحرام من الاكل والشرب والكسوة وغيرها ولا الى الدنيا بالرغبة بل يكون نظره على وجه الاعتبار ولا ينظر الى ما لا يحل له كما قال ﷺ : من ملأ عينيه من الحرام ملأ الله تعالى يوم القيامة عينيه من النار، والرابع بطنه فلا يدخل بطنه حراما فإنه اثم كبير كما قال ﷺ : اذا وقعت لقمة من الحرام فى بطن ابن آدم لعنه كل ملك فى الارض والسماء مادامت تلك اللقمة فى بطنه وان مات على تلك الحالة فمأواه جهنم، والخامس يده فلا يمد يده الى الحرام بل يمدها الى ما فيه طاعة الله تعالى. وروي عن كعب الاحبار أنه قال ان الله تعالى خلق دارا من زبر جدة خضراء فيها سبعون ألف دار فى كل دار سبعون ألف بيت لاينزلها الا رجل يعرض عليه الحرام فيتركه من مخافة الله تعالى، والسادس قدمه فلا يمشي فى معصية الله بل يمشي فى طاعته ورضاه والى صحبة العلماء والصلحاء، والسابع طاعته فيجعل طاعته خالصة لوجه الله تعالى ويخاف من الرياء والنفاق فاذا فعل ذالك فهو من الذين قال الله تعالى فى حقهم (والاخرة عند ربك للمتقين) [٢] وقال فى اية اخرى (ان المتقين فى جنات وعيون) [٣] وقال الله تعالى (ان المتقين فى جنات ونعيم) [٤] وقال الله تعالى (ان المتقين فى مقام أمين) [٥] كأنه تعالى يقول انهم ينجون يوم القيامة من النار وينبغي للمؤمن أن يكون بين الخوف والرجاء فيرجو رحمة الله ولا ييأس منها كما قال الله تعالى (لاتقنتوا من رحمة الله) [٦] ويعبد الله ويرجع عن أفعاله القبيحة ويتوب الى الله تعالى.

[٢] سورة الزخروف : آية ٣٥.

[٣] سورة الحجر : آية ٤٥.

[٤] سورة الطور : آية ١٧.

[٥] سورة الدخان : آية ٥١.

[٦] سورة الزمر : آية ٥٣.

حكاية بينما داود عليه السلام جالس صومعته يتلو الزبور اذ رأى دودة حمراء فى التراب فقال فى نفسه ما أراد الله فى هذه الدودة فأذن الله للدودة حتى تكلمت فقالت يانبي الله أما نهارى فألهمني ربي أن أقول فى كل يوم سبحان الله والحمد لله ولا إله الا الله والله أكبر ألف مرة وأما ليلى فألهمني ربي أن أقول فى كل ليلة اللهم صل على محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم ألف مرة فأنت ما تقول حتى أَسْتَفِيْدُ منك ؟ فندم داود عليه السلام على احتقار الدودة وخاف من الله تعالى وتاب اليه وتوكل عليه.

وكان ابراهم الخليل صلوات الله عليه اذا ذكر خطيئته يغشى عليه ويسمع اضطراب قلبه ميلا فى ميل فأرسل الله اليه جبريل فأتاه فقال له الجبار يقرئك السلام ويقول هل رأيت خليلا يخاف خليله فقال يا جبريل اذا ذكرت خطيئتي وفكرت فى عقوبته نسيت خلتىي فهذه أحوال الأنبياء والأولياء والصالحين والزاهدين فتأمل !

الباب الثانى فى الخوف من الله تعالى أيضا

قال أبو الليث رحمه الله تعالى ان لله ملائكة فى السماء السابعة سجدا منذ خلقهم الله تعالى الى يوم القيامة ترتعد فرائصهم من مخافة الله تعالى واذا كانوا يوم القيامة رفعوا رؤوسهم فقالوا سبحانك ما عبدناك حق عبادتك وذالك فى قوله تعالى (يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون) [١] يعنى لايعصون الله تعالى طرفة عين، وقال رسول الله ﷺ اذا اقشعر جسد العبد من خشية الله تعالى تحاتت عنه ذنوبه كما يتحات عن الشجرة ورقها.

[١] سورة النحل : آية ٥٠.

حكي أن رجلا تعلق قلبه بامرأة فخرجت تلك المرأة الى حاجة لها فذهب الرجل معها فلما خلا بها فى البادية ونام الناس أفشى الرجل سره اليها فقالت له المرأة أنظر أنام الناس بأجمعهم ففرح الرجل بقولها وظن أنها قد أجابته فقام وطاف حول القافلة فاذا الناس نيام فرجع اليها وقال لها نعم هم نيام فقالت ما تقول فى الله تعالى أنائم فى هذه الساعة فقال الرجل ان الله تعالى لا ينام ولا تأخذه سنة ولا نوم فقالت المرأة ان الذي لم ينم ولا ينام يرانا وان كان الناس لا يروننا فذالك أولى أن يخاف منه فتركها الرجل خوفا من الخلق وتاب ورجع الى وطنه فلما توفي رأوه فى المنام فقيل له ما فعل الله بك فقال غفرلي بخوفي وتركي ذالك الذنوب.

حكاية كان فى بنى اسرائيل رجل عابد ذو عيال وأصابته المجاعة وصار مضطرا فبعث امرأته لتطلب شيئا لعيالها فجاءت الى بيت رجل تاجر وطلبت منه ما تقوت به عيالها فقال الرجل نعم ولكن مكنيني من نفسك ؟ فسكتت المرأة وعادت الى بيتها فنظرت الى عيالها يصيحون ويقولون يا أمى نحن نموت من الجوع أعطنا ما نأكله، ذهبت الى الرجل وكلمته فى أمر عيالها فقال لها أتكون حاجتي مقضية فقالت نعم فلما خلابها ارتعدت مفاصلها حتى كادت أعضاؤها تزول عن مواضها فقال لها مالك ؟ فقالت اني اخاف الله فقال الرجل انك تخافين الله تعالى مع مابك من الفقر فأنا أحق بالخوف منك وامتنع عنها وقضى حاجتها وانصرفت بنعمة كثيرة الى أولادها ففرحوا، فأوحى الله الى موسى عليه السلام أن قل لفلان بن فلان اني قد غفرت ذنوبه، فجاء موسى عليه السلام فقال لعلك قد فعلت خيرا بينك وبين الله، فذكر القصة عليه، فقال ان الله تعالى قد غفر لك ما كان من ذنوبك. كذا فى مجمع اللطائف.

وروي عن النبي ﷺ أنه قال : يقول الله تعالى : (لا أجمع على عبدي خوفين ولا أمنين، من خافني فى الدنيا أمنته فى الاخرة ومن أمنني فى الدنيا أخفته يوم القيامة) وقال الله تعالى (فلا تخشوا الناس واخشوني) [٢] وقال في آية اخرى (فلا تخافوهم وخافون ان كنتم مؤمنين) [٣] وكان عمر رضي الله عنه يسقط من الخوف اذا سمع آية من القرآن مغشيا عليه، وأخذ يوما تبنة فقال يا ليتني كنت تبنة ولم اك شيئ مذكورا، يا ليتني لم تلدني أمي ويبكي كثيرا حتى تجري دموعه من عينيه فكان فى وجهه خطان أسودان من الدموع، وقال ﷺ لا يلج النار من بكى من خشية الله حتى يعود اللبن فى الضرع.

[٢] سورة المائدة : آية ٤٤.

[٣] سورة ال عمران : آية ١٧٥.

وفى دقائق الاخبار يؤتى بعبد يوم القيامة فترجح سيآته فيؤمر به الى النار فتتكلم شعرة من شعرات عينيه وتقول يارب رسولك محمد ﷺ قال من بكى من خشية الله حرم الله تلك العين على النار واني بكيت من خشيتك فيغفر الله له ويستخلصه من النار ببركة شعرة واحدة كانت تبكى من خشية الله فى الدنيا وينادى جبريل عليه السلام نجا فلان بن فلان بشعرة واحدة.

وفى بداية الهداية اذا كان يوم القيامة جيئ بجهنم تزفر زفرة فتجثو كل امة على ركبها من هولها كما قال الله تعالى (وترى كل امة جاثية) اى على الركب كل امة تدعى الى كتابها فاذا أتوا النار سمعوا لها تغيظا وزفيرا تسمع زفرتها من مسيرة خمسمائة عام، وكل واحد حتى الانبياء يقول نفسي نفسي الا صفى الانبياء ﷺ فانه يقول أمتي أمتي وتخرج من الجحيم نار مثل الجبال فتجتهد أمة محمد ﷺ فى دفعها وتقول يا نار بحق المصلين وبحق المصدقين وبحق الخاشعين وبحق الصائمين أن ترجعى فلا ترجع وينادى جبريل عليه السلام ان النار قد قصدت أمة محمد ﷺ ثم يأتي بقدح من ماء فيناوله رسول الله ﷺ ويقول يا رسول الله خذ هذا فرشه عليها فيرشه عليها فتطفأ فى الحال فيقول ﷺ ما هذا الماء فيقول جبريل عليه السلام هذا ماء دموع عصاة امتك الذين بكوا من خشية الله تعالى فلآن امرت أن أعطيكه لترشه على النار فتطفأ النار باذن الله تعالى، وكان ﷺ يقول اللهم ارزقني عينين تبكيان من خشيتك قبل أن لا يكون الدمع.

اعينى هلا تبكان على ذنبىتناثر عمرى من يدي ولا ادرى

حكي عن محمد بن المنذر رحمه الله تعالى أنه كان اذا بكى يسمح وجهه ولحيته بدموعه ويقول بلغني أن النار لا تأكل موضعا مست الدموع. فينبغى للمؤمن أن يخاف من عذاب الله وينهى نفسه عن الشهوات النفسانية كما قال الله تعالى (فأما من طفى وآثر الحياة الدنيا. فإن الجحيم هي المأوى. وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى. فإن الجنة هي المأوى) [٤] ومن اراد ان ينجو من عذاب الله وينال ثوابه ورحمته فليصبر على شدائد الدنيا وطاعة الله ويجتنب المعاصى.

[٤] سورة النازعات : آيات ٣٧.- ٤١.

وفى زهر الرياض روي عن النبي ﷺ أنه قال اذا دخل أهل الجنة تتلقاهم الملائكة بكل خير ونعمة فتوضع لهم المنابر وتفرش ويؤتى لهم بألوان الأطعمة والفواكه ثم تكون فيهم مع هذه النعمة حيرة فيقول الله : (ياعبادي ما هذه الحيرة وليست هذه دار حيرة ؟) فيقولون ان لنا موعدا قد جاء وقته. فيقول الله تعالى للملائكة (ارفعوا الحجب عن الوجوه) فتقول الملائكة يا ربنا كيف يرونك وقد كانوا عصاة ؟ فيقول الله تعالى (ارفعوا الحجب فانهم كانوا ذاكرين ساجدين باكين فى الدنيا طمعا فى لقائي) فترفع الحجب فينظرون فيخرون سجدا لله عز وجل فيقول الله تعالى (رفعوا رؤوسكم فان هذه ليست بدار العمل بل دار الكرامة) فيتجلى لهم بلا كيف ويقول لهم انبسطا سلام عليكم عبادي فقد رضيت عنكم فهل رضيتم عني ؟ فيقولون وما لنا يا ربنا لا نرضى وقد اعطيتنا مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وهو قوله تعالى (رضي الله عنهم ورضوا عنه)[٥]، وقوله تعالى (سلام قولا من رب رحيم)[٦].

[٥] سورة المائدة : آية ١١٩.

[٦] سورة يس : آية ٥٨.

الباب الثالث فى الصبر والمرض

من اراد أن ينجو من عذاب الله وينال ثوابه ورحمته ويدخل جنته فلينه نفسه عن شهوات الدنيا وليصبر على شدائدها ومصائبها، كما قال الله تعالى (والله يحب الصابرين) والصبر على أوجه : صبر على طاعة الله وصبر عن محارمه وصبر على المصيبة وعند صدمة الأولى. فمن صبر على طاعة الله تعالى أعطاه الله تعالى يوم القيامة ثلثمائة درجة فى الجنة كل درجة ما بين السماء والأرض، ومن صبر عن محارم الله أعطاه الله تعالى يوم القيامة ستمائة درجة كل درجة مثل ما بين السماء السابعة والأرض السابعة، ومن صبر على المصيبة أعطاه الله تعالى يوم القيامة سبعمائة درجة فى الجنة كل درجة ما بين العرش الى الثرى.

روي عن النبي ﷺ أنه قال يقول الله تعالى (ما من عبد نزلت به بلية فاعتصم بي الا أعطيته قبل أن يسألني وأستجب له قبل أن يدعون، وما من عبدي نزلت به بلية فاعتصم بمخلوق دونى الا أغلقت أبواب السماء عليه) فيجب على العاقل أن يصبر للبلاء ولايشكو فينجو من عذاب الدنيا والآخرة، لأن أشد البلاء على الانبياء والاولياء. قال الجنيد البغدادى رحمه الله : البلاء سراج العارفين ويقظة المريدين وصلاح المؤمنين وهلاك الغافلين لا يجد احد حلاوة الايمان حتى يأتيه البلاء ويرض ويصبر. قال ﷺ من مرض ليلة فصبر ورضى عن الله تعالى خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه فاذا مرضتم فلا تتمنوا العافية. قال الضحاك من لم يتل بين كل أربعين ليلة ببلية أو هم أو معصية فليس له عند الله خير. عن معاذ ابن جبل رضي الله عنه قال اذا ابتلى العبد المؤمن بالسقم قال لصاحب الشمال ارفع القلم عنه وقال لصاحب اليمين أكتب لعبدى احسن ما كان يعمل. وجاء فى الخبر عن النبي ﷺ اذا مرض العبد بعث الله اليه ملكين فقال أنظرا ما يقول عبدي فان هو قال الحمد لله رفع ذالك الى الله وهو أعلم فيقول لعبدي علي ان انا توفيته أن أدخله الجنة وان أنا شفيته أن أبدله لحما خيرا من لحمه ودما خيرا من دمه وأن أكفر عنه سيآته.

حكي أنه كان فى بنى اسرائيل رجل فاسق وكان لايمتنع عن الفسق حتى ضج اهل بلده وعجزوا عن منعه عن فسقه فتضرعوا الى الله تعالى فأوح الله تعالى الى موسى عليه السلام أن فى بنى اسرائيل شابا فاسقا، فأخرجه من بادهم حتى لا تقع عليهم النار بسبب فسقه، فجاء موسى عليه السلام فأخرجه فذهب الشاب الى قرية من القرى فأمر الله موسى أن يخرجه من تلك القرية فأخرجه موسى عليه السلام فخرج الى مفازة ليس فيها خلق ولا زرع ولا وحوش ولا طيور فمرض فى تلك الفازة وليس عنده معين يعينه فوقع على التراب ووضع رأسه عليه وقال لو كانت والدتى عند رأس لرحمتنى ولبكت على مذالتى ولو كان والدي حاضرا لأعاننى وتولى أمرى ولو كانت زوجتي حاضرة لبكت على فراقى ولو كان أولادي حاضرين عندي لبكوا خلف جنازتي ولقالوا اللهم اغفر لوالدنا الغريب الضيف العاصى الفاسق المطرود من بلده الى قرية ومن القرية الى مفازة ومن المفازة يخرج من الدنيا الى الآخرة آيسا من كل الأشياء. اللهم قطعتنى عن والدي وأولادي وزوجتي فلا تقطعنى من رحمتك فانك أحرقت قلبي بفراقهم فلا تحرقني بنارك لأجل معصيتي فأرسل الله تعالى له حوراء على صفة أمه وحوراء على صفة زوجته وغلمنا على صفة أولاده وملكا على صفة والده فجلسوا عنده وبكوا عليه فقال ان هذا والدي ووالدتي وزوجتي وأولادي حضروا عندي وطاب قلبه ووصل الى رحمة الله تعالى طاهرا مغفورا له فأوحى الله تعالى الى موسى عليه السلام اذهب الى مفازة كذا وموضع كذا فانه مات فيه ولى من الأولياء فأحضره وتول أمره وواره، فلما حضر موسى عليه السلام ذالك الموضع رأى الشاب الذي كان أخرجه من البلد ومن القرية بأمر الله تعالى ورأى الحور العين حوليه فقال موسى عليه السلام يا رب أما هذا الشاب الذي أخرجته من البلد ومن القرية بأمرك فقال الله تعالى يا موسى ان رحمته وتجاوزت عنه بأنينه فى موضعه وفراقه وطنه ووالدته ووالده وأولاده وزوجته وأرسلت اليه حوراء على صفة والدته وملكا على صفة والده وحوراء على صفة زوجته يترحمون على مذلته فى غربته فانه اذا مات الغريب بكى عليه أهل السموات وأهل الأرض رحمة له فكيف لا أرحمه وأنا أرحم الراحمين ؟.

اذا وقع الغريب فى النزع يقول الله تعالى : يا ملائكتي هذا غريب مسافر ترك الأولاده وعياله ووالديه واذا مات لا يبكى عليه أحد ولايحزن ثم يجعل الله واحدا من الملائكة على صورة أبيه وواحدا على صورة أمه وواحدا على صورة ولده وواحدا على صورة واحد من أقرابه فيدخلون عليه فيفتح عينيه فيرى والديه وعياله فيطيب قلبه وتخرج روحه مع الفرح والسرور. ثم اذا خرجت جنازته يشيعونها ويدعون له على قبره الى يوم القيامة فذالك قوله تعالى (الله لطيف بعباده).

وقال ابن عطاء الله : يتبين صدق العبد من كذبه فى أوقات البلاء والرخاء فمن شكر فى أيام الرخاء وجزع فى أيام البلاء فهو من الكاذبين ولو اجمع فى رجل علم الثقلين ثم هاجت عليه رياح البلاء فأظهر الشكوى لما نزل به لا ينفعه علمه ولا عمله كما جاء فى الحديث القدسى يقول الله تعالى : من لم يرض بقضائى ولم يشكر لعطائى فليطلب ربا سوائى.

حكي وهب بن منبه أن نبيا عبد الله خمسين عاما فأوحى الله اليه اتى قد غفرت لك، فقال يا رب لماذا تغفر لى ولم أذنب قط ؟ فأمر الله عرقه فضرب عليه ولم ينم تلك الليلة فجاء ملك الصبح فشكا اليه ما لقى من ضربان العرق فقال ان ربك يقول لك عبادة خمسين عاما ما تعدل شكوى هذا العرق.

الباب الرابع فى الرياضة والشهوة النفسانية

أوحى الله الى موسى عليه السلام : يا موسى ان أردت أن أكون أقرب اليك من كلامك الى لسانك ومن وسوسة قلبك الى قلبك ومن روحك الى بدنك ومن نور بصرك الى عينيك ومن سمعك الى أذنك فأكثر من الصلاة على محمد ﷺ.

قال تعالى (ولتنظر نفس ما قدمت لغد) يعنى ما عملت فى يوم القيامة. اعلم ايها الانسان أن النفس الأمارة بالسوء هي أعدى لك من ابليس وانما يتقوى عليك الشيطان بهوى النفس وشهواتها فلا تغرنك نفسك بالأمانى والغرور لأن من طبع النفس الأمن والغفلة والراحة والفترة والكسل فدعواها باطل وكل شيء منها غرور، وان رضيت عنها واتبعت أمرها هلكت وان غفلت عن محاسبتها غرقت وان عجزت عن مخالفتها واتبعت هواها قادتك الى النار، وليس للنفس مرجوع الى الخير وهي رأس البلايا ومعدن الفضيحة وهي خزانة ابليس ومأوى كل شر لا يعرفها الا خالقها واتقوا الله ان الله خبير بما تعملون يعنى من الخير والشر واذا تفكر العبد فيما مضى من عمره فى طلب آخرته كان هذا التفكر غسل القلب كما قال ﷺ تفكر ساعة خيرا من عبادة سنة كذا فى التفسير أبي الليث.فينبغى للعاقل أن يتوب من الذنوب الماضية ويتفكر فيما يقربه وينجو به فى الدار الآخرة ويقصر الامل ويعجل التوبة ويذكر الله تعالى ويترك المناهى ويصبر نفسه ولا يتبع الشهوات النفسانية فالنفس صنم. فمن عبد النفس فهو يعبد الصنم ومن عبد الله بالاخلاص فهو اللذي قهر نفسه.

وروي أن مالك ابن دينار كان يمشى فى سوق البصرة فرأى التين فاشتهاه فخلع نعله وأعطاه الى البقال فقال أعطني التين فرأى البقال النعل وقال لا يساوى شيئا فمضى مالك، فقيل للبقال أليس تعرف من هذا ؟ قال لا قيل هو مالك بن دينار فحمل البقال الطبق على رأس غلامه وقال له ان قبل هذا منك فأنت حر فعدا الغلام خلف مالك بن دينار وقال له أقبل هذا منى فأبى فقال أقبل فان فيه تحريري فقال له مالك ابن دينار ان كان فيه تحريرك ففيه تعذبي فألح الغلام عليه فقال مالك ابن دينارحلفت أن لا أبيع الدين بالتين ولا آكل التين الى يوم الدين.

حكي أن مالك بن دينار مرض مرضه الذي مات فيه فاشتهى قدحا من العسل واللبن ليثرد فيه رغيفا حارا فمضى الخدم وحمله اليه فأخذه مالك بن دينار ونظر فيه ساعة وقال يا نفسي قد صبرت ثلاثين سنة وقد بقي من عمرك ساعة ورمى القدح من يديه وصبر نفسه ومات... وهكذا أحوال الانبياء والأولياء والصادقين والعاشقين والزاهدين.

قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ اِنَّ القَاهِرَ لِنَفْسِهِ أَشَدُّ مِمَّنْ يَفْتَحُ الْمَدِيْنَةَ وَحْدَهُ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِى طَالِبٍ كَرَمَ اللهُ وَجْهَهُ مَا أَنَا وَنَفْسِى اِلَّا كَرَاعِى غَنَمٍ كُلَّمَا ضَمَّهَا مِنْ جَانِبٍ اِنْتَشَرَتْ مِنْ جَانِبٍ آخَر مَنْ أَمَاتَ نَفْسَهُ يُلَّفُ فِى كُفْنِ الرَّحْمَةِ وَيُدْفِنُ فِى أَرْضِ الْكَرَامَةِ، وَمَنْ أَمَاتَ قَلْبَهُ يُلَّفُ فِى كُفْنِ اللَّعْنَةِ وَيُدْفِنُ فِى أَرْضِ الْعُقُوْبَةِ.

قَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذِ اَلرَّازِىْ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى جَاهِدْ نَفْسَكَ بِالطَّاعَةِ وَالرِّيَاضَةِ فَالرِّيَاضَةُ هَجْرُ الْمَنَامِ وَقِلَّةُ الْكَلَامِ وَحَمْلُ الْأَذَى مِنَ الْأَنَامِ وَالْقِلَّةُ مِنَ الطَّعَامِ فَيَتَوَلَّدُ مِنْ قِلَّةِ الْمَنَامِ صَفْوُ الْاِرَادَاتِ وَمِنْ قِلَّةِ الْكَلَامِ اَلسَّلَامَةُ مِنَ الْاَفَاتِ وَمِنْ اِحْتِمَالِ الْأَذَى اَلْبُلُوْغُ اِلَى الْغَايَاتِ وَمِنْ قِلَّةِ الطَّعَامِ مَوْتُ الشَّهْوَاتِ لِأَنَّ فِى كَثْرَةِ الْأَكْلِ قِسْوَةُ الْقَلْبِ وَذَهَابُ نُوْرِهِ، نُوْرُ الْحِكْمَةِ الْجُوْعُ وَالشَّبْعُ يُبْعِدُ مِنَ اللهِ.

كَمَا قَالَ ﷺ نَوِّرُوْا قُلُوْبَكُمْ بِالْجُوْعِ وَجَاهِدُوْا أَنْفُسَكُمْ بِالْجُوْعِ وَالْعَطْشِ وَاَدِيْمُوْا قَرْعَ بَابِ الْجَنَّةِ بِالْجُوْعِ فَاِنَّ الْاَجْرَ فِىْ ذَالِكَ كَأَجْرِ الْمُجَاهِدِ فِى سَبِيْلِ اللهِ وَاَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَمَلٍ أَحَبُّ اِلَى اللهِ تَعَالَى مِنْ جُوْعٍ وَعَطْشٍ وَلَنْ يَلِجَ مَلَكُوْتَ السَّمَاءِ مَنْ مَلَأَ بَطْنَهُ وَفََقَدَ حَلَاوَةَ الْعِبَادَاتِ.

قَالَ أَبُوْ بَكْرٍ الصِّدِّيْقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَا شَبِعْتُ مُنْذُ أَسْلَمْتُ لِأَجِدُ حَلَاوَةَ الْعِبَادَةِ رَبِّىْ وَمَا رُوِيْتُ مُنْذُ أَسْلَمْتُ اِشْتِيَاقًا اِلَى لِقَاءِ رَبِّىْ لِأَنَّ فِى كَثْرَةِ الْأَكْلِ قِلَّة العِبَادَةِ لِأَنَّهُ اِذَا اَكْثَرَ الْاِنْسَانُ الْأَكْلَ ثَقُلَ بَدَنُهُ وَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ وَفَتَرَتْ أَعْضَاؤُهُ فلا يجيء منه شيء وان اجتهد الا النوم فيكون كَالْجِيْفَةِ الْمُلْقَاةِ كَذَا فِى مِنْهَاجِ الْعَابِدِيْنَ.

عَنْ لُقْمَانَ الْحَكِيْمِ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِهِ لَا تَكْثِرِ النَّوْمَ وَالْأَكْلَ فَإِنَّ مَنْ أَكْثَرَ مِنْهُمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُفْلِسًا مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. كذا فى منية الفتى. وقال ﷺ لا تميتوا القلوب بكثرة الطعام والشراب فإن القلب يموت كالزرع إذا كثر عليه الماء. ولقد شبه ذالك بعض الصالحين بأن المعدة كالقدر تحت القلب تغلى والبخار يصل اليه فكثرة البخار تكدره وتسوده، وفي كثرة الأكل قلة الفهم والعلم، فإنَّ البطنة تذهب الفطنة

حُكِيَ عَنْ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ أنَّ إِبْلِيْسَ بَدَا لَهُ وَعَلَيْهِ معاليق فَقَالَ لَهُ يَحْيَى : مَا هَذِهِ؟ قَالَ: اَلشَّهْوَاتُ اَلَّتِيْ أُصِيْدُ بِهَا بَنِيْ آدَمَ قَالَ يَحْيَى : هَلْ تَجِدُ لِيْ فِيْهَا شَيْئًا؟ قَالَ : لَا إِلَّا إنَّك شَبعت ذَاتَ لَيْلَةٍ فثقلناكَ عَنِ الصَّلَاةِ، قال يحيى عليه السلام: لا جرم أني لا أشبع بعدها أَبَدًا، فَقَالَ إِبْلِيْسَ : لَا جَرَمَ أَنِّيْ لَا أَنْصح أحداً أبداً، فهذه فيمن لم يشبع فِى عُمْرِهِ إلا ليلة، فكيف فيمن لا يجوع في عمره ليلة، ثم يطمع في العبادة .

حكي أيضاً عن يحيى أن زكريا عليه السلام أنه شبع مرةً من خبز شعير، فنام تلك الليلة عن ورده فَأَوْحَى اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِ يَا يَحْيَى هَلْ وَجَدْتَ دَارًا هِيَ خَيْرٌ لَكَ مِنْ دَارِيْ، أَوْ وَجَدْتَ جواراً هُوَ خَيْرٌ مِنْ جوارِيْ وَعِزَّتِيْ وَجَلَالِيْ لَوْ اطلعت عَلَى الْفِرْدَوْسِ واطلعت عَلَى جَهَنَّمَ ،اطلاعة لبكيت الصَدِيْدَ بَدَلَ الدُّمُوْعِ وَلَبِسْتَ الْحَدِيْدَ بَدَلَ الْمَسُوْحِ .

الباب الخامس في غلبة النفس وعداوة الشيطان

ينبغي للعاقل أن يقمع شهوة النفس بالجوع، إذا جاع قهر لعدو الله، فإنَّ وسيلة الشيطان الشهوات والأكل والشرب، كما قال : «إنَّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فضيقوا مجاريه بالجوع ، إن أقرب الناس إلى الله تعالى يوم القيامة من طال جوعه وعطشه، وأعظم المهلكات لابن آدم شهوة البطن، فيها أخرج آدم وحواء من دار القرار إلى دار الذل والافتقار ، إذ نهاهما بها عن أكل الشجرة فغلبتهما شهوتهما حتى أكلا، فبدت لهما سهواتهما والبطن على التحقيق ينبوع الشهوات .

وقال بعض الحكماء من استولت عليه النفس صار أسيراً في حب شهواتها محصوراً في سجن هفواتها ومنعت قلبه من الفوائد من سقى أرض الجوارح بالشهوات فقد غرس في قلبه شجرة الندامة. إنَّ الله تعالى خلق الخلق على ثلاثة ضروب، خلق الملائكة وركب فيهم العقل ولم يركب فيهم الشهوة، وخلقَ البهائم وركب فيها الشهوة ولم يركب فيها العقل، وخلق ابن آدم وركب فيه العقل والشَّهوة فمن غلبت شهوته عقله فالبهائم خير منه، ومن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة .

حكاية : قال إبراهيم الخواص: كنتُ في جبل اللكام فرأيتُ رماناً فاشتهيته فأخذت منه واحدة، فشققتها فوجدتها حامضة فمضيت وتركت الرمان فرأيت رجلاً مطروحاً قد اجتمعت عليه الزنابير فقلت : السَّلامُ عليك، فقال لي: وعليك السلام يا إبراهيم فقلت : ومن أين عرفتني ؟ فقال : من عرف الله لا يخفى عليه شيء فقلتُ له : أرى لك مع الله حالاً فهلا سألته أن يُنجيك من هذه الزنابير، فقال: وإني أرى لك مع الله حالا فهلا سألته أن يُنجيك من شهوة الرمان، فإنَّ الرمان يجد الإنسان ألمه في الآخرة، ولذع الزنابير يجد ألمه في الدنيا، ولذع الزنابير على النفوس ولذع الشهوات على القلوب، فمضيت وتركته . الشهوة تصير الملوك عبيداً والصبر يصير العبيد ملوكاً، ألا ترى إلى قصة يوسف عليه السّلام وزليخا، فقد صار يوسف سلطان مضر ،بصبره وصارت زليخا ذليلة حقيرة فقيرة عجوزاً عمياء لأجل شهوتها فإنَّ زليخا لم تصبر عن محبة يوسف .

حكى أبو الحسن الرّازي أنه رأى والده في منامه بعد موته بسنتين، وعليه ثياب من القطران فقال له : يا أبي ما لي أرى عليك هيئة أهل النار؟ فقال: يا ولدي جذبتني نفسي إلى النار، فاحذر يا ولدي من خديعة نفسك.

إني ابتليت بأربـع مـا سلطـواإلا لشدة شقـــوتــي وعنائي
إبليس والدنيا ونفسي والهوىكيف الخلاص وكلهم أعدائي
وأرى الهوى تدعو إليه خواطريفي ظلمة الشهوات والآراء

قال حاتم الأصم رحمه الله : نفسي رباطي وعلمي سلاحي، وذنبي خيبتي، والشيطان عدوي، وأنا بنفسي غادر.

حكي عن بعض أهل المعرفة أنه قال : الجهاد على ثلاثة أصناف: جهاد مع الكفار، وهو جهاد الظاهر كالذي في قوله تعالى: (يُجاهدون في سبيل الله ﴾ [سورة المائدة: الآية ٥٤] وجهاد مع أصحاب الباطل بالعلم والحجة كقوله تعالى : وجادلهم بالتي هي أحسن [سورة النحل : الآية ۱۲٥] وجهاد مع النفس الأمارة بالسوء، كالذي فى قوله تعالى : والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ﴾ [سورة العنكبوت: الآية ٦٩] وقوله ﷺ : «أفضل الجهاد جهاد النفس»، وإنَّ الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين كانوا إذا رجعوا من جهاد الكفار يقولون: رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر .

وإنما سمّوا الجهاد مع الهوى والنفس والشيطان أكبر لأنَّ الجهاد معها أدوم وجهاد الكفار يكون في وقت دون وقت ولأن الغازي يرى العدو ولا يرى الشيطان، والجهاد مع عدو يراه أسهل من الجهاد مع لا يراه، ولأنَّ للشيطان معيناً من نفسك وهو الهوى، وليس للكافر من نفسك معين فلذلك كان أشد ولأنك إذا قتلت الكافر تجد النصر والغنيمة، وإن قتلك الكافر تجد الشهادة ،والجنَّة، ولا تقدر أن تقتلَ الشَّيطان وإن قتلك الشيطان تقع في عقوبة الرَّحمن .

كما قيل: من فرّ منه فرسه في الحرب وقع في أيدي الكفار، ومن فر منه الإيمان يقع في غضب الجبار، نعوذ بالله منه ومن وقع في أيدي الكفار لا يسود ولا تغل يده إلى عنقه ولا تقيد رجله ولا تجوع ،بطنه، ولا يعرى ،بدنه ومن وقع في غضب الجبار يسود وجهه، وتغل يده إلى عنقه بالأغلال وتقيد رجل، بقيود النار، ويكون طعامه ناراً وشرابه ناراً ولباسه من نار .

الباب السادس في الغفلة

الغفلة تزيد الحسرة، الغفلة تزيل النعمة وتحجب عن الخدمة، الغفلة تزيد الحسد،الغفلة تزيد الملامة والندامة .

حكي أنَّ بعض الصالحين رأى أستاذه في المنام فسأله أي الحسرة أعظم عندكم؟ فقال : حسرة الغفلة .

وروي أنَّ بعضهم رأى ذا النون المصري في منامه، فقال له: ما فعل الله بك؟ فقال: أوقفني بين يديه وقال لي: يا مدعي يا كذاب ادعيتَ ،محبتي ، ثم غفلت مني.

أنت في غفلة وقلبـك سـاهـيذهب العمر والذنوب كَمَا هي

حكي أنَّ رجلاً من الصَّالحين رأى والده في منامه، فقال: يا أبت كيف أنت، وكيف حالك؟ فقال: يا ولدي عشنا في الدُّنيا غافلين ومتنا غافلين.

وفي زهر الرياض كان يعقوب عليه السّلام مؤاخياً لملك الموت فزاره، قال له يعقوب : يا ملك الموت أزائراً جئت، أم قابضاً روحي ؟ فقال : بل زائراً قال : فإني أسألك حاجة، قال: وما هي؟ قال: أن تعلمني إذا دنى أجلي وأردت أن تقبض روحي، فقال: نعم أرسل إليك رسولين، أو ثلاثة فلما انقضى أجله أتى إليه ملك الموت، فقال: أزائراً جئت أم لقبض روحي ؟ فقال : لقبض روحك فقال : أولست كنت أخبرتني أنك ترسل إلي رسولين أو ثلاثة؟ قال : قد فعلت بياض شعرك بعد سواده وضعف بدنك بعد قوته وانحناء جسمك بعد استقامته هذه رسلي يا يعقوب إلى بني آدم قبل الموت.

مَضَى الدهر والأيام والذنب حاصلوجاءَ رسول الموت والقلـب غـافـلُ
نعيمك في الدُّنيــا غــرور وحسرةوعيشك في الدُّنيـا مُحال وبــاطـلُ

قال أبو علي الدقاق: دخلتُ على رجل صالح ،أعوده، وهو مريض وكان من المشايخ الكبار وحوله تلاميذه، وهو يبكي وقد بلغ أرذل العمر فقلت له : أيها الشيخ مما بكاؤك، أعلى الدنيا ؟ فقال : أبكي على فوتِ صلاتي قلت: وكيف ذلك، وقد كنت مُصلياً؟ قال: لأني قد بقيت إلى هذا وما سجدت إلا في غفلة، ولا رفعت رأسي إلا في غفلة، وها أنا أموت على الغفلة ثم إنه تنفس الصعداء وأنشد يقول :

تفكرتُ في حشري ويوم قيامتيوإصباح خدي في المقابر ثاويا
فريداً وحيداً بعد عز ورفعةرهيناً بجـرمـي والتراب وسـاديـا
تفكرت في طول الحساب وعرضهوذل مقامي حين أعطي كتابيا
ولكن رجائي فيك ربي وخالقيبأنك تغفـو يـا إلـهـي خـطـائيـا

في عيون الأخبار ذكر عن شقيق البلخي أنه قال : الناس يقولون ثلاثة أقوال وقد خالفوها في أفعالهم يقولون : نحن عبيد الله، وهم يعملون عمل الأحرار وهذا خلاف قولهم، ويقولون : إنَّ الله كفيل بأرزاقنا ولا تطمئن قلوبهم إلا بالدُّنيا وجمع حطامها، وهذا أيضاً خلاف قولهم، ويقولون: لا بد لنا من الموت وهم يعملون أعمال من لا يموت، وهذا أيضاً خلاف قولهم، فانظر لنفسك يا أخي بأي بدن تقف بين يدي الله تعالى، وبأي لسان تُجيبه، وماذا تقول إذا سألك عن القليل والكثير، فأعد للسؤال جواباً، وللجواب صواباً، واتقوا الله إنَّ الله خبير بما تعملون أي من الخير والشر ثم وعظ المؤمنين بأن لا يتركوا أمره وبأن : يوحدوه في السر والعلانية.

جاء في الخبر عن النبي أنه قال : مكتوب على ساق العرش أنا مطيع من أطاعني، ومُحب من أحبني، ومُجيب من دعاني وغافر لمن استغفرني فينبغي للعاقل أن يطيع الله بالخوف والإخلاص في طاعته والرضا بقضائه والصبر على بلائه وبالشكر على نعمائه، والقناعة بإعطائه يقول الله تعالى : مَنْ لم يرضَ بقضائي، ولم يصبر على بلاتي ولم يشكرني على نعمائي، ولم يقنع بعطائي فليطلب ربا سوائي».

وقال رجل للحسن البصري رحمه الله : إني أجد للطاعة لذة، فقال له : لعلك نظرت فى وجه من لا يخاف الله العبودية أن تترك الأشياء كلها الله ، وقال رجل لأبي يزيد رحمه الله : إني لا أجد الطاعة لذة، فقال : لأنك تعبد الطاعة لا تعبد الله، اعبد الله حتى تجد للطاعة لذة.

حكي أنَّ رجلاً دخل في الصَّلاة، فلما انتهى إلى قوله : إياك نعبد) [سورة الفاتحة : الآية ٣] خطر بباله أنه عابد الله في الحقيقة، فنودي في السر كذبت إنما تعبد الخلق، فتاب واعتزل الناس، ثم شرع في الصلاة، فلما انتهى إلى قوله : إياك نعبد) نودي كذبت إنما تعبد مالك، فتصدق بماله كله، ثم شرع في الصلاة فلما انتهى إلى قوله : إياك نعبد) نودي كذبت إنما تعبد ثيابك، فتصدق بها إلا ما له منه ثم شرع فيها، فلما انتهى إلى قوله : إياك نعبد) نودي الآن صدقت إنما تعبد ربك .

وفي رونق المجالس : ضاع لرجل جوالق فلم يدر من أخذه منه، فلما دخل في الصلاة تذكره، فلما سلَّمَ، قال لغلامه : اذهب إلى فُلان بن فلان، واسترد منه الجوالق فقال الغلام: متى ذكرته؟ فقال: حين كنت في الصلاة، فقال: يا مولاي كنت طالب الجوالق لا طالب الخالق، فأعتقه مولاه ببركة اعتقاده، فينبغي للعاقل أن يترك الدنيا ويعبد الله ، ويتفكر أمامه، ويريد الآخرة، كما قال الله تعالى : ومن كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا)) [سورة الشورى: الآية ۲۰] أي ملاذها من لباسها، وطعامها، وشرابها نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب [سورة الحشر : الآية ١٩] بأن ينزع من قلبه حُب الآخرة .

ولذلك أنفق أبو بكر الصديق رضي الله عنه على أربعين ألف دينار السر، وأربعين ألف دينار في العلانية حتى لم يبق له شيء، وكان النبي ﷺ معرضاً عن الدنيا وشهواتها هو وأهله، ولذلك كان جهاز السيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنها لما زوجها النبي ﷺ من العلالي جلد كبش مدبوغ ، ووسادة أدم حشوها ليف.

الباب السابع في نسيان الله تعالى والفسق والنفاق

جاءت امرأة إلى حَسَن البَصْري رضي الله عنه فقالت : إنه كانت لي ابنة شابة فماتت أحببت أن أراها في المنام فجتُك كي تُعلمني ما أستعين به على رؤيتها فعلمها، فلما رأتها وعليها لباس من قطران وفي عنقها الغل وفي رجلها القيد فأخبرت الحسن بذلك فاغتم ومضت مدة ثم رآها الحسن في الجنة وعلى رأسها تاج فقالت : يا حَسَن أما تعرفني؟ أنا ابنة المرأة التي أ أتتك ، وقالت لك كذا، فقال لها : ما الذي صيرك إلى ما أرى؟ قالت : مر بنا رجل فصلى على النبي مرة وكان في المقبرة خمسمائة وخمسون إنسان في العذاب فنودي ارفعوا العذاب عنهم ببركة صلاة هذا الرجل. بصلاة رجل على محمد و أصابتهم المغفرة ، فمن يصلي عليه منذ خمسين سنة أفلا يجد شفاعته يوم القيامة .

قال الله تعالى: ﴿ولا تكونوا﴾ أي في ﴿كالذين﴾ يعني كالمنافقين الذين ﴿نسوا الله﴾ [سورة الحشر : الآية ١٩] يعني تركوا أمر الله وفعلوا خلافه وتلذذوا بشهوات الدنيا وركنوا إلى غرورها .

وسُئل رسول الله ﷺ عن المؤمن والمُنافق، فقال: «إنَّ المؤمن همه في الصَّلاة والصيام، والمنافق همه في الطَّعام والشراب كالبهيمة وترك العبادة والصَّلاة والمؤمن مشغول بالصدقة وطلب المغفرة، والمنافق مشغول بالحرص والأمل والمؤمن من آيس كل أحد إلا الله ، والمنافق راج كل أحد إلا الله والمؤمن يقدم ماله دون دينه، والمُنافق يقدم دينه دونَ ماله والمؤمن آمن من كل أحدٍ إلا من الله ، والمُنافق خائف من كل أحد إلا الله والمؤمن يحسن ويبكي، والمُنافق يسيء ويضحك والمؤمن يُحب الوحدة والخلوة، والمُنافق يُحب الخلطة والملا والمؤمن يزرعُ ويخشى الفَسَاد، والمنافق يقلع ويرجو الحصاد والمُؤمن ينهي سياسة دينية ويصلح، والمُنافق يأمر وينهي رياسة ويفسد بل يأمر بالمنكر وينهي عن المعروف».

كما قال الله تعالى : ﴿والمنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكروينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إنَّ المنافقين هم الفاسقون وعد الله المنافقين والمنافقات نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم لعنهم الله ولهم عذاب مقيم﴾ [سورة التوبة: الآيتان ٦٧ - ٦٨] .

وقال تعالى: ﴿إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا﴾ [سورة النساء: الآية ١٤٠] يعني إن ماتوا على كفرهم ونفافهم، فبدأ بالمُنافقين لأنهم شر من الكفار، وجعل مأواهم جميعاً النار . وقال تعالى : ﴿إنَّ المُنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً﴾ [سورة النساء: الآية .١٤٥]. والمُنافق اشتقاقه في اللغة من نافقاء اليربوع ويقال إن اليربوع حجرتين إحداهما النافقاء، والأخرى القاصعاء، فيظهر نفسه في إحداهما ويخرج من الأخرى، ولهذا سُمي المُنافق منافقاً لأنه يظهر من نفسه أنه مسلم ويخرج من الإسلام إلى الكفر.

وفي الحديث: «مثلُ المُنافق كمثل الشاة ترى بين قطيعين من الغنم تارة تسير إلى هذا القطيع وتارة إلى هذا القطيع ولا تسكن لواحد منها لأنها غريبة ليست منهما وكذلك المنافق لا يستقر مع المسلمين بالكلية ولا . الكافرين إنَّ الله خلق النار لها سبعة أبواب، كما قال الله تعالى : ﴿لها سبعة أبواب ﴾ [سورة الحجر: الآية ١٤٤] من حديد مطبقة باللغة وعليها ظهارة النحاس وبطانة الرصاص في أصلها العذاب وفوقها السخط وأرضها من نحاس وزجاج وحديد ورصاص النار من فوق أهلها والنار من تحتهم والنار عن يمينهم والنار عن شمالهم طبقاتها بعضها فوق بعض أعد للمنافقين منها الدرك الأسفل».

جاء فى الخبر أن جبريل أتى النبي ﷺ فقال : صف لي النار وحرها، فقال: إنَّ الله عز وجل خلق النار فأوقدها ألف عام حتى احمرت ثم أوقدها ألف عام حتى ابيضت، ثم أوقدها ألف عام حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة والذي بعثك بالحق نبياً لو أنَّ ثوباً من ثياب أهل النار ظهر لأهل الأرض لماتوا جميعاً، ولو أنَّ دلواً من شرابها صب على ماء الأرض جميعه لقتل من ذاقه، ولو أنَّ ذراعاً . السلسلة التي ذكرها الله تعالى بقوله : وفي سلسلة ذرعها سبعون ذراعا [سورة الحاقة: الآية ٣٢) كل ذراع طوله من المشرق إلى المغرب لو وضع على جبالِ الدُّنيا لذابت. ولو أنَّ رجلاً دخل النار ثم أخرج منها لمات أهل الأرض وجاء الخبر من من نتن ريحه

وسأل جبريل فقال : يا جبريل صف لي أبوابَ جَهَنَّمَ أهي كأبوابنا هذه؟» فقال : يا رسول الله لا ولكنها طباق بعضها أسفل من بعض من الباب إلى الباب مسير سنة كل باب منها أشد حراً من الذي يليه بسبعين ضعفاً، وسأله أيضاً عن مكان هذه الأبواب فقال : أما الأسفل ففيه المنافقون واسمه الهاوية . كما قال الله تعالى: (إِنَّ المُنافقين في الدرك الأسفل من النار) [سورة النساء : الآية ١٤٥] والباب الثاني فيه المُشركون واسمه الجحيم، والباب الثالث فيه الصابئون واسمه سقر، والباب الرابع فيه إبليس عليه اللعنة، ومن تبعه من المجوس واسمه لظى، والباب الخامس فيه اليهود واسمه الحطمة، والباب السادس فيه النصارى واسمه السعير، ثم أمسك جبريل عليه السلام، فقال له : لما لم تخبرني عن سكان الباب السابع ؟ فقال جبريل : يا محمد لا تسألني . عنه ، فقال : ففيه أهل الكبائر من أمتك الذين ماتوا ولم يتوبوا .

روي أنه لما نزل قوله تعالى: (وإن منكم إلا واردها) [سورة مريم: الآية ٧١] اشتد خوفه على أمته وبكى بكاء شديداً، فالعارف بالله وبشدة سطوته وقهره يخافه خوفاً شديداً، ويبكي على نفسه وتفريطه قبل أن يرى هذه الشدائد ويُعاين هذه الدار المخوفة المهولة، وقيل أن تنهتك الأستار ويعرض على المُنتقم الجبار، ويؤمر به إلى النار فكم من شيخ يُنادي في النار، واشيبتاه وكم من شاب يُنادي في النار واشباباه، وكم من امرأة في النار تنادي وافضيحتاه واهتك ستراه .

وقد اسودت وجوههم وأجسادهم وانكسرت ظهورهم فلا يُكرم كبيرهم ولا يُرحم صغيرهم ولا تُستر نسائهم. اللهم أجرنا من النار ومن عذاب النار ومن كل عمل يقربنا إلى النار، وأدخلنا الجنة مع الأبرار برحمتك يا عزيز يا غَفَّار، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، وأقلنا من عثراتنا، ولا تفضحنا بين يديك يا أرحم الراحمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الباب الثامن في التوبة

التوبة واجبة على كل مسلم ومسلمة، قال الله تعالى : ﴿توبوا إلى الله توبة نصوحاً﴾ [سورة التحريم: الآية ٨ والأمر للوجوب، وقال تعالى: ﴿ولا تكونوا كالذين نسوا الله﴾ [سورة الحشر: الآية ١٩] يعني عاهدوا الله ونبذوا كتابه وراء ظهورهم فأنساهم أنفسهم يعني حالهم حتى لم ينهوا أنفسهم ولم يقدموا لها خيراً ، وقال : «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كرة لقاء الله كره الله لقاءه» أولئك هم الفاسقون) [سورة الكهف: الآية ٥٠] يعني العاصون الناقضون عهدهم الخارجون عن طريق الهداية والرحمة والمغفرة، والفاسق على نوعين فاسق كافر وفاسق فاجر، فالفاسق الكافر هو من لم يؤمن بالله ورسوله، وخرج عن الهداية ودخل في الضلالة كما قال الله تعالى : ففسق عن أمر ربه) [سورة الكهف: الآية ٥٠] يعني خرج عن طاعة أمر ربه بالإيمان والفاسق الفاجر هو الذي يشرب الخمر، ويأكل الحرام، ويزني، ويعصي الله تعالى، ويخرج من طريق العبادة، ويدخل في المعصية ولا يأتي الشرك .

والفرق بينهما أنَّ الفاسق الكافر لا يرجى غفرانه إلا بالشهادة والتوبة قبل موته، والفاسقُ الفاجرُ يُرجى غفرانه بالتوبة قبل الموت فإنَّ كل معصية أصلها من الشهوة النفسانية يرجى غفرانها، وكل معصية أصلها من الكبر لا يرجى غفرانها ومعصية إبليس كان أصلها من الكبر، فينبغي لك أن تتوبَ من ذنوبك قبل الموت رجاء أن يقبلك الله كما قال الله تعالى : وهو الذي يقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئات) [سورة الشورى: الآية ٢٥] يعني يتجاوز عما عملوا بقبول التوبة وقال ﷺ : التائب من الذنب كمن لا ذنب له .

حكي أنَّ رجلاً كان كلما أذنب يكتب ذنبه في ديوان، فأذنب يوماً ما ذنباً فنشر ديوانه ليكتبه فيه فلم يجد إلا قوله تعالى: (فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات) [سورة الفرقان: الآية ٧٠] يعني يبدل مكان الشرك الإيمان ومكان الزنا العفو ومكان المعصية العصمة والطاعة.

حكي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرّ وقتاً من الأوقات من سكك المدينة فاستقبله شاب وهو حامل قارورة تحت ثيابه فقال :عُمر أيُّها الشاب ما الذي تحمل تحت ثيابك؟ وكان فيها خمر، فخجل الشاب أن يقول خمراً، وقال في سره : إلهي لا تخجلني عند عُمر ولا تفضحني، واسترني عنده فلا أشرب الخمر أبداً، ثم قال: يا أمير المؤمنين الذي أحمل هو خل. فقال : أرني . حتى أراها، فكشفها بين يديه فرآها عمر صارت خلا! فانظر إلى مخلوق تابَ من خوف مخلوق فبدَّلَ الله سبحانه وتعالى خمره بالخل لما علم منه إخلاص التوبة، فلو تاب العاصي المُفلس عن الأعمال الفاسدة توبة نصوحاً، وندم على ذنبه بدل الله سبحانه وتعالى خمر سيئاته بخل الطاعة .

وذكر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرجتُ ذات ليلة بعدما صليت العشاء الآخرة مع رسول الله ، فإذا أنا بامرأة في الطريق فقالت: يا أبا هريرة إني ارتكبت ذنباً فهل لي من توبة؟ فقلت : وما ذنبك؟ قالت : إني زنيت وقتلت ولدي من الزنا، فقلت لها : هلكت وأهلكت والله ما لك من توبة فخرت مغشياً عليها فمضيت. فقلت في نفسي: أفتي ورسول الله ﷺ بين أظهرنا فرجعت إليه وأخبرته بذلك . فقال: هلكت وأهلكت؟ فأين أنت من هذه الآية والذين لا يدعون مع الله إلها آخر [سورة الفرقان : الآية ٦٨] إلى قوله : فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات فخرجت وقلت: من يدلني على امرأة سألتني مسألة والصبيان يقولون: جن أبو هريرة حتى أدركتها وأخبرتها بذلك فشهقت شهقة من السرور وقالت : إن لي حديقة جعلتها صدقة الله ورسوله .

حكاية عن عتبة الغلام رحمه الله تعالى وكان من أهل الفسق والفجور مشهوراً بالفساد وشرب الخمر فدخل يوماً في مجلس الحسن البصري وهو يقرأ في تفسير قوله تعالى: ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ﴾ [سورة الحديد: الآية ١٦] يعني ألم يجيء وقت تخاف قلوبهم فوعظ الشيخ في تفسير هذه الآية وعظاً بليغاً حتى أبكى الناس، فقام من بينهم شاب فقال : يا تقي المؤمنين أيقبل الله تعالى الفاجر مثلي إذا تاب؟ فقال الشيخ : نعم يقبل الله توبة فسقك وفجورك، فلما سمع عتبة الغلام هذا الكلام اصفر وجهه وارتعدت فرائصه فصاح صيحة فخر مغشياً عليه فلما أفاق دنا منه الحسن وقال هذه الأبيات:

أيا شاباً لــرب العرش عاصيأتدري ما جزاء ذوي المعاصي
سعير للعصاة لها زفيــــروعيظ يوم يؤخذ بالنواء
فإن تصبر على النيران فاعصهوإلا كن عن العصيان قاصي
وفيم قد كسبت من الخطايارهنت النفس فاجهد في الخلاص

فصاح صيحة عظيمة وخر مغشيا عليه، فلما أفاق قال: يا شيخ هل قبل الرب الرحيم توبة مثلي اللثيم؟ فقال الشيخ : هل يقبل توبة العبد الجافي إلا الرب المعافي .

ثم رفع رأسه ودعا ثلاث دعوات الأولى، قال: إلهي إن كنت قبلت توبتي وغفرت ذنوبي فأكرمني بالفهم والحفظ حتى أحفظ كل ما سمعت من العلم والقرآن.

والثانية قال : إلهي أكرمني بحس الصوت حتى إن كان من سمع قراءتي يزداد رقة في قلبه وإن كان قاسي القلب .

والثالثة قال: إلهي أكرمني بالرزق الحلال، وارزقني من حيث لا أحتسب فاستجاب الله جميع دعائه حتى زاد فهمه وحفظه، وكان إذا قرأ القرآن تاب كل من سمع قراءته وكان يوضع في بيته كل يوم قصعة من المرق ورغيفان ولا يدري أحد من يضعها وكان على هذه الحالة حتى فارق الدنيا .

وهذا حال من ثاب إلى الله تعالى لأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، وسئل بعض العلماء هل يعرف العبد إذا تاب أن توبته قبلت أم ردت؟ فقال: لا حكم في ذلك ولكن لذلك علامات أن يرى نفسه معصومة من المعصية ويرى الفرح عن قلبه غائباً، والرب شاهداً . ويقارب أهل الخير ويباعد أهل الفسق فيرى القليل من الدنيا كثير والكثير من عمل الآخرة قليلاً، ويرى قلبه مشتغلاً بما فرض الله تعالى عليه ويكون حافظاً للسانه دائم الفكرة ملازم الغم والندامة على ما فرط من ذنوبه .

الباب التاسع في المحبة

ذُكِرَ أَنَّ رَجُلًا رَأَى صُوْرَةً قَبِيْحَةً فِي الْبَادِيَةِ فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَتْ : أَنَا عَمَلُكَ الْقَبِيْحُ قَالَ : فَمَا النَّجَاةُ مِنْكِ؟ قَالَتْ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ كَمَا قَالَ ﷺ : «اَلصَّلَاةُ عَلَيَّ نُوْرُ الصِّرَاطِ وَمَنْ صَلَّى عَلَيَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثَمَانِيْنَ مَرَّةً غَفَرَ اللهُ لَهُ ذُنُوْبَ ثَمَانِيْنَ عَامًا».

وَحُكِيَ أَنَّ رَجُلًا كَانَ غَافِلًا عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ فَرَأَى النَّبِيَّ ﷺ لَيْلَةً فِي الْمَنَامِ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ فَقَالَ يَا رَسُوْلَ اللهِ أَأَنْتَ عَلَيَّ غَضْبَانِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَلِمَا لَا تَنْظُرُ إِلَيَّ؟ قَالَ : لِأَنِّيْ لَا أَعْرِفُكَ ، فَقَالَ : كَيْفَ لَا تَعْرِفُنِيْ وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ أُمَّتِكَ؟ وَقَدْ رَوَى الْعُلَمَاءُ أَنَّكَ أَعْرَفُ بِأُمَّتِكَ مِنَ الْوَالِدَةِ بِالْوَلَدِ فَقَالَ صَدَقُوْا وَلَكِنْ إِنَّكَ لَا تَذْكُرُنِيْ بِالصَّلَاةِ وَإِنَّ مَعْرِفَتِيْ بِأُمَّتِيْ بِقَدْرِ صَلَاتِهِمْ عَلَيَّ. ثُمَّ انْتَبَهَ الرَّجُلُ وَأَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ فَفَعَلَ ذَلِكَ، ثُمَّ رَآهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْمَنَامِ فَقَالَ : أَعْرِفُكَ الْآنَ وَأَشْفَعُ لَكَ. أَيْ لِأَنَّهُ صَارَ مُحِبًّا لِرَسُوْلِ اللهِ ﷺ اِنْتَهَى . 

قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّوْنَ اللهَ ﴾ [سورة آل عمران: الآية ٣١] سَبَبٌ نُزُوْلِهَا أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ  ﷺ لَمَّا دَعَا كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ وَأَصْحَابَهُ إِلَى الْإِسْلَامِ قَالُوْا : نَحْنُ فِي الْمَنْزِلَةِ أَبْنَاءِ اللهِ وَلَنَحْنُ أَشَدُّ حُبًّا للهِ . فَقَالَ اللهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ : قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّوْنَ اللهَ فَاتَّبِعُوْنِيْ عَلَى دِيْنِيْ فَإِنِّيْ رَسُوْلُ اللهِ أُؤَدِّيْ رِسَالَتَهُ إِلَيْكُمْ وَحُجَّتَهُ عَلَيْكُمْ يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوْبَكُمْ وَاللهُ غَفُوْرٌ رَحِيْمٌ) [سورة آل عمران: الآية ٣١] وَحُبُّ الْمُؤْمِنِيْنَ للهِ اِتِّبَاعُهُمْ أَمْرَهُ وَإِيْثَارُ طَاعَتِهِ وَابْتِغَاءُ مَرْضَاتِهِ،  وَحُبُّ اللهِ لِلْمُؤْمِنِيْنَ ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِمْ وَثَوَابُهُ لَهُمْ وَعَفُوْهُ عَنْهُمْ، وَإِنْعَامُهُ عَلَيْهِمْ بِرَحْمَتِهِ وَعِصْمَتِهِ وَتَوْفِيْقِهِ.

قَالَ الْإِمَامُ فِي إِحْيَائِهِ : مَنِ ادَّعَى أَرْبَعًا مِنْ غَيْرِ أَرْبَعٍ فَهُوَ كَذَّابٌ، وَمَنِ ادَّعَى حُبَّ الْجَنَّةِ وَلَمْ يَعْمَلْ بِالطَّاعَةِ فَهُوَ كَذَّابٌ، وَمَنِ ادَّعَى حُبَّ النَّبِيِّ ﷺ وَلَمْ يُحِبَّ الْعُلَمَاءَ وَالْفُقَرَاءَ فَهُوَ كَذَّابٌ، وَمَنِ ادَّعَى الخَوْفَ مِنَ النَّارِ وَلَمْ يَتْرُكِ الْمَعَاصِيْ فَهُوَ كَذَّابٌ، وَمَنِ ادَّعَى حُبَّ اللهِ تَعَالَى وَشَكَا مِنَ الْبَلْوَى فَهُوَ كَذَّابٌ، كَمَا قَالَتْ رَابِعَةُ :

تَعْصِي الْإِلَهَ وَأَنْتَ تُظْهِرُ حُبَّهُهَذَا لِعُمْرِيْ فِي الْقِيَاسِ بَدِيْعُ
لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَادِقًا لَأَطَعْتَهُإِنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيْعُ

وَعَلَامَةُ الْمَحَبَّةِ مُوَافَقَةُ الْمَحْبُوْبِ وَاجْتِنَابُ خِلَافِهِ.

حُكِيَ أَنَّ جَمَاعَةً دَخَلُوْا عَلَى الشِّبْلِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فَقَالَ: مَنْ أَنْتُمْ؟ فَقَالُوْا: أَحِبَّاؤُكَ فَأَقْبَل، ثُمَّ رَمَاهُمْ بِالْحِجَارَةِ فَهَرِبُوْا مِنْهُ فَقَالَ لَهُمْ : تَهْرَبُوْنَ مِنِّيْ لَوْ كُنْتُمْ أَحِبَّائِيْ لَمَّا فَرَرْتُمْ مِنْ بَلَائِيْ، ثُمَّ قَالَ الشِّبْلِيُّ رَحِمَهُ اللهُ : أَهْلُ الْمَحَبَّةِ شَرِبُوْا بِكَأْسِ الْوِدَادِ فَضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ وَالْبِلَادُ، وَعَرَفُوْهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ وَتَاهُوْا فِي عَظَمَتِهِ وَتَحَيَّرُوْا فِي قُدْرَتِهِ، وَشَرِبُوْا بِكَأْسِ حُبِّهِ، وَغَرِقُوْا فِي بَحْرِ أُنْسِهِ وَتَلَذَّذُوْا بِمُنَاجَاتِهِ ثُمَّ أَنْشَدَهُ

ذِكْرُ الْمَحَبَّةِ يَـا مَـوْلَايَ أَسْكَــرَنِــيْوَهَلْ رَأَيْتَ مُحِبًّا غَيْـــرَ سَكْـرَانَ

وَيُقَالُ إنَّ الْبَعِيْرَ إِذَا سَكَرَ لَا يَأْكُلُ الْعَلَفَ أَرْبَعِيْنَ يَوْمًا وَلَوْ حُمِلَ عَلَيْهِ أَضْعَافٌ مَا يَحْمِلُهُ لَحَمَلَهُ، لِأَنَّهُ إِذَا هَاجَ قَلْبُهُ ذِكْرَ مَحْبُوْبِهِ لَا يُحِبُّ الْعَلَفَ وَلَا يَعِيَا مِنَ الْحَمْلِ الثَّقِيْلِ لِاشْتِيَاقِهِ إِلَى مَحْبُوْبِهِ فَإِذَا كَانَ مِنْ شَأْنِ الْإِبِلِ أَنْ تَتْرُكَ شَهْوَتَهَا، وَتَحْمِلَ الْحَمْلَ الثَّقِيْلَ لِأَجْلِ مَحْبُوْبِهَا، فَهَلْ أَنْتُمْ تَرَكْتُمْ شَهْوَةً مُحَرَّمَةً لِأَجْلِ اللهِ تَعَالَى؟ وَهَلْ تَرَكْتُمْ طَعَامًا وَشَرَابًا لِأَجْلِ اللهِ تَعَالَى؟ وَهَلْ حَمَلْتُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ حَمْلًا ثَقِيْلًا لِأَجْلِ اللهِ تَعَالَى؟ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوْا شَيْئًا مِنَ الْخَيْرَاتِ مِمَّا ذُكِرَتْ فَدَعْوَاكُمْ اِسْمٌ بِلَا مَعْنًى لَا تَنْفَعُ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْعُقْبَى وَلَا عِنْدَ الْخَلْقِ وَلَا عِنْدَ الْخَالِقِ.

وَعَنْ عَلِيِّ كَرَمَ اللهُ وَجْهَهُ قَالَ: مَنِ اشْتَاقَ إِلَى الْجَنَّةِ سَارَعَ إِلَى الْخَيْرَاتِ وَمَنْ خَافَ مِنَ النَّارِ نَهَى نَفْسَهُ عَنِ الشَّهَوَاتِ، وَمَنْ تَيَقَّنَ الْمَوْتَ هَانَتْ عَلَيْهِ اللَّذَاتُ.

وَسُئِلَ إِبْرَاهِيْمُ الْخَوَاصِ عَنِ الْمَحَبَّةِ فَقَالَ مَحْوُ الْإِرَادَاتِ وَإِحْرَاقُ جَمِيْعِ الصِّفَاتِ وَالْحَاجَاتِ وَإِغْرَاقُ نَفْسِهِ فِي بَحْرِ الْإِشَارَاتِ .

Next Post Previous Post
No Comment
Add Comment
comment url