المجموع شرح المهذب - جـ 13

 المجموع شرح المهذب

________________________________________

القسم: الفقه الشافعي

الكتاب: المجموع شرح المهذب ((مع تكملة السبكي والمطيعي))

المؤلف: أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي (ت ٦٧٦هـ)

الناشر: دار الفكر

(طبعة كاملة معها تكملة السبكي والمطيعي)

[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]

تاريخ النشر بالشاملة: ٨ ذو الحجة ١٤٣١

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 1)

________________________________________

التكملة الثانية

 

المجموع شرح المهذب

 

‌الجزء الثالث عشر

 

دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 3)

________________________________________

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ الله:

 

‌باب بيع المرابحة

 

(من اشترى سلعة جاز له بيعها برأس المال وبأقل منه وبأكثر منه، لقوله صلى الله عليه وسلم " إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم " ويجوز أن يبيعها مرابحة، وهو أن يبين رأس المال وقدر الربح بأن يقول: ثمنها مائة، وقد بعتكها برأس مالها وربح درهم في كل عشرة، لما روى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كان لا يرى بأسا بده يازده وده دوازده (١) ولانه ثمن معلوم فجاز البيع به، كما لو قال: بعتك بمائة وعشرة ويجوز أن يبيعها مواضعة بأن يقول: رأس مالها مائة، وقد بعتك برأس ماله ووضع درهم (٢) من كل عشرة لانه ثمن معلوم فجاز البيع به، كما لو قال: بعتك بمائة إلا عشره، ويجوز أن يبيع بعضه مرابحة، فان كان مما لا تختلف أجزاؤه كالطعام والعبد الواحد قسم الثمن على أجزائه وباع ما يريد بيعه منه بحصته، وإن كان مما يختلف كالثوبين والعبدين قومهما وقسم الثمن عليهما على قدر قيمتهما ثم باع ما شاء منهما بحصته من الثمن، لان الثمن ينقسم على المبيعين على قدر قيمتهما، ولهذا لو اشترى سيفا وشقصا بألف قسم الثمن عليهما على قدر قيمتهما، ثم أخذ الشفيع الشقص بما يخصه من الثمن على قدر قيمته.

________________________________________

(١) قوله " لا يرى بأسا بده يازده وده دوازده " ده عشرة بالفارسية، ويازده أحد عشر ودوازده اثنا عشر، أي لا يرى بأسا أن يبيع ما اشتراه بعشرة بأحد عشر أو بإثنى عشر (٢) قوله " ووضع درهم " أي حط درهم.

يقال وضع له في البيع من الثمن أي حط عنه

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 4)

________________________________________

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه، وبعد

فيقول محمد نجيب المطيعى عفا الله عنه بهذا القيل:

(الشرح) الحديث أخرجه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه من حديث عبادة ابن الصامت بلفظ " الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مِثْلًا بِمِثْلٍ سواء بسواء يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الْأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ، إذَا كَانَ يَدًا بيد " ورواه أبو داود بنحوه وفى آخره " وَأُمِرْنَا أَنْ نَبِيعَ الْبُرَّ بِالشَّعِيرِ وَالشَّعِيرَ بِالْبُرِّ يدا بيد كيف شئنا " وحديث عبد الله بن مسعود سبق تخريجه، وابن مسعود هو سادس من أسلم روى لَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ٨٤ حديثا اتفق الشيخان على ٦٤ منها وانفرد البخاري ب ٢٠ ومسلم ب ٣٥ وكان يشبه النبي صلى الله عليه وسلم في سمته وهديه، ولى القضاء بالكوفة وبيت مالها في خلافة عمر وصدرا من خلافة عثمان أما أحكام الفصل فإن المرابحة بصورتها المعروفة جائزة بالاتفاق، ولكن كره ذلك ابن عباس وابن عمر، ولم يجوزها اسحاق بن راهويه، واتفقوا على أنه إذا اشترى بثمن مؤجل لم يجز بمطلق بل يجب البيان.

وقال الاوزاعي: يلزم العقد

إذا أطلق ويثبت الثمن في ذمته مؤجلا، وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد يثبت للمشترى الخيار إذا لم يعلم بالتأجيل، ووجه هذه المسائل بواعث مختلفة بينهم بين مشدد ومخفف على البائع أو على المشترى بحسب مداركهم فالشافعى يجيز بيع السلعة برأس مالها أو أقل منه أو أكثر من البائع وغيره قبل نقد الثمن وبعده.

وقال أبو حنيفة ومالك وأحمد لا يجوز بيعها من بائعها بأقل من الثمن الذى ابتاعها به قبل نقد الثمن في المبيع الاول، ويجوز أن يبيع ما اشتراه مرابحة بالاتفاق، وهو أن يبين رأس المال وقدر الربح قال في مجمع الابحر " المرابحة بيع ما شراه بما شراه به وزيادة، والتولية بيعه بلا زيادة ولا نقص، والوضيعة بيعه بأنقص منه " قلت ويجوز أن يضيف إلى الثمن الاول نفقات الصناعة والطراز والنقل مع بيانها وإيضاحها لمن يبتاعها

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 5)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

ولا يخبر إلا بالثمن الذى لزم به البيع، فإن اشترى بثمن ثم حط البائع عنه بعضه، أو ألحق به زيادة، نظرت فإن كان بعد لزوم العقد لم يلحق ذلك بالعقد، ولم يحط في بيع المرابحة ما حط عنه، ولا يخبر بالزيادة فيما زاد، لان البيع استقر بالثمن الاول، فالحط والزيادة تبرع لا يقابله عوض فلم يتغير به الثمن، وإن كان ذلك في مدة الخيار لحق بالعقد وجعل الثمن ما تقرر بعد الحط والزيادة.

وقال أبو على الطبري: إن قلنا إن المبيع ينتقل بنفس العقد لم يلحق به لان المبيع قد ملكه بالثمن الاول فلم يتغير بما بعده، والمذهب الاول لانه وإن كان قد انتقل المبيع إلا أن البيع لم يستقر، فجاز أن يتغير الثمن بما يلحق به.

وإن اشترى ثوبا بعشرة وقصره بدرهم ورفاه بدرهم وطرزه بدرهم، قال هو على

بثلاثة عشر، أو قام على بثلاثة عشرة وما أشبه ذلك، ولا يقول اشتريت بثلاثة عشر، ولا يقول ثمنه ثلاثة عشر، لان ذلك كذب وإن قال رأس مالى ثلاثة عشر ففيه وجهان " أحدهما " لا يجوز أن يقول لان رأس المال هو الثمن، والثمن عشرة " والثانى " يجوز لان رأس المال ما وزن فيه، وقد وزن فيه ثلاثة عشر، وإن عمل فيه ذلك بيده قال: اشتريته بعشرة، وعملت فيه ما يساوى ثلاثة.

ولا يقول هو على بثلاثة عشر، لان عمله لنفسه لا أجرة له.

ولا يتقوم عليه وإن اشترى عينا بمائة ووجد بها عيبا وحدث عنده عيب آخر فرجع بالارش وهو عشرة دراهم.

قال هي على بتسعين أو تقوم على بتسعين، ولا يجوز أن يقول الثمن مائة، لان الرجوع بالارش استرجاع جزء من الثمن، فخرج عن أن يكون الثمن مائة، ولا يقول اشتريتها بتسعين، لانه كذب، وإن كان المبيع عبدا فجنى ففداه بأرش الجناية لم يضف ما فداه به إلى الثمن، لان الفداء جعل لاستبقاء الملك فلم يضف إلى الثمن كعلف البهيمة، وإن جنى عليه فأخذ الارش ففيه وجهان:

(أحدهما)

انه لا يحط من الثمن قدر الارش، لانه كما لا يضيف ما فدى به

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 6)

________________________________________

الجناية إلى الثمن لا يحط ما أخذ عن أرش الجناية عن الثمن

(والثانى)

أنه يحط لانه عوض عن جزء تناوله البيع فحط من الثمن كأرش العيب وإن حدثت من العين فوائد في ملكه كالولد واللبن والثمرة لم يحط ذلك من الثمن لان العقد لم يتناوله، وان أخذ ثمرة كانت موجودة عند العقد أو لبنا كان موجودا حال العقد حط من الثمن، لان العقد تناوله وقابله يقسط من الثمن، فأسقط ما قابله، وان أخذ ولدا كان موجودا حال العقد، فإن قلنا ان الحمل له

حكم فهو كاللبن والثمرة، وان قلنا لا حكم له لم يحط من الثمن شيئا، وان ابتاع بثمن مؤجل لم يخبر بثمن مطلق، لان الاجل يأخذ جزءا من الثمن، فإن باعه مرابحة ولم يخبره بالاجل ثم علم المشترى بذلك ثبت له الخيار لانه دلس عليه بما يأخذ جزءا من الثمن.

فثبت له الخيار، كما لو باعه شيئا وبه عيب ولم يعلمه بعيبه.

وإن اشترى شيئا بعشرة وباعه بخمسة، ثم اشتراه بعشرة أخبر بعشرة ولا يضم ما خسر فيه إلى الثمن، فإن اشترى عشرة وباع بخمسة عشر، ثم اشتراه بعشرة أخبر بعشرة، ولا يحط ما ربح من الثمن، لان الثمن ما ابتاع به في العقد الذى هو مالك به، وذلك عشرة، وإن اشترى بعشرة ثم واطأ غلامه فباع منه ثم اشتراه منه بعشرين ليخبر بما اشتراه من الغلام كره ما فعله، لانه لو صرح بذلك في العقد فسد العقد، فإذا قصده كره، فان أخبر بالعشرين في بيع المرابحة جاز لان بيعه من الغلام كبيعه من الأجنبي في الصحة فجاز أن يخبر بما اشترى به منه، فان علم بذلك المشترى لم يثبت له الخيار، لان شراءه بعشرين صحيح (الشرح) قوله " لان ذلك كذب " هذا جريا على قاعدة " تبايعا وقولوا لا خلابة " وحديث ابن مسعود " لا تحل الخلابة لمسلم " وعلى هذا يقول أبو حنيفة: لا يقول شريته بكذا، وانما يقول قام على بكذا.

وقال في مجمع الابحر " ولا يضم نفقته ولا أجر الراعى أو الحارس أو بيت الحفظ فان ظهر للمشترى خيانة في المرابحة خير في أخذه بكل ثمنه، وعند أبى يوسف يحط من الثمن قدر الخيانة مع حصتها من الربح وعند محمد يخير.

اه

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 7)

________________________________________

وقد عنى شيخ الاسلام ابن تيمية في فتاواه الكبرى بهذا النوع من الخديعة فأبطل العقد وحمل على مجيزيه بالرأى والقياس

وفى الترغيب في الصدق عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ " رواه الدارمي وقال: لا علم لى به أن الحسن سمع من أبى سعيد.

وقال أبو حمزة: هذا هو صاحب ابراهيم بن ميمون الاعور.

ورواه الحاكم والترمذي وحسنه.

وفى هذا الحديث بحث طويل سنعرض له في كنز العمال إن شاء الله تعالى قوله " ولا يضم ما خسر فيه إلى الثمن " كذا هو مقرر في المذهب أنه لا يرابح إلا على الثمن الاخير، وعند أبى حنيفة تمتنع المرابحة إذا شراه ثانية بأقل مما باعه أولا، وعند الصاحبين محمد وأبى يوسف موافقة المصنف من جواز المرابحة على الثمن الاخير.

(فائدة) إذا اشترى مديون مأذون بعشرة وباعه من سيده بخمسة عشر أو بالعكس، فإنه يرابح على عشرة، لان العقد بينهما وإن كان صحيحا ولكن له شبهة العدم، لان العبد ملكه، وما في يده لا يخلو عن حقه، فصار كأنه اشتراه للمولى بعشرة فيعتبر هذا لا غير.

وقولنا " مديون " فمن باب أولى أن يرابحه مع عدم الدين لوجود ملك المولى فيه بالاجماع، والمكاتب كالعبد المأذون له.

أما المضارب بالنصف لو شرى بعشرة وباع من رب المال بخمسة عشر يرابح رب المال اثنى عشر ونصف، ويرابح بلا بيان لو اعورت المبيعة أو وطئت وهى ثيب، أو أصاب الثوب قرض فأرة أو حرق نار، فلا يجب عليه البيان عند أبى حنيفة.

أي لا يجب أن يقول إنى شريتها سليمة بكذا فأعورت في يدى، أو أصاب الثوب قرض فأرة مثلا، لان جميع ما يقابله الثمن قائم، لان الفائت وصف فلا يقابله شئ من الثمن إذا فات بلا صنع أحد.

هذا فيما يتعلق ببيان الثمن قبل العيب.

أما العيب نفسه فيجب بيانه بالكتاب والسنة والاجماع لحديث

العداء بن خالد الذى رواه الجماعة، كتب لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 8)

________________________________________

" هذا ما باع مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَدَّاءِ بْنِ خَالِدٍ بَيْعَ الْمُسْلِمِ الْمُسْلِمَ لَا داء ولا خبثة ولا غائلة " فيجب بيان العيب بغير أن يبين أنه اشتراه سليما بكذا من الثمن ثم أصابه العيب، وهذا كله فيما إذا كان العيب يسيرا.

أما إذا كان العيب كبيرا كبرا يتغابن الناس فيه فإنه لا يجوز بيعه مرابحة.

أما إذا وطئت وهى بكر أو تكسر الثوب من طيه ونشره لزم البيان، وإن اشترى بنسيئة ورابح بلا بيان خير المشترى، فان أتلفه ثم علمه لزم كل ثمنه، وكذا التولية.

وهو أن يقول: ولنى ما اشتريته بالثمن، فقال وليتك، صح إذا كان الثمن معلوما لهما فإن جهله أحدهما لم يصح (فائدة) لو اشترى ثوبين صفقة كلا بخمسة لا يجوز بيع أحدهما مرابحة بخمسة بلا بيان، لانه لو كان واحدا جاز بيع نصفه مرابحة اتفاقا، ولو باع بالزائد على الخمسة لا يجوز.

ولا يصح بيع المقول قبل قبضه، ويصح في العقار، خلافا لمحمد بن الحسن من أصحاب ابى حنيفة.

ومن اشترى كيليا لا يجوز له بيعه ولا أكله حتى يكيله، ويكفى كيل البائع بعد العقد بحضرة المشترى لا في غيبته، ومثل ذلك الوزنى والعددي لا المذروع ولا المقيس بالامتار أو الياردة، فقد مر في كلام السبكى رحمه الله في عدم وجوب ذلك في الاثواب المنضدة المختومة لما يترتب على قياسها من تكسير وإتلاف ويتعلق الاستحقاق بكل ذلك فيرابح ويولى على كل ذلك إن زيد، وعلى ما بقى إن حط، قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

إذا قال رأس المال مائة وقد بعتكه برأس المال وربح درهم في كل عشرة أو بربح ده يازده، فالثمن مائة وعشرة، وان قال بعتك برأس المال ووضع ده يازده، فالثمن أحد وتسعون درهما إلا جزءا من أحد عشر جزءا من درهم لان معناه بعتك بمائة على أن أضع درهما من كل أحد عشر درهما، فسقط من تسعة وتسعين درهما تسعة دراهم، لانها تسع مرات أحد عشر ويبقى من رأس

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 9)

________________________________________

المال درهم فيسقط منه جزء من أحد عشر جزءا، فيكون الباقي أحدا وتسعين درهما إلا جزءا من أحد عشر جزءا من درهم.

وإن قال بعتك على وضع درهم من كل عشرة ففى الثمن وجهان " أحدهما " أن الثمن أحد وتسعون درهما إلا جزءا من أحد عشر جزءا من درهم، وهو قول الشيخ أبى حامد الاسفراينى رحمه الله " والثانى " أن الثمن تسعون درهما، وهو قول شيخنا القاضى أبى الطيب الطبري، وهو الصحيح، لان المائة عشر مرات عشرة، فإذا وضع من كل عشرة درهما بقى تسعون (الشرح) هذه الصور التى عرض لها المصنف تناولنا حكمها في الفائدة السابق ذكرها.

 

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

إذا أخبر أن رأس المال مائة وباع على ربح درهم في كل عشرة ثم قال: أخطأت أو قامت البينة أن الثمن كان تسعين فالبيع صحيح.

وحكى القاضى أبو حامد وجها آخر أن البيع باطل، لانه بان أن الثمن كان تسعين وأن ربحها تسعة، وهذا كان مجهولا حال العقد، فكان العقد باطلا، والمذهب الاول، لان البيع عقد على ثمن معلوم، وانما سقط بعضه بالتدليس، وسقوط بعض الثمن لا يفسد البيع كسقوط بعض الثمن بالرجوع بأرش العيب.

وأما الثمن

الذى يأخذه به ففيه قولان:

(أحدهما)

أنه مائة وعشرة، لان المسمى في العقد مائة وعشرة، فإذا بان تدليس من جهة البائع لم يسقط من الثمن شئ، كما لو باعه شيئا بثمن فوجد به عيبا.

 

(والثانى)

أن الثمن تسعة وتسعون، وهو الصحيح، لانه نقل ملك يعتبر فيه الثمن الاول، فإذا أخبر بزيادة وجب حط الزيادة كالشفعة والتولية، ويخالف العيب، فإن هناك الثمن هو المسمى في العقد، وههنا الثمن هو رأس المال وقدر الربح، وقد بان أن رأس المال تسعون والربح تسعة

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 10)

________________________________________

فإن قلنا ان الثمن مائة وعشرة فهو بالخيار بين أن يمسك المبيع بالثمن وبين أن يفسخ، لانه دخل على أن يأخذ المبيع برأس المال.

وهذا أكثر من رأس فثبت له الخيار.

وان قلنا ان الثمن تسعة وتسعون فهل يثبت له الخيار؟ اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال فيه قولان

(أحدهما)

أن له الخيار، لانه ان كان قد أخطأ في الخبر الاول لم يأمن أن يكون قد أخطأ في الثاني، وأن الثمن غيره، وان كان قد خان في الاول فلا يأمن أن يكون قد خان في الثاني، فثبت له الخيار (والقول الثاني) وهو الصحيح أنه لا خيار له، لان الخيار انما يثبت لنقص وضرر، وهذا زيادة ونفع، لانه دخل على أن الثمن مائه وعشرة وقد رجع إلى تسعة وتسعين، فلا وجه للخيار.

ومنهم من قال: ان ثبتت الخيانة بإقرار البائع لزم المشترى تسعة وتسعون ولا خيار له، وان ثبتت بالبينة فهل له الخيار أم لا؟ فيه قولان، لانه إذا ثبتت بالاقرار دل على أمانته، فلم يتهم في خيانة أخرى.

وإذا ثبتت بالبينة كان متهما

في خيانة أخرى فثبت له الخيار.

قال أصحابنا: القولان إذا كانت العين باقية، فأما إذا تلفت العين فانه يلزم البيع بتسعة وتسعين قولا واحدا، لانا لو جوزنا له فسخ البيع مع تلف العين رفعنا الضرر عنه وألحقناه بالبائع، والضرر لا يزول بالضرر، ولهذا لو هلك المبيع عنده ثم علم به عيبا لم يملك الفسخ، فإن قلنا لا خيار له، أو قلنا له الخيار فاختار البيع فهل يثبت للبائع الخيار؟ فيه وجهان

(أحدهما)

يثبت له الخيار، لانه لم يرض الا الثمن المسمى وهو مائة وعشرة، ولم يسلم ذلك

(والثانى)

لا خيار له لانه رضى برأس المال وربحه وقد حصل له ذلك (الشرح) قوله " فالبيع صحيح " هذا قول عند الاصحاب أو وجه، وعند الحنابلة كراهة بعض ما مر جوازه عند الشافعية وأصحاب أبى حنيفة.

قال ابن قدامة في المغنى: وان قال بعتك برأس مالى فيه، وهو مائة، وأربح في كل عشرة درهما.

أو قال: ده يازده أو ده داوزده فقد كرهه أحمد، وقد رويت كراهته

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 11)

________________________________________

عن ابن عمر وابن عباس ومسروق والحسن وعكرمة وسعيد بن جبير وعطاء بن يسار.

وقال إسحاق: لا يجوز لان الثمن مجهول حال العقد فلم يجز، كما لو باعه بما يخرج به في الحساب.

قال ورخص فيه سعيد بن المسيب وابن سيرين وشريح والنخعي والثوري والشافعي وأصحاب الرأى وابن المنذر، ولان رأس المال معلوم فأشبه ما لو قال وربح عشرة دراهم.

ووجه الكراهة أن ابن عمر وابن عباس كرهاه ولم نعلم لهما في الصحابة مخالفا، ولان فيه نوعا من الجهالة، والتحرز عنها أولى.

وهذه كراهة تنزيه والعقد صحيح، والجهالة يمكن إزالتها بالحساب: كما لو باعه صبرة كل قفيز بدرهم.

وأما ما يخرج به في الحساب فمجهول في الجملة والتفصيل إذا ثبت هذا فنقول: متى باع شيئا برأس ماله وربح عشرة ثم علم بتنبيه أو

إقرار أن رأس ماله تسعون فالبيع صحيح، لانه زيادة في الثمن، فلم يمنع صحه العقد كالعيب وللمشترى الرجوع على البائع بما زاد في رأس المال وهو عشرة وحطها من الربح وهو درهم فيبقى على المشترى بتسعة وتسعين درهما، وبهذا قال الشافعي في الجديد، وبه قال الثوري وابن أبى ليلى وقال أبو حنيفة: هو مخير بين الاخذ بكل الثمن أو يترك قياسا على المعيب وحكى الشافعي في أحد قوليه أنه إذا باعه برأس ماله وما قدره من الربح، فإذا بان رأس ماله قدرا كان مبيعا به، وبالزيادة التى اتفقا عليها، والمعيب كذلك عند الحنابلة فإن له أخذ الارش، ثم المعيب لم يرض به إلا بالثمن المذكور، وههنا رضى فيه برأس المال والربح المقرر.

وهل للمشترى خيار؟ فعند الشافعي في أحد قوليه نعم لان المشترى لا يأمن الخيانة في هذا الثمن أيضا، ولانه ربما كان له غرض في الشراء بذلك الثمن بعينه لكونه حالفا أو وكيلا أو غير ذلك.

والمنصوص عن أحمد أن المشترى مخير بين أخذ المبيع برأس ماله وحصته من الربح، وبين تركه قولا واحدا.

نقله حنبل قال في المغنى: وظاهر كلام الخرقى أنه لا خيار له (قلت) وهو مخالف للامام كما قاله حنبل والقول الآخر عند الشافعية لا، لانه رضيه بمائة وعشرة فإذا حصل له بتسعة

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 12)

________________________________________

وتسعين فقد زاده خيرا، فلم يكن له خيار، كما لو اشتراه على أنه معيب فبان صحيحا، أو أمي فبان صانعا، أو كاتبا، أو وكل في شراء معين بمائة فاشتراه بتسعين.

وأما البائع فلا خيار له، لانه باعه برأس ماله وحصته من الربح وقد حصل له ذلك.

وإذا اشترى سلعة وأراد بيعها فحط له بائعها من ثمنها بعد لزوم العقد أخبر

بثمنها قبل أن يحط البائع منها.

قال الشافعية وأصحاب أحمد وأبى حنيفة: له أن يخبر بالثمن الاول لا غير، ولان ذلك هبة من أحدهما للآخر لا يكون عوضا وقال أبو حنيفة: يلحق بالعقد ويخبر به في المرابحة أما إذا كان هذا الحط في مدة الخيار وقبل لزوم العقد وجب الاخبار به في المرابحة باتفاق.

وفى تغيير السلعة بنقص، كأن تتغير بتلف بعضها أو بولادة أو عيب أو أخذ البائع بعضها كالصوف واللبن الموجود ونحو ذلك فإنه يخبر بالحال على وجهه، وإن أخذ أرش العيب أو الجناية أخبر بذلك على وجهه.

وقال أبو الخطاب من الحنابلة يحط أرش العيب من الثمن ويخبر بالباقي، لان أرش العيب عوض ما فات به، فكان ثمن الموجود هو ما بقى، وفى أرش الجناية وأرش العيب، قال الشافعي يحطهما من الثمن ويقول تقوم على بكذا، لانه صادق فيما أخبر به، فأشبه ما لو أخبر بالحال على وجهه فأما ان جنى المبيع ففداه المشترى لم يلحق ذلك بالثمن ولم يخبر به في المرابحة لان هذا الارش لم يزد به المبيع قيمة، فأشبه الدواء المزيل لمرضه الحادث عند المشترى، وانما هو مزيل لنقصه بالجناية، والعيب الحاصل بتعلقها برقبته فأشبه الدواء كما قلنا.

وأما ال؟ ؟ ير بالزيادة فكالزيادة في نمائها وسمنها أو تعلم صنعة أو ولادة أو ثمرة مجتناة، أو كسب عمل يدوى، فهذا إن أراد أن يبيعها مرابحة أخبر بالثمن من غير زيادة لانه القدر الذى اشتراها به.

وان أخذ النماء المنفصل كالولد أو الثمرة المجتناة أو استخدم الامة أو وطئ الثيب أخبر برأس المال ولم يلزمه تبيين الحال لان ذلك بمثابة الخدمة.

وروى

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 13)

________________________________________

ابن المنذر عن احمد أنه يلزمه تبيين ذلك كله.

وهو قول اسحاق.

وقال أصحاب

الرأى في الغلة يأخذها: لا بأس أن يبيع مرابحة، وفى الولد والثمرة لا يبيع مرابحة حتى يبين ولانه موجب العقد.

وعند ابن قدامة من الحنابلة أنه إن كان صادقا من غير تغرير جاز، كما لو لم يزد، ولان الولد والثمرة نماء منفصل فلم يمنع من بيع المرابحة بدون ذكره كالغلة.

قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

وإن أخبر أن الثمن مائة وربحه عشرة، ثم قال أخطأت والثمن مائة وعشرة لم يقبل قوله، لانه رجوع عن إقرار متعلق به حق آدمى فلم يقبل، كما لو أقر له بدين.

وإن قال: لى بينة على ذلك لم تسمع، لانه كذب بالاقرار السابق بينته فلم تقبل.

فإن قال أحلفوا لى المشترى أنه لا يعلم أن الثمن مائة وعشرة، ففيه طريقان

(أحدهما)

أنه إن قال ابتعته بنفسى لم يحلف المشترى لان إقراره يكذبه، وإن قال ابتاعه وكيل لى فظننت أنه ابتاع بمائة وقد بان لى أنه ابتاع بمائة وعشرة حلف لانه الآن لا يكذبه إقراره.

 

(والثانى)

أنه يبنى على القولين في يمين المدعى مع نكول المدعى عليه، فإن قلنا إنه كالبينة لم يعرض اليمين، لانه إذا نكل حصلنا على بينه، والبينة لا تسمع.

وإن قلنا: انه كالاقرار عرضنا اليمين، لانه إذا نكل حصلنا على الاقرار، وإقراره مقبول (الشرح) ثم انتقل المصنف رحمه الله إلى التغير بالزيادة: ومن التغير بالزيادة أن يعمل فيها عملا، كأن يقصرها تجميلا لها أو يرفوها أو يحيكها، فهذه متى أراد أن يبيعها مرابحة أخبر بالحال على وجهه.

وإن اشترى شيئين صفقة واحدة ثم أراد بيع أحدهما مرابحة، أو اشترى

اثنان شيئا فتقاسماه وأراد أحدهما بيع نصيبه مرابحة بالثمن الذى أداه فيه،

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 14)

________________________________________

فذلك قسمان

(أحدهما)

أن يكون المبيع من المتقومات التى لا ينقسم الثمن عليها بالاجزاء، كالثياب والحيوان والشجرة المثمرة وأشباه هذا، فهذا لا يجوز بيع بعضه مرابحة حتى يخبر بالحال على وجهه.

هكذا نص عليه أحمد فقال: كل بيع اشتراه جماعة ثم اقتسموه، لا يبيع احدهم مرابحة إلا أن يقول: اشتريناه جماعة ثم اقتسمناه.

وهذا مذهب الثوري وإسحاق وأصحاب الرأى قال الشافعي: يجوز بيعه بحصته من الثمن، لان الثمن ينقسم على المبيع على قدر قيمته، بدليل ما لو كان المبيع شقصا وسيفا أخذ الشفيع الشقص بحصته من الثمن.

ولو اشترى شيئين فوجد أحدهما معيبا رده بحصته من الثمن.

وذكر ابن أبى موسى فيما اشتراه اثنان فتقاسماه رواية أخرى عن أحمد أنه يجوز بيعه مرابحة بما اشتراه لان ذلك ثمنه فهو صادق فيما أخبر به قال ابن قدامة: ولنا أن قسمة الثمن على المبيع طريقه الظن والتخمين، وأحتمال الخطأ فيه كثير وبيع المرابحة أمانة فلم يجز هذا فيه، فصار هذا كالخرص الحاصل بالظن لا يجوز أن يباع به ما يجب التماثل فيه، وانما أخذ الشفيع بالقيمة للحاجة الداعية إليه.

وكونه لا طريق له سوى التقويم، ولانه لو لم يأخذ بالشفعة لاتخذه الناس طريقا لاسقاطها فيؤدى إلى تفويتها بالكلية، وههنا له طريق وهو الاخبار بالحال على وجهه أو بيعه مساومة.

هكذا ملخصا من السبكى وابن الرفعة وشارح المنهاج من الشافعية وابن قدامة وابن عساكر والخرقى من الحنابلة ومجمع الابحر ومراقي الفلاح من الحنفية، والبغية والكفاية والشرحين الكبير والصغير من المالكية، ونيل الاوطار وفتح الباري وشرح القسطلانى على البخاري والفتاوى الكبرى

لابن تيمية والمحلى لابن حزم من كتب المحدثين

 

قال المصنف رحمه الله:

 

(باب النجش والبيع على بيع أخيه، وبيع الحاضر للبادى، وتلقى الركبان والتسعير، والاحتكار)

ويحرم النجش، وهو أن يزيد في الثمن ليغر غيره، والدليل عليه ما روى

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 15)

________________________________________

ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم نهى عن النجش، ولانه خديعة ومكر، فإن اغتر الرجل بمن ينجش فابتاع فالبيع صحيح، لان النهى لا يعود إلى البيع فلم يمنع صحته، كالبيع في حال النداء، فإن علم المبتاع بذلك نظرت فإن لم يكن للبائع فيه صنع لم يكن للمبتاع الخيار لانه ليس من جهة البائع تدليس.

وإن كان النجش بمواطأة من البائع ففيه قولان.

 

(أحدهما)

أن له الخيار بين الامساك والرد، لانه دلس عليه فثبت له الرد، كما لو دلس عليه بعيب

(والثانى)

لا خيار له، لان المشترى فرط في ترك التأمل وترك التفويض إلى من يعرف ثمن المتاع الشرح: - هذا الباب يشتمل على الانواع الآتية: (النجش) وهو في اللغة بفتح النون وسكون الجيم بعدها شين معجمة، وهو تنفير الصيد واستثارته من مكانه ليصاد.

يقال: نجشت الصيد أنجشه - من باب نصر - وفى الشرع الزيادة في السلعة ويقع ذلك بمواطأة البائع فيشتركان في الاثم، ويقع ذلك بغير علم المشترى، فيستفيد الناجش، وقد يختص به البائع، كمن يخبر بأنه اشترى سلعة بأكثر مما

اشتراها به ليغر بذلك غيره.

قال الشافعي: النجش أن يحضر السلعة بتاع فيعطى بها الشئ وهو لا يريد شراءها ليقتدى به السوام، فيعطون بها أكثر مما كانوا يعطون لو لم يسمعوا سومه.

وقال ابن قتيبة " النجش الختل والخديعة " ومنه قيل للصائد ناجش، لانه يختل الصيد (١)

________________________________________

(١) في حاشية الاصل " الناجش الذى يحوش الصيد.

والنجش أن تزيد في البيع ليقع غيرك وليس من حاجتك، وفى الحديث لا تناجشوا

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 16)

________________________________________

قال ابن بطال: أجمع العلماء على أن الناجش عاص بفعله، واختلفوا في البيع إذا وقع على ذلك، ونقل ابن المنذر عن طائفة من أهل الحديث فساد ذلك البيع إذا وقع على ذلك، وهو قول أهل الظاهر، ورواية عن مالك وهو المشهور عند الحنابلة إذا كان بمواطأة البائع أو صنعته، والمشهور عند المالكية في مثل ذلك ثبوت الخيار وهو قول الحنفية، وقد اتفق أكثر العلماء على تفسير النجش في الشرع بما تقدم، وقد فسره ابن عبد البر وابن حزم وابن العربي بأن تكون الزيادة المذكورة فوق ثمن المثل ووافقهم على ذلك لبعض المتأخرين من الشافعية وهو تقييد للنص بغير مقتض للتقييد.

قال المصنف رحمه الله تعالى:

 

(فصل)

ويحرم أن يبيع على بيع أخيه، وهو أن يجئ إلى من اشترى شيئا في مدة الخيار فيقول: افسخ فإنى أبيعك أجود منه بهذا الثمن، أو أبيعك مثله بدون هذا الثمن، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لا يبع الرجل على بيع أخيه، ولان في هذا إفسادا وإنجاشا فلم يحل، فإن قبل منه وفسخ البيع واشترى منه صح البيع، لما ذكرناه في النجش.

(الشرح) أما حديث ابن عمر فقد رواه البخاري ومسلم.

وأما حديث أبى هريرة فهو متفق عليه، وللنسائي: من طريق ابن عمر " لا يبع أحدكم على بيع أخيه حتى يبتاع أو يذر ".

وفى رواية أحمد عن ابن عمر " لا يبع أحدكم على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه إلا أن يأذن له " وقد تتابعت أحاديث النهى عن أبى هريرة عند الشيخين وعن عقبة بن عامر عند مسلم.

وقوله صلى الله عليه وسلم: لا يبع، الاكثر بإثبات الياء على أن لا نافية، ويحتمل أن يكون استثناء من الحكمين، ويحتمل أن يختص بالاخير، والخلاف في ذلك وبيان الراجح مستوفى في الاصول.

ويدل على الثاني في خصوص هذا المقام رواية البخاري التى ذكرناها

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 17)

________________________________________

(قوله) " لا يخطب الرجل إلخ " وسيأتى الكلام على الخطبة في المناكحات إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

 

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ الله تعالى:

(فصل)

ويحرم أن يدخل على سوم أخيه، وهو أن يجئ إلى رجل أنعم لغيره في بيع سلعة بثمن فيزيده ليبيع منه، أو يجئ إلى المشترى فيعرض عليه مثل السلعة بدون ثمنها أو أجود منها بذلك الثمن، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لا يخطب الرجل على خطبة أخيه، ولا يسم على سوم أخيه، ولان في ذلك إفسادا أيضا وإنجاشا فلم يحل، فأما إذا جاء إليه فطلب منه متاعا فلم ينعم له، جاز لغيره أن يطلبه، لانه لم يدخل على سومه وإن طلبه منه فسكت ولم يظهر منه رد ولا إجابة ففيه قولان.

أحدهما: يحرم والثانى: لا يحرم، كالقولين في الخطبة على خطبة أخيه،

وأما إذا عرضت السلعة في النداء جاز لمن شاء أن يطلبها ويزيد في ثمنها، لما روى أنس رضى الله عنه عن رجل من الانصار أنه أصابه جهد شديد هو وأهل بيته، فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ دلك له فقال.

ما عندي شئ، اذهب فأتني بما كان عندك، فذهب فجاء بحلس وقدح، فقال يا رسول الله هذا الحلس والقدح، فقال من يشترى هذا الحلس والقدح، فقال رجل أنا آخذهما بدرهم، فقال من يزيد على درهم، فسكت القوم.

قال من يزيد على درهم، فقال رجل أنا آخذهما بدرهمين، قال: هما لك، ثم قال ان المسألة لا تحل إلا لثلاثة لذى دم موجع، أو فقر مدقع، أو غرم مفظع، ولان في النداء لا يقصد رجلا بعينه، فلا يؤدى إلى النجش والافساد.

(الشرح) قوله " ولا يسوم " صورته أن يأخذ شيئا ليشتريه فيقول المالك رده لابيعك خير منه بثمنه، أو يقول للمالك.

استرده لاشتريه منك بأكثر، وإنما يمنع من ذلك بعد استقرار الثمن، وركون أحدهما إلى الآخر.

فان كان ذلك

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 18)

________________________________________

تصريحا فقد قال في فتح الباري: لا خلاف في التحريم، وان كان ظاهرا ففيه وجهان في المذهب.

وقال ابن حزم: إن لفظ الحديث لا يدل على اشتراط الركون، وتعقب بأنه لابد من أمر مبين لموضع التحريم في السوم لان السوم في السلعه التى تباع فيمن يزيد لا يحرم اتفاقا كما حكاه في الفتح عن ابن عبد البر فتعين أن السوم المحرم ما وقع فيه قدر زائد على ذلك، وأما صورة البيع على البيع، والشراء على الشراء فهو ان يقول لمن اشترى سلعة في زمن الخيار: افسخ لابيعك بأنقص، أو يقول للبائع افسخ لاشتري منك بأزيد.

قال في فتح الباري: وهذا مجمع عليه.

وقد اشترط بعض الشافعية في التحريم أن لا يكون المشترى مغبونا غبنا

فاحشا وإلا جاز البيع على البيع، والسوم على السوم لحديث: الدين النصيحة.

وأجيب عن ذلك بأن النصيحة لا تنحصر في البيع على البيع والسوم على السوم لانه يمكن أن يعرفه ان قيمتها كذا فيجمع بذلك بين المصلحتين كذا في الفتح.

قال الشوكاني: وقد عرفت أن أحاديث النصيحة أعم مطلقا من الاحاديث القاضية بتحريم أنواع من البيع فيبنى العام على الخاص.

واخلفوا في صحة البيع المذكور فذهب الجمهور إلى صحته مع الاثم وذهبت الحنابلة والمالكية إلى فساده في إحدى الروايتين عنهم وبه جزم ابن حزم في المحلى وابن تيمية في فتاواه الكبرى.

والخلاف يرجع إلى ما تقرر في الاصول من أن النهى المقتضى للفساد هو النهى عن الشئ لذاته، ولو صف ملازم لا لخارج.

وأما حديث أنس فقد رواه احمد والترمذي وحسنه وقال لا نعرفه إلا من حديث الاخضر بن عجلان عن أبى بكر الحنفي عنه، وأخرجه أيضا أبو داود والنسائي، وأعله ابن القطان بجهل حال أبى بكر الحنفي، ونقل عن البخاري أنه قال لم يصح حديثه، ولفظ الحديث عند أبى داود وأحمد " أن النبي صلى الله عليه وسلم نادى على قدح وحلس لبعض أصحابه، فقال رجل هما على بدرهم، ثم قال آخرهما على بدرهمين " وفيه " إن المسأله لا تحل إلا لاحد ثلاثة ".

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 19)

________________________________________

والحلس بكسر الحاء المهملة وسكون اللام كساء رقيق يكون تحت برذعة البعير قاله الجوهرى، والحلس البساط أيضا ومنه حديث كن حلس بيتك حتى يأتيك يد خاطئة أو ميتة قاضية " كذا في النهاية لابن الاثير قوله " فيمن يزيد " فيه دليل على جواز بيع المزايدة وهو البيع على الصفة التى فعلها النبي صلى الله عليه وسلم.

وحكى البخاري عن عطاء أنه قال أدركت الناس لا يرون بأسا في بيع المغانم فيمن يزيد، ووصله ابن أبى شيبة عن عطاء ومجاهد وروى هو وسعيد بن منصور عن مجاهد قال لا بأس ببيع من يزيد، وكذلك كانت تباع الاخماس.

وقال الترمذي عقب حديث أنس المذكور: وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ لم يروا بأسا ببيع من يزيد في الغنائم والمواريث.

قال ابن العربي: لا معنى لاختصاص الجواز بالغنيمة والميراث فإن الباب واحد والمعنى مشترك.

قال الامام الشوكاني: ولعلهم جعلوا تلك الزيادة التى زادها ابن خزيمة وابن الجارود والدارقطني قيدا لحديث أنس المذكور ولكن لم ينقل أن الرجل الذى باع عنه صلى الله عليه وسلم القدح والحلس كانا معه من ميراث أو غنيمة فالظاهر الجواز مطلقا، إما لذلك، وإما لالحاق غيرهما بهما ويكون ذكرهما خارجا مخرج الغالب لانهما الغالب على ما كانوا يعتادون البيع فيه مزايدة، وممن قال باختصاص الجواز بهما الاوزاعي وإسحاق.

ثم قال الشوكاني رحمه الله تعالى: وروى عن النخعي أنه كره بيع المزايدة، واحتج بحديث جابر الثابت في الصحيح أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي مدبر " مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي، فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ الله بثمانمائة درهم " واعترضه الاسماعيلي فقال ليس في قصة المدبر بيع المزايدة، فإن بيع المزايدة أن يعطى به واحد ثمنا ثم يعطى به غيره زيادة عليه، نعم يمكن الاستدلال له بما أخرجه البزار من حديث سفيان بن وهب قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينهى عن بيع المزايدة لكن في اسناده ابن لهيعة وهو ضعيف.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 20)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

ويحرم أن يبيع حاضر لباد، وهو أن يقدم رجل ومعه متاع يريد بيعه ويحتاج الناس إليه في البلد، فإذا باع اتسع، وإذا لم يبع ضاق، فيجئ إليه سمسار فيقول " لا تبع حتى أبيع لك قليلا قليلا، وأزيد في ثمنها " لما روى ابن طاوس عن أبيه عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ.

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا يبع حاضر لباد " قلت ما لا يبع حاضر لباد؟ قال " لا يكون سمسارا " وروى جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا يبع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض " فإن خالف وباع له صح البيع، لما ذكرناه في النحش، فإن كان البلد كبيرا لا يضيق على أهله بترك البيع ففيه وجهان

(أحدهما)

لا يجوز للخبر

(والثانى)

يجوز لان المنع لخوف الاضرار بالناس، ولا ضرر ههنا.

(الشرح) حديث ابن طاوس عن أبيه عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم الخ.

أخرجه الجماعة إلا الترمذي.

وقوله " حاضر لباد " الحاضر ساكن الحضر والبادى ساكن البادية.

قال في القاموس: الحاضر والحاضرة والحضارة وتفتح خلاف البادية، والحضارة الاقامة في الحضر، وتبدى أقام في البادية، والنسبة بداوى وبدوي، وبدا القوم خرجوا إلى البادية وأما حديث جابر فقد رواه الجماعة الا البخاري، وفى مسند أحمد من طريق عطاء بن السائب عن عكيم بالعين المهملة ابن أبى يزيد عن أبيه حدثنى أبى قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم " دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض، فإذا استنصح الرجل فلينصح له " ورواه البيهقى من حديث جابر مثله قال الشافعي في الام بعد سوق الحديثين، حديث ابن عمر وحديث جابر " وليس في النهى عن بيع حاضر لباد بيان معنى " والله أعلم لم نهى عنه، الا أن أهل البادية يقدمون جاهلين بالاسواق، ولحاجة الناس إلى ما قدموا به.

ومستثقلي

المقام فيكون أدنى إلى ما يبيع الناس من سلعهم، ولا بالاسواق فيرخصوها لهم، فنهوا - والله أعلم - لئلا يكون سببا لقطع ما يرجى من رزق المشترى من أهل

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 21)

________________________________________

البادية لما وصفت من إرخاصه منهم.

فأى حاضر باع لباد فهو عاص إذا علم الحديث، والبيع لازم غير مفسوخ بدلالة الحديث نفسه، لان البيع لو كان مفسوخا لم يكن في بيع الحاضر للبادى إلا الضرر على البادى من أن يحبس سلعته ولا يجوز فيها بيع غيره حتى يلى هو أو باد مثله بيعها، فيكون كسدا لها، وأحرى أن يرزق مشتريه منه بإرخاصه إياها بإكسادها بالامر الاول من رد البيع وغرة البادى الآخر، فلم يكن ههنا معنى يمنع أن يرزق بعض الناس من بعض فلم يجز فيه - والله أعلم - إلا ما قلت من ان بيع الحاضر للبادى جائز غير مردود، والحاضر منهى عنه.

اه والشوكانى يرى أن أحاديث الفصل تدل على أنه لا يجوز للحاضر أن يبيع للبادى من غير فرق بين أن يكون البادى قريبا له أو أجنبيا، وسواء كان في زمن الغلاء أو لا، وسواء كان يحتاج إليه أهل البلد أم لا، وسواء باعه له على التدريج أم دفعة واحدة.

وقالت الحنفية: انه يختص المنع من ذلك بزمن الغلاء وبما يحتاج إليه أهل المصر.

وقالت الشافعية ووافقهم الحنابلة أن الممنوع إنما هو أن يجئ البلد بسلعة يريد بيعها بسعر الوقت في الحال فيأتيه الحاضر فيقول: ضعه عندي لابيعه لك على التدريح بأغلى من هذا السعر.

وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري " فجعلوا الحكم منوطا بالبادى ومن شاركه في معناه قالوا وانما ذكر البادى في الحديث لكونه الغالب فألحق به من شاركه في عدم معرفة السعر من الحاضرين، وجعلت المالكية البداوة قيدا.

وعن مالك لا يلتحق بالبدوى في ذلك الا من كان يشبهه، فأما أهل القرى الذين يعرفون أثمان السلع والاسواق فليسوا داخلين في ذلك.

وحكى ابن المنذر عن الجمهور أن النهى للتحريم إذا كان البائع عالما، والمبتاع مما تعم الحاجة إليه، ولم يعرضه البدوى على الحضرى، ولا يخفى أن تخصيص العموم بمثل هذه الامور من التخصيص بمجرد الاستنباط.

وقد ذكر ابن دقيق العبد فيه تفصيلا حاصله أنه يجوز التخصيص به حيث يظهر المعنى لا حيث يكون خفيا على أن الشوكاني رحمه الله من مجتهدي الهادوية يتردد في قبول هذه القاعدة

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 22)

________________________________________

التى أخذ بها الجمهور فيقول: فاتباع اللفظ أولى ولكنه - أي الاستنباط - لا يطمئن الخاطر إلى التخصيص به مطلقا، ثم يقول: فالبقاء على ظواهر النصوص الاولى فيكون بيع الحاضر للبادى محرما على العموم، وسواء كان بأجرة أم لا.

وروى عن البخاري أنه حمل النهى على البيع بأجرة لا بغير أجرة، فإنه من باب النصيحة.

وروى عن عطاء ومجاهد وأبى حنيفة أنه يجوز بيع الحاضر للبادى مطلقا، وتمسكوا بأحاديث النصيحة.

وروى مثل ذلك عن الهادى وقالوا: إن أحاديث الباب منسوخة.

واستظهروا على الجواز بالقياس عن توكيل البادى للحاضر فإنه جائز، وردد الشوكاني رفضه لهذا الجواز بقوله ويجاب عن تمسكهم بأحاديث النصيحة بأنها عامة مخصصة بأحاديث ثم قال: فإن قيل إن أحاديث النصيحة وأحاديث الباب بينها عموم وخصوص من وجه، لان بيع الحاضر للبادى قد يكون على غير وجه النصيحة، فيحتاج حينئذ إلى الترجيح من خارج كما هو شأن الترجيح بين العمومين المتعارضين، فيقال المراد بيع الحاضر للبادى - الذى جعلناه أخص مطلقا - هو البيع الشرعي بيع المسلم للمسلم الذى بينه الشارع للامة، وليس بيع الغش والخداع داخلا في مسمى هذا البيع الشرعي، كما أنه لا يدخل فيه بيع الربا وغيره مما لا يحل شرعا، فلا يكون البيع باعتبار ما ليس بيعا شرعيا أعم من وجه حتى يحتاج إلى طلب مرجح بين العمومين، لان ذلك ليس هو البيع الشرعي ويجاب عن دعوى النسخ بأنها انما تصح عند العلم بتأخر الناسخ، ولم ينقل ذلك، ويرفض الشوكاني القياس لانه فاسد الاعتبار لمصادمته النص، ثم يجعل حكم البيع حكم الشراء مستندا إلى ما أخرجه أبو عوانة في صحيحه عن ابن سيرين قال: لقيت أنس بن مالك فقلت لا يبع حاضر لباد، أنهيتم أن تبيعوا أو تبتاعوا لهم؟ قال نعم، قال محمد " صدق " انها كلمة جامعة على أن الشافعي رضى الله عنه في تصحيحه للبيع مع الاثم يستدل بالحديث نفسه ولا يستدل بقياس أو قرينة فيقول، فأى حاضر باع لباد فهو عاص إذا علم الحديث، والبيع لازم غير مفسوخ بدلالة الحديث نفسه.

لان البيع لو كان يكون

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 23)

________________________________________

مفسوخا لم يكن في بيع الحاضر للبادى الا الضرر على البادى من أن يحبس سلعته إلى آخر ما أورد في الام، وسبق نقله

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

ويحرم تلقى الركبان، وهو أن يتلقى القافلة ويخبرهم بكساد ما معهم من المتاع ليغبنهم، لما روى ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ تتلقى السلع حتى يهبط بها الاسواق، ولان هذا تدليس وغرر فلم يحل، فإن خالف واشترى صح البيع لما ذكرناه في النجش، فإن دخلوا البلد فبان لهم الغبن كان لهم الخيار لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لا تلقوا الجلب، فمن تلقاها واشترى منهم فصاحبه بالخيار إذا أتى السوق " ولانه غرهم ودلس عليهم فثبت لهم الخيار كما لو دلس عليهم بعيب.

وان بان لهم أنه لم يغبنهم ففيه وجهان " أحدهما " أن لهم الخيار للخبر " والثانى " لا خيار لهم لانه ما غر ولا دلس، وان خرج إلى خارج البلد لحاجة غير التلقى فرأى القافلة فهل يجوز أن يبتاع منهم؟ فيه وجهان " أحدهما " يجوز، لانه لم يقصد التلقى " والثانى " لا يجوز، لان المنع من التلقى للبيع، وهذا المعنى موجود وان لم يقصد التلقى فلم يجز (الشرح) أما فصل تحريم تلقى الركبان فان حديث ابن عمر رواه الشيخان وروياه أيضا من طريق عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بلفظ " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن تلقى البيوع " ورواه الجماعة الا الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بلفظ " نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يتلقى الجلب، فان تلقاه انسان فابتاعه فصاحب السلعة فيها بالخيار إذا ورد السوق " وقد ذكره الشافعي في الام بسنده.

أما لغات الفصل فقوله " بكساد " من باب قتل كسادا لم ينفق لقلة الرغبات، فهو كاسد وكسيد، ويتعدى بالهمزة فيقال أكسده الله، وكسدت السوق فهى كاسد بغير هاء في الصحاح، وبالهاء في التهذيب، ويقال أصل الكساد الفساد.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 24)

________________________________________

قوله " الجلب " بفتح اللام مصدر بمعنى اسم المفعول المجلوب، يقال جلب الشئ جاء به من بلد إلى بلد للتجارة.

قوله " الركبان " جمع راكب، والمراد قافلة التجارة التى تجلب الارزاق والبضائع.

وذكر الركبان خرج مخرج الغالب في أن من يجلب الطعام يكونون عددا ركبانا، ولا مفهوم له، بل لو كان الجالب عددا مشاة أو واحدا، راكبا أو ماشيا لم يختلف الحكم.

أما الاحكام ففى هذه الاحاديث دليل على أن التلقى محرم، وقد اختلف في هذا النهى هل يقتضى الفساد أم لا؟ فقيل يقتضى الفساد وقيل لا، وهو الظاهر وقد عقب الشيخ مجد الدين أبو البركات ابن تيمية (الجد) في كتابه المنتقى على حديث أبى هريرة بقوله: وفيه دليل على صحة البيع قال الشوكاني رحمه الله تعالى: لان النهى ههنا لامر خارج، وهو لا يقتضيه كما تقرر في الاصول، وقد قال بالفساد المرادف للبطلان بعض المالكية وبعض الحنابلة، وقال بعضهم بعدم الفساد لما سلف.

قال الشافعي في الام: وقد سمعت في هذا الحديث - يعنى حديث أبى هريرة بعد أن ساقه أخبرنا مالك عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال لا تلقوا السلع - فمن تلقى فصاحب السلعة بالخيار بعد أن يقدم السوق، وبهذا نأخذ إن كان ثابتا.

ففى هذا دليل على أن الرجل إذا تلقى السلعة فاشتراها فالبيع جائز، غير أن لصاحب السلعة بعد أن يقدم السوق الخيار لان تلقيها حين يشترى من البدوى قبل أن يصير إلى موضع المساومين من الغرر له يوجد النقص من الثمن، فإذا قدم صاحب السلعة فهو بالخيار بين انفاذ البيع ورده ولا خيار للمتلقى لانه هو الغار لا المغرور.

اه قال العلامة ابن القيم في كتابه الطرق الحكمية في السياسة الشرعية " ومن المنكرات تلقى السلع قبل أن تجئ إلى السوق، فان النبي صلى عليه وسلم نهى عن ذلك لما فيه من تغرير البائع، فانه لا يعرف السعر فيشترى منه المشترى بدون القيمة، ولذلك أثبت لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخِيَارَ إذا دخل السوق، ولا نزاع في ثبوت الخيار له مع الغبن.

وأما ثبوته بلا غبن ففيه عن أحمد روايتان

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 25)

________________________________________

(إحداهما) يثبت وهو قول الشافعي لظاهر الحديث (والثانية) لا يثبت

لعدم الغبن، ولذلك ثبت الخيار للمشترى المسترسل إذا غبن، وفى الحديث " غبن المسترسل ربا " وفى تفسيره قولان

(أحدهما)

أنه الذى لا يعرف قيمة السلعة

(والثانى)

وهو المنصوص عن أحمد أنه الذى لا يماكس، بل يسترسل إلى البائع ويقول: أعطني هذا.

وليس لاهل السوق أن يبيعوا المماكس بسعر ويبيعوا المسترسل بغيره.

وهذا مما يجب على والى الحسبة إنكاره، وهذا بمنزلة تلقى السلع، فان القادم جاهل بالسعر.

ثم قال ابن القيم: ومن هذا تلقى سوقة الحجيج الجلب من الطريق، وسبقهم إلى المنازل يشترون الطعام والعلف ثم يبيعونه كما يريدون فيمنعهم والى الحسبة من التقدم لذلك حتى يقدم الركب، لما في ذلك من مصلحة الركب ومصلحة الجالب، ومتى اشتروا شيئا من ذلك منعهم من بيعه بالغبن الفاحش ومن ذلك نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَنْ يبيع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض " قيل لابن عباس: ما معنى قوله " لا يبيع حاضر لباد؟ " قال " لا يكون له سمسارا ".

وهذا النهى لما فيه من ضرر المشترى فان المقيم إذا وكله القادم في بيع سلعة يحتاج الناس إليها، والقادم لا يعرف السعر أضر ذلك بالمشترى كما أن النهى عن تلقى الجلب لما فيه من الاضرار بالبائعين، اه (قلت) وقد ذهب إلى الاخذ بظاهر الحديث الجمهور فقالوا: لا يجوز تلقى الركبان، واختلفوا هل هو محرم أو مكروه فقط.

وحكى ابن المنذر عن أبى حنيفة أنه أجاز التلقى وتعقبه الحافظ ابن حجر بأن الذى في كتب الحنفية أنه يكره التلقى في حالتين (الاولى) أن يضر بأهل البلد (والثانية) أن يلبس السعر على الواردين.

والتنصيص على الركبان في بعض الروايات خرج مخرج الغالب، وحكم الماشي حكم الراكب من غير فرق.

دليلنا حديث أبى هريرة المذكور فان فيه النهى

عن تلقى الجلب من غير فرق.

وكذلك حديث ابن مسعود المذكور، فان فيه النهى عن تلقى البيوع.

وقد أوضحنا في الخيار قول ابن القيم، ونزيدك إيضاحا بما قاله الشوكاني.

قال:

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 26)

________________________________________

اختلفوا هل يثبت له الخيار مطلقا أو بشرط أن يقع له في البيع غبن، ذهبت الحنابلة إلى الاول وهو الاصح عند الشافعية هو الظاهر، وظاهره أن النهى لاجل صنعة البائع، وإزالة الضرر عنه، وصيانته ممن يخدعه.

قال ابن المنذر: وحمله مالك على نفع أهل السوق لا على نفع رب السلعة، وإلى ذلك جنح الكوفيون والاوزاعي، قال: والحديث حجة للشافعي لانه أثبت الخيار للبائع لا لاهل السوق اه.

وقد احتج مالك ومن معه بما وقع في رواية من النهى عن تلقى السلع حتى تهبط الاسواق، وهذا لا يكون دليلا لمدعاهم لانه يمكن أن يكون ذلك رعاية لمنفعة البائع، لانها إذا هبطت الاسواق عرف مقدار السعر فلا يخدع ولا مانع من أن يقال: العلة في النهى مراعاة نفع البائع، ونفع أهل السوق.

واعلم أنه لا يجوز تلقيهم للبيع منهم، كما لا يجوز للشراء منهم لان العلة التى هي مراعاة نفع الجالب أو أهل السوق أو الجميع حاصلة في ذلك، ويدل على ذلك ما رواه البخاري بلفظ " لا يبع " فإنه يتناول البيع لهم والبيع منهم، وظاهر النهى المذكور في الباب عدم الفرق بين أن يبتدئ المتلقى الجالب بطلب الشراء أو البيع أو العكس، وشرط بعض الشافعية في النهى أن يكون المتلقى الجالب بطلب الشراء أو البيع أو العكس، وشرط بعض الشافعية في النهى أن يكون المتلقى هو الطالب، وبعضهم اشترط أن يكون المتلقى قاصدا لذلك، فلو خرج للسلام على الجالب أو للفرجة أو لحاجة أخرى، فوجدهم فبايعهم لم يتناوله النهى

ومن نظر إلى المعنى لم يفرق، وهو الاصح عهد الشافعي، وشرط امام الحرمين في النهى أن يكذب المتلقى في سعر البلد ويشترى منهم بأقل من ثمن المثل.

وشرط المتولي من الاصحاب (١) أن يخبرهم بكثرة المئونة عليهم في الدخول، وشرط المصنف رحمه الله تعالى أن يخبرهم بكساد ما معهم.

قال الشوكاني: والكل من هذه الشروط لا دليل عليه، والظاهر من النهى أيضا أنه يتناول المسألة القصيرة والطويلة، وهو ظاهر إطلاق الاصحاب.

________________________________________

(١) إذا قلت: الاصحاب أو اصحابنا في عزو الاقوال قصدت الائمة من فقهاء المذهب.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 27)

________________________________________

وقال بعض المالكية: ميل، وقال بعضهم أيضا: فرسخان، وقال بعضهم يومان، وقال بعضهم: مسافة قصر، وبه قال الثوري، وأما ابتداء التلقى فقيل الخروج من السوق، وإن كان في البلد، وقيل الخروج من البلد وهو قول أصحابنا، وبالاول قال أحمد وإسحاق والليث والمالكية.

وقول المصنف رحمه الله تعالى " ولان هذا تدليس وغرر " قلت: التدليس كنم البائع عيب السلعة من المشترى وإخفائه ويقال أيضا: دلس دلسا من باب ضرب والتشديد أشهر في الاستعمال، قال الازهرى: سمعت أعرابيا يقول: ليس لى في الامر ولس ولا دلس: أي لا خيانة ولا خديعة، والدلسة بالضم الخديعة أيضا، وقال ابن فارس وأصله من الدلس وهو الظلمة.

أما التدليس عند المحدثين فهو إما تدليس في الاسناد وهو بأن يروى عن معاصر ما لم يحدثه به ويأتى بلفظ يوهم إتصالا كعن، وأن وقال فإذا قال الراوى عن فلان فإن كان يروى ذلك عن شخص لم يعاصره أو عاصره وثبت أنه لم يلاقه جزمنا بأن روايته منقطعة، وإن كان معاصرا له - ولم نعلم ان كان لقيه أو لا،

أو علمنا أنه لقيه ولكن كان الراوى مدلسا توقفنا في روايته ولم نحكم لها بالاتصال الا إذا ثبت اللقاء والتحديث.

وأما تدليس الاشياخ أن يسمى شيخه أو شيخ شيخه باسم أو كنية أو لقب غير ما اشتهر به وعرف وذلك لستر ضعفه وفى ذلك تفصيل عند المحدثين.

أما الغرر فهو في اللغة الخطر، وغرته الدنيا غرورا أي خدعته فهى غرور مثل رسول اسم فاعل مبالغة، وفى اصطلاح الفقهاء كل بيع يحتمل فيه غبن المبتاع لحديث أبى هريرة الذى رواه الجماعة الا البخاري " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر " وحديث ابن مسعود عند أحمد وفى روايته يزيد بن أبى زياد عن المسيب بن رافع، وقال البيهقى.

فيه ارسال بين المسيب وعبد الله والصحيح وقفه على ابن مسعود كما قال ذلك الدارقطني في العلل والخطيب وابن الجوزى ولفظه " لا تشتروا السمك في الماء فإنه غرر " وقد روى أبو بكر بن أبى عاصم عن عمران بن حصين حديثا مرفوعا وفيه النهى عن بيع السمك في الماء وهو شاهد لهذا.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 28)

________________________________________

وقد مر في أول البيوع من شرح المهذب تفسير وتفصيل بيع الحصاة، وهو أَنْ يَقُولَ بِعْتُكَ مِنْ هَذِهِ الْأَثْوَابِ مَا وقعت عليه هذه الحصاة ويرمى الحصاة أو في الارض ما انتهت إليه الحصاة.

والغرر ثبت النهى عنه في أحاديث منها المذكور عن أبى هريرة وابن مسعود ومنها عن ابن عمر عند أحمد وابن حبان، ومنها عن ابن عباس عند ابن ماجه، ومنها عن سهل بن سعد عند الطبراني، ومن جملة بيع الغرر بيع السمك في الماء، وبيع الطير في الهواء، وبيع المعدوم، وبيع المجهول، وبيع الغائب، وبيع الآبق وكل ما دخل فيه الغرر بوجه من الوجوه.

قال النووي النهى عن بيع الغرر أصل من أصول الشرع يدخل تحته مسائل كثيرة جدا، ويستثنى من بيع الغرر أمران.

أحدهما ما يدخل في المبيع تبعا بحيث لو أفرد لم يصح بيعه، والثانى ما يتسامح بمثله، اما لحقارته، أو للمشقة في تمييزه ومن جملة ما يدخل تحت هذين الامرين بيع أساس البناء واللبن في ضرع الدابة والحمل في بطنها والقطن المحشو في الجبة اه.

(قلت) ومن جملة الغرر بيع حبل الحبلة فقد نَهَى عَنْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أخرجه أحمد ومسلم والترمذي من حديث ابن عمر، وفى رواية عند أبى داود لفظها أكثر تفصيلا منهم حيث فيها " نهى عن بيع حبل الحبلة، وحبل الحبلة أن تنتج الناقة ما في بطنها ثم تحمل التى نتجت " وعند الشيخين رواية أكثر تفصيلا من أبى داود لفظها " كان أهل الجاهلية يبتاعون لحوم الجزور إلى حبل الحبلة، وحبل الحبلة أن تنتج الناقة ما في بطنها ثم يحمل التى نتجت فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن ذلك.

والاحاديث المذكورة تقضى ببطلان البيع لان النهى يستلزم ذلك كما تقرر في الاصول.

قال شيخ الاسلام ابن تيمية الحفيد: ومن القواعد التى أدخلها قوم من العلماء في الغرر المنهى عنه أنواع من الايجارات والمشاركات، كالمساقاة والمزارعة ونحو ذلك.

فذهب قوم من الفقهاء إلى أن المساقاة والمزارعة حرام باطل، بناء على أنها نوع من الاجارة، لانها عمل بعوض، والاجارة لابد أن يكون فيها الاجر معلوما لانها كالثمر.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 29)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

ولا يحل للسلطان التسعير، لِمَا رَوَى أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ: غلا السعر عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فقال الناس: يا رسول الله سعر

لنا، فقال عليه السلام: إن الله هو القابض والباسط والرازق والمسعر، وإنى لارجو أن ألقى الله وليس أحد يطالبني بمظلمة في نفس ولا مال (الشرح) أما فصل تحريم التسعير على السلطان فإن حديث أنس رواه أبو داود والترمذي وصححه.

أما لغات الفصل فإن التسعير جعل سعر معلوم ينتهى إليه ثمن الشئ وأسعرته بالالف لغة، ويقال له سعر إذا زادت قيمته، وليس له سعر إذا أفرط رخصه والجمع أسعار مثل حمل وأحمال.

أما أحكام الفصل فقد قال العلامة ابن القيم في كتابه الطرق الحكمية: وأما التسعير فمنه ما هو ظلم محرم، ومنه ما هو عدل جائز فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه، أو منعهم مما أباح الله لهم فهو حرام، وإذا تضمن العدل بين الناس مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ الزيادة على عوض المثل، فهو جائز، بل واجب فأما القسم الاول فمثل رواية أنس (التى ساقها المصنف) فإذا كان الناس يبيعون سلعهم على الوجه المعروف من غير ظلم منهم.

وقد ارتفع السعر - إما لقلة الشئ - وإما لكثرة الخلق - فهذا إلى الله، فإلزام الناس أن يبيعوا بقيمة بعينها، إكراه بغير حق وأما الثاني فمثل أن يمتنع أرباب السلع من بيعها مع ضرورة الناس إليها إلا بزيادة على القيمة المعروفة، فهنا يجب عليهم بيعها بقيمة المثل، ولا معنى للتسعير إلا إلزامهم بقيمة المثل، فالتسعير ههنا إلزام بالعدل الذى ألزمهم الله به.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 30)

________________________________________

قال ابن القيم رحمه الله تعالى:

ومن ذلك أن يلزم ألا يبيع الطعام أو غيره من الاصناف إلا ناس معروفون فلا تباع تلك السلع إلا لهم، ثم يبيعونها هم بما يريدون، فلو باع غيرهم ذلك منع وعوقب: فهذا من البغى في الارض والفساد، والظلم الذى يحبس به قطر السماء وهؤلاء يجب التسعير عليهم، وألا يبيعوا إلا بقيمة المثل ولا يشتروا إلا بقيمة المثل بلا تردد في ذلك عند أحد من العلماء، لانه إذا منع غيرهم أن يبيع ذلك النوع أو يشتريه، فلو سوغ لهم أن يبيعوا بما شاءوا أو يشتروا بما شاءوا، كان ذلك ظلما للناس، ظلما للبائعين، الذين يريدون بيع تلك السلع: وظلما للمشترين منهم.

فالتسعير في مثل هذا واجب بلا نزاع، وحقيقته الزامهم بالعدل ومنعهم من الظلم، وهذا كما أنه لا يجوز الاكراه على البيع تغير حق، فيجوز أو يجب الاكراه عليه بحق، مثل بيع المال لقضاء الدين الواجب، والنفقة الواجبة، ومثل البيع للمضطر إلى طعام أو لباس.

ومثل الغراس والبناء الذى في ملك الغير فان لرب الارض أن يأخذه بقيمة المثل، ومثل الاخذ بالشفعة، فان للشفيع أن يمتلك الشقص بثمنه قهرا.

وكذلك السراية في العتق، فانها تخرج الشقص من ملك الشريك قهرا، وتوجب على المعتق المعاوضة عليها قهرا.

وكل من وجب عليه شئ من الطعام واللباس والرقيق والمركوب - بحج أو كفارة أو نفقة - فمتى وجده بثمن المثل وجب عليه شراؤه.

وأجبر على ذلك، ولم يكن له أن يمتنع حتى يبذل له مجانا، أو بدون ثمن المثل.

ثم عقد ابن القيم فصلا آخر قال: ومن ههنا منع غير واحد من العلماء كأبى حنيفة وأصحابه القسامين الذين يقسمون العقار وغيره بالاجرة أن يشتركوا، فانهم إذا اشتركوا، والناس يحتاجون إليهم، أغلوا عليهم الاجرة، ثم قال: (قلت) وكذلك ينبغى لوالى الحسبة أن يمنع مغسلي الموتى والحمالين لهم من

الاشتراك، لما في ذلك من إغلاء الاجرة عليهم، وكذلك اشتراك كل طائفة يحتاج الناس إلى منافعهم، كالشهود والدلالين وغيرهم، على أن في شركة الشهود مبطلا

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 31)

________________________________________

آخر، فإن عمل كل واحد منهم متميز عن عمل الآخر، لا يمكن الاشتراك فيه، فان الكتابة متميزة والتحمل متميز والاداء متميز، لا يقع في ذلك اشتراك ولا تعاون، فبأى وجه يستحق أحدهما أجرة عمل صاحبه؟ وهذا بخلاف الاشتراك في سائر الصنائع فانه يمكن أحد الشريكين أن يعمل بعض العمل والآخر بعضه، ولهذا إذا اختلفت الصنائع لم تصح الشركة على أحد الوجهين، لتعذر اشتراكهما في العمل، ومن صححها نظر إلى أنهما يشتركان فيما تتم به صناعة كل واحد منهما من الحفظ والنظر إذا خرج لحاجة، فيقع الاشتراك فيما يتم به عمل كل واحد منهما، وإن لم يقع في عين العمل.

وأما شركة الدالالين ففيها أمر آخر، وهو أن الدلال وكيل صاحب السلعة في بيعه، فإذا شارك غيره في بيعها كان توكيلا له فيما وكل فيه، فان قلنا ليس للوكيل أن يوكل، لم تصح الشركة، وان قلنا له أن يوكل صحت.

فعلى والى الحسبة أن يعرف هذه الامور ويراعيها، ويراعى مصالح الناس، وهيهات وهيهات، ذهب ما هنالك.

والمقصود أنه إذا منع القسامون ونحوهم من الشركة: لما فيها من التواطؤ على إغلاء الاجرة، فمنع البائعين الذين تواطئوا على ألا يبيعوا إلا بثمن مقدر أولى وأحرى.

وكذلك يمنع والى الحسبة المشترين من الاشتراك في شئ لا يشتريه غيرهم، لما في ذلك من ظلم البائع.

وأيضا فإذا كانت الطائفة التى تشترى نوعا من السلع أو تبيعها، قد تواطأوا على أن يهضموا ما يشترونه، يشتروه بدون ثمن المثل، ويبيعوا ما يبيعونه

بأكثر من ثمن المثل، ويقتسموا ما يشتركون فيه من الزيادة.

كان إقرارهم على ذلك معاونة لهم على الظلم والعدوان، وقد قال تعالى " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان " ثم قال ابن القيم رضى الله عنه: ولا ريب أن هذا أعظم إثما وعدوانا من تلقى السلع، وبيع الحاضر للبادى، ومن النجش ثم عقد ابن القيم فصلا لتسعير الاجور خلص منه إلى أن الناس يحتاجون

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 32)

________________________________________

إلى صناعة طائفة متخصصة، كالفلاحة والنساجة والبناء وغير ذلك، فلولى الامر أن يلزمهم بذلك بأجرة مثلهم، فإنه لا تتم مصلحة الناس إلا بذلك.

والمقصود أن هذه الاعمال متى لم يقم بها إلا شخص واحد صارت فرضا معينا عليه، فإذا كان الناس محتاجين إلى فلاحة قوم أو نساجتهم أو بنائهم، صارت هذه الاعمال مستحقة عليهم، يجبرهم ولى الامر عليها بعوض لمثل، ولا يمكنهم من مطالبة الناس بزيادة عن عوض المثل، ولا يمكن الناس من ظلهم بأن يعطوهم دون حقهم، كما إذا احتاج الجند المرصدون للجهاد إلى فلاحة أرضهم.

وألزم من صناعته الفلاحة أن يقوم بها، ألز؟ الجند بأن لا يظلموا الفلاح.

كما يلزم الفلاح بأن يفلح.

ولو اعتمد الجند والامراء مع الفلاحين ما شرعه الله ورسوله وجاءت به السنة وفعله الخلفاء الراشدون، لاكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولفتح الله عليهم بركات من السماء والارض، وكان الذى يحصل لهم من المغل أضعاف ما يحصلونه بالظلم والعدوان، ولكن يأبى جهلهم وظلمهم الا أن يرتكبوا الظلم والاثم، فيمنعوا البركة وسعة الرزق، فيجتمع لهم عقوبة الآخرة ونزع البركة في الدنيا (فإن قيل) وما الذى شرعه الله ورسوله، وفعله الصحابة، حتى يفعله من وفقه الله؟

قيل المزارعة العادلة التى يكون فيها المقطع والفلاح على حد سواء من العدل لا يختص أحدهما عن الآخر بشئ من هذه الرسوم التى ما أنزل الله بها من سلطان (١) وهى التى خربت البلاد، وأفسدت العباد، ومنعت الغيث وأزالت البركات، وعرضت أكثر الجند والامراء لاكل الحرام.

وإذا نبت الجسد على الحرام فالنار أولى به.

________________________________________

(١) يصف الفقيه ابن القيم حال البلاد الشامية والمصرية على عهد أمراء المماليك حين يسخرون الفلاحين في خدمة الارض ويستغل المقطعون أو ذووا الاقطاعات جهود الفلاحين أسوأ استغلال، تمنص الارض عرقهم، ويأكلون هم وطبقتهم ثمرات هذا العرق، حتى ألهم الله ابن القيم أن يلهب ظهورهم بسوط الشرع كما ألهبوا ظهور الفلاحين بسياط الجيروت، فمرحى لابن القيم مرحى؟ " المطيعى "

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 33)

________________________________________

ومضى ابن القيم في هذا الاستطراد من أمور المساقاة والمزارعة والجعالة ما ندعه لسوقه في موطنه، لانه يقول: وهذه المسألة ذكرت استطرادا، والا فالمقصود أن الناس إذا احتاجوا إلى أرباب الصناعات - كالفلاحين وغيرهم - اجبروا على ذلك بأجرة المثل، وهذا من التسعير الواجب، فهذا تسعير في الاعمال.

وأما التسعير في الاموال، فإذا احتاج الناس إلى سلاح للجهاد وآلات فعلى أربابه أن يبيعوه بعوض المثل ولا يمكنوا من حبسه الا بما يريدونه من الثمن، والله تعالى قد أوجب الجهاد بالنفس والمال، فكيف لا يجب على أرباب السلاح بذله بقيمته؟ ومن أوجب على العاجز ببدنه أن يخرج من ماله ما يحج به الغير عنه ولم يوجب على المستطيع بماله أن يخرج ما يجاهد به الغير فقوله ظاهر التناقض.

وهذا أحد الروايتين عن أحمد وهو الصواب

ثم قال الفقيه العلامة مستطردا

(فصل)

وانما لم يقع التسعير فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة لانهم لم يكن عندهم من يطحن ويخبز بكراء، ولا من يبيع طحينا وخبزا، بل كانوا يشترون الحب ويطحنونه ويخبزونه في بيوتهم، وكان من قدم بالحب لا يتلقاه أحد، بل يشتريه الناس من الجالبين، ولهذا جاء الحديث " الجالب مرزوق والمحتكر ملعون " وكذلك لم يكن في المدينة حائك، بل كان يقدم عليهم بالثياب من الشام واليمن وغيرهما فيشترونها ويلبسونها.

ثم قال (فصل في التسعير) وقد تنازع العلماء في التسعير في مسألتين (احداهما) إذا كان للناس سعر غالب فأراد بعضهم أن يبيع بأغلى من ذلك فإنه يمنع من ذلك عند مالك، وهل يمنع من النقصان؟ على قولين واحتج مالك رحمه الله بما رواه في موطئه عن يونس بن نسيف عن سعيد بن المسيب " أن عمر بن الخطاب مر بحاطب بن أبى بلتعة وهو يبيع زبيبا له بالسوق.

فقال له عمر " اما أن تزيد في السعر واما أن ترفع من سوقنا "

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 34)

________________________________________

قال مالك: لو أن رجلا أراد فساد السوق فحط عن سعر الناس، لرأيت أن يقال له: إما لحقت بسعر الناس وإما رفعت، وأما أن يقول للناس كلهم: لا تبيعوا إلا بسعر كذا فليس ذلك بالصواب، وذكر حديث عمر بن عبد العزيز في أهل الابلة، حين حط سعرهم لمنع البحر، فكتب: " خل بينهم وبين ذلك، فإنما السعر بيد الله ".

قال ابن رشد في كتاب البيان: أما الجلابون فلا خلاف في أنه لا يسعر عليهم شئ مما جلبوه، وإنما يقال

لمن شذ منهم فباع بأغلى مما يبيع به العامة: اما أن تبيع بما تبيع به العامة، واما أن ترفع من السوق كما فعل عمر بن الخطاب بحاطب بن أبى بلعة، إذ مر به وهو يبيع زبيبا له في السوق فقال له " اما أن تزيد في السعر واما أن ترفع من سوقنا " لانه كان يبيع بالدرهم الواحد أقل مما كان يبيع به أهل السوق.

وأما أهل الحوانيت والاسواق الذين يشترون ممن الجلابين وغيرهم جملة، ويبيعون ذلك على أيديهم مقطعا مثل اللحم.

والادم، والفواكه، فقيل: انهم كالجلابين، لا يسعر لهم شئ من بياعانهم، وانما يقال لمن شذ منهم وخرج عن الجمهور: اما أن تبيع كما يبيع الناس واما أن ترفع من السوق، وهو قول مالك في هذه الرواية.

وممن روى عنه ذلك من السلف عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ.

وسالم ابن عبد الله قيل انهم في هذا بخلاف الجالبين، لا يتركون على البيع باختيارهم إذا أغلوا على الناس، ولم يقتنعوا من الربح بما يشبه.

وعلى صاحب السوق الموكل بمصلحته أن يعرف ما يشترون به، فيجعل لهم من الربح ما يشبه، وينهاهم أن يزيدوا على ذلك.

ويتفقد السوق (١) أبدا، فيمنعهم

________________________________________

(١) في كلام ابن رشد هنا ما يرسم صورة صادقه لما يقوم به مفتشو وزارة التموين في القضاء على السوق السوداء واختزان السلع وحجبها عن محتاجها لاغلاء سعرها واحتكارها وهى ظاهرة يظنون أنها حضارية عصرية وهم في الحقيقة لم يبلغوا شاو الاسلام في رسم أسباب العدل والرحمة ويا حبذا لو أخذ الناس في طرائق العيش اخذ أسلافهم لانعدم الجشع الاشعبى بين التجار.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 35)

________________________________________

من الزيادة على الربح الذى جعل لهم فمن خالف أمره عاقبه وأخرجه من السوق وهذا قول مالك في رواية أشهب، واليه ذهب ابن حبيب.

وقال به ابن المسيب

ويحيى بن سعيد، والليث وربيعة، ولا يجوز عند أحد من العلماء أن يقول لهم لا تبيعوا الا بكذا وكذا، ربحتم أو خسرتم، من غير أن ينظر إلى ما يشترون به ولا أن يقول لهم فيما قد اشتروه لا تبيعوه الا بكذا وكذا، مما هو مثل الثمن أو أقل.

وإذا ضرب لهم الربح على قدر ما يشترون، لم يتركهم أن يغلوا في الشراء وان لم يزيدوا في الربح على القدر الذى حدد لهم، فإنهم قد يتساهلون في الشراء إذا علموا أن الربح لا يفوتهم.

وأما الشافعي فإنه عارض ذلك بما رواه عن الدراوردى عن داود بن صالح التمار عن القاسم بن محمد عن عمر رضى الله عنه " أنه مر بحاطب بن أبى بلتعة بسوق المصلى، وبين يديه غرارتان فيهما زبيب، فسأله عن سعرهما، فقال له: مدين لكل درهم، فقال له عمر: قد حدثت بعير جاءت من الطائف تحمل زبيبا، وهم يغترون بسعرك، فإما أن ترفع في السعر واما أن تدخل زبيبك البيت، فتبيعه كيف شئت، فلما رجع عمر حاسب نفسه، ثم أتى حاطبا في داره فقال: ان الذى قلت لك ليس عزمة منى، ولا قضاء انما هو شئ أردت به الخير لاهل البلد فحيث شئت فبع وكيف شئت فبع ".

قال الشافعي: وهذا الحديث مستقصى وليس بخلاف لما رواه مالك.

ولكنه روى بعض الحديث أو رواه عنه من رواه.

وهذا أتى بأول الحديث وآخره وبه أقول.

لان الناس مسلطون على أموالهم.

ليس لاحد أن يأخذها أو شيئا منها بغير طيب أنفسهم الا في المواضع التى تلزمهم.

وهذا ليس منها.

وعلى قول مالك فقال أبو الوليد الباجى: الذى يؤمر به من حط عنه أن يلحق به.

هو السعر الذى عليه جمهور الناس.

فإذا انفرد منهم الواحد والعدد اليسير بحط السعر أمر باللحاق بسعر الناس أو ترك البيع فان زاد في السعر واحد أو عدد يسير.

لم يؤمروا باللحاق بسعره.

لان المراعى حال الجمهور.

وبه تقوم

المبيعات.

وهل يقام من زاد في السوق - أي في قدر المبيع بالدراهم - كما يقام من نقص منه؟

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 36)

________________________________________

قال ابن القصار من المالكية: اختلف أصحابنا في قول مالك " ولكن من حط سعرا " فقال البغداديون: أراد من باع خمسة بدرهم والناس يبيعون ثمانية، وقال قوم من البصريين: أراد من باع ثمانية، والناس يبيعون خمسة فيفسد على أهل السوق بيعهم، وربما أدى إلى الشغف والخصومة.

قال: وعندي أن الامرين جميعا ممنوعان، لان من باع ثمانية - والناس يبيعون خمسة - أفسد على أهل السوق بيعهم، وربما أدى إلى الشغب والخصومة فمنع الجميع مصلحة.

قال أبو الوليد الباجى: ولا خلاف أن ذلك حكم أهل السوق.

وأما الجالب، ففى كتاب محمد - يعنى ابن الحسن - لا يمنع الجالب أن يبيع في السوق دون بيع الناس.

وقال ابن حبيب: ما عدا القمح والشعير يسعر الناس وإلا رفعوا، وأما جالب القمح والشعير، فيبيع كيف شاء، الا أن لهم في أنفسهم حكم أهل السوق، ان أرخص بعضهم تركوا، وان أرخص أكثرهم، قيل لمن بقى اما أن تبيع كبيعهم، واما أن ترفعوا.

قال ابن حبيب: وهذا في المكيل والموزون، مأكولا كان أو غيره، دون مالا يكال ولا يوزن، لانه لا يمكن تسعيره، لعدم التماثل فيه.

قال أبو الوليد: هذا إذا كان المكيل والموزون متساويا، فإذا اختلف لم يؤمر صاحب الجيد أن يبيعه بسعر الدون.

وأما المسألة الثانية التى تنازعوا فيها من التسعير، فهى أن يحد لاهل السوق حدا لا يتجاوزونه مع قيامهم بالواجب فهذا منع منه الجمهور.

حتى مالك نفسه

في المشهور عنه.

ونقل المنع أيضا عن ابن عمر وسالم والقاسم بن محمد.

وروى أشهب عن مالك في صاحب السوق يسعر على الجزارين: لحم الضأن بكذا ولحم الابل بكذا.

والا أخرجوا من السوق.

قال: إذا سعر عليهم قدر ما يرى من شرائهم فلا بأس به.

ولكن أخاف أن يقوموا من السوق.

واحتج أصحاب هذا القول بأن في هذا مصلحة للناس بالمنع من اغلاء السعر عليهم ولا يجبر الناس على البيع.

وانما يمنعون من البيع بغير السعر الذى يحده ولى الامر على حسب ما يرى من المصلحة فيه للبائع والمشترى.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 37)

________________________________________

وأما الجمهور فاحتجوا بما رواه أبو داود وغيره من حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ " جاء رجل إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله سعر لنا، فقال: بل أدعو الله، ثم جاءه رجل فقال: يا رسول الله سعر لنا، فقال بل الله يرفع ويخفض، وإنى لارجو أن ألقى الله وليست لاحد عندي مظلمة " قالوا ولان إجبار الناس على ذلك ظلم.

وأما صفة ذلك عند من جوزه، فقال ابن حبيب: ينبغى للامام أن يجمع وجوه أهل سوق ذلك الشئ وحضر غيرهم، استظهارا على صدقهم، فيسألهم كيف يشترون وكيف يبيعون: فينازلهم إلى ما فيه لهم وللعامة سداد حتى يرضوا به، ولا يجبرهم على التسعير ولكن عن رضى.

قال أبو الوليد الباجى: ووجه هذا أن به يتوصل إلى معرفة مصالح البائعين والمشترين، ويجعل للباعة في ذلك من الربح ما يقوم بهم، ولا يكون فيه إجحاف بالناس، وإذا سعر عليهم من غير رضا، بما لا ربح لهم فيه، أدى ذلك إلى فساد الاسعار وإخفاء الاقوات وإتلاف أموال الناس

قال شيخ الاسلام (١) ابن تيمية (الحفيد) فهذا الذى تنازعوا فيه، وأما إذا امتنع الناس من بيع ما يجب عليهم بيعه فهنا يؤمرون بالواجب ويعاقبون على تركه، وكذلك كل من وجب عليه أن يبيع بثمن المثل فامتنع.

قال ابن القيم: ومن احتج على منع التسعير مطلقا بقول النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إنَّ اللَّهَ هو المسعر القابض الباسط، وإنى لارجو أن ألقى الله وليس لاحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال " قيل له هذه قضية معينة وليست لفظا عاما، وليس فيها أن أحدا امتنع من بيع ما الناس يحتاجون إليه، ومعلوم أن الشئ إذا قل رغب

________________________________________

(١) قصدنا بالحفيد شيخ الاسلام واسمه أحمد، لقبه تقى الدين، كنيته أبو العباس بن عبد الحليم بن عبد السلام وهو ابن تيمية الجد فاسمه عبد السلام، كنيته أبو البركات، لقبه مجد الدين

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 38)

________________________________________

الناس في المزايدة فيه، فإذا بذله صاحبه - كما جرت به العادة، ولكن الناس تزايدوا فيه - فهنا لا يسعر عليهم وقد ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم منع من الزيادة على ثمن المثل في عتق الحصة من العبد المشترك فقال: من أعتق شركا له في عبد - وكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل، لا وكس ولا شطط، فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد " فلم يمكن المالك أن يساوم المعتق بالذى يريد فإنه لما وجب عليه أن يملك شريكه المعتق نصيبه الذى لم يعتقه لتكميل الحرية في العبد، قدر عوضه بأن يقوم جميع العبد قيمة عدل ويعطيه قسطه من القيمة، فإن حق الشريك في نصف القيمة، لا في قيمة النصف عند الجمهور وصار هذا الحديث أصلا في أن ما لا يمكن قسمة عينه فإنه يباع ويقسم ثمنه إذا طلب أحد الشركاء ذلك، ويجبر الممتنع على البيع.

وحكى بعض المالكية

ذلك إجماعا.

وصار ذلك أصلا في أن من وجبت عليه المعاوضة أجبر على أن يعاوض بثمن المثل، لا بما يريد من الثمن.

وصار ذلك أصلا في جواز اخراج الشئ من ملك صاحبه قهرا بثمنه للمصلحة الراجحة كما في الشفعة، وأصلا في وجوب تكميل العتق بالسراية مهما أمكن.

والمقصود أنه إذا كان الشارع يوجب اخراج الشئ عن ملك مالكه بعوض المثل، لمصلحة تكميل العتق، ولم يمكن المالك من المطالبة بالزيادة على القيمة، فكيف إذا كانت الحاجة بالناس إلى التملك أعظم، وهم إليها أعوز؟ مثل حاجة المضطر إلى الطعام والشراب واللباس وغيره.

وهذا الذى أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من تقويم الجميع قيمة المثل، هو حقيقة التسعير.

كذلك سلط الشريك على انتزاع الشقص المشفوع فيه من يد المشترى بثمنه الذى ابتاعه به لا بزيادة عليه لاجل مصلحة التكميل لواحد فكيف بما هو أعظم من ذلك؟ فإذا جوز له انتزاعه منه بالثمن الذى وقع عليه العقد لا بما شاء المشترى من الثمن لاجل هذه المصلحة الجزئية، فكيف إذا اضطر إلى ما عنده من طعام وشراب ولباس وآلة حرب؟ وكذلك إذا اضطر الحاج إلى ما عند الناس من آلات السفر وغيرها، فعلى

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 39)

________________________________________

ولى الامر أن يجبرهم على ذلك بثمن المثل، لا بما يريدونه من الثمن، وحديث العتق أصل في ذلك كله.

ثم عقد ابن القيم فصلا نختم به بحثنا في التسعير قال:

(فصل)

فإذا قدر أن قوما اضطروا إلى السكنى في بيت إنسان لا يجدون سواه، أو النزول في خان مملوك، أو استعارة ثياب يستدفئون بها، أو رحى للطحن، أو دلو لنزع الماء، أو قدر أو فأس أو غير ذلك، وجب على صاحبه

بذله بلا نزاع، لكن هل له أن يأخذ عليه أجرا، فيه قولان للعلماء، وهما وجهان لاصحاب أحمد.

ومن جوز له أخذ الاجرة حرم عليه أن يأخذ زيادة على أجرة المثل قال شيخنا - يعنى شيخ الاسلام ابن تيمية -: والصحيح أنه يجب عليه بذل ذلك مجانا، كما دل عليه الكتاب والسنة.

قال تعالى (فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون، الذين هم يراءون، ويمنعون الماعون) قال ابن مسعود وابن عباس وغيرهما من الصحابة: هو إعارة القدر والدلو والفأس ونحوها، وفى الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَكَرَ الخيل - قال " هي لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر.

فأما الذى هي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله، وأما الذى هي له ستر، فرجل ربطها تغنيا وتعففا، ولم ينس حق الله في رقابها، ولا في ظهورها " وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أيضا " من حق الابل إعارة دلوها، وإطراق فحلها " وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ عسب الفحل " أي عن أخذ الاجرة عليه، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ " لَا يمنعن جار جاره أن يغرز خشبة في جداره " ويمضى شيخ الاسلام ابن تيمية فيقول كما يحكيه عنه تلميذه وصنو حياته وعلمه: ولو احتاج إلى إجراء مائه في أرض غيره من غير ضرر لصاحب الارض، فهل يجبر على ذلك.

روايتان عن أحمد، والاجبار قول عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ الله عنهم.

وقد قال جماعة من الصحابة والتابعين " إن زكاة الحلى عاريته، فإذا لم يعره فلابد من زكاته " وهذا وجه في مذهب أحمد.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 40)

________________________________________

قال ابن القيم عقب هذا

(قلت) وهو الراجح، وانه لا يخلو الحلى من زكاة أو عارية والمنافع التى يجب بذلها نوعان، منها ما هو حق المال كما ذكرنا في الخيل والابل والحلى، ومنها ما يجب لحاجة الناس.

وأيضا فإن بذل منافع البدن تجب عند الحاجة، كتعليم العلم، وإفتاء الناس، وأداء الشهادة والحكم بينهم والجهاد، والامر بالمعروف والنهى عن المنكر وغير ذلك من منافع الابدان.

وكذلك من أمكنه إنجاء إنسان من مهلكة وجب عليه أن يخلصه، فإن ترك ذلك - مع قدرته - أثم وضمنه، فلا يمتنع وجوب بذل منافع الاموال للمحتاح.

وقد قال تعالى (ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب) وقال تعالى (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) وللفقهاء في أخذ الجعل على الشهادة أربعة أقوال، وهى أربعة أوجه في مذهب أحمد (أحدها) أنه لا يجوز مطلقا

(والثانى)

أنه يجوز عند الحاجة (والثالث) أنه لا يجوز الا أن يتعين عليه (والرابع) أنه يجوز، فإن أخذه عند التحمل لم يأخذ عند الاداء.

والمقصود أن ما قدره النبي صلى الله عليه وسلم من الثمن في سراية العتق هو لاجل تكميل الحرية، وهو حق الله تعالى وما احتاج إليه الناس حاجة عامة، فالحق فيه لله.

وذلك في الحقوق والحدود.

قال ابن القيم " فأما الحقوق فمثل حقوق المساجد ومال الفئ والوقف على أهل الحاجات، وأموال الصدقات والمنافع العامة، وأما الحدود فمثل حد المحاربة والسرقة والزنا وشرب الخمر المسكر وحاجة المسلمين إلى الطعام واللباس وغير ذلك مصلحة عامة، ليس الحق فيها لواحد بعينه، فتقدير الثمن فيها بثمن المثل على من وجب عليه البيع أولى من تقديره لتكميل الحرية، لكن تكميل الحرية وجب على الشريك المعتق، ولو لم

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 41)

________________________________________

يقدر فيها الثمن لتضرر بطلب الشريك الآخر، فإنه يطلب ما شاء، وهنا عموم الناس يشترون الطعام والثياب لانفسهم وغيرهم.

فلو مكن من عنده سلع يحتاج الناس إليها أن يبيع بما شاء كان ضرر الناس أعظم، ولهذا قال الفقهاء " إذا اضطر الانسان إلى طعام الغير، وجب عليه بذله له بثمن المثل " وأبعد الائمة عن إيجاب المعاوضة وتقديرها هو الشافعي، ومع هذا فإنه يوجب على من اضطر الانسان إلى طعامه أن يبذله له بثمن المثل، وتنازع أصحاب الشافعي في جواز تسعير الطعام إذا كان بالناس إليه حاجة، ولهم فيه وجهان.

وقال أصحاب أبى حنيفة: لا ينبغى للسلطان أن يسعر على الناس إلا إذا تعلق به حق ضرر العامة، فإذا رفع إلى القاضى أمر المحتكر ببيع ما فضل من قوته وقوت أهله، على اعتبار السعر في ذلك، ونهاه عن الاحتكار، فإن أبى حبسه وعزره على مقتضى رأيه، زجرا له ودفعا للضرر عن الناس قالوا فإن تعدى أرباب الطعام وتجاوزوا القيمة تعديا فاحشا، وعجز القاضى عن صيانة حقوق المسلمين إلا بالتسعير، سعره حينئذ بمشورة أهل الرأى والبصيرة.

وهذا على أصل أبى حنيفة ظاهر حيث لا يرى الحجر على الحر ومن باع منهم بما قدره الامام صح لانه غير مكره عليه قالوا: وهل يبيع القاضى على المحتكر طعامه من غير رضاه.

على الخلاف المعروف في بيع مال المدين وقيل يبيع ههنا بالاتفاق، لان أبا حنيفة يرى الحجر لدفع الضرر العام والسعر لما غلا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وطلبوا منه التسعير فامتنع، لم يذكر أنه كان هناك من عنده طعام امتنع من بيعه، بل عامة من كان يبيع الطعام

إنما هم جالبون يبيعونه إذا هبطوا السوق، ولكن نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يبيع حاضر لباد، أي أن يكون له سمسارا.

وقال " دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض "

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 42)

________________________________________

فنهى الحاضر العالم بالسعر أن يتوكل للبادى الجالب للسلعة، لانه إذا توكل له - مع خبرته بحاجة الناس - أغلى الثمن على المشترى فنهاه عن التوكل له، مع أن جنس الوكالة مباح لما في ذلك من زيادة السعر على الناس، ونهى عن تلقى الجلب وجعل للبائع إذا هبط السوق الخيار، ولهذا كان أكثر الفقهاء على أنه نهى عن ذلك لما فيه من ضرر البائع هنا، فإذا لم يكن قد عرف السعر، وتلقاه المتلقى قبل إتيانه إلى السوق اشتراه المشترى بدون ثمن المثل فغبنه، فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم لهذا البائع الخيار.

ثم فيه عن أحمد روايتان كما تقدم، إحداهما: أن الخيار يثبت له مطلقا، سواء غبن أو لم يغبن وهو ظاهر مذهب الشافعي.

والثانية: أنه إنما يثبت عند الغبن وهى ظاهر مذهب الحنابلة.

وقالت طائفة: بل نهى عن ذلك لما فيه من ضرر المشترى إذا تلقاه المتلقى فاشترى منه، ثم باعه، وفى الجملة.

قد نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ البيع والشراء الذى جنسه حلال حتى يعلم البائع بالسعر، وهو ثمن المثل، ويعلم المشترى بالسلعة.

وصاحب القياس الفاسد يقول: للمشترى أن يشترى حيث شاء، وقد اشترى من البائع كما يقول، فله أن يتوكل للبائع الحاضر وغير الحاضر، ولكن الشارع راعى المصلحة العامة، فإن الجالب إذا لم يعرف السعر كان جاهلا بثمن المثل، فيكون المشترى غارا له.

وألحق أحمد ومالك بذلك كل مسترسل، فإنه بمنزلة الجالب الجاهل بالسعر فتبين أنه يجب على الانسان ألا يبيع مثل هؤلاء إلا بالسعر المعروف، وهو ثمن المثل، وإن لم يكونوا محتاجين إلى الابتياع منه، لكن لكونهم جاهلين بالقيمة أو غير مماكسين، والبيع يعتبر فيه الرضا، والرضا يتبع العلم، ومن لم يعلم أنه غبن فقد يرضى، وقد لا يرضى، فإذا علم أنه غبن ورضى فلا بأس بذلك.

وفى السنن " أن رجلا كانت له شجرة في أرض غيره، وكان صاحب الارض يتضرر بدخول صاحب الشجرة، فَشَكَا ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمره أن يقبل

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 43)

________________________________________

بدلها أو يتبرع له بها فلم يفعل فأذن لصاحب الارض أن يقلعها، وقال لصاحب الشجرة: إنما انت مضار ".

وصاحب القياس الفاسد يقول: لا يجب عليه أن يبيع شجرته ولا يتبرع بها ولا يجوز لصاحب الارض أن يقلعها، لانه تصرف في ملك الغير بغير إذنه، وإجبار على المعاوضة عليه، وصاحب الشرع أوجب عليه إذا لم يتبرع بها أن يبيعها لما في ذلك من مصلحة صاحب الارض بخلاصه من تأذنه بدخول صاحب الشجرة، ومصلحة صاحب الشجرة بأخذ القيمة، وإن كان عليه في ذلك ضرر يسير، فضرر صاحب الارض ببقائها في بستانه أعظم، فإن الشارع الحكيم يدفع أعظم الضررين بأيسرهما، فهذا هو الفقه والقياس والمصلحة، وإن أباه من أباه.

والمقصود: أن هذا دليل على وجوب البيع عند حاجة المشترى.

وأين حاجة هذا من حاجة عموم الناس إلى الطعام وغيره؟ والحكم في المعاوضة على المنافع إذا احتاج الناس إليها - كمنافع الدور.

والطحن والخبز، وغير ذلك..حكم المعاوضة على الاعيان.

وبعد فقد استعرضنا ملخصا وافيا مركزا لما عرض له ابن القيم وشيخه.

قال ابن القيم: وجماع الامر أن مصلحة الناس إذا لم تتم إلا بالتسعير.

سعر عليهم تسعير عدل لا وكس ولا شطط.

وإذا اندفعت حاجتهم وقامت مصلحتهم بدونه لم يفعل.

وبالله التوفيق.

وقد قال الشوكاني في المنتقى في باب النهى عن التسعير: وقد استدل بالحديث وما ورد في معناه على تحريم التسعير، وأنه مظلمة، ووجهه أن الناس مسلطون على أموالهم والتسعير حجر عليهم والامام مأمور برعاية مصلحة المسلمين وليس نظره في مصلحة المشترى برخص الثمن أولى من نظره في مصلحة البائع بتوفير الثمن وإذا تقابل الامران وجب تمكين الفريقين من الاجتهاد لانفسهم وإلزام صاحب السلعة أن يبيع بمالا يرضى به مناف لقوله تَعَالَى (إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ منكم) والى هذا ذهب جمهور العلماء.

وروى عن مالك أنه يجوز للامام التسعير وأحاديث الباب ترد عليه.

ثم قال يشرح وجهة نظره في منع التسعير: وفى وجه

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 44)

________________________________________

للشافعية جواز التسعير في حالة الغلاء.

وهذا الرأى في نظره مردود وما أوردناه فيه القول الفصل الذى يجعل التسعير يدور مع المصلحة حيث دارت ويقيد ولى الامر بمراعاة طرفي المتبايعين واحقاق العدل بينهما وعدم تغليب طرف على آخر

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

ويحرم الاحتكار في الاقوات، وهو أن يبتاع في وقت الغلاء ويمسكه ليزداد في ثمنه.

ومن أصحابنا من قال: يكره ولا يحرم، وليس بشئ.

لِمَا رَوَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " الجالب مرزوق والمحتكر ملعون " وروى معمر العدوى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا يحتكر الا خاطئ " فدل على أنه حرام.

فأما إذا ابتاع في وقت الرخص أو جاءه من ضيعته طعام فأمسكه ليبيعه إذا غلا فلا يحرم ذلك لانه في معنى الجالب

وقد رَوَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال " الجالب مرزوق والمحتكر ملعون " وروى أبو الزناد قال: قلت لسعيد بن المسيب: بلغني عنك أنك قلت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال.

لا يحتكر بالمدينة الا خاطئ، وأنت تحتكر؟ قال ليس هذا الذى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انما قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يأتي الرجل السلعة عند غلائها فيغالى بها، فأما أن يأتي الشئ وقد اتضع فيشتريه، ثم يضعه فإن احتاج الناس إليه أخرجه، فذلك خير وأما غير الاقوات فيجوز احتكاره، لِمَا رَوَى أَبُو أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ يحتكر الطعام، فدل على أن غيره يجوز، ولانه لا ضرر في احتكار غير الاقوات فلم يمنع منه.

(الشرح) أما فصل الاحتكار فحديث عمر رضى الله عنه، رواه ابن ماجه بلفظ " سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالجذام والافلاس " وفى اسناده الهيثم بن رافع، قال أبو داود روى حديثا منكرا قال الحافظ الذهبي: هو الذى خرجه ابن ماجه، يعنى هذا، وفى اسناده أيضا أبويحيى المكى، وهو مجهول.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 45)

________________________________________

وللحديث شواهد أخرى أقوى منه وأصح، كحديث سعيد بن المسيب عن معمر بن عبد الله العدوى " إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لا يحتكر إلا خاطئ " رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وغيرهم.

وحديث معقل بن يسار قَالَ " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: من دخل في شئ من أسعار المسلمين ليغليه عليهم كان حقا على الله أن يقعده بعظم من النار يوم القيامة رواه أحمد والطبراني في معجميه الكبير والاوسط، وفى إسناده زيد بن مرة أبو المعلى، قال في مجمع الزوائد: ولم أجد من ترجمه وبقية رجاله رجال الصحيح.

وحديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: من احتكر حكرة يريد أن يغلى بها على المسلمين هو خاطئ " رواه أحمد والحاكم وزاد " وقد برئت منه ذمة الله " وفى إسناده أبو معشر، وهو ضعيف، وقد وثقه بعضهم.

وحديث ابن عمر مرفوعا " الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون " رواه ابن ماجه والحاكم وإسحاق بن راهويه والدارمى وأبو يعلى والعقيلي في الضعفاء وضعف إسناده الحافظ ابن حجر.

ومنها حديث آخر عند ابن عمر عند أحمد والحاكم وابن أبى شيبة والبزار وأبى يعلى بلفظ " من احتكر الطعام أربعين ليلة فقد برئ من الله وبرئ الله منه " زاد الحاكم " وأيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله " وفى إسناده أصبغ بن زيد وكثير بن مرة، والاول مختلف فيه والثانى قال ابن حزم إنه مجهول، وقال غيره: معروف، ووثقه ابن سعد، وروى عنه جماعة، واحتج به النسائي.

قال الحافظ ابن حجر: ووهم ابن الجوزى فأخرج هذا الحديث في الموضوعات وحكى ابن أبى حاتم عن أبيه أنه منكر اه.

أما أحكام الفصل: فهذه الاحاديث بمجموعها لا شك أنها تنتهض حجة للاستدلال على عدم جواز الاحتكار لو فرض عدم ثبوت شئ منها، وأخذت بمجموعها، فكيف وحديث معمر المذكور في صحيح مسلم، والتصريح بأن المحتكر خاطئ كاف في إفادة عدم الجواز، لان الخاطئ هو المذنب العاصى وهو

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 46)

________________________________________

فاعل من خطئ من باب علم إذا أثم في فعله قاله أبو عبيدة وقال: سمعت الازهرى يقول: خطئ إذا تعمد، وأخطأ إذا لم يتعمد.

قال الاصحاب من الشافعية: إن المحرم إنما هو احتكار الاقوات خاصة لا

غيرها، ولا مقدار الكفاية منها، وإلى ذلك ذهب الزيدية أيضا.

وذهب الشوكاني إلى أن الاحاديث ظاهرها يحرم الاحتكار من غير فرق بين قوت الآدمى والدواب، وبين غيره، والتصريح (بالطعام) في بعض الروايات لا يصلح لتقييد بقية الروايات المطلقة، ويمكن الرد عليه بأن المقرر في قواعد الاصول أن المطلق يحمل على المقيد وأن العام يحمل على الخاص الا أن الشوكاني يخرج من هذا المأزق بقوله انه من باب التنصيص على فرد من الافراد التى يطلق عليها المطلق، وذلك لان نفى الحكم عن غير الطعام انما هو لمفهوم اللقب، وهو غير معمول به عند الجمهور، وما كان كذلك لا يصلح للتقييد على ما تقرر في الاصول أيضا.

ويفرق العلماء بين الاحتكار والادخار، فالاحتكار اختزان السلعة وحبسها عن طلابها حتى يتحكم المختزن في رفع سعرها لقلة المعروض منه أو انعدامه، فيتسنى له أن يغليها حسبما يشاء وهذا حرام بالاجماع في ضرورات الحياة.

مكروه في كمالياتها.

ويمكن أن يلحق بالاقوات ما يترتب على احتكاره من تلف وهلاك يصيب الناس، كاحتكار الثياب في وقت البرد الشديد مع حاجة الناس إليه، وحبس وسائل النقل للجند في ابان الجهاد لما في ذلك من اضعاف لقوة المسلمين واتاحة الفرصة لتفوق العدو عليهم وغلبته.

أما الادخار فقد قال ابن رسلان في شرح السنن ولا خلاف في أن ما يدخره الانسان من قوت وما يحتاجون إليه من سمن وعسل وغير ذلك جائز لا بأس به اه.

ويقول الشوكاني نقلا عن أئمة الشافعية: انما المحرم هو احتكار الاقوات خاصة لا غيرها ولا مقدار الكفاية منها، ويدل على ذلك ما ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يعطى كل واحدة من زوجاته مائة وسق من خيبر.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 47)

________________________________________

قال ابن رسلان في شرح السنن: وقد كان رسول الله صلى عليه وسلم يدخر لاهله قوت سنتهم من تمر وغيره.

قال أبو داود: قيل لسعيد - يعنى ابن المسيب - فإنك تحتكر.

قال ومعمر كان يحتكر.

وكذا في صحيح مسلم: قال ابن عبد البر وآخرون: إنما كانا - يعنى ابن المسيب ومعمرا - يحتكران الزيت، وحملا الحديث على احتكار القوت عند الحاجة إليه.

وكذلك حمله الشافعي وأبو حنيفة وآخرون.

قال الشوكاني: ويدل على اعتبار الحاجة وقصد إغلاء السعر على المسلمين قوله في حديث معقل " من دخل في شئ من أسعار المسلمين ليغليه عليهم " وقوله في حديث أبى هريرة " يريد أن يغلى بها على المسلمين " قال أبو داود: سألت أحمد بن حنبل ما الحكرة.

قال ما فيه عيش الناس، أي حياتهم وقوتهم.

وقال الاثرم: سمعت أبا عبد الله - يعنى أحمد بن حنبل - يسئل عن أي شئ الاحتكار، فقال إذا كان من قوت الناس فهو الذى يكره.

وهذا قول عمر وقال الاوزاعي، المحتكر من يعترض السوق، أي ينصب نفسه للتردد إلى الاسواق ليشترى منها الطعام الذى يحتاجون إليه ليحتكره.

قال السبكى " الذى ينبغى أن يقال في ذلك أنه إن منع غيره من الشراء وحصل به ضيق حرم.

وإن كانت الاسعار رخيصة وكان القدر الذى يشتريه لا حاجة بالناس إليه فليس لمنعه من شرائه وادخاره إلى وقت حاجة الناس إليه معنى " قال القاضى حسين والرويانى " وربما يكون هذا حسنة لانه ينفع به الناس " وقطع المحاملى في المقنع باستحبابه.

قال أصحاب الشافعي " الاولى بيع الفاضل عن الكفاية " قال السبكى " أما إمساكه

حالة استغناء أهل البلد عنه رغبة في أن يبيعه إليهم وقت حاجتهم إليه فينبغي أن لا يكره، بل يستحب.

قال الشوكاني " والحاصل أن العلة إذا كانت هي الاضرار بالمسلمين لم يحرم الاحتكار الا على وجه يضر بهم، ويستوى في ذلك القوت وغيره لانهم يتضررون بالجميع " وقال الغزالي في الاحياء " ما ليس بقوت ولا معين عليه فلا يتعدى النهى

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 48)

________________________________________

إليه وان كان مطعوما وما يعين على القوت كاللحم والفواكه وما يسد مسد شئ من القوت في بعض الاحوال، وان كان لا يمكن المداومة عليه فهو في محل النظر فمن العلماء من طرد التحريم في السمن والعسل والشيرج والجبن والزيت وما يجرى مجراه.

وقال السبكى " إذا كان في وقت قحط كان في ادخار العسل والسمن والشيرج وأمثالها اضرار، فينبغي أن يقضى بتحريمه، وإذا لم يكن اضرار فلا يخلو احتكار الاقوات عن كراهة.

وقال القاضى حسين " إذا كان الناس يحتاجون الثياب ونحوها لشدة البرد أو لستر العورة فكره لمن عنده ذلك امساكه " قال السبكى " ان أراد كراهة تحريم فظاهر، وان أراد كراهة تنزيه فبعيد.

وحكى أبو داود عن قتادة أنه قال " ليس في التمر حكرة " وحكى أيضا عن سفيان أنه سئل عن كبس القت فقال " كانوا يكرهون الحكرة " والكبس بفتح الكاف واسكان الباء الموحدة، والقت بفتح القاف وتشديد التاء الفوقية، وهو اليابس من القضب.

قال الطيبى " ان التقييد بالاربعين يشير إلى حديث ادخار الطعام أربعين يوما، اليوم غير مراد به التحديد " قال الشوكاني " ولم أجد من ذهب إلى العمل بهذا العدد " ونختم هذا الفصل بما أورد الامام النووي رضى الله عنه في شرحه لصحيح

مسلم عند حديث معمر بن عبد الله مرفوعا " من احتكر فهو خاطئ " قال النووي قال اهل اللغة " الخاطئ بالهمز هو العاصى الآثم " وهذا الحديث صريح في تحريم الاحتكار في الاقوات خاصة، وهو أن يشترى الطعام في وقت الغلاء للتجارة ولا يبيعه في الحال بل يدخره ليغلو ثمنه.

فأما إذا جاءه من قريته أو اشتراه في وقت الرخص وادخره، أو ابتاعه في وقت الغلاء لحاجته إلى أكله، أو ابتاعه ليبيعه في وقته فليس باحتكار ولا تحريم فيه.

قال وأما غير الاقوات فلا يحرم الاحتكار فيه بكل حال، هذا تفصيل مذهبنا قال العلماء " والحكمة في تحريم الاحتكار دفع الضرر عن عامة الناس، كما أجمع العلماء على أنه لو كان عند انسان طعام واضطر الناس إليه ولم يجدوا غيره أجبر على بيعه دفعا للضرر عن الناس.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 49)

________________________________________

وأما ما ذكر في الكتاب - يعنى في صحيح مسلم - عن سعيد بن المسيب ومعمر راوي الحديث أنهما كانا يحتكران، فقال ابن عبد البر وآخرون: إنما كانا يحتكران الزيت، وحملا الحديث على احتكار القوت عند الحاجة إليه والغلاء، وكذا حمله الشافعي وأبو حنيفة وآخرون.

وهو الصحيح وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ

 

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:

 

(باب اختلاف المتبايعين وهلاك المبيع)

" إذا اختلف المتبايعان في مقدار الثمن، ولم تكن بينة تحالفا، لما روى ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه قال " لو أن الناس أعطوا بدعاويهم لادعى ناس من الناس دماء ناس وأموالهم، لكن اليمين على المدعى عليه " فجعل اليمين على المدعى عليه والبائع مدعى عليه بيع بألف والمشترى مدعى عليه بيع بألفين، فوجب أن يكون على كل واحد منهما اليمين لان كل واحد منهما

مدعى عليه ولا بينة فتحالفا، كما لو ادعى رجل على رجل دينارا وادعى الآخر على المدعى درهما "

(فصل)

قال الشافعي رحمه الله في البيوع: يبدأ بيمين البائع.

وقال في الصداق: إذا اختلف الزوجان يبدأ بيمين الزوج، والزوج كالمشترى.

وقال في الدعوى والبينات إن بدأ بالبائع خير المشترى، وإن بدأ بالمشترى خير البائع، وهذا يدل على أنه مخير بين أن يبدأ بالبائع وبين أن يبدأ بالمشترى، فمن أصحابنا من قال فيها ثلاثة أقوال (أحدها) يبدأ بالمشترى، لان جنبته أقوى، لان المبيع على ملكه فكان بالبداية أولى

(والثانى)

يبدأ بمن شَاءَ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ لَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الآخر في الدعوى فتساويا، كما لو تداعيا شيئا في يديهما (والثالث) أنه يبدأ بالبائع وهو الصحيح، لِمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " إذا اختلف البيعان فالقول ما قال البائع، والمبتاع بالخيار " فبدأ بالبائع ثم خير المبتاع، ولان جنبته أقوى لانه إذا تحالفا رجع المبيع إليه فكانت البداية به أولى.

ومن أصحابنا من قال هي على قول واحد أنه يبدأ بالبائع ويخالف

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 50)

________________________________________

الزوج في الصداق لان جنبته أقوى من جنبة الزوجة، لان البضع بعد التحالف على ملك الزوج فكان بالتقديم أولى، وها هنا جنبة البائع أقوى لان المبيع بعد التحالف على ملك البائع فكان البائع بالتقديم أولى، والذى قال في الدعوى والبينات ليس بمذهب له، وإنما حكى ما يفعله الحاكم باحتهاده لانه موضع اجتهاد فقال: إن حلف الحاكم البائع باجتهاده خير المشترى، وإن حلف المشترى خير البائع " (الشَّرْحُ) حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا رواه مسلم في صحيحه بلفظ " لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى "

وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى باليمين على المدعى عليه.

هكذا روى هذا الحديث البخاري ومسلم في صحيحيهما مرفوعا من رواية ابن عباس.

وهكذا ذكره أصحاب السنن وغيرهم قال الامام النووي رضى الله عنه في شرح مسلم: قال القاضى عياض رضى الله عنه، قال الاصيلى: لا يصح مرفوعا، إنما هو قول ابن عباس، كذا رواه أيوب ونافع الجمحى عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ القاضى قد رواه البخاري ومسلم من رواية ابن جريج مرفوعا هذا كلام القاضى.

قال النووي (قلت) وقد رواه أبو داود والترمذي بأسانيدهما عن نافع بن عمر الجمحى عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مرفوعا.

قال الترمذي حديث حسن صحيح.

وجاء في رواية البيهقى وغيره بإسناد حسن أو صحيح زيادة عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم، ولكن البينة على المدعى، واليمين على من أنكر " اه أما حديث ابن مسعود رضى الله عنه فقد أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه بلفظ " إذا اختلف البيعان وليس بينهما بينة فالقول ما يقول صاحب السلعة أو يترادان " وزاد ابن ماجه " والبيع قائم بعينه " وكذلك أحمد في رواية " والسلعة كما هي " وللدارقطني عن أبى وائل عن عبد الله قال " إذا اختلف البيعان والبيع مستهلك فالقول قول البائع " قال ابن تيمية الجد.

ورفع الْحَدِيثِ إلَى النَّبِيِّ

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 51)

________________________________________

صلى الله عليه وسلم.

ولاحمد والنسائي عن أبى عبيدة: وأتاه رجلان تبايعا سلعة فقال " هذا أخذت كذا وكذا.

وقال هذا بعت بكذا وكذا، فقال أبو عبيدة: أتى عبد الله في مثل هذا فقال: حضرت النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذا فأمر بالبائع أن يستحلف ثم يخير المبتاع إن شاء أخذ وإن شاء ترك "

وحديث ابن مسعود أخرجه أيضا الشافعي من طريق سعيد بن سالم عن ابن جريح عن اسماعيل بن أمية عن عبد الملك بن عمير عن أبى عبيدة عن أبيه عبد الله ابن مسعود، وقد اختلف فيه على اسماعيل بن أمية.

ثم على ابن جريج، وقد اختلف في صحة سماع أبى عبيدة من أبيه.

ورواه من طريق أبى عبيدة أحمد والنسائي والدارقطني، وقد صححه الحاكم وابن السكن، ورواه أيضا الشافعي من طريق سفيان ابن عجلان عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عن ابن مسعود، وفيه أيضا انقطاع، لان عونا لم يدرك ابن مسعود.

ورواه الدارقطني من طريق القاسم بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ عن جده.

وفيه اسماعيل بن عياش عن موسى بن عقبة.

ورواه أبو داود من طريق عبد الرحمن بن قيس بن محمد بن الاشعث بن قيس عن أبيه عن جده عن ابن مسعود وأخرجه أيضا من طريق محمد بن أبى ليلى عن القاسم بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ عن عبد الله بن مسعود، ومحمد بن أبى ليلى لا يحتج به وعبد الرحمن لم يسمع من أبيه.

ورواه ابن ماجه والترمذي، من طريق عون بن عبد الله أيضا عن ابن مسعود، وهو منقطع قال العلامة ابن القيم: وأما الحديث المشهور على ألسنة الفقهاء " البينة على من ادعى واليمين على من أنكر " فهذا قد روى ولكن ليس له إسناده في الصحة والشهرة مثل غيره، ولا رواه عامة أصحاب السنن المشهورة، ولا قال بعمومه أحد من علماء الامة، إلا طائفة من فقهاء الكوفة مثل أبى حنيفة وغيره فإنهم يرون دائما اليمين في جانب المنكر، حتى في القسامة يحلفون المدعى عليه ولا يقضون بالشاهد واليمين، ولا يردون اليمين على المدعى عند النكول، واستدلوا بعموم الحديث.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 52)

________________________________________

ثم ساق ابن القيم نماذج من أحكام الرسول صلى الله عليه وسلم توافق معنى هذا الحديث في المعاملات: ولا نأخذ به في الجنايات.

قال البيهقى: وأصح إسناد روى في هذا الباب رواية أبى العميس عن عبد الرحمن بن قيس بن محمد بن الاشعث بن قيس عن أبيه عن جده، ورواه أيضا الدارقطني من طريق القاسم بن عبد الرحمن، قال الحافظ ابن حجر: ورجاله ثقات إلا أن عبد الرحمن اختلف في سماعه من أبيه.

ورواية التراد رواها أيضا مالك بلاغا والترمذي وابن ماجه بإسناد منقطع ورواه أيضا الطبراني بلفظ " البيعان إذا اختلفا في البيع ترادا " قال الحافظ ابن حجر: رواته ثقات لكن اختلف في عبد الرحمن بن صالح يعنى الراوى له عن فضيل بن عياض عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود قال: وما أظنه حفظه، فقد جزم الشافعي أن طرق هذا الحديث عن ابن مسعود ليس فيها شئ موصول.

ورواه أيضا النسائي والبيهقي والحاكم من طريق عبد الرحمن ابن قيس بالاسناد الذى رواه عنه أبو داود كما سلف، وصححه من هذا الوجه الحاكم، وحسنه البيهقى، ورواه عبد الله بن أحمد في زيادات المسند من طريق القاسم بن عبد الرحمن عن جده بلفظ: إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة، ولا بينة لاحدهما تحالفا " ورواه من هذا الوجه الطبراني والدارمى، وقد انفرد بقوله: والسلعة قائمة، محمد بن أبى ليلى وهو ضعيف لسوء حفظه.

قال الخطابى: إن هذه اللفظة يعنى: والسلعة قائمة، لا تصح من طريق النقل مع احتمال أن يكون ذكرها من التغليب، لان أكثر ما يعرض النزاع حال قيام السلعة، كقوله تعالى (في حجوركم) ولم يفرق أكثر الفقهاء بين القائم والتالف انتهى.

قال ابن عبد البر إن هذا الحديث منقطع إلا أنه مشهور الاصل عند جماعة تلقوه بالقبول، وبنوا عليه كثيرا من فروعه، وأعله ابن حزم بالانقطاع وتابعه عبد الحق، وأعله ابن القطان بالجهالة في عبد الرحمن وأبيه وجده.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 53)

________________________________________

وقال الخطابى: هذا حديث قد اصطلح الفقهاء على قبوله، وذلك يدل على أن له أصلا وإن كان في إسناده مقال، كما اصطلحوا على قبول: لا وصيه لوارث وإسناده فيه ما فيه اه.

أما لغات الفصل: فقوله (جنبته) أي جانبه، و (البضع) بضم الباء الموحدة وسكون الضاد المعجمة وجمعه أبضاع مثل قفل وأقفال يطلق على الفرج والجماع وقيل البضع مصدر أيضا مثل السكر والكفر.

وأبضعت المرأة إبضاعا زوجتها وتستأمر النساء في أبضاعهن، ويقال ملك بضعها أي جماعها، والبضاع الجماع وزنا ومعنى، وهو اسم من باضعها مباضعة.

أما أحكام الفصل.

فقد اتفق الائمة الاربعة على أنه إذا حصل بين المتبايعين اختلاف في قدر الثمن ولا بينة تحالفا، هذا ما وجدته من مسائل الاتفاق في هذا الفصل.

وأما ما اختلفوا فيه، فمن ذلك قول الامام الشافعي إنه يبدأ بيمين البائع، وهو ما عبر عنه المصنف بقوله.

ولان جنبته أقوى، أما أبو حنيفة وبعض الاصحاب من الشافعية أنه يبدأ بيمين المشترى.

ويبدو أن اختلاف المتبايعين يجعل كل واحد منهما يريد أن يكون له الحظ الاوفر من حكم القاضى لنفسه دون أخيه ومثل ذلك أنه إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة، فقال البائع بعتك بعشرين، وقال المشترى بل بعشرة ولاحدهما بينة حكم بها وإن لم يكن لهما بينة تحالفا وبهذا قال الشافعي وأبو حنيفة ومالك

في رواية عنه، وشريح، وفى رواية عن مالك القول قول المشترى مع يمينه وبه قال أبو ثور وزفر، لان البائع يدعى عشرة زائدة ينكرها المشترى، والقول قول المنكر.

وقال الشعبى القول قول البائع أو يترادان.

قال ابن قدامة في المغنى ويحتمل أن يكون معنى القولين واحدا، وأن القول قول البائع مع يمينه، فإذا حلف فرضى المشترى بذلك أخذ به، وان أبى حلف أيضا وفسخ البيع بينهما، لان في ألفاظ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة، ولا بينة لاحدهما تحالفا " ولان كل واحد منهما مدع ومدعى عليه، فان البائع يدعى عقدا بعشرين ينكره المشترى،

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 54)

________________________________________

والمشترى يدعى عقدا بعشرة ينكره البائع، والعقد بعشرة غير العقد بعشرين فشرعت اليمين في حقهما.

قال الرملي في نهاية المحتاج شرح المنهاج عند الاختلاف في قدر الثمن أو صفة المبيع: والاصح تصديق البائع أو الاجل بأن أثبته المشترى ونفاه البائع أو قدره كشهر أو شهرين، أو قدر المبيع كمد من هذه الصبرة، مثلا بدرهم، فيقول: بل مدين ولا بينة لاحدهما يعول عليها، فشمل ما لو أقام كل بينة وتعارضنا لاطلاقهما أو إطلاق أحدهما فقط، أو لكونهما أرختا بتاريخين متفقين تحالفا، لخبر مسلم (اليمين على المدعى) وكل منهما مدع ومدعى عليه اه.

وأما ما استند إليه القائلون بعدم التحالف كابن المقرى في بعض نسخ الروض من إمكان الفسخ في زمنه فقد رد بأن التحالف لم يوضع للفسخ بل عرضت اليمين رجاء أن ينكل الكاذب فيتقرر العقد بيمين الصادق.

فإذا اختلفا في الصحة أو العقد هل هو بيع أو هبة فلا تحالف كما سيأتي من كلام المصنف، فإذا كان لاحدهما بينة قضى بها، فإن كان لهما بينتان مؤرختان

بتاريخين مختلفين فإنه يقضى بالاولى منهما، ولو اختلفا في الثمن أو المبيع بعد القبض مع الاقالة أو التلف الذى ينفسخ به العقد فلا تحالف، بحلف مدعى النقص، لانه غارم، ولهذا زاد بعضهم قيدا، وهو بقاء العفد إلى وقت التنازع احترازا عما ذكر.

وأورد على الضابط اختلافهما في عين المبيع والثمن معا مثل: بعتك هذه السيارة الركوب بمائة دينار فيقول: بل النقل بمائتي دينار فلا تحالف جزما إذا لم يتواردا على شئ واحد، مع أنهما اتفقا على بيع صحيح واختلفا في كيفيته فيحلف كل على نفى ما ادعى عليه على الاصل.

قال الشافعي في مختصر المزني بعد أن أورد حديث ابن مسعود من طريقي سفيان ومالك الذى رواه مالك بلاغا - يعنى قال: بلغني عن ابن مسعود إلخ.

قال الشافعي " قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " ن البينة على المدعى واليمين على المدعى عليه " فإذا تبايعا عبدا فقال البائع: بألف والمشترى بخمسمائة فالبائع

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 55)

________________________________________

يدعى فضل الثمن، والمشترى يدعى السلعة بأقل من الثمن، فيتحالفان، فان حلفا معا قيل للمشترى: أنت بالخيار في أخذه بألف أو رده، ولا يلزمك ما لا تقر به، فأيهما نكل عن اليمين وحلف صاحبه حكم له.

قال الشافعي رضى الله عنه: وإذا حكم النبي صلى الله عليه وسلم وهما متصادقان على البيع ومختلفان في الثمن بنقض البيع، ووجدنا الفائت في كل ما نقض فيه القائم منتقضا فعلى المشترى رده إن كان قائما أو قيمته إن كان فائتا، كانت أقل من الثمن أو أكثر.

قال المزني: يقول: صارا في معنى من لم يتبايع، فيأخذ البائع عبده قائما أو قيمته متلفا، قال: فرجع محمد بن الحسن إلى ما قلنا وخالف صاحبيه - يعنى أبا حنيفة وأبا يوسف - وقال: لا أعلم ما قالا إلا خلاف القياس والسنة.

قال والمعقود إذا تناقضاه والسلعة قائمة تناقضاه وهى فائتة، لان الحكم أن يفسخ العقد فقائم وفائت سواء.

قال المزني، ولو لم يختلفا وقال كل واحد منهما: لا أدفع حتى أقبض فالذي أحب الشافعي من أقاويل وصفها أن يؤمر البائع بدفع السلعة، ويجبر المشترى على دفع الثمن من ساعته، فان غاب وله مال أشهد على وقف ماله وأشهد على وقف السلعة، فإذا دفع أطلق عنه الوقف، وإن لم يكن له مال فهذا مفلس والبائع أحق بسلعته ولا يدع الناس يتمانعون الحقوق وهو يقدر على أخذها منهم اه.

 

قال المصنف رحمه الله تعالى:

 

(فصل)

ويجب أن يجمع كل واحد منهما في اليمين بين النفى والاثبات، لانه يدعى عقد وينكر عقدا، فوجب أن يحلف عليهما، ويجب أن يقدم النفى على الاثبات.

وقال أبو سعيد الاصطخرى: يقدم الاثبات على النفى كما قدمنا الاثبات على النفى في اللعان، والمذهب الاول.

لان الاصل في اليمين أن يبدأ بالنفى، وهى يمين المدعى عليه، فوجب أن يبدأ ههنا أيضا بالنفى، ويخالف اللعان فانه لا أصل له في البداية بالنفى، وهل يجمع بين النفى والاثبات بيمين واحدة أم لا؟ فيه وجهان.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 56)

________________________________________

أحدهما: يجمع بينهما بيمين واحدة، وهو المنصوص في الام، لانه أقرب إلى فصل القضاء فعلى هذا يحلف البائع أنه لم يبع بألف، ولقد باع بألفين ويحلف المشترى أنه ما اشترى بألفين ولقد اشترى بألف، فان نكل المشترى قضى للبائع وإن حلف فقد تحالفا.

والثانى أنه يفرد النفى بيمين والاثبات بيمين، لانه دعوى عقد وإنكار عقد

فافتقر إلى يمينين، ولانا إذا جمعنا بينهما بيمين واحدة حلفنا البائع على الاثبات قبل نكول المشترى عن يمين النفى، وذلك لا يجوز.

فعلى هذا يحلف البائع أنه ما باع بألف، ثم يحلف المشترى أنه ما ابتاع بألفين، فان نكل المشترى حلف البائع أنه باع بألفين، وقضى له، فان حلف المشترى حلف البائع أنه باع بألفين ثم يحلف المشترى أنه ابتاع بألف.

فان نكل قضى للبائع، وان حلف فقد تحالفا (الشرح) هذا الفصل بين كيفية اليمين ومضمونها لان كل واحد من المتبايعين ينطوى موقفه على حالتى اثبات ونفى ومن ثم ينبغى أن يكون حلفه مشتملا على أركان الدعوى من اثبات ونفى فمثلا المبتدئ باليمين يحلف ما بعته بعشرة وانما بعته بعشرين، فان شاء المشترى أخذه بما قال البائع، والا يحلف ما اشتريته بعشرين، وانما اشتريته بعشرة وبهذا قال الشافعي في الام.

وقال أبو حنيفة يبتدئ بيمين المشترى لانه منكر واليمين في جنبته أقوى ولانه يقضى بنكوله وينفصل الحكم، وما كان أقرب إلى فصل الخصومة كان أولى.

ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " فالقول ما قال البائع " وفى لفظ " ما قال البائع.

والمشترى بالخيار " رواه أحمد ومعناه أن شاء أخذ وان شاء حلف ولان البائع اقوى جنبة.

لانهما إذا تحالفا عاد المبيع إليه.

فكان أقوى كصاحب اليد وقد بينا أن كل واحد منهما منكر من وجه فيتساويان في هذا الوجه.

والبائع إذا نكل فهو بمنزلة نكول المشترى يحلف الآخر ويقضى له فهما سواء.

وإذا حلف البائع فنكل المشترى عن اليمين قضى عليه.

وان نكل البائع حلف المشترى وقضى له.

وان حلفا جميعا لم ينفسخ البيع لان العقد صحيح.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 57)

________________________________________

والتحالف لا يفسخ العقد، كما لو أقام كل واحد منهما بينة بما ادعاه، لكن إن

رضى أحدهما بما قال صاحبه أقر العقد بينهما، وإن لم يرضيا فلكل واحد منهما الخيار.

أما على المذاهب تفصيلا فهل يستحب الحلف من البائع أو لا أم المشترى على أربعة أقوال (أصحها) يبدأ في اليمين بالبائع لان جانبه أقوى بعود المبيع الذى هو المقصود بالذات إليه بالفسخ الناشئ عن التحالف، ولان ملكه على الثمن قد تم بالعقد، وملك المشترى على المبيع لا يتم إلا بالقبض، ولانه يأتي بصورة العقد، وصورة المسألة أن المبيع معين والثمن في الذمة، ومن ثم بدئ بالمشترى في عكس ذلك لانه أقوى حينئذ، ويخبر الحاكم بالبداءة بأيهما أداه إليه اجتهاده فيما إذا كانا معينين أو في الذمة.

والزوج في الصداق كالبائع، فيبدأ به لقوة جانبه ببقاء التمتع له، ولان أثر التحالف يظهر في الصداق إلا في البضع وهو باذله فكان كبائعه، والخلاف في الاستحباب لحصول المقصود بكل تقدير (الثاني) يبدأ في اليمين بالمشترى لقوة جانبه بالمبيع، وهو قول أبى حنيفة ووجه عند الاصحاب باعتبار أن رب السلعة في الحال هو المشترى، وللحديث: فالقول ما يقول رب السلعة.

(الثالث) يتساويان لان كل واحد منهما مدع ومدعى عليه، فلا ترجيح فيتخير الحاكم فيم يبدأ به منهما (الرابع) يقرع بينهما فمن قرع بدئ به.

وذلك لان القرعة سبيل لحسم النزاع عند التشاح.

قال الغزالي في الوجيز: أما كيفية اليمين فالبداءة بالبائع، وفى السلم بالسلم إليه وفى الكتابة بالسيد، لانهما في رتبة البائع، وفى الصداق بالزوج لانه في رتبة بائع الصداق، وأثر التحالف يظهر فيه لا في البضع.

وقيل انه يبدأ بالمشترى وهو مخرج، وقيل يتساويان فيقدم بالقرعة أو برأى القاضى.

اه وفى كيفية اليمين أقوال:

(أحدها) أن يجمع بين النفى والاثبات بيمين واحدة مطلقا، والصيغة التى اتفقوا عليها أن يقول: والله ما بعت بكذا ولقد بعت بكذا.

ويقول المشترى: والله ما اشتريت بكذا، ولقد اشتريت بكذا، أو يأتي بلفظ (وإنما) بدل (ولقد)

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 58)

________________________________________

وأباه بعضهم لما فيه من إبهام اشتراط الحصر، وفى رأى شمس الدين الرملي - وهو الملقب بالشافعي الصغير - لا يكفى قوله ما بعت إلا بكذا، لان الايمان لا يكتفى فيها باللوازم، بل لابد من الصريح.

لان فيها نوعا من التعبد، ومن هنا كان قولا ثانيا وهو: (ثانيها) أن يبدأ بالنفى ثم الاثبات بيمين واحدة لكليهما (ثالثها) أن يبدأ بالاثبات ثم بالنفى بيمين واحدة لكليهما، لانه دعوى عقد وإنكار عقد فافتقر إلى يمينين (رابعها) أن يبدأ بالنفى بيمين ثم بالاثبات بيمين أخرى، وهو المستحب في قول الرملي في نهاية المحتاج (خامسها) أن يبدأ بالاثبات بيمين ثم بالنفى بيمين أخرى (سادسها) أن يبدأ بما شاء منهما بيمين والآخر بيمين أخرى والصواب أن يبدأ القاضى - إذا ترافعا إليه أو أحدهما - بيمين البائع وحسبه في ذلك أن يقول والله ما بعت بكذا ولقد بعت بكذا، والله تعالى أعلم على أن الاختلاف يشمل المبيع والثمن، لان قوله إذا اختلف المتبايعان مع حذف المتعلق مشعر بالتعميم في مثل هذا المقام، على ما قرره علماء المعاني، فيعم الاختلاف في المبيع وفى الثمن وفى كل أمر فرجع اليهما، وفى سائر الشروط المعتبرة، والتصريح بالاختلاف في الثمن في بعض الروايات، كما وقع في أحاديث الباب لا ينافى هذا العموم المستفاد من الحذف وفى حديث ابن مسعود عند أحمد " فالقول ما يقول صاحب السلعة " وصاحب

السلعة هو البائع كما وقع التصريح به في سائر الروايات، فلا وجه لما روى عن البعض من أن رب السلعة في الحال هو المشترى والاختلاف بين المتبايعين في أمر من أمور العقد لا علاج له إلا يمين البائع فإذا حلف المشترى فقد تحالفا ولا يكون لهما خلاص من هذا النزاع إلا التفاسخ على أن سبب الاختلاف بين الفقهاء هو قوله صلى الله عليه وسلم " البينة على المدعى واليمين على المدعى عليه " لانه يدل بعمومه، على أن اليمين على المدعى عليه والبينة على المدعى من غير فرق بين أن يكون أحدهما بائعا والآخر مشتريا

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 59)

________________________________________

أو لا.

وحديث ابن مسعود يدل على أن القول قول البائع مع يمينه والبينة على المشترى من غير فرق بين أن يكون البائع مدعيا أو مدعى عليه، فبين الحديثين عموم وخصوص من وجه، فيتعارضان باعتبار مادة الاتفاق.

وهى حيث يكون البائع مدعيا فينبغي أن يرجع في الترجيح إلى الامور الخارجية، وحديث " أن اليمين على المدعى عليه " رواه أحمد ومسلم، وهو أيضا في صحيح البخاري في الرهن وفى باب اليمين على المدعى عليه.

وفى تفسير آل عمران.

وأخرجه الطبراني بلفظ " البينة على المدعى واليمين على المدعى عليه " وأخرجه الاسماعيلي بلفظ: ولكن البينة على الطالب واليمين على المطلوب.

وأخرجه البيهقى بلفظ " لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، ولكن البينة على المدعى واليمين على من أنكر " وهذه الالفاظ كلها في حديث ابن عباس ممن رام الترجيح بين الحديثين لا يصعب عليه ذلك

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

وإذا تحالفا وجب فسخ البيع لانه لا يمكن إمضاء العقد مع التحالف وهل ينفسخ بنفس التحالف أم لا.

فيه وجهان

(أحدهما)

أنه ينفسخ

بنفس التحالف كما ينفسخ النكاح في اللعان بنفس التحالف، ولان بالتحالف صار الثمن مجهولا والبيع لا يثبت مع جهالة العوض فوجب أن ينفسخ

(والثانى)

أنه لا ينفسخ إلا بالفسخ بعد التحالف وهو المنصوص لان العقد في الباطن صحيح لانه وقع على ثمن معلوم فلا ينفسخ بتحالفهما، ولان البينة أقوى من اليمين.

ثم لو أقام كل واحد منهما بينة على ما يدعيه لم ينفسخ البيع، فلان لا ينفسخ باليمين أولى.

وفى الذى يفسخه وجهان

(أحدهما)

أنه يفسخه الحاكم لانه مجتهد فيه فافتقر إلى الحاكم كفسخ النكاح بالعيب

(والثانى)

انه ينفسخ بالمتعاقدين لانه فسخ لاستدراك الظلامة فصح من المتبايعين كالرد بالعيب (الشرح) قوله " وإذا تحالفا وجب فسخ البيع " لسبق قولنا إنه يشجب التراضي المنصوص عليه في قوله عز وجل " عن تراض منكم " ولقولنا: والاختلاف بين المتبايعين في أمر من أمور العقد لا علاج له إلا يمين البائع،

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 60)

________________________________________

فإذا حلف البائع ثم حلف المشترى فلا يكون لهما مناص من التفاسخ ليخرجا من محارج النزاع.

ولكن هل ينفسخ بنفس التحالف أم لا؟ وجهان

(أحدهما)

أنه ينفسخ بنفس التحالف لانه ذروة النزاع المفضى إلى الفسخ كما ينفسخ النكاح في اللعان بنفس التحالف، واللعان من العقود التى تفسخ بالتحالف فيقع الفسخ ظاهرا وباطنا، لانه فسخ لاستدراك الظلامة، ولان الثمن بعد التحالف صار مترددا بين ادعاءى كل من المتبايعين مما يسبغ عليه جهالة تخل بالعقد خللا ينقضه، لان الثمن حينئذ يصير مجهلا لا مجهولا، لانه معلوم عندهما باطنا، ولكن عراه التجهيل باختلافهما عليه إن كان الاختلاف في مقدار الثمن.

وكذلك اختلافهما في مقدار المبيع كما سيأتي إن شاء الله تعالى، ولان الثمن عوض عن المبيع فلا يثبت العقد مع جهالة الثمن

 

(والثانى)

أنه لا ينفسخ بمجرد التحالف ولكن بفسخه قصدا بعده، وهو المنصوص في الذهب.

قال المزني في المختصر في باب اختلاف المتبايعين: والمعقول إذا تناقضاه والسلعة قائمة تناقضاه وهى فائتة لان الحكم أن يفسخ العقد فقائم وفائت سواء.

ولنا أن العقد لا ينفسخ بنفس الحالف، لان كل واحد منهما يقصد بيمينه إثبات الملك فلم يجز أن تكون موجبة لفسخ الملك لانهما ضدان فعلى هذا لو فسخه المتبايعان فأيهما فسخ صح اعتبارا بفسخ العيوب التى تكون موقوتة على المتعاقدين دون غيرهما والوجه الثاني: أن الفسخ لا يقع إلا بفسخ الحاكم كالفسخ بالعنة وعيوب الزوجين لانها عن اجتهاد.

فعلى هذا لو فسخه المتبايعان لم ينفسخ حتى يفسخه عليهما الحاكم بعد تحالفهما عنده، وتخيير كل منهما في قبول قول الآخر، فإن قبل صح البيع قال الشافعي في الام فيما يتعلق باختلاف المتبايعين: " وإذا تبايع الرجلان عبدا وتفرقا بعد البيع ثم اختلفا، فقال البائع: بعتك على أنى بالخيار ثلاثا.

وقال المشترى بعتني ولم تشترط خيارا تحالفا، وكان المشترى بالخيار في فسخ البيع، أو يكون للبائع الخيار وهذا والله أعلم كاختلافهما

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 61)

________________________________________

في الثمن، نحن ننقض البيع باختلافهما بالثمن وننقضه بادعاء هذا أن يكون له الخيار، وأنه لم يقر بالبيع إلا بخيار، وكذلك لو ادعى المشترى الخيار كان القول فيه هكذا.

اه ومرادنا من سوق هذا النص: قوله رضى الله عنه: نحن ننقض البيع باختلافهما بالثمن.

والنقض هنا نقض الظاهر، أما النقض في الباطن فلا، لانه يمكن

أن يتراضيا بغير عقد جديد فيمضى العقد على سننه.

وذلك هو قول المصنف (لان العقد في الباطن صحيح) قوله " ولان البينة أقوى من اليمين " لانها مقدمة عليه ولانه بقيامها لا يسوغ اليمين لان وسائل الاثبات إذا كانت كتابية وممهورة بخاتم أو توقيع البائع أو المشترى أو كليهما كان لا محل لليمين هنا ولان العقد وقع بين المتبايعين بالقواعد العامة المقررة شرعا من التراضي بين ذوى أهلية للتعاقد، ويكفينا أن نقول: انه يجب أن يقع التراضي على الامور الثلاثة وهى: ماهية العقد، والمبيع، والثمن فيجب لانعقاد البيع أن تتجه الارادتان إلى البيع والشراء، أما إذا لم تتقابل الارادتان في هذا المعنى بأن قصد أحد المتبايعين البيع والثانى عقدا آخر لم ينعقد عقد بيع ولا عقد آخر، وإذا قصدا معا إلى عقد آخر غير البيع طبقت أحكام هذا العقد ولو سمياه بيعا.

ومن هنا كان اتفاق الارادتين على الشئ المبيع ذاته، كان العقد صحيحا باطنا وظاهرا، فإذا اختلفا فقد أخلا بظاهره دون باطنه لسبق التقاء إرادتيهما على عقده.

أما إذا كانت هناك بينة ثم اختلفا وترافعا إلى القاضى، فإن القاضى يفسر بحكمه إرادة المتعاقدين، فإذا تعذر على القاضى ذلك لعدم توفر الخصائص الذاتية المميزة للتعاقد بموجب البينة المقدمة إليه، كما لو كانت وثيقة مزورة، أو شهادة مفتعلة، أو أمارات لا ينتهض لاقناعه بتوفر العناصر الاساسية للعقد واستحال على القاضى إعطاء الوصف الشرعي لصحة العقد أمر بفسخه، وهل يأمر بفسخه على الفور؟ أم على التراخي؟ الصحيح أنه إذا خشى تلف المبيع، أو فوات مصلحة تتعلق بنفوقه أو كساده كان قضاؤه على الفور.

أما إذا ترتب على التراخي عدم ما ذكرنا مع توقع تقدم أحد

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 62)

________________________________________

طرفي النزاع أو كليهما بالبينة أو (المستندات) كان له إصدار الحكم مع توقيت حينه بتأجيل النطق به إلى الوقت المناسب مناسبة مطابقة لجميع الاحوال مع اتقاء المضارة.

وغنى عن البيان أن عوض المبيع لا يشترط أن يكون نقدا مع الرجوع إلى أحكام الربويات التى مرت للمصنف والشارحين النووي والسبكي رحمهما الله.

ورجح ابن الرفعة أن لا يكون فسخ القاضى على الفور، ولا يشكل عليه ما مر من إلحاقه بالعيب وبقاء المنازعة، فقد يفرق بأن التأخير غير مشعر بالرضا للاختلاف في وجود المقتضى بخلافه.

ومنازعة الاسنوى في قياس ما تقرر على الاقالة الذى نقله المزني والبويطى وأقراه.

بأن كلا لو قال - ولو بحضور صاحبه بعد البيع: فسخته، لم ينفسخ ولم يكن إقالة، إذ لا تحصل الا ان صدرت بإيجاب وقبول، بشرطه المار مردودة بأن تمكين كل بعد التحالف من الفسخ كتراضيهما به.

أي بلفظ الاقالة، فالقياس صحيح، وأن لكل الابتداء بالفسخ، وبه صرح الرافعى على ما سيأتي قال الرملي في النهاية، وهو الملقب بالشافعي الصغير، رحمه الله تعالى: وإذا تحالفا فالصحيح أن العقد لا ينفسخ بنفس التحالف، لان البينة أقوى من اليمين.

وللخبر الثاني فإن تخييره فيه بعد الحلف صريح في عدم الانفساخ به ولو أقام كل منهما بينة لم ينفسخ، فبالتحالف أولى.

بل ان أعرضا عن الخصومة أعرض عنهما ولا ينفسخ، وان تراضيا على ما قال أحدهما أقر العقد وينبغى للحاكم ندبهما للتوافق ما أمكن.

ولو رضى أحدهما بدفع ما طلبه صاحبه أجبر الآخر عليه.

والا بأن لم يتفقا على شئ واستمرا على النزاع، فيفسخانه أو أحدهما، لانه فسخ لاستدراك الظلامة، فأشبه الفسخ بالعيب، أو الحاكم لقطع المنازعة.

ثم فسخ الحاكم والصادق منهما ينفذ ظاهرا وباطنا كالاقالة، وغيره

ينفذ ظاهرا فقط.

ورجح ابن الرفعة عدم وجوب الفور هنا، ولا يشكل عليه ما مر من إلحاقه

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 63)

________________________________________

بالعيب، فقد يفرق بأن التأخير غير مشعر بالرضا للاختلاف في وجود المقتضى ثم.

قال: وقيل انما يفسخه الحاكم لانه مجتهد فيه كالفسخ بالعنة، وكأنهم اقتصروا في الكتابة على فسخ الحاكم احتياطا لسبب العتق المتشوف إليه الشارع وبعده أيضا على أوجه الوجهين لبقاء ملكه، بل قضية تعليلهم جوازه بعد الفسخ إذا لم يزل به ملك المشترى وهو كذلك على أن لليمين فوائد: (منها) تخويف المدعى عليه سوء عاقبة الحلف الكاذب، فيحمله ذلك على الاقرار بالحق.

(ومنها) القضاء عليه بنكوله عنها على ما قدمنا من القضاء عليه إذا نكل عن اليمين.

(ومنها) انقطاع الخصومة والمطالبة في الحال، وتخليص كل من الخصمين من ملازمة الآخر، ولكنها لا تسقط الحق، ولا تبرئ الذمة باطنا ولا ظاهرا فلو أقام المدعى بينة بعد حلف المدعى عليه، سمعت وقضى بها، وكذا لو ردت اليمين على المدعى فنكل (١) ، ثم أقام المدعى بينة، سمعت وحكم بها (ومنها) اثبات الحق بها إذا ردت على المدعى أو أقام شاهدا واحدا.

(ومنها) تعجيل عقوبة الكاذب المنكر لما عليه من الحق، فإن اليمين الغموس تدع الديار بلاقع، فيشتفى بذلك المظلوم عوض ما ظلمه بإضاعة حقه.

________________________________________

(١) نكل عن الشئ امتنع عنه خوفا أو جبنا، ومشروعية اليمين هنا لحكمة

كبرى، وهى اعطاء المتخاصمين فرصة من الوقت يراجع فيها ضميره إذا كان على غير الحق.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 64)

________________________________________

ومنها أن تشهد قرائن الحال بكذب المدعى، فمذهب مالك أنه لا يلتفت إلى دعواه، ولا يحلف له، وهذا اختيار الاصطخرى من الشافعية، ويخرج على مذهب أحمد مثله، وذلك مثل أن يدعى الدنئ استئجار أمير أو ذى هيئة وقدر لعلف دوابه، وكنس بابه، ونحو ذلك.

وروى عن شيخ الاسلام ابن تيمية أنه كان عند نائب السلطان في دمشق (١) يجلس إلى جانبه، فادعى بعض الحاضرين أن له قبل ابن تيمية وديعة، وسأل اجلاسه معه واحلافه فقال لقاضي المالكية - وكان حاضرا - أتسوغ هذه الدعوى؟ وتسمع، فقال: لا، فقال ابن تيمية: فما مذهبك في مثل ذلك، قال تعزير المدعى.

قال ابن تيمية: فاحكم بمذهبك، فأقيم المدعى وأخرج.

(فرع)

إذا أقيمت الدعوى وقدمت البينة لا ينفسخ العقد الا بصدور حكم القاضى بالفسخ وهنا كان عدم انفساخه باليمين أولى.

وقوله: وفى الذى يفسخه وجهان، وعند الحنابلة طريقان.

اولهما: وهو الاصح عند الشافعي وأصحابه أن الذى يفسخه هو الحاكم لانه مجتهد فيه، أعنى لان أمر النزاع محل اجتهاد فافتقر إلى من يبذل وسعه، ومن يبلغ بعلمه واحاطته تغطية عناصر النزاع، ومن هنا افتقر أمر الفسخ إلى الحاكم كما يفتقر فسخ النكاح بالعيب إليه.

قال ابن قدامة في المغنى:

ويحتمل ان يقف الفسخ على الحاكم، وهو ظاهر مذهب الشافعي، لان العقد صحيح وأحدهما ظالم، وانما يفسخه الحاكم لتعذر امضائه في الحكم،

________________________________________

(١) كانت مصر والشام والحجاز واليمن يحكمها سلطان واحد مقره في القلعة بمصر وله نائب على دمشق ونائب علن حلب ونائب على الحجاز ونائب على اليمن وذلك على عهد المماليك الايوبيه وهم أبناء قلاوون.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 65)

________________________________________

فأشبه نكاح المرأة إذا زوجها الوليان، وجهل السابق منهما اه.

وأما الوجه الثاني على المذهب أو الطريق الاصح عند أحمد فهو أن يفسخه المتعاقدان، لانه يقع منهما صحيحا كالرد بالعيب، وكل ما كان فيه استدراك للظلامة وهو ظاهر الحديث واذعان له " أو يترادان البيع " وظاهره استقلالهما بذلك، وفى قصة بيع ابن مسعود الاشعث بن قيس رقيقا من رقيق الامارة، فقال عبد الله: بعتك بعشرين ألفا.

فقال الاشعث اشتريت منك بعشرة آلاف فقال عبد الله سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول " إذا اختلف البيعان وليس بينهما بينة، والمبيع قائم بعينه، فالقول قول البائع، أو يترادان البيع " قال فإنى أرد البيع، رواه سعيد بن منصور عن هشيم عن ابن أبى ليلى عن عبد الرحمن ابن القاسم عن ابن مسعود، ومن هنا لا يتوقف ذلك على فسخ الحاكم، الا إذا لجأ أحدهما إلى المرافعة لديه.

وحديث عبد الملك بن عبيدة قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم " إذا اختلف المتبايعان استحلف البائع، ثم كان المشترى بالخيار، ان شاء أخذ وان شاء ترك " وهذا ظاهر عند الحنابلة في أنه يفسخ من غير حاكم، لانه جعل الخيار إليه، فأشبه من له خيار الشرط أو الرد بالعيب، ولانه هنا لا يشبه النكاح لان لكل واحد من الزوجين الاستقلال بالطلاق.

ويمكن أن يرد على مفهوم هذين الخبرين على هذا النحو بما يأتي: أولا: ان متعلق النزاع بين ابن مسعود والاشعث هو رقيق الامارة، والامارة كانت لعبد الله بن مسعود، فكان هو بمثابة القاضى الذى طبق النص، وأوضحه لصاحبه، إذ لم يكن بهما من حاجة إلى حاكم وصاحب الشأن، حاكم ثقة يحمل الدليل اللاحب فلا يفيد الخبر استقلال المتبايعين بالفسخ عند التحالف وليس نصا قاطعا في هذا المفهوم.

ثانيا: خبر عبد الملك بن عبيده لا يفيد ذلك أيضا - أعنى ليس دليلا على استقلال المتبايعين بالفسخ دون الرجوع إلى القاضى - فان الخبر ينص بمنطوقه ومفهومه أيضا على عكس ذلك، فقوله (استحلف) دليل على طلب الحلف

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 66)

________________________________________

المستفاد من السين والتاء، ولا يكون الطلب إلا من غيرهما، وليس سوى الحاكم هو الذى يستحلف البائع والله أعلم.

(مسألة) قال الشافعي في باب المكاتب: إذا اختلف الزوجان في المهر وتحالفا بدأت بالزوج اه.

قلت: وهذا مخالف لقاعدة البدء بالبائع لان الزوج يحل محل المشترى.

وقال الشافعي في كتاب الدعوى والبينات وآداب القضاه: إن بدأ البائع باليمين خير المشترى، وإن بدأ بها المشترى خير البائع.

قلت: وهذا يدل على أن للحاكم تقديم أيهما شاء.

ولعل أقوال الشافعي في الام جعلت الاصحاب يخرجون المسألة على الاقاويل الثلاثة المعروفة.

أحدها: ان يبدأ الحاكم بإحلاف البائع لانه أقوى جانبا.

والثانى: بإحلاف المشترى لانه أقوى جانبا لمشابهته الزوج.

والثالث: وهو أصح الاقوال عند الاصحاب أن الحاكم يبدأ بإحلاف البائع

قبل المشترى ويمكن أن يجاب عن اختلاف الاقاويل بأن ظاهر النص في البيوع بإحلاف البائع قبل المشترى وظاهر النص في الصداق بإحلاف الزوج قبل الزوجة، والفرق بينهما أن تحالفهما في البيع برد المبيع إلى يد بائعه فبدئ بإحلافه، وتحالفهما في المهر لا يرفع ملك الزوج عن البضع، وهو بعد التحالف على ملكه فبدئ بإحلافه.

وأما ما قاله الشافعي في الدعوى والبينات فإنما أراد به أن الحاكم إن أداه اجتهاده إلى تقديم المشترى جاز، وإن أداه اجتهاده إلى تقديم البائع جاز، لان تقديم أحدهما طريقه الاجتهاد دون النص، فجاز أن يؤدى الاجتهاد إلى تقديم كل واحد منهما، وليس كاللعان الذى ورد النص بتقديم الزوج ولا يجوز خلافه فإذا ثبت أن يبدأ بيمين البائع على ما شرحنا من المذهب فهل تقديمه في اليمين من طريق الاولى إلى طريق الاستحقاق؟ على وجهين.

أحدهما: أن تقديمه على طريق الاستحقاق، فإن قدم عليه المشترى لم يجز الا أن يؤدى اجتهاد الحاكم إلى ذلك.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 67)

________________________________________

والوجه الثاني: تقديمه على طريق الاولى، فإن قدم عليه المشترى جاز وان لم يؤده اجتهاده إليه ولما كان الحاكم منصوبا لاستيفاء الحقوق وقطع التخاصم، ولانه مجتهد، يجب تسليم المبيع والثمن إليه حتى إذا قضى بينهما سلم المبيع اما إلى المشترى واما رده إلى بائعه وسلم الثمن اما إلى البائع واما رده إلى المشترى.

 

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

وإذا فسخ أو انفسخ فهل ينفسخ ظاهرا وباطنا أم لا فيه ثلاثة أوجه، أحدها ينفسخ ظاهرا وباطنا لانه فسخ بالتحالف فوقع ظاهرا وباطنا كفسخ النكاح باللعان، ولانه فسخ بيع لاستدراك الظلامة فصح ظاهرا وباطنا كالرد بالعيب.

والثانى: أنه ينفسخ في الظاهر دون الباطن، لان سبب الفسخ هو الجهل بالثمن، والثمن معلوم في الباطن مجهول في الظاهر، فلما اختصت الجهالة بالظاهر دون الباطن اختص البطلان بالظاهر دون الباطن.

والثالث: أنه ان كان البائع هو الظالم وقع الفسخ في الظاهر دون الباطن، لانه يمكنه أن يصدق المشترى، ويأخذ منه الثمن، ويسلم إليه المبيع، فإذا لم يفعل كان ممتنعا من تسليم المبيع بظلم، فلم ينفسخ البيع، وان كان البائع مظلوما انفسخ ظاهرا وباطنا، لانه تعذر عليه أخذ الثمن، ووجد عين ماله فجاز له أن يفسخ ويأخذ عين ماله، كما لو أفلس المشترى ووجد البائع عين ماله.

فإن قلنا: ان الفسخ يقع في الظاهر والباطن عاد المبيع إلى ملك البائع والى تصرفه.

وان قلنا: ان الفسخ في الظاهر دون الباطن نظرت، فان كان البائع هو الظالم لم يجز له قبض المبيع والتصرف فيه، بل يلزمه أن يأخذ ما أقر به المشترى من الثمن ويسلم المبيع إليه، وان كان مظلوما لم يجز له التصرف في المبيع بالوطئ والهبة، لانه على ملك المشترى، ولكن يستحق البايع الثمن في ذمة المشترى، ولا يقدر على أخذه منه فيبيع من المبيع بقد حقه، كما تقول فيمن له على رجل دين لا يقدر على أخذه منه ووجد شيئا من ماله.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 68)

________________________________________

(الشرح) العقد له ظاهر وهو الايجاب والقبول والتقابض من الماديات الظاهرة أما الباطن فهو التقاء ارادة كل من المتبايعين، ووجود العلم بحقيقة النزاع ولكن في ضمير كل منهما.

ومن هنا إذا انفسخ العقد بصورة مما أسلفنا فهل ينفسخ ظاهرا وباطنا؟ أم ظاهرا فقط؟ على ثلاثة أوجه عند الشافعية، ووجهان عند أصحاب أحمد، ووجه عند أحمد.

أولها: ينفذ الفسخ ظاهرا وباطنا بهذا التحالف، كفسخ النكاح باللعان.

ولانه فسخ بيع لاستدراك الظلامة فوقع ظاهرا وباطنا وهو كالر بالعيب.

أو فسخ عقد بالتحالف.

وهذا الوجه هو ظاهر كلام أحمد بن حنبل.

ثانيها: ينفذ الفسخ في الظاهر دون الباطن لان سبب الفسخ هو الجهل بالثمن والثمن معلوم في ضميرهما مجهول في الظاهر.

ولان انفساخ العقد سببه الجهالة بالثمن.

ولان الجهالة قاصرة على الظاهر دون الباطن انحصر الانفساخ في ظاهر العقد واختص البطلان بالظاهر.

وكان العقد في الباطن صحيحا.

وكان القاضى الذى يحاسب المتبايعين على هذا التحالف والنزاع هو الله رب العالمين.

وكأى عقد من العقود التى في ذمة المسلم واجبة الوفاء يكون للعقد طرفان ظاهران وطرف آخر في الباطن يعلمه الذى لا تخفى عليه خافية.

ولقوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " وهو الذى يتولى جزاء الناكثين والناقضين بغير حق يسوغ لهم النقض.

ولانه لو أراد أحد طرفي النزاع أن يوافق الآخر على رأيه ويتنازل عن دعواه.

فانهما لا يفتقران إلى عقد جديد أو ايجاب وقبول آخرين.

ومن هنا يتحرك العقد المنقدح من ضميرهما إلى تنفيذ وامضاء في الظاهر ولانه يحرم عليه أمام الله التصرف في المبيع ان كان ظالما لصاحبه.

وهذا الوجه هو وجه عند أصحاب أحمد أيضا.

قال أبو الخطاب من الحنابلة: ان كان البايع ظالما لم ينفسخ القد في الباطن لانه كان يمكنه امضاء العقد واستيفاء حقه فلا ينفسخ العقد في الباطن ولا يباح له التصرف في المبيع لانه غاصب.

فان كان المشترى ظالما انفسخ البيع ظاهرا وباطنا لعجز البايع عن استيفاء حقه.

فكان له الفسخ.

كما لو أفلس المشترى.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 69)

________________________________________

قال الماوردى في الحاوى (١) في المجلد الخامس من النسخة الخطية بمصر، وهى ذات الاربعة والعشرين مجلدا بالخزانة العربية: لا يفسخ العقد بنفس التحالف

لان كل واحد منهما يقصد بيمينه إثبات الملك لانهما ضدان، فعلى هذا بماذا يكون الفسخ بعد التحالف؟ فيه وجهان

(أحدهما)

أن الفسخ يكون لكل واحد من المتبايعين، فأيهما فسخ صح اعتبارا بفسخ العيوب التى تكون موقوفة على المتعاقدين دون غيرها والوجه الثاني أن الفسخ لا يقع إلا بفسخ الحاكم كالفسخ بالعنة وعيوب الزوجين، لانها عن اجتهاد، فعلى هذا لو فسخه المتبايعان لم ينفسخ حتى يفسخه عليهما الحاكم، ولا يجوز للحاكم أن يفسخه بغير تحالفهما بعد عرض ذلك على كل واحد منهما، كما يعرض على الثاني بعد تخيير الاول، ثم يفسخه بينهما حينئذ، فلو تراضيا بعد تحالفهما صح البيع وهل يقع الفسخ ظاهرا أو باطنا؟ ويقع في الظاهر دون الباطن، على ثلاثة أوجه (أحدها) أن الفسخ قد وقع ظاهرا وباطنا، سواء كان البائع ظالما أو مظلوما، كالفسخ باللعان، وكالفسخ عند تحالف الزوجين في نكاح الولى.

فإن ذلك يقع ظاهرا وباطنا، كذلك في البيع، فعلى هذا إذا عادت السلعة إلى البائع كان له ان يتصرف فيها بما شاء من أنواع التصرف كما يفعل في سائر أحواله وإن كانت جارية جاز أن يطأها والوجه الثالث: أن الفسخ يقع في الظاهر دون الباطن، سواء كان البائع ظالما أو مظلوما لانهما يتفقان مع الاختلاف على صحة العقد وانتقال الملك، وحكم الحاكم لا يحيل الامور عما هي عليه في الباطن لقوله صلى الله عليه وسلم " إنما أحكم بالظاهر ويتولى الله السرائر " فعلى هذا إذا عاد المبيع إلى البائع قيل له: إن كنت تعلم فيما بينك وبين الله

________________________________________

(١) المجلد الخامس من النسخة الخطية بدار الكتب تحت رقم ٨٢ فقه شافعي على أن هناك نسخة خطية أخرى تقع في أربعة عشر مجلدا تحت رقم ٨٣

وهى غير كاملة.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 70)

________________________________________

أنك كاذب، وأن المشترى صادق، فليس لك أن تتصرف في المبيع بوجه لانه ملك لغيرك، وأنت غير ممنوع من ثمنه فإن تصرفت فيه كنت كمن تصرف في ملك غيره متعديا، وإن كنت تعلم أنك صادق وأن المشترى كاذب فالمبيع للمشترى وأنت ممنوع من ثمنه فليس لك أن تطأه إن كان المبيع جارية وأن لا تهب، وتكون كمن له مال على غيره لا يقدر على أخذه منه أو أي شئ من ماله فيتبع السلعة لتصل إلى حقك من ثمنها وفى المتولي لبيعها، والثانى تولاه الحاكم، فإذا بيعت فإن كان الثمن بقدر حقك فلك أخذ حقك، وإن كان أكثر من حقك فعليك رد الباقي، وإن كان الثمن أقل من حقك فالباقي دين لك في ذمة المشترى والوجه الثالث: ان كان البائع مظلوما والمشترى ظالما وقع الفسخ في الظاهر والباطن.

وقد أشار إلى هذا الوجه أبو إسحاق المروزى تعلقا بأن الملك للمشترى بالعقد، وان كان لم ينتقل ملكه.

وان كان ظالما صار بالظلم مانعا من ثمنها فصار أسوأ حالا من الجنس الذى يزال ملكه بالاولى لتعذر الثمن.

فكذلك هذا يزال ملكه بالظلم لتعذر الوصول إلى الثمن.

فعلى هذا إن كان البائع مظلوما فقد وقع الفسخ ظاهرا وباطنا وجاز للبائع إذا عادت السلعة إليه أن يتصرف كيف شاء.

اه قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

وإن اختلفا في الثمن بعد هلاك السلعة في يد المشترى، تحالفا وفسخ البيع بينهما، لان التحالف يثبت لرفع الضرر واستدراك الظلامة، وهذا المعنى موجود بعد هلاك السلعة، فوجب ان يثبت التحالف، فإذا تحالفا رجع بقيمته ومتى تعتبر قيمته؟ فيه وجهان

(أحدهما)

تجب قيمته يوم التلف

(والثانى)

تجب

قيمته أكثر ما كانت من يوم القبض إلى يوم التلف، وقد ذكرنا دليل الوجهين في هلاك السلعة في البيع الفاسد، فإن زادت القيمة على ما ادعاه البائع من الثمن وجب ذلك.

وحكى عن أبى على بن خيران أنه قال: ما زاد على الثمن لا يجب، لان البائع لا يدعيه فلم يجب، كما لو أقر لرجل بمالا يدعيه، والمذهب الاول.

لانه بالفسخ سقط اعتبار السلعة، فالقول قول المشترى لانه غارم.

فكان

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 71)

________________________________________

القول قوله كالغاصب، فإن تقايلا أو وجد بالمبيع عيبا فرده واختلفا في الثمن.

فقال البائع الثمن ألف، وقال المشترى الثمن ألفان فالقول قول البائع، لان البيع قد انفسخ، والمشترى مدع، والبائع منكر، فكان القول قوله (الشرح) إذا هلكت السلعة في يد المشترى واختلفا في الثمن تحالفا، ولا اعتبار باليد، إلا أن يكون تلفها قبل القبض.

أما إذا كان تلفها بعد القبض وتلفت في يد المشترى فأبو حنيفه يرى أنه إذا تلف المبيع في خيار الثلاث بعد لزوم العقد فالقول قول المشترى ولا تحالف لان تلف السلعة يمنع من التحالف ويوجب قبول قول المشترى لما روى عن ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إذَا اختلف المتبايعان ولا بينة لواحد منهما والسلعة قائمة تحالفا أو ترادا.

فشرط التحالف بقاء السلعة فاقتضى عدم قيام التحالف مع تلف السلعة.

قال ولانه فسخ ثبت مع نقل المبيع، فوجب أن يسقط مع تلفه كالرد بالعيب.

قال ولانه تلف عن عقد صحيح فوجب أن يبقى عند الفسخ قال: إذا تلف المبيع في خيار الثلاث بعد لزوم العقد، فهل يستمر العقد أو ينفسخ؟ قال ولان المبيع أقبض وصار في يد المشترى فهو مضمون على مشتريه بالثمن، فلو جاز تحالفهما بعد الثمن لصار مضمونا عليه بالقيمة دون الثمن.

وهذا مما ينافى ضمان العقد.

ولنا أن الدلالة على صحة ما ذهبنا إليه من تحالفهما مع نقل السلعة وتلفها ما روى في الخبر: " البينة على من ادعى واليمين على من أنكر " وقد مر لنا بيان طرقه ودرجته وتقعيد العمل به، وكل واحد من المتبايعين منكر ومدع، لان البائع يقول بعت بألف ولم أبع بخمسمائة، ويقول المشترى عكس ذلك، فكل واحد منهما يجوز أن يقيم البينة والبينة إنما تسمع من المدعى دون المنكر، فدل على أن كل واحد منهما مدع منكر فوجب أن يتحالفا، لان التحالف يثبت لرفع الضرر واستدراك الظلامة، وهذا المعنى موجود بعد هلاك السلعة، فوجب أن يثبت التحالف

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 72)

________________________________________

ويدل على ذلك أيضا الحديث الذى رواه الشافعي وغيره عن ابن مسعود " إذا اختلف البيعان فالقول قول البائع، والمبتاع بالخيار " ولم يفرق بين بقاء السلعة وتلفها.

فإن قيل: فقد شرط بقاء السلعة في التحالف في الخبر الآخر، فصار هذا الاطلاق محمولا على ذلك التقييد، كما حملتم إطلاق العتق في كفارة الظهار على تقييد العتق في كفارة القتل، قيل: هذا ليس من المقيد الذى يحمل إطلاق جنسه عليه لان إطلاق خبر ربما يوجب تحالفهما مع بقاء السلعة وتلفها فصار قوله: إذا اختلفا والسلعة قائمة تحالفا مع استواء الحكم في قيامها وتلفها، قيل: يحتمل وجوها: أحدها: البينة على حكم التحالف مع التلف، لان بقاء السلعة يمكن معه اعتبار قيمتها، فيغلب به قول من كانت دعواه أقرب إليه، ومع التلف لا يمكن فلما سقط اعتبار هذا وأوجب التحالف مع قيام السلعة، كان وجوب التحالف مع تلفها أولى.

والثانى: أنه نص على بقاء السلعة، إسقاطا لاعتبار اليد، بخلاف مالك، حتى إذا تحالفا مع وجوب اليد كان تحالفهما مع زوال السلعة، لان تلفها قد يكون مكملا للعقد - كان قبل القبض - وبقاؤها ليس يبطل العقد معه، فيتحالفان مع بقائها، ولا يتحالفان مع تلفها.

فإن قيل: فلا دلالة لكم في هذا الخبر لانه جعل القول قول البائع، وأنتم لا تقولون به، قيل قد جعل المشترى بعده بالخيار، ومن جعل القول قول البايع على الاطلاق لم يجعل للمشترى خيارا، وإذا ثبت خيار المشترى بعد يمين البائع فخياره في قبول السلعة بما حلف عليه البائع، أو يحلف بعده، ويفسخ البيع، وكذا نقول في تحالفهما.

وإنما خص رسول الله صلى الله عليه وسلم البائع بالذكر لانه المبتدئ باليمين ويدل عليه المسألة من طريق المعنى أنه اختلاف في صفة عقد بيع صحيح فاقتضى أن يوجب التحالف فإذا كانت السلعة قائمة، ولان ما يوجب فسخ العقد يستوى فيه الباقي والتالف كالاستحقاق، ولانه فسخ لا يفتقر إلى تراضيهما.

فإذا صح مع تراد الاعيان صح مع تراد القيم.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 73)

________________________________________

وإذا اشترى عبدا بجارية وتقابضا ثم تلفت الجارية فوجد بالعبد عيبا فله رده بالعيب واسترجاع قيمة الجارية لفسخ العقد بعد تلفها كما كان له فسخه مع بقائها.

وأما الجواب عن استدلال أبى حنيفة بحديث ابن مسعود فقد مضى في معارضته الخبر الذى رواه الشافعي.

وأما الجواب عن قياسه على الرد بالعيب فالمعنى فيه أن العيب مما تلف يقدر على استدراك ظلامته بالاوفق فلم يفسخ، وليس كذلك في اختلافهما، لان كل

واحد منهما لا يقدر على استدراك ظلامته إلا بالتحالف، فجاز أن يتحالفا مع التلف، ولا وجه لقوله: إن السلعة بعد تلفها لا تقبل الفسخ، كما لا تقبل ابتداء العقد.

وإن إقالة العبد الآبق لا تصح ولا تقبل الاقالة، كما لا يقبل ابتداء العقد، لانه يقول فيمن ابتاع عبدا وقتل في يد البائع إن المشترى بالخيار بين أن يفسخ ويسترجع الثمن، أو يقيم على البيع ويأخذ من القاتل قيمة العبد، فقد جعل العقد بعد التلف قابلا للفسخ كذلك فيما جعلناه أصلا معه من بيع العبد بالجارية إذا تلفت ووجد بالعبد عيبا أن له رده بالعيب واسترجاع قيمة الجارية فجعل العقد بعد التلف قابلا للفسخ كما قبل التلف.

وأما الجواب عن قياسهم على خيار الثلاث فحكم الاصل غير مسلم فلم نسلم.

وأما الجواب عن قولهم ان المقبوض عن البيع الصحيح مضمون بالثمن دون القيمة فهو أن هذا الاستدلال باطل بمبتاع العبد بالجارية إذا تلفت ووجد بالعبد عيبا لان الجارية قد كانت مضمونة بالعبد الذى هو الثمن، ثم صارت بعد الفسخ بالعيب مضمونة بالقيمة دون الثمن.

ومقصد الفصل أن المتبايعين إذا اختلفا في قدر الثمن بعد هلاك المبيع في يد المشترى تحالفا وفسخ البيع ورجع بقيمة المبيع ان كان متقوما، وان كان مثليا وجب على المشترى مثله.

وهذا هو قول الشافعي، ومالك وأحمد في احدى روايتيهما " ومتى تعتبر قيمته، وهل يقوم من حين قبضه، أم يقوم من حين هلاكه؟ وجهان.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 74)

________________________________________

أحدهما: يقوم، وتجب قيمته يوم التلف.

وقد مر بيان ذلك في هلاك السلعة في البيع الفاسد.

فإذا زادت القيمة على ما ادعاه البائع من الثمن وجب ذلك خلافا لابي على بن

خيران بناء على قاعدة عدم إعطاء البائع ما ليس يدعيه وليس بمذهب.

(مسألة) إذا كان الهلاك معنويا بأن وقف المشترى المبيع أو أعتقه أو باعه أو تعلق به حق لازم ككتابة صحيحه - كما سيأتي في المكاتبة إن شاء الله تعالى - أو كان حسيا كأن مات لزمه قيمته إن كان متقوما، وكثيرا ما يعبرون بالقيمة ويريدون بها البدل شرعا، ولو تلف بعضه رد الباقي وبدل التالف وهذه القيمة هي قيمة يوم التلف في أظهر الاقوال كما رجحه الرملي في نهاية المحتاج، وإن كان المصنف رحمه الله ذكر قولا ثانيا وهو وجوب قيمته أكثر ما كانت من يوم القبض إلى يوم التلف.

وموضوع الفسخ العين، والقيمة بدل عنها، ثم تعتبر عند فوات أصلها، وفارق اعتبارها بما ذكر اعتبارها لمعرفة الارش بأقل قيمتي العقد والقبض، والنظر إليها هناك لا للغرم بل ليعرف منها الارش، وهنا المغروم القيمة فكان اعتبار حالة الاتلاف أليق.

قاله الرافعى.

وجعل الرملي القول الاول للمصنف قولا ثانيا عنده فقال: والثانى: قيمة يوم القبض لانه يوم دخوله في ضمانه.

والثالث: أقل القيمتين يوم العقد والقبض.

وجعل الرملي القول الثاني للمصنف قولا رابعا فقال: والرابع: أقصى القيم من يوم القبض إلى يوم التلف لان يده يد ضمان فتعتبر أعلى القيم.

ان تعيب - أي أصابه عيب - رده مع أرشه وهو ما نقص من قيمته لان الكل مضمون على المشترى بالقيمة، فكان بعضه مضمونا ببعضها.

(مسألة) فرق بين اعتبار قيمة يوم التلف هنا وبين ما لو باع عينا فردت عليه بعيب وقد تلف الثمن المتقوم بيد البائع فانه يضمنه بالاقل من العقد إلى القبض بأن سبب الفسخ هنا حلف البائع، فنزل منزلة إتلافه فتعين النظر ليوم التلف.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 75)

________________________________________

وثم الموجب للقيمة هو مجرد ارتفاع العقد من غير نظر لفعل أحد، فتعين النظر لقضية العقد وما بعده إلى القبض.

(مسألة) وطئ الثيب ليس بعيب فلا أرش له، وإن كان قد رهنه أي المبيع خير البائع بين أخذ قيمته أو انتظار فكاكه، ولا ينافى ذلك ما ذكر في الصداق أنه لو طلقها قبل الوطئ وكان الصداق مرهونا، وقال: أنتظر الفكاك للرجوع فلها إجباره على قبول نصف القيمة لما عليها من خطر الضمان، فقياسه هنا إجباره على أخذ القيمة، لانا نقول: المطلقة قد حصل لها كسر بالطلاق، فناسب جبرها بإجابتها بخلاف المشترى وذلك للرفق بها ودفع ما أصابها من الكسر.

وإن كان قد أجره رجع فيه مؤجرا، ولا ينتزعه من يد المكترى حتى تنقضي المدة والمسمى للمشترى، وعليه للبائع أجرة المثل للمدة الباقية من وقت الفسخ إلى انقضاءها، ولو كان زكاة معجلة - وتعيب - فلا أرش أو جعله المشترى مثلا - صداقا - وتعيب في يد الزوجة واختار الرجوع إلى الشطر فلا أرش فيه، ولو دبره المشترى لم يمنع رجوع البائع أخذا مما ذكره المصنف في الفلس على ما سيأتي من أنه لا يمنع فيه.

قال في الحاوى: إذا فسخ البيع وجب رد السلعة على بائعها سواء قيل: إن الفسخ قد وقع ظاهرا وباطنا، أو قد وقع في الظاهر دون الباطن، فإن كانت السلعة تالفة فلا يخلو حالها من أحد أمرين إما أن تكون مما لها مثل أو مما لا مثل لها، فإن كانت مما لا مثل لها وجب رد قيمتها وفى اعتبار القيمة وجهان.

أحدهما: وقت التلف.

والثانى: مما كانت قيمته من وقت القبض إلى وقت التلف، فإن اختلفا في قدر القيمة فالقول قول المشترى مع يمينه اعتبارا بها في

ذمته، وسواء كانت القيمة أكثر مما ادعاه البائع أو أقل لبطلان ما ادعاه واستحقاق المبيع، وإن كانت السلعة المبيعة مما له مثل كالحنطة والشعير ففيه وجهان.

أحدهما: عليه رد مثله كالمغصوب.

والثانى وهو الاصح أن عليه غرم قيمته لانه لم يضمنه وقت القبض بالمثل، وإنما ضمنه بالعوض دون المثل بخلاف الغصب

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 76)

________________________________________

قال: فأما ما أخذه المشترى من المبيع قبل الفسخ من غلة أو ثمرة أو نتاج فكله على ملك المشترى لا يلزمه رد شئ منه على البائع، لانه كان مالكا حين استغله، وإنما زال ملكه بما حدث من الفسخ.

اه وإن تقايلا، وأعفى كل منهما صاحبه من التزامه، أخذ البائع سلعته وأخذ المشترى ثمنه، فإذا اختلفا في الثمن، فقال البائع: الثمن ألف، وقال المشترى ألفان فالقول قول البائع، لانه لا يربطهما عقد لانفساخ البيع، فيكون المشترى بمجرد فسخ البيع مدعيا عليه البينة، فان أتى بالبينة كان القول قوله، فان لم تكن له بينة كان القول قول البائع لانه منكر بيمينه.

ومثل؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ل الرد بالعيب، وذلك إذا اختلفا في الثمن، فان العقد بمجرد الرد بالعيب يعد منسوخا وينسحب على كل منهما من الوصف ما ذكرناه في التقايل فالمشترى مدع عليه البينة والمشترى منكر.

قال ابن قدامة رحمه الله: وإذا اختلفا في ثمن السلعة بعد تلفها فعن أحمد فيها روايتان.

إحداهما: يتحالفان مثل ما لو كانت قائمة، وهو قول الشافعي وإحدى الروايتين عن مالك والاخرى قول المشترى مع يمينه اختارها أبو بكر، وهذا قول النخعي والثوري والاوزاعي وأبى حنيفة لقوله عليه السلام في الحديث " والسلعة قائمة ".

فمفهومه أنه لا يشرع التحالف عند تلفها، ولانهما اتفقا على نقل السلعة إلى

المشترى، واستحقاق عشرة في ثمنها، واختلفا في عشرة زائدة، البائع يدعيها والمشترى ينكرها، والقول قول المنكر، وتركنا هذا القياس حال قيام السلعة للحديث الوارد فيه، ففيما عداه يبقى على القياس.

ووجه الرواية الاولى عموم قوله " إذا اختلف المتبايعان فالقول قول البائع.

والمشترى بالخيار ".

وقال أحمد: ولم يقل فيه والمبيع قائم إلا يزيد بن هرون، قال أبو عبد الله وقد أخطأ رواة الحلف عن المسعودي، لم يقولوا هذه الكلمة، ولكنها في حديث معن، ولان كل واحد منهما مدع ومنكر، فيشرع اليمين كحال لقيام السلعة،

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 77)

________________________________________

وما ذكروه من المعنى يبطل بحال قيام السلعة، فإن ذلك لا يختلف بقيام السلعة وتلفها.

وقولهم تركناه للحديث.

قلنا ليس في الحديث تحالفا.

وليس ذلك بثابت في شئ من الاخبار قال ابن المنذر.

وليس في هذا الباب حديث يعتمد عليه.

اه، وعلى أنه إذا خولف الاصل لمعنى وجب تعديته بتعدى ذلك المعنى فنقيس عليه، بل يثبت الحكم بالبينة، فإن التحالف إذا ثبت مع قيام السلعة مع أنه يمكن معرفة ثمنها للمعرفة بقيمتها فإن الظاهر أن الثمن يكون بالقيمة، فمع تعذر ذلك أولى فإذا تحالفا فإن رضى أحدهما بما قال الآخر لم يفسخ العقد لعدم الحاجة إلى فسخه، وإن لم يرضيا فلكل واحد منهما فسخه، كما له ذلك في حال بقاء السلعة، ويرد الثمن الذى قبضه البائع إلى المشترى، ويدفع المشترى قيمة السلعة إلى البائع فإن كانا من جنس واحد وتساويا بعد التقابض تقاصا وينبغى أن لا يشرع التحالف ولا الفسخ فيما إذا كانت قيمة السلعة مساوية للثمن الذى ادعاه المشترى ويكون القول قول المشترى مع يمينه، لانه لا فائدة

من يمين البائع ولا فسخ البيوع، لان الحاصل بذلك الرجوع إلى ما ادعاه المشترى وإن كانت القيمة أقل فلا فائدة للبائع في الفسخ فيحتمل أن لا يشرع له اليمين ولا الفسخ لان ذلك ضرر عليه من غير فائدة ويحتمل أن يشرع لتحصيل الفائدة للمشترى، ومتى اختلفا في قيمة السلعة رجعا إلى قيمة مثلها موصوفا بصفاتها، فإن اختلفا في الصفة فالقول قول المشترى مع يمينه لانه غارم، والقول قول الغارم وان تقايلا المبيع أو رد بعيب بعد قبض البائع الثمن ثم اختلفا في قدره فالقول قول البائع لانه منكر لما يدعيه المشترى بعد انفساخ العقد، فأشبه ما لو اختلفا في القبض.

 

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

وان مات المتبايعان فاختلف ورثتهما تحالفوا لانه يمين في المال فقام الوارث فيها مقام الموروث كاليمين في دعوى المال، وان كان البيع بين وكيلين

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 78)

________________________________________

واختلفا في الثمن، ففيه وجهان

(أحدهما)

يتحالفان لانهما عاقدان فتحالفا لمالكين

(والثانى)

لا يتحالفان لان اليمين تعرض حتى يخاف الظالم منهما فيرجع.

والوكيل إذا أقر ثم رجع لم يقبل رجوعه فلا تثبت اليمين في حقه (الشرح) اعلم أن هذا الفصل يتضمن ما يقع من الاختلاف بين من يحل محل المتبايعين والحال محل المتبايعين اما أن يكون وارثا واما أن يكون وكيلا وفى هذه الحال يقوم الوارث مقام الموروث قولا واحدا أما الوكيلان فوجهان

(أحدهما)

يتحالفان كالمالكين والوارثين

(والثانى)

لا يتحالفان لعدم وقوع الظلم من أحدهما للآخر وقد يموت أحد المتبايعين وله وكيل فيجرى عليه الوجهان، أو وارث فهو

حال محل الموروث في الظلامة والتحالف، فكما أن الوارث يأخذ مال موروثه فله أن يأخذ ما عساه يكون حقا له، ويلزمه ما عساه يصير لازما عليه قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

وان إختلفا المتبايعان في قدر المبيع تحالفا لما ذكرنا في الثمن.

وان اختلفا في عين المبيع بأن قال البائع " بعتك هذا العبد بألف.

وقال المشترى بل اشتريت هذه الجارية بألف " ففيه وجهان

(أحدهما)

يتحالفان لان كل واحد منهما يدعى عقدا يتكره الآخر، فأشبه إذا اختلفا في قدر المبيع

(والثانى)

أنهما لا يتحالفان، بل يحلف البايع أنه ما باعه الجارية ويحلف المشترى أنه ما اشترى العبد.

وهو اختيار أبى حامد الاسفراينى رحمه الله، لانهما اختلفا في أصل العقد في العبد والجارية، فكان القول فيه قول من ينكر كما لو ادعى أحدهما على الآخر عبدا والآخر جارية من غير عقد، فإن أقام البائع بينة أنه باعه العبد وجب على المشترى الثمن، فإن كان العبد في يده أقر في يده، وان كان في يد البائع ففيه وجهان (احدهما) يجبر المشترى على قبضه، لان البينة قد شهدت له بالملك

(والثانى)

لا يجبر لان البينة شهدت له بمالا يدعيه، فلم يسلم إليه، فعلى هذا يسلم إلى الحاكم ليحفظه

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 79)

________________________________________

(فصل)

وإن اختلفا في شرط الخيار أو الاجل أو الرهن أو في قدرها تحالفا لما ذكرناه في الثمن، فإن اختلفا في شرط يفسد البيع ففيه وجهان، بناء على القولين في شرط الخيار في الكفالة.

أحدهما: أن القول قول من يدعى الصحة، لان الاصل عدم ما يفسد.

والثانى: أن القول قول من يدعى الفساد، لان الاصل عدم العقد فكان

القول قول من يدعى ذلك، فإن اختلفا في الصرف بعد التفرق، فقال أحدهما: تفرقنا قبل القبض، وقال الآخر: تفرقنا بعد القبض، ففيه وجهان، أحدهما أن القول قول من يدعى التفرق قبل القبض، لان الاصل عدم القبض، والثانى أن القول قول من يدعى التفرق بعد القبض، لان الاصل صحة العقد، وإن اختلفا بعد التفرق فقال أحدهما تفرقنا عن تراض، وقال الآخر تفرقنا عن فسخ البيع ففيه وجهان.

أحدهما أن القول قول من يدعى التراضي، لان الاصل عدم الفسخ وبقاء العقد، والثانى أن القول قول من يدعى الفسخ لان الاصل عدم اللزوم ومنع المشترى من التصرف، فأما إذا اختلفا في عيب المبيع ومثله يجوز أن يحدث فقال البائع عندك حدث العيب وقال المشترى بل حدث عندك، فالقول قول البائع، لان الاصل عدم العيب فان اختلفا في المردود بالعيب فقال المشترى هو المبيع، وقال البائع: الذى بعتك غير هذا فالقول قول البايع لان الاصل سلامة المبيع، وبقاء العقد، فكان القول قوله، فان اشترى عبدين فتلف أحدهما ووجد بالآخر عيبا فرده وقلنا إنه يجوز أن يرد أحدهما واختلفا في قيمة التالف ففيه قولان، أحدهما وهو الصحيح أن القول قول البايع.

لانه ملك جميع الثمن فلا يزال ملكه إلا عن القدر الذى يقر به كالمشترى والشفيع إذا اختلفا في الثمن.

فان القول قول المشترى، لانه ملك الشقص فلا يزال إلا بما يقر به، والثانى.

أن القول قول المشترى لانه كالغارم فكان القول قوله فان باعه عشرة أقفزة من صبرة وسلمها بالكيل فادعى المشترى أنها دون حقه ففيه قولان.

أحدهما: أن القول قول المشترى، لان الاصل أنه لم يقبض جميعه.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 80)

________________________________________

والثانى: أن القول قول البايع، لان العادة فيمن يقبض حقه بالكيل أن

يستوفى جميعه فجعل القول قول البايع.

(الشرح) اعلم أن اختلاف المتبايعين على ضربين، أحدهما أن يختلفا في أصل العقد، والثانى في صفته، فإن كان اختلافهما في أصل العقد مثل أن يقول البائع بعتك هذا الشئ بألف فيقول الآخر ما اشتريت، أو يقول المشترى: اشتريت منك هذا الشئ بألف، ويقول المالك: ما بعت، فالقول قول منكر العقد مع يمينه بائعا كان أو مشتريا إلا أن يقيم مدعى العقد بينة ولا تحالف بينهما لقوله صلى الله عليه وسلم " البينة على من ادعى ".

وإن كان اختلافهما في صفة العقد، كاختلافهما في قدر الثمن أو صفته أو في قدر المثمن أو في صفته.

والضرب الثاني أن يكون اختلافهما مما قد يخلو من العقد كاختلافهما في الاجل وفى قدره أو في الخيار أو في قدره أو في الرهن أو في التمييز أو في عينه.

فأما الضرب الاول وهو أن يكون اختلافهما مما يكون يخلو منه العقد من قدر الثمن أو صفته فقد مر تفصيل ذلك في الفصول السابقة، وأما ما يكون من اختلاف في قدر المثمن أو صفته، فالاختلاف في صفة المثمن أن يقول البائع، بعتك عبدا، ويقول المشترى.

بل جارية، فان كان اختلافهما فيما ذكرنا وشبهه فقد اختلف الفقهاء في العقد على خمسة مذاهب قد جئنا عليها في الفصول السابقة قال في نهاية المحتاج ما حاصله: وإن اختلفا في الاجل بأن أثبته المشترى ونفاه البائع، أو قدره كشهر أو شهرين، أو قدر المبيع كمد من هذه الصبرة مثلا بدرهم، فيقول.

بل مدين به ولا بينة لاحدهما يعول عليها، فشمل ما لو أقام كل بينة وتعارضتا لاطلاقهما أو إطلاق أحدهما فقط أو لكونهما أرختا بتاريخين متفقين تحالفا لخبر مسلم " اليمين على المدعى عليه " ولا يشكل الخبران المتقدمان لانه عرف من هذا الخبر زيادة

عليهما وهى حلف المشترى أيضا فأخذنا بها وشمل كلامه ما لو وقع الاختلاف في زمن الخيار فيتحالفان، وهو كذلك كما صرح به ابن يونس والنسائي والاذرعى

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 81)

________________________________________

وغيرهم، وقد قال الشافعي والاصحاب بالتحالف في الكتابة مع جوازها في حق الرقيق، وفى القراض والجعالة مع جوازهما من الجهتين، وأما ما استند إليه القائل بعدم التحالف كابن المقرى في بعض نسخ الروض من إمكان الفسخ في زمنه رد بأن التحالف لم يوضع للفسخ، بل عرضت اليمين رجاء أن ينكل الكاذب فيتقرر العقد بيمين الصادق.

والاختلاف في الاجل أو الرهن أو في قدرهما أو في شرط الخيار أو غير ذلك من الشروط لصحيحة ففيها للفقهاء طريقان.

أحدهما: وهو قول الشافعي يتحالفان، لانهما اختلفا في صفة العقد فوجب أن يتحالفا قياسا على الاختلاف في الثمن.

والثانى: القول قول من ينفى ذلك مع يمينه، وهو أبى حنيفه، لان الاصل عدمه، فالقول قول من ينفيه، كأصل العقد لانه منكر، والقول قول المنكر، فإن اختلفا في شرط يفسد العقد فقال: بعتك بخمر، أو خيار مجهول، فقال: بعتني بنقد معلوم أو خيار ثلاث، فالقول قول من يدعى الصحة مع يمينه، لان ظهور تعاطى المسلم الصحيح أكثر من تعاطيه للفاسد، وإن قال بعتك مكرها، فأنكره فالقول قول المشترى، لان الاصل عدم الاكراه وصحة البيع، وإن قال بعتك وأنا صبى فالقول قول المشترى، كل ذلك قول الشافعي وأحمد والثوري وإسحاق، إلا أن الشافعي يسوى بين المسلم والكافر في تعاطى الصحة.

قالوا: لان المتبايعين اتفقا على أصل العقد، واختلفا فيما يفسده، فكان القول قول مدعى الصحة.

ويحتمل أن يقبل قول من يدعى الصغر لانه الاصل.

وهو قول بعض أصحاب الشافعي، ويفارق ما إذا اختلفا في شرط فاسد أو إكراه لوجهين: أحدهما: أن الاصل عدمه، وههنا الاصل بقاؤه.

والثانى: أن الظاهر من المكلف أنه لا يتعاطى إلا الصحيح، وها هنا ما ثبت أنه كان مكلفا، وإن قال.

بعتك وأنا مجنون.

فإن لم يعلم له حال جنون فالقول قول المشترى.

لان الاصل عدمه.

وإن ثبت أنه كان مجنونا فهو لصبى.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 82)

________________________________________

قال شمس الدين الرملي: ولو ادعى أحد العاقدين صحة البيع أو غيره من العقود وادعى الآخر فساده لانتفاء ركن، أو شرط على المعتمد، كأن ادعى أحدهما رؤيته وأنكرها الآخر على المعتمد أيضا، كما أفتى به الوالد رحمه الله تعالى خلافا لما في فتاوى الشيخ، فالاصح تصديق مدعى الصحة بيمينه غالبا، مسلما كان أو كافرا، لان الظاهر في العقود الصحة، وأصل عدم العقد الصحيح يعارضه عدم الفساد في الجملة.

ومن غير الغالب ما لو باع ذراعا من أرض معلومة الذرع ثم ادعى إرادة ذراع معين ليفسد البيع، وادعى المشترى شيوعه فيصدق البائع بيمينه أيضا لان ذلك لا يعلم إلا من جهته، وما لو زعم أحد متصالحين وقوع صلحهما على إنكار فيصدق بيمينه أيضا لانه الغالب، وما لو زعم أنه عقد وبه نحو صبا وأمكن، أو جنون أو حجر وعرف له ذلك فيصدق بيمينه أيضا كما ذكره الرويانى.

ثم قال: وأما كلام الاصحاب في الجنايات والطلاق فليس من الاختلاف في صحة العقد وفساده، وفارق ما ذكرناه ما سيأتي في الضمان بأن المعاوضات يحتاط فيها غالبا، والظاهر أنها تقع بشروطها وفى البيان للعمراني: لو أقر بالاحتلام لم يقبل رجوعه عنه، ويؤخذ من

ذلك أن من وهب في مرضه شيئا فادعت ورثته غيبة عقله حال الهبة لم يقبلوا إلا إن علم له غيبة قبل الهبة وادعوا استمرارها إليها وجزم بعضهم بأنه لابد في البينة بغيبة العقل - إن تبين ما غاب به - أي لئلا تكون غيبته بما يؤاخذ به كسكر تعدى به، وما لو قال المرتهن: أذنت في البيع بشرط رهن الثمن.

وقال الراهن بل مطلقا، فالمصدق المرتهن، كما قاله الزركشي وغيره.

وهو كما قال، ولكن ليس هذا مما نحن فيه، لان الاختلاف المذكور لم يقع من العاقدين ولا نائبهما ولو أتى المشترى بخمر أو بما فيه فأرة وقال قبضته كذلك فأنكر القبض كذلك صدق بيمينه، ولو أتى المشترى بخمر أو بما فيه فأرة وقال قبضته كذلك فأنكر القبض صدق بيمينه، ولو صبه في ظرف المشترى فظهرت فيه فأرة فادعى كل أنها من عند الآخر صدق البائع لدعواه الصحة، ولان الاصل في كل حادث تقديره بأقرب زمن، والاصل أيضا براءة البائع كما في نظيره من السلم إذا اختلفا

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 83)

________________________________________

هل قبض المسلم إليه رأس المال قبل التفرق أو بعده؟ فلو أقاما في المسئلين بينتين قدمت بينة مدعى الصحة.

وقول ابن أبى عصرون إن كان مال كل بيده حلف المنكر وإلا فصاحبه مردود.

وقال الرملي: ولو اشترى عبدا مثلا معينا وقبضه فجاء بعبد معيب ليرده فقال البائع " ليس هذا المبيع " صدق البائع بيمينه، لان الاصل السلامة وبقاء العقد، وفى مثله في المبيع في الذمة والسلم بأن قبض المشترى أو المسلم المدفوع عما في الذمة ثم أحضر معيبا ليرده، فقال البائع أو المسلم إليه ليس هذا المقبوض يصدق المشترى والمسلم بيمينه في الاصح أنه المقبوض عملا بأصل بقاء شغل ذمة البائع والمسلم إليه إلى وجود قبض صحيح، ويجرى ذلك في الثمن، فيحلف المشترى في المعين، والبائع فيما في الذمة، ومقابل الاصح يصدق المسلم إليه كالبيع

ولو قبض المبيع مثلا بالكيل أو الوزن ثم ادعى نقصه فإن كان قدر ما يقع مثله في الكيل أو الوزن عادة صدق بيمينه لاحتماله مع عدم مخالفته الظاهر وإلا فلا لمخالفته الظاهر ولانهما اتفقا على القبض والقابض يدعى الخطأ فعليه البينة كما لو اقتسما ثم جاء أحدهما وادعى الخطأ فيه تلزمه البينة، ولو باع شيئا فظهر كونه لابنه أو موكله فوقع اختلاف، كأن قال الابن " باع أبى مالى في الصغر لنفسه متعديا " وقال الموكل " باع وكيلى مالى متعديا " وقال المشترى " لم يتعد الولى ولا الوكيل " صدق المشترى بيمينه، لان كلا من الاب والوكيل أمين ولا يتهم إلا بحجة.

انتهى أما لغات الفصل فالشقص القطعة من الارض والطائفه من الشئ.

قوله فإن باعه عشرة أقفزة من صبرة فالقفيز مكيال.

قال في الصحاح هو ثمانية مكاكيك والجمع أقفزة وقفزان، قال والمكوك مكيال هو ثلاث كيلجات.

والكيلجة منا وسبعة أثمان منا، والمنا رطلان، ويمكن بهذا أن نعرف أن الكيلجه هي الكيلو بلغة العصر فيكون القفيز أربعة وعشرين كيلو جراما تقريبا بالوزن، وقد مر في قاعدة مد عجوة أن الوزن مقدم على الكيل لانه أدق وأعدل إلا ما كان اطراد الكيل فيه لخفته تجعله غير صالح للوزن، فينطبق عليه قاعدة الكيل فيما يكال والوزن فيما يوزن.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 84)

________________________________________

قال الشافعي في باب جماع السلف في الوزن: والميزان مخالف للمكيال في بعض معانيه والميزان أقرب من الاحاطة وأبعد من أن يختلف فيه أهل العلم من المكيال، لان ما يتجافى ولم يتجاف في الميزان سواء: لانه إنما يصار فيه كله إلى أن يوجد بوزنه، والمتجافي في المكيال يتباين تباينا بينا فليس في شئ مما يوزن اختلاف في الوزن، ثم قال الشافعي: فَإِنْ قَالَ

قَائِلٌ: كَيْفَ كَانَ يُبَاعُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قُلْنَا: الله أعلم، أما الذي أدركنا المتبايعين به عَلَيْهِ، فَأَمَّا مَا قَلَّ مِنْهُ فَيُبَاعُ كَيْلًا والجملة الكثيرة تُبَاعُ وَزْنًا، وَدَلَالَةُ الْأَخْبَارِ عَلَى مِثْلِ مَا أدركنا الناس عليه.

قال عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا آكُلُ سَمْنًا مَا دام يُبَاعُ بِالْأَوَاقِيِ، وَتُشْبِهُ الْأَوَاقِي أَنْ تَكُونَ كَيْلًا.

اه قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

إذا باعه سلعة بثمن في الذمة ثم اختلفا فقال البائع: لا أسلم المبيع حتى أقبض الثَّمَنَ، وَقَالَ الْمُشْتَرِي.

لَا أُسَلِّمُ الثَّمَنَ حَتَّى أقبض المبيع، فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ.

فيه ثلاثة أقوال.

أحدها يجبر البائع على إحضار المبيع، والمشترى على احضار الثمن، ثم يسلم إلى كل واحد منهما ماله دفعة واحدة، لان التسليم واجب على كل واحد منهما، فإذا امتنعا أجبرا كما لو كان لاحدهما على الآخر دراهم، وللآخر عليه دنانير.

والثانى.

لا يجبر واحد منهما، بل يقال من يسلم منكما ما عليه أجبر الآخر على تسليم ما عليه، لان على كل واحد منهما حقا في مقابلة حق له، فإذا تمانعا لم يجبر واحد منهما، كما لو نكل المدعى عليه فردت اليمين على المدعى فنكل.

والثالث.

أنه يجبر البائع على تسليم المبيع، ثم يجبر المشترى وهو الصحيح، لان حق المشترى متعلق بعين، وحق البائع في الذمة، فقدم ما تعلق بعين كأرش الجناية مع غيرها من الديون، ولان البائع يتصرف في الثمن في الذمة، فوجب أن يجبر البائع على التسليم ليتصرف المشترى في المبيع، ومن أصحابنا من قال.

المسأله على قول واحد، وهو أنه يجبر البائع على تسليم المبيع كما ذكرناه، وما سواه من الاقوال ذكره الشافعي عن غيره، ولم يختره، فعلى هذا ينظر فيه

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 85)

________________________________________

فان كان المشترى موسرا نظرت، فان كان ماله حاضرا أجبر على تسليمه في الحال

وان كان في داره أو دكانه حجر عليه في المبيع، وفى سائر أمواله، إلى أن يدفع الثمن لانه إذا لم يحجر عليه لم نأمن أن يتصرف فيه، فيضر بالبائع.

وان كان غائبا منه على مسافة يقصر فيها الصلاة فللبائع أن يفسخ البيع ويرجع إلى عين ماله، لان عليه ضررا في تأخير الثمن، فجاز له الرجوع إلى عين ماله، كما لو أفلس المشترى، وان كان على مسافة لا تقصر فيها الصلاة ففيه وجهان.

أحدهما ليس له أن يختار عين ماله، لانه في حكم الحاضر.

والثانى له أن يختار عين ماله لانه يخاف عليه الهلاك فيما قرب كما يخاف عليه فيما بعد، وان كان المشترى معسرا ففيه وجهان.

أحدهما.

تباع السلعة ويقضى دينه من ثمنها، والمنصوص أنه يرجع إلى عين ماله لانه تعذر الثمن بالاعسار.

فثبت له الرجوع إلى عين ماله كما لو أفلس بالثمن وان كان الثمن معينا ففيه قولان.

أحدهما يجبران.

والثانى لا يجبر واحد منهما ويسقط القول الثالث أنه يجبر البائع لان الثمن المعين كالمبيع في تعلق الحق بالعين والمنع من التصرف فيه قبل القبض.

(الشرح) في هذا الفصل بيان حكم اختلافهما عند البيع بثمن في الذمة فيه ثلاثة أقوال عند المصنف (أصحها) يجبر البائع على تسليم السلعة ثم يجبر المشترى على تسليم الثمن.

وذلك أنهما ان تمانعا أجبر الحاكم كل واحد منهما على احضار ما عليه من مبيع أو ثمن ثم ينصب عليهما أمينا عدلا يأمر كل واحد منهما بتسليم ما بيده إليه.

حتى إذا صار الجميع معه سلم المبيع إلى المشترى والثمن إلى البائع.

قال الماوردى.

وحكى هذا القول عن سعيد بن سالم القداح.

وقال أبو إسحاق المروزى.

يجعل هذا والقول الاول واحدا.

وتخرج المسألة على ثلاثة أقاويل.

وامتنع سائر أصحابنا ممن جعلهما واحدا، وأن كل واحد منهما مخالف لصاحبه.

قلت: والقول الاول الذى أراد أبو إسحاق المروزى مزجه بقول سعيد بن

سالم القداح هو قول المصنف.

أحدها يجبر البائع على تسليم المبيع والمشترى على تسليم الثمن ثم أعطى كل

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 86)

________________________________________

واحد منهما ماله دفعة واحدة في لحظة واحدة لتساوي الوجوب في التسليم وعدم اختصاص أحدهما بقدر أكثر من الاذعان من صاحبه، وامتنع أكثر الاصحاب من جعلهما قولا واحدا لما يأتي: (أولا) لان حق المشترى متعلق بعين وحق البائع في الذمة، فقدم ما تعلق بعين كأرش الجناية مع غيرها من الديون، ولان البائع يتصرف في الثمن في الذمة فوجب أن يجبر البائع على التسليم ليتصف المشترى في المبيع (ثانيا) إن الدفع والتسليم في القول الاول إلى الحاكم وكان بحكمه، وها هنا الحكم منه في ذمة الامين والامر بالتسليم منه ومن هنا كان قول المصنف: من الاصحاب من قال فيه ثلاثة أقوال يذكرنا بقول الماوردى فيه أربعة أقوال.

ذلك القول الرابع هو تعيين الامين العدل.

وهذا القول وإن كان قولا رابعا عندنا فإنه ظاهر مذهب الحنابلة فيما إذا كان عرضا بعرض أو عينا بعين.

قال ابن قدامة في المغنى: وإن اختلفا في التسليم، فقال البائع لا أسلم المبيع حتى أقبض الثَّمَنَ.

وَقَالَ الْمُشْتَرِي لَا أُسَلِّمُ الثَّمَنَ حَتَّى أقبض المبيع والثمن في الذمة، أجبر البائع على تسليم المبيع، ثم أجبر المشترى على تسليم الثمن، فإن كان عينا أو عرضا بعرض جعل بينهما عدل، فيقبض منهما ثم يسلم اليهما، وهذا قول الثوري وأحد قولى الشافعي وعن أحمد ما يدل على أن البائع يجبر على تسليم المبيع على الاطلاق، وهو قول ثان للشافعي.

وقال أبو حنيفة ومالك يجبر المشترى على تسليم الثمن لان البائع

حبس المبيع على تسليم الثمن، ومن استحق ذلك لم يكن عليه التسليم قبل الاستيفاء كالمرتهن.

ثم قال رأيه الذى يدل على موافقته لما ذهبنا إليه من تساوى المبيع، سواء أكان الثمن عينا أم نقدا فقال ولنا أن تسليم المبيع يتعلق به استقرار البيع وتمامه، فكان تقديمه أولى سيما مع تعلق الحكم بعينه، وتعلق حق البائع بالذمة، وتقديم ما تعلق بالعين أولى لتأكده.

ولذلك يقدم الدين الذى به الرهن في ثمنه على ما تعلق بالذمة، ويخالف

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 87)

________________________________________

الرهن فإنه لا تتعلق به مصلحة عقد الرهن، والتسليم ها هنا يتعلق به مصلحة عقد البيع.

وأما إذا كان الثمن عينا فقد تعلق الحق بعينه أيضا كالمبيع فاستويا.

وقد وجب لكل واحد منهما على صاحبه حق قد استحق قبضه فأجبر كل واحد منهما على إيفاء صاحبه حقه.

اه قوله " وما سواه من الاقوال " ذكره الشافعي عن غيره ولم يختره، فعلى هذا ينظر فيه.

(قلت) الذى في المزني يدل على اختيار الشافعي لهذا الرأى وتعبيره بكلمة (أحب الشافعي من أقاويل) قال االمزنى في باب اختلاف المتبايعين " وإذا قال كل واحد منهما: لا أدفع حتى أقبض " " ولو لم يختلفا وقال كل واحد منهما لا أدفع حتى أقبض فالذي أحب الشافعي من أقاويل وصفها أن البائع يدفع السلعة ويجبر المشترى على دفع الثمن من ساعته فإن غاب وله مال أشهد على وقف ماله وأشهد على وقف السلعة، فإذا دفع أطلق عنه الوقف، وإن لم يكن له مال فهذا مفلس، والبائع أحق بسلعته، ولا يدع الناس يتمانعون الحقوق وهو يقدر على أخذها منهم " قوله " وإن كان غائبا " قال الماوردى:

وإن كان ماله غائبا فله ثلاثة أحوال (أحدها) أن يكون على مسافة أقل من يوم وليلة، فهذا في حكم الحاضر، وينتظر له حضور ماله بعد الحجر عليه في المبيع وسائر ماله، فإذا احضر الثمن فك حجره وأطلق تصرفه

(والثانى)

أن يكون على مسافة ثلاثة أيام فصاعدا فلا يلزم انتظار ماله لبعده عنه، وأنه في حكم المعسر.

(والثالث) أن يكون على مسافة أكثر من يوم وليلة وأقل من ثلاثة أيام فعلى وجهين.

 

(أحدهما)

ينتظر حضور ماله، كما لو كانت على أقل من يوم وليلة، ويحجر عليه في المبيع حتى يحضر الثمن (والوجه الثاني) لا ينتظر لبعد المسافة، وأنها في حكم ما زاد على الثلاث، فعلى هذا ما الذى يستحقه البائع إذا لم ينتظر؟ فيه وجهان

(أحدهما)

يجعل كالمفلس ويخير البائع بين أن يرجع

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 88)

________________________________________

بغير ماله وبين أن يصير بالثمن في ذمة المشترى إلى حين وجوده (والوجه الثاني) أن حكم المفلس منفى عنه لوجود المال، وإن بعد منه، ولكن تباع السلعة المبيعة ليصل البائع إلى حقه منها، فإن بيعت بقدر ما للبائع من الثمن دفع إليه ذلك وقد استوفى حقه.

وإن بيعت بأكثر رد الفاضل على المشترى.

وإن بيعت بأقل كان الباقي دينا للبائع في ذمه المشترى.

(قلت) فإن هرب المشترى ولم يكن له مال فسخ البيع لانه إذا جاز فسخه مع حضوره للاعسار ففى هربه أولى.

 

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

وإن باع من رجل عينا فأحضر المشترى نصف الثمن ففيه وجهان

(أحدهما)

لا يجبر البائع على تسليم شئ من البيع، لانه محبوس بدين، فلا يسلم شئ منه بحضور بعض الدين كالرهن

(والثانى)

أنه يجبر على تسليم نصف المبيع لان كل واحد منهما عوض عن الآخر، وكل جزء من المبيع في مقابلة جزء من الثمن، فإذا سلم بعض الثمن وجب تسليم ما في مقابلته، ويخالف الرهن في الدين فإن الرهن ليس بعوض من الدين، وإنما هو وثيقة به فجاز له حبسه إلى أن يستوفى جميع الدين، وإن باع من اثنين عبدا بثمن فأحضر أحدهما نصف الثمن وجب تسليم حصته إليه لانه أحضر جميع ما عليه من الثمن، فوجب تسليم ما في مقابلته من المبيع، كما لو اشترى عينا وأحضر ثمنها. والله أعلم

(الشرح) هذا الفصل يبنى على أن العقد إذا لزم في الصفقة كلها كان بعض ما أداه المشترى من ثمنها غير مسوغ لتجزئ المبيع بقدر ما أدى المشترى فلا يجبر على تسليم ما يقابله أم يجبر على تسليم ما يساوى ما أداه المشترى؟ فيقع الثمن منجما والمبيع منجما: وذلك لمخالفته الرهن، لانه إذا احتجز الصفقة عنده كلها في مقابلة ما بقى من الثمن فقد أشبه الرهن (قلت) إذا ترتب على تجزئ الصفقة تلف باقيها أو نقصه نقصا يبخس بثمنها كما لو أدى بعض الثمن من كتاب له أجزاء مطبوعة فإذا أخذ ما يساوى ما أداه من الثمن من أجزاء ترتب على ذلك خرم الكتاب عند البائع لم يجبر البائع على تسليم بعض الكتاب وجاز له حبسه حتى يستوفى الثمن كله.

والله أعلم

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 89)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

إذا تلف المبيع في يد البائع قبل التسليم لم يخل اما أن يكون ثمرة أو غيرها، فإن كان غير الثمرة نظرت، فإن كان تلفه بآفة سماوية انفسخ البيع، لانه فات التسليم المستحق بالعقد فانفسخ البيع، كما لو اصطرفا وتفرقا قبل القبض فإن كان المبيع عبدا فذهبت يده بآكلة فالمبتاع بالخيار بين أن يرد وبين أن يمسك

فإن اختار الرد رجع بجميع الثمن، وان اختار الامساك أمسك بجميع الثمن، لان الثمن لا ينقسم على الاعضاء فلم يسقط بتلفها شئ من الثمن، وان أتلفه أجنبي ففيه قولان.

 

(أحدهما)

أنه ينفسخ البيع لانه فات التسليم المستحق بالعقد فانفسخ البيع، كما لو تلف بآفة سماوية.

 

(والثانى)

أن المشترى بالخيار بين أن يفسخ البيع ويرجع بالثمن، وبين أن يقر البيع ويرجع على الأجنبي بالقيمة، لان القيمة عوض عن المبيع فقامت مقامه في القبض، فإن كان عبدا فقطع الأجنبي يده فهو بالخيار بين أن يفسخ البيع ويرجع بالثمن، وبين أن يجيزه ويرجع على الجاني بنصف قيمته فإن أتلفه البائع ففيه طريقان.

قال أبو العباس فيه قولان كالأجنبي.

وقال أكثر أصحابنا ينفسخ البيع قولا واحدا لانه لا يمكن الرجوع على البائع بالقيمة لان المبيع مضمون عليه بالثمن فلا يجوز أن يكون مضمونا عليه بالقيمة بخلاف الأجنبي، فان المبيع غير مضمون عليه بالثمن فجاز أن يضمنه بالقيمة، فان كان عبدا فقطع البائع يده ففيه وجهان.

قال أبو العباس " المبتاع بالخيار ان شاء فسخ البيع ورجع بالثمن وان شاء أجاز ورجع على البائع بنصف القيمة " وقال أكثر أصحابنا هو بالخيار ان شاء فسخ البيع وان شاء أجازه ولا شئ له لانه جزء من المبيع فلا يضمنه البائع بالقيمة قبل القبض، كما لو ذهب بآكلة فان أتلفه المشترى استقر عليه الثمن لان الاتلاف كالقبض، ولهذا لو أعتقه جعل اعتاقه كالقبض فكذلك إذا أتلفه، فان كان عبدا فقطع يده لم يجز له أن يفسخ لانه نقص بفعله، فَإِنْ انْدَمَلَ ثُمَّ تَلِفَ فِي يَدِ الْبَائِعِ رَجَعَ الْبَائِعُ عَلَى

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 90)

________________________________________

الْمُشْتَرِي بِأَرْشِ النَّقْصِ فَيُقَوَّمُ مَعَ الْيَدِ وَيُقَوَّمُ بِلَا يَدٍ ثُمَّ يَرْجِعُ بِمَا نَقَصَ مِنْ الثَّمَنِ وَلَا يَرْجِعُ

بِمَا نَقَصَ مِنْ الْقِيمَةِ لان المبيع مضمون على المشترى بالثمن فلا يجوز أن يرجع عليه بما نقص من القيمة وإن كان المبيع ثمرة فإن كان على الارض فهو كغير الثمرة وقد بيناه وإن كانت على الشجر نظرت فان تلفت قبل التخلية فهى كغير الثمرة إذا هلك قبل أن يقبض وقد بيناه، فان تلفت بعد التخلية ففيه قولان

(أحدهما)

أنها تتلف من ضمان المشترى، لان التخلية قبض يتعلق به جواز التصرف فدخل في ضمانه كالنقل فيما ينقل

(والثانى)

أنها تتلف من ضمان البائع، لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " إنَّ بعت من أخيك تمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق " وروى جَابِرٍ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَمَرَ بوضع الجوائح " فان قلنا بهذا فاختلفا في الهالك فقال البائع الثلث، وقال المشترى النصف، فالقول قول البائع، لان الاصل عدم الهلاك، وإن بلغت الثمار وقت الجداد فلم ينقل حتى هلكت كان هلاكها من ضمان المشترى، لانه وجب عليه النقل فلم يلزم البائع ضمانها، والله أعلم (الشرح) حديث جابر الاول رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه.

وحديث جابر الثاني رواه الشافعي في الام.

قال سمعت سفيان يحدث هذا الحديث كثيرا في طول مجالستي له، لا أحصى ما سمعته يحدثه من كثرته لا يذكر فيه " أمر بوضع الجوائح " لا يزيد عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عن بيع السنين.

ثم زاد بعد ذلك " وأمر بوضع الجوائح " قال الشافعي، قال سفيان: وكان حميد يذكر بعد بيع السنين كلاما قبل وضع الجوائح لا أحفظه، فكنت أكف عن ذكر وضع الجوائح لانى لا أدرى كيف كان الكلام.

وفى الحديث أمر بوضع الجوائح.

أخبرنا سفيان عن أبى الزبير عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ " قلت " وحديث " أمر بوضع الجوائح " رواه مسلم وأحمد والنسائي وأبو داود.

وروى عن أنس وعائشة، وقد مر في بيع الثمرة قبل بدو صلاحها.

قال الربيع، أخبرنا الشافعي قال أخبرنا مالك عن أبى الرجال محمد بن عبد الرحمن عن أمه عمرة أنه سمعها تقول: ابتاع رجل ثمر حائط في زمان

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 91)

________________________________________

رسول الله صلى الله عليه وسلم فعالجه وأقام فيه حتى تبين له النقصان، فسأل رب الحائط أن يضع عنه فحلف أن لا يفعل، فذهبت أم المشترى إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكرت ذلك له، فقال رسول الله صلى عليه وسلم تألى أن لا يفعل خيرا، فسمع بذلك رب المال، فأتى إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال يا رسول الله " هو له " أما لغات الفصل فالآفة العاهة، وقد إيف الزرع بالبناء للمجهول أي أصابته آفة فهو مئوف على وزن مقول ومعوف، والجوائح جمع جائحة، وهى الآفة التى تصيب الثمار فتهلكها.

يقال حاجهم الدهر واجتاحهم بتقديم الجيم على الحاء فيها إذا أصابهم بمكروه عظيم والآكلة أما الاحكام فقال الشافعي، قال سفيان في حديثه عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وضع الجوائح: ما حكيت فقد يجوز أن يكون الكلام الذى لم يحفظه سفيان من حديث حميد يدل على أن أمره بوضعها على مثل أمره بالصلح على النصف.

وعلى مثل أمره بالصدقة تطوعا حضا على الخير لا حتما، وما أشبه ذلك ثم قال الشافعي وحديث مالك عن عمرة مرسل.

وأهل الحديث ونحن لا نثبت مرسلا، ولو ثبت حديث عمرة كانت فيه - والله تعالى أعلم - دلالة على أن لا توضع الجائحة لقولها " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تألى أن لا يفعل خيرا " ولو كان الحكم عليه أن يضع الجائحة لكان أشبه أن يقول ذلك لازم له حلف أو لم يحلف، وذلك أن كل من كان عليه حق قيل هذا يلزمك أن تؤديه إذا امتنعت من حق فأخذ منك بكل حال (قال) ولو لم يكن سفيان وهن حديثه بما وصفت

وثبتت السنة بوضع الجائحة، وضعت كل قليل وكثير أصيب من السماء بغير جناية أحد عليه، فأما أن يوضع الثلث فصاعدا ولا بوضع ما دون الثلث فهذا لا خبر ولا قياس ولا معقول.

فان قال قائل: فما منعك أن تجعل ثمرة النخل قياسا على ما وصفت من كراء الارض، وأنت تجيز بيع ثمر النخل فيترك إلى غاية في نخله كما تجيز أن يقبض الدار ويسكنها إلى مدة.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 92)

________________________________________

قال: فقيل له: إن شاء الله الدار تكترى سنة ثم تنهدم من قبل تمام السنة مخالفة للثمرة تقبض من قبل أن سكناها ليس بعين ترى إنما هي بمدة تأتى، فكل يوم منها يمضى بما فيه وهى بيد المكترى يلزمه الكراء فيه وإن لم يسكنها إذا خلى بينه وبينها والثمرة إذا ابتيعت وقبضت وكلها في يد المشترى يقدر على أن يأخذها كلها من ساعته، ويكون ذلك له، وإنما يرى تركه إياها اختيارا لتبلغ غاية يكون له فيها أخذه قبلها وقد يكون رطبا يمكنه أخذه وبيعه وتيبيسه، فيتركه ليأخذه يوما بيوم رطبا ليكون أكثر قيمة إذا فرقه في الايام وأدوم لاهله فلو زعمت أنى أضع الجائحة بعد أن يرطب الحائط كله أو أكثره ويمكن فيه أن يقطع كله فيباع رطبا، وإن كان ذلك أنقص لمالك الرطب أو بيبس تمرا، وإن كان ذلك أنقص على مالكه زعمت أنى أضع عنه الجائحة وهى تمر، وقد ترك قطعه وتمييزه في وقت يمكنه فيه إحرازه.

ثم قال: وجماع الجوائح كل ما أذهب الثمرة أو بعضها بغير جناية آدمى.

ثم قال الشافعي: وكان شببها أن يكون جملة القول فيه أن يكون الثمر المبيع في شجره المدفوع إلى مبتاعه من ضمان البائع حتى يستوفى المشترى ما اشترى منه لا يبرأ البائع من شئ منه حتى يأخذه المشترى أو يؤخذ بأمره من شجره، كما يكون

من ابتاع طعاما في بيت أو سفينة كله على كيل معلوم، فما استوفى المشترى برئ منه البائع، وما لم يستوف حتى يسرق أو تصيبه آفة فهو من مال البائع، وما أصابه من عيب فالمشترى بالخيار في أخذه أو رده وجعل الشافعي المشترى مسئولا عن المبتاع إذا كان مسلطا عليه مسيطرا على المبيع، وليس على البائع من الضمان شئ ما دام يملك أخذها وقطعها وبقاءها فلو تلفت - في يد البائع بآفة سماوية - فلا ضمان على البائع، لان المشترى مقصر في قبضها، وفى الابواب السابقة من البيوع مزيد تفصيل فليرجع إليها.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 93)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله تعالى:

 

‌باب السلم

السلم جائز لقوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه " قال ابن عباس أشهد أن السلف المضمون إلى أجل قد أجله الله في كتابه وأذن فيه فقال " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ".

 

(فصل)

ولا يصح السلم الا من مطلق التصرف في المال لانه عقد على مال فلا يصح الا من جائز التصرف كالبيع: قال الشافعي رحمه الله: ويصح السلم من الاعمى.

قال المزني رحمه الله أعلم من نطقه أنه أراد الاعمى الذى عرف الصفات قبل أن يعمى.

قال أبو العباس هذا الذى قاله المزني حسن، فأما الاكمه الذى لا يعرف الصفات فلا يصح سلمه لانه يعقد على مجهول وبيع المجهول لا يصح، وقال أبو إسحاق يصح السلم من الاعمى وإن كان أكمه لانه يعرف الصفات بالسماع (الشرح) قال الشافعي رحمه الله في باب السلف والمراد به السلم: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل " إلى قوله " وليتق الله ربه " قال الشافعي: فلما أمر الله عز وجل بالكتاب ثم رخص في الاشهاد إن كانوا على سفر ولم يجدوا كاتبا، احتمل أن يكون فرضا وأن يكون دلالة، فلما قال الله جل ثناؤه: فرهان مقبوضة والرهن غير الكتاب والشهادة، ثم قال " فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذى اؤتمن أمانته وليتق الله ربه " دل كتاب الله عز وجل على أن أمره بالكتاب ثم الشهود ثم الرهن إرشادا لا فرضا عليهم، لان قوله " فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذى اؤتمن أمانته " إباحة لان يأمن بعضهم بعضا، فيدع الكتاب والشهود والرهن، قال: وأحب الكتاب والشهود لانه إرشاد من الله ونظر للبائع والمشترى، وذلك أنهما ان كانا أمينين فقد يموتان أو أحدهما، فلا يعرف حق البائع على المشترى فيتلف على البائع أو ورثته حقه، وتكون التباعة على المشترى

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 94)

________________________________________

في أمر لم يرده، وقد يتغير عقل المشترى فيكون هذا والبائع، وقد يغلط المشترى فلا يقر فيدخل في الظلم من حيث لا يعلم ويصيب ذلك البائع فيدعى ما ليس له فيكون الكتاب والشهادة قاطعا هذا عنهما وعن ورثتهما، ولم يكن يدخله ما وصفت انبغى لاهل دين الله اختيار ما ندبهم الله إليه ارشادا، ومن تركه فقد ترك حزما وأمرا لم أحب تركه من غير أن أزعم أنه محرم عليه بما وصفت من الآية بعده.

قال الشافعي: قال الله عز وجل " ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله " يحتمل أن يكون حتما على من دعى للكتاب، فإن تركه تارك كان عاصيا، ويحتمل أن يكون كما وصفنا في كتاب جماع العلم: على من حضر من الكتاب أن لا يعطلوا كتاب حق بين رجلين، فإذا قام به واحد أجزأ عنهم، كما حق عليهم أن يصلوا على الجنائز ويدفنوها فإذا قام بها من يكفيها أخرج ذلك من تخلف عنها من الماثم ولو ترك كل من حضر من الكتاب خفت أن يأثموا، بل كأنى لا أراهم يخرجون من المأثم، وأيهم قام به أجزأ عنهم وهذا أشبه معانيه به والله تعالى أعلم.

أما حديث ابن عباس فقد قال الشافعي: أخبرنا سفيان عن أيوب عن قتادة عن أبى حسان الاعرج عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أشهد إلى آخر ما أورده المصنف هكذا موقوفا على ابن عباس ورواه سعيد بن منصور أيضا هكذا أما لغات الفصل: فان السلم بفتحتين هو الاستسلام، وسلم إليه الشئ بتشديد اللام تسليما فتسلمه أي أخذه.

والتسليم بذل الرضا بالحكم.

والتسليم أيضا السلام وأسلم في الطعام أسلف فيه، والتسالم التصالح، ولمادة السين واللام والميم معانيها الكثيرة من السلامة والسلامى والسلم واستلام الحجر ما مكانه معاجم اللغة.

وقال الماوردى: السلم لغة أهل الحجاز، والسلف لغة أهل العراق، والاكمه هو الذى يولد أعمى.

وفى الاصطلاح الفقهى: السلم أن يسلم عوضا حاضرا في عوض موصوف في الذمة إلى أجل، ويسمى سلما وسلفا وهذا السلف يهمز ويجرد فيقال: أسلف وسلف، وهو نوع من البيع ينعقد بما ينعقد به البيع، ويعتبر فيه من الشروط ما يعتبر في البيع، وهو جائز بالكتاب والسنة والاجماع.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 95)

________________________________________

أما الكتاب فقد ذكرناه والمصنف من آية الدين ولفظها يصلح للسلم ويشمله بعمومه.

وأما السنة فقد روى الشيخان عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من اسلف في شئ فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم، إلى أجل معلوم ".

وروى البخاري عن محمد بن أبى المجالد قال " أرسلني أبو بردة وعبد الله بن شداد إلى عبد الرحمن بن أبزى وعبد الله بن أبى أوفى فسألتهما عن السلف؟ فقالا كنا نصيب المغانم مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكان يأتينا أنباط من أنباط

الشام فنسلفهم في الحنطة والشعير والزبيب، فقلت: أكان لهم؟ أم لم يكن لهم زرع؟ قال: ما كنا نسألهم عن ذلك ".

وفى رواية عند الترمذي والنسائي وابن ماجه " كنا نسلف عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وعمر في الحنطة والشعير والزيت والتمر وما نراه عندهم " عَنْ أَبِي سَعِيدِ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " من أسلم في شئ فلا يصرفه إلى غيره " رواه أبو داود وابن ماجه.

وعن ابن عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " من أسلم شيئا فلا يشرط على صاحبه غير قضائه " وفى لفظ " من أسلف في شئ فلا يأخذ إلا ما أسلف فيه أو رأس ماله " رواهما الدارقطني، وفى إسناده عطية العوفى، قال ابن المنذر: لا يحتج بحديثه وهو وارد في عموم السلم متابع لهذا العموم.

وأما الاجماع فقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن السلم جائز، قلت: وخالف سعيد بن المسيب في جوازه.

وقد اتفق الائمة - ما عدا ابن المسيب - على أن السلم يصح بستة شروط أن يكون في جنس معلوم، بصفة معلومة وبقدر معلوم وبأجل معلوم، ومعرفة مقدار رأس المال، وتسمية مكان التسليم إذا كان لحمله مؤونة لكن أبا حنيفة يسمى هذا التابع شرطا وباقى الائمة يسمونه لازما.

قوله: لا يصح إلا من جائز التصرف كالبيع، أي أنه لا يصح إسلام الكافر

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 96)

________________________________________

في الرقيق المسلم كما سبق في سرح المجموع للنووي ورد النووي على الماوردى في تصحيحه له وتبعه السبكى، ومثل الرقيق المسلم المرتد كما مر في البيوع ومثل ذلك كل ما يمتنع تملك الكافر له كالمصحف وكتب العلم والسلم في السلاح من الحربى.

أما صحة السلم من الاعمى الذى يعرف الصفات إذا كان عماه مسبوقا بإبصار أو كان أكمه يعرف الصفات بكثرة السماع فإنه إذا كان الامر كذلك، فان بيان ذلك ما يأتي: إذا عرفنا أن التنازع والاختلاف يحتمل أن يقع بين المتبايعين مع توفر صحة الابصار فلان يقع في السلم أولى، ولان يقع التنازع مع فقدان البصر أيسر، وأيسر منه وقوعه مع الاكمه.

ولذلك استشكل بعض فقهاء الشافعية صحة السلم من الاعمى واتفقوا على أنه إذا صح سلمه فانه لا يصح قبضه بل قد يتعين توكيله، ويرد اشكال آخر وهو اشتراط معرفة المتعاقدين الصفات، ويمنع هذا الاشكال بأن المراد بمعرفتها تصورها ولو بوجه من وجوه التصور، والاعمى يتصورها كذلك، وينبغى لاشتراط صحة العقد وجوه عدلين بمحل التسليم أو أكثر، ويكتب العقد بلغة يفهمها العاقدان وعدلان ثم يقع الختم به بعد كل ذلك، ليكون مناطا عند التنازع وليست الكتابة واجبة في قول الشافعي، وانما هي اذعان مباح لقوله تعالى " فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل " وقوله تعالى " وأشهدوا إذا تبايعتم ".

ونعود إلى آية الدين فنقول عما تناولته من أحكام مستندين إلى تفصيل السنة لما أجملته فنقول: في هذه الآية اثنتان وأربعون مسألة.

الاولى: قال سعيد بن المسيب.

بلغني أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين.

وقال ابن عباس.

هذه الآية نزلت في السلم خاصة.

قال القرطبى.

معناه أن سلم أهل المدينة كان سبب الاية، وقد استدل بها بعض علمائنا على جواز التأجيل في القروض على ما قال مالك إذا لم يفصل بين القرض وسائر العقود في المداينات، وخالف في ذلك الشافعية.

وقالوا: الاية ليس فيها جواز التأجيل في سائر الديون وانما فيها الامر بالاشهاد إذا كان دينا مؤجلا، ثم يعلم جواز التأجيل في الدين

وامتناعه بدلالة أخرى.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 97)

________________________________________

(الثانية) قوله تعالى " بدين " للتأكيد، وحقيقة الدين عبارة عن معاملة كان أحد العوضين فيها نقدا والآخر في الذمة نسيئة.

وقد بين الله هذا المعنى بقوله " إلى أجل مسمى " (الثالثة) قوله تعالى " إلى أجل مسمى " قال ابن المنذر: دل قوله تعالى على أن السلم إلى الاجل المجهول غير جائز (الرابعة) حد العلماء السلم فقالوا هو بيع معلوم في الذمة محصور بالصفة بعين حاضرة أو ما هو في حكمها إلى أجل معلوم (الخامسة) السلم والسلف عبارتان عن معنى واحد، والسلم بيع من البيوع الجائزة مستثنى من نَهْيُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ ما ليس عندك، فإن صاحب رأس المال محتاج إلى أن يشترى الثمرة وصاحب الثمرة محتاج إلى ثمنها قبل إبانها لينفقه عليها، فظهر أن بيع السلم من المصالح الحاجية، وقد سماه الفقهاء بيع المحاويج، فإن جاز حالا بطلت هذه الحكمة وارتفعت هذه المصلحة، ولم يكن لاستثناء ما ليس عندك فائدة.

(السادسة) شروط السلم المنفق عليها والمختلف فيها وهى تسعة، ستة في المسلم فيه وثلاثة في رأس مال السلم.

أما الستة التى في المسلم فيه، فأن يكون في الذمة، وأن يكون موصوفا، وأن يكون مقدرا، وأن يكون مؤجلا، وأن يكون الاجل معلوما، وأن يكون موجودا عند محل الاجل وأما الثلاثة التى في رأس مال السلم فأن يكون معلوم الجنس مقدرا نقدا.

وهذه الشروط الثلاثة متفق عليها إلا النقد فخالف فيه المالكية قال ابن العربي في أحكام القرآن: وأما الشرط الاول وهو أن يكون في الذمة

فلا إشكال في أن المقصود منه كونه في الذمة لانه مداينة.

ولولا ذلك لم يشرع فينا ولا قصد الناس إليه ربحا ورفقا، وعلى ذلك اتفق الناس.

بيد ان مالكا قال لا يجوز السلم في العين إلا بشرطين

(أحدهما)

أن يكون قرية مأمونة

(والثانى)

أن يشرع في أخذه كاللبن من الشاة والرطب من النخلة، ولم يقل ذلك أحد سواه وهاتان المسئلتان صحيحتان في الدليل لان التعيين امتنع في السلم مخافة المزابنة والغرر لئلا يتعذر عند المحل

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 98)

________________________________________

(السابعة) ليس من شرط السلم أن يكون المسلم إليه مالكا للمسلم فيه لما رواه البخاري عن محمد بن المجالد قال: بعثنى عبد الله بن شداد وأبو بردة إلى عبد الله ابن أبى أوفى - إلى قوله (قلت) إلى من كان أصله عنده؟ قال: ما كنا نسألهم عن ذلك.

ثم بعثاني إلى عبد الرحمن بن أبزى فسألته فقال: كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسلفون عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم نسالهم ألهم حرث أم لا؟ وشرط أبو حنيفة وجود المسلم فيه من حين العقد إلى حين الاجل، مخافة أن يطلب المسلم فيه فلا يوجد فيكون ذلك غررا، وخالفه سائر الفقهاء، وقالوا المراعى وجوده عند الاجل وشرط الكوفيون والثوري أن يذكر موضع القبض فيما له حمل ومؤنة، وقالوا السلم فاسد إذا لم يذكر موضع القبض.

وقال الاوزاعي هو مكروه.

وعند المالكية لو سكتوا عنه لم يفسد العقد، ويتعين موضع القبض، وبه قال أحمد وإسحاق وطائفة من أهل الحديث لحديث ابن عباس وليس فيه ذكر المكان الذى يقبض فيه السلم، ولو كان من شروطه لبينه النبي صلى الله عليه وسلم كما بين الكيل والوزن والاجل، ومثله حديث ابن أبى أوفى (الثامنة) حديث أبى سعيد مرفوعا " من أسلف في شئ فلا يصرفه إلى غيره "

وفيه عطية العوفى.

وقد أخذ به مالك، مستدلا بأنه إذا أخذ غير الثمن الذى دفع إليه أو صرفه في سلعة غير الطعام الذى ابتاع منه فهو بيع طعام قبل أن يستوفى، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك (التاسعة) قوله تعالى " فاكتبوه " يعنى الدين والاجل، وقد أمرنا بالكتابة لئلا ننسى.

روى أبو داود الطيالسي في مسنده عن حماد بن سلمة عن على بن زيد عن يوسف بن مهران عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم في قول الله عز وجل " إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه " إلى آخر الآية " إن أول من جحد آدم، ان الله أراه ذريته، فرأى رجلا أزهر ساطعا نوره، فقال يا رب من هذا.

قال هذا ابنك داود.

قال يا رب فما عمره، قال ستون سنة قال يا رب زد في عمره.

قال لا إلا أن تزيده من عمرك، قال وما عمرى.

قال

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 99)

________________________________________

ألف سنة، قال آدم فقد وهبت له أربعين سنة.

قال فكتب الله عليه كتابا وأشهد عليه ملائكته، فلما حضرته الوفاة جاءته الملائكة.

قال انه بقى من عمرى أربعون سنة.

قالوا انك قد وهبتها لابنك داود.

قال ما وهبت لاحد شيئا.

قال فأخرج الله تعالى الكتاب وشهد عليه ملائكته، في رواية، وأتم لداود مائة سنة ولآدم عمره ألف سنة، خرجه أيضا الترمذي وفى قوله تعالى " فاكتبوه " إشارة ظاهرة إلى أنه يكتبه بجميع صفته المبينة له المغربة عنه للاختلاف المتوهم بين المتعاملين، المعرفة للحاكم ما يحكم به عند ارتفاعهما إليه (العاشرة) هل الكتابة في الديون واجبة، اختيار الطبري وجوبها.

وقال ابن جريج " من ادان فليكتب، ومن باع فليشهد " وقال الشعبى كانوا يرون أن قوله " فإن أمن " ناسخ لامره بالكتب.

وحكى نحوه ابن جريج، وذهب الربيع إلى أن ذلك واجب بهذه الالفاظ، ثم خففه الله تعالى بقوله (فإن أمن بعضكم بعضا) .

وقال الجمهور الامر بالكتابة ندب إلى حفظ الاموال، وازالة الريب، وإذا كان الغريم تقيا فما يضره الكتاب، وان كان غير ذلك فالكتاب ثقاف له في دينه، وحاجة صاحب الحق.

(الحادية عشرة) قوله " وليكتب بينكم كاتب بالعدل " قال عطاء وغيره واجب على الكاتب أن يكتب.

وقال الشعبى وذلك إذا لم يوجد كاتب سواه، فواجب عليه أن يكتب (الثانية عشرة) قوله تعالى " بالعدل " أي بالحق والمعدلة أي لا يكتب لصاحب الحق أكثر مما قاله ولا أقل، وانما قال بينكم ولم يقل أحدكم، لانه لما كان الذى له الدين يتهم في الكتابة الذى عليه الدين، وكذلك العكس، شرع سبحانه كاتبا غيرهما يكتب بالعدل، لا يكون في قلبه ولا قلمه انحياز لاحدهما (الثالثة عشرة) الباء في قوله تعالى " بالعدل " متعلقة بقوله " وليكتب " وليست متعلقة بكاتب لانه كان يلزم أن يكتب الوثيقة كاتب عدل في نفسه، وقد يكتبها صبى وعبد إذا فقهوا، أما المنتصبون للكتابة - من الكتبة العموميين - فلا يجوز الترخيص لهم بالكتابة إلا إذا كانوا عدولا مرضيين.

قال مالك " لا يكتب الوثائق بين الناس الا عارف بها عدل في نفسه مأمون، لقوله تعالى " وليكتب بينكم كاتب بالعدل "

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 100)

________________________________________

الرابعة عشرة: قوله تعالى " ولا يأب كاتب أن يكتب " نهى الله الكاتب عن الاباء، فقال الربيع واجب على الكاتب إذا أمر أن يكتب، وقال الحسن: ذلك واجب عليه في الموضع الذى لا يقدر عليه كاتب غيره فيضر صاحب الدين إن امتنع، فإن كان كذلك فهو فريضة، وإن قدر على ذلك غيره فهو سعة إذا قام به غيره، وحكى المهدوى عن الربيع والضحاك أن قوله: ولا يأب منسوخ بقوله

ولا يضار كاتب ولا شهيد " وللقرطبي بحث لطيف في ذلك حيث يقول: هذا - الوجوب - يتمشى على قول من رأى أو ظن أنه قد كان وجب في الاول على من اختاره المتبايعان أن يكتب، وكان لا يجوز له أن يمتنع حتى نسخه قوله تعالى " ولا يضار كاتب ولا شهيد " وهذا بعيد، فانه لم يثبت وجوب ذلك على من أراده المتبايعان كائنا من كان، ولو كانت الكتابة واجبة ما صح الاستئجار بها لان الاجارة على فعل الفروض باطلة، ولم يخلف العلماء في جواز أخذ الاجرة على كتب الوثيقة.

الخامسة عشرة: قوله تعالى " كما علمه الله فليكتب " المعنى كتبا كما علمه الله، أي فليفضل كما أفضل الله عليه.

السادسة عشره: قوله تعالى " وليملل الذى عليه الحق " وهو المديون المطلوب يقر على نفسه بلسانه، والاملاء والاملال لغتان أمل وأملى، فأمل لغة الحجاز وبنى أسد، أما تميم فتقول: أمليت، وجاء القرآن باللغتين " فهى تملى عليه بكرة وأصيلا " وأمره تعالى بالتقوى فيما يمل، ونهاه عن أن يبخس شيئا من الحق، والبخس النقص.

السابعة عشرة: قوله " فان كان الذى عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل فالذي عليه الحق إما مستقل بنفسه فهذا يمل، وإما سفيه مهلهل الرأى في المال لا يحسن الاخذ لنفسه ولا الاعطاء مأخوذ من الثوب السفيه وهو الخفيف النسج الثامنة عشرة: والضعيف قد مر في بابى البيوع والربا مزيد إيضاح له في سوق حديث أبى داود والترمذي عن أنس أن رجلا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يبتاع وفى عقله ضعف، فأتى أهله نبى اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا يَا نبى الله

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 101)

________________________________________

احجر على فلان فانه يبتاع وفى عقله ضعف فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فنهاه عن البيع، فقال: يا رسول الله انى لا أصبر عن البيع ساعة، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " ان كنت غير تارك فقل: ها وها ولا خلابة " وهذا الرجل هو حبان بن منقذ الانصاري والد يحيى وواسع ابني حبان وذكره البخاري في التاريخ.

التاسعة عشرة: والذى لا يستطيع أن يمل كالاخرس والعيى، والابله وما أشبه ذلك واختلاف العلماء فيمن يخدع في البيوع وعمدتهم في ذلك الروايات المستفيضة لقصة حبان بن منقذ.

واختصاصه بالخيار ثلاثا كما أورد ذلك النووي في الجزء الثامن من المجموع الموفية عشرين: قوله تعالى " فليملل وليه بالعدل " ذهب الطبري إلى أن الضمير في " وليه " عائد على الحق، وأسند في ذلك عن الربيع وعن ابن عباس وقيل هو عائد على الذى عليه الحق وهو الصحيح، وكيف تشهد البينة على شئ وتدخل مالا في ذمة السفيه باملاء الذى له الدين، الا أن يمل صاحب الحق ويسمع الذى عجز عن الاملاء إذا لم يعجر عن الاعتراف إذا تحيف صاحب الحق الحادية والعشرون: قوله " فليملل الذى عليه الحق " يدل على أنه مؤتمن فيما يورده ويصدره، وسيأتى في الرهن قبول قول الراهن مع يمينه إذا اختلف هو والمرتهن في مقدار الدين والرهن قائم ان شاء الله تعالى.

الثانية والعشرون: إذا ثبتت صفة الولى كان اقراره جائز على يتيمه كما سيأتي في الرهن والفرائض ان شاء الله تعالى.

الثالثة والعشرون: فساد تصرف الصبى والمحجور عليه وفسخه كما سيأتي في الحجر ان شاء الله تعالى.

الرابعة والعشرون: قوله تعالى " واستشهدوا شهيدين من رجالكم " اختلف الناس هل هي فرض أو ندب، والصحيح أنها ندب.

قال الشافعي في باب السلم وأحب الشهادة في كل حق لزم من بيع وغيره نظرا

في المتعقب لما وصفت وغيره من تغير العقول.

الخامسة والعشرون: قوله تعالى " شهيدين " كل ما يترتب على الشهادة من الحقوق المالية والبدنية والحدود جعل لها شهيدين ما عدا الزنا.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 102)

________________________________________

السادسة والعشرون: قوله تعالى " من رجالكم " نص في رفض الكفار والصبيان والنساء والعبيد، واختار القاضى أبو إسحاق المروزى أن المراد به الاحرار لنقص الرق وأجاز الشعبى والنخعي في الشئ اليسير وقوله " من رجالكم " يعنى الذين يتداينون ولهم إرادة كاملة في التصرف، ولا يتفق هذا مع الرقيق وفى الشهادة بحث سيأتي.

السابعة والعشرون: قوله تعالى " فان لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان " وفى شهادة المرأه فيما لا يحسن الشهادة فيه غيرها بحث سيأتي إن شاء الله تعالى.

الثامنة والعشرون.

جواز شهادة الصبى عند بعض الفقهاء لشهادة الصبيان في الجراح، وهو قول مالك فيما إذا لم يختلفوا ولم يفترقوا في شهادتهم على الكبير أما شهادتهم فيما بينهم فقد قضى بها عبد الله بن الزبير، ومنع الشافعي شهادة الصبيان وكذلك أبو حنيفة وأصحابه وسيأتى مزيد إن شاء الله تعالى.

التاسعة والعشرون.

عند الشافعي ومالك لما جعل الله سبحانه شهادة امرأتين بشهادة رجل وجب أن يكون حكمهما حكمه وسيأتى حكم اليمين في الشهادة واختلاف الفقهاء في ذلك.

الموفية ثلاثين.

شهادة النساء محصورة في المال المحض من غير خلاف.

لان حقوق الاموال أحفظ من حقوق الابدان، ولا تقبل شهادتهن في النكاح والطلاق المحضين على تفصيل سيأتي.

الحادية والثلاثون.

قوله تعالى " ممن ترضون من الشهداء " هذه الآية وان كان الخطاب فيها لجميع الناس ولكن المتلبس بحكمها هم ولاة الامور.

الثانية والثلاثون.

يدل أيضا قوله تعالى " ممن ترضون من الشهداء " على أن في الشهود من لا يرضى، على تفصيل سيأتي.

الثالثة والثلاثون.

الشهادة ولاية عظيمة ومرتبة شريفة هي قبول قول الغير على الغير، ولذا شرط فيها الله تعالى الرضا والعدالة، لانه يحكم بشغل ذمة المطلوب بشهادته.

الرابعة والثلاثون: " أن تضل إحداهما " والضلال عن الشهادة نسيان جزء منها وذكر جزء، ومن نسى الشهادة جملة فليس يقال.

ضالا.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 103)

________________________________________

الخامسة والثلاثون.

" فتذكر " خفف الذال والكاف ابن كثير وأبو عمرو وعليه فيكون المعنى أن تردها ذكرا في الشهادة وفيه بعد، إذ لا يحصل في مقابلة الضلال الذى معناه النسيان الا الذكر، وهو معنى قراءة الجماعة بالتشديد.

السادسة والثلاثون.

قوله تعالى " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " قال الحسن جمعت هذه الآية أمرين وهما ألا تأبى إذا دعيت إلى تحصيل الشهادة، ولا إذا دعيت إلى أدائها قاله ابن عباس وفى استدعائهم أو المجئ إليهم، قال الشافعي في باب السلم.

ويحتمل أن يكون فرضا على من حضر الحق أن يشهد منهم من فيه الكفاية للشهادة، فإذا شهدوا أخرجوا غيرهم من المأثم، وان ترك من حضر الشهادة خفت حرجهم بل لا أشك فيه، وهذا أشبه معانيه به والله أعلم السابعة والثلاثون.

أداء الشهادة مندوب إذا لم يدع لقوله صلى الله عليه وسلم " خير الشهداء الذى يأتي بشهادته قبل أن يسألها " فإذا خيف ضياع الحق وجب أداؤها بغير استدعاء لقوله تعالى " وأقيموا الشهادة لله " وقوله تعالى " الا من شهد بالحق وهم يعلمون " وفى الحديث " انصر أخاك ظالما أو مظلوما ".

الثامنة والثلاثون.

من وجبت عليه شهادة فلم يؤدها، وترتب على ذلك الذهاب بحق من الحقوق سقطت عدالته فلا يصح أداؤه الشهادة بعد ذلك، قال في الام.

فأما من سبقت شهادته بأن شهد أو علم حقا لمسلم أو معاهد فلا يسعه التخلف عن تأدية الشهادة متى طلبت منه في موضع مقطع الحق.

التاسعة والثلاثون.

قوله تعالى " ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله " فهذا النهى عن السآمة انما جاء لتردد المداينة عندهم فخيف عليهم أن يملوا الكتابة، ويقول أحدهم.

هذا قدر يسير لا احتياج إلى كتابته، فأكد الله تعالى حفظ القليل والكثير.

الموفية الاربعين.

قوله تعالى " ذلكم أقسط عند الله " يعنى أن يكتب القليل والكثير ويشهد عليه ذلك أعدل وأحفظ.

الحادية والاربعون.

قوله تعالى " وأقوم للشهادة " دليل على أن الشاهد لا يؤدى الا ما يعلم، فإذا لم يعلم قال: هذا خطى ولا أذكر الآن ما كتبت.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 104)

________________________________________

الثانية والاربعون: قوله تعالى (إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم) في هذه الآية رفع الجناح عن عدم الكتابة في كل مبايعة بنقد، يدا بيد، وقد مر في البيوع المرسلة.

الثالثة والاربعون: قوله تعالى " تديرونها بينكم " يقتضى التقايض والبينونة بالمقبوض، ولا يتسنى ذلك في الرباع والارض وكثير من الاشياء الثمينة لا يقبل البينونة ولا يغاب عليه، لذلك حسن الكتابة فيها، ولحقت في ذلك مبايعة الدين والسلم.

قال الشافعي: البيوع ثلاثة، بيع بكتاب وشهود وبيع برهان وبيع بأمانة وقرأ هذه الاية، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا بَاعَ بِنَقْدٍ أَشْهَدَ، وإذا باع بنسيئة كتب الرابعة والاربعون، قوله تعالى " وأشهدوا " سبق بيان ذلك في أول

الباب.

وقد روى عن ابن عباس أنه قال لما قيل له إن آية الدين منسوخة.

قال لا والله، إن آية الدين محكمة ليس فيها نسخ.

قال الطبري: والاشهاد إنما جعل للطمأنينة، وذلك أن الله تعالى جعل لتوثيق الدين طرقا، منها الكتاب ومنها الرهن ومنها الاشهاد، ولا خلاف بين علماء الامصار أن الرهن مشروع بطريق الندب لا بطريق الوجوب، فيعلم من ذلك مثله في الاشهاد، وما زال الناس يتبايعون حضرا وسفرا، وبرا وبحرا، وسهلا وجبلا من غير إشهاد مع علم الناس بذلك من غير نكير، ولو وجب الاشهاد ما تركوا النكير.

اه.

وقد مر تفصيل ذلك في البيوع وما ورد فيه من الاحاديث الخامسة والاربعون " ولا يضار كاتب ولا شهيد " قد تشمل هذه الاية درء كل ما يؤدى إلى مضارة الشاهد.

كأن يوقف أمام الحكام زمنا يلحقه من جرائه مضارة، أو يخطب بلهجة تنم عن ازدرائه وخدش حيائه إن كان من أهل الفضل والعلم، فإذا دعى الشاهد إلى الشهادة واعتذر بمشاغله، فلا يهان أو يعنف، أو يكره على الشهادة السادسة والاربعون " وان تفعلوا فإنه فسوق بكم " يعنى مضارة الشاهد، قال سفيان الثوري: إن أذية الكاتب والشاهد إذا كانا مشغولين معصية وخروج عن الصواب من حيث المخالفة لامر الله.

وقوله " بكم " أي فسوق حال بكم

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 105)

________________________________________

السابعة والاربعون: قوله تعالى " واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شئ عليم " وعد من الله بأن من اتقاه علمه وجعل في قلبه نورا يفهم به ما يلقى إليه.

وقد يجعل في قلبه فرقانا وفيصلا بين الحق والباطل.

والله تعالى أعلم والحق أن هذه الايات في السلف بلغت من شمول الاحكام واستيعاب صور

العمل مع السنة الشريفة ما جعل الشافعي يقول، قال الشافعي: وما كتبت من الاثار بعدما كتبت من القرآن والسنة والاجماع ليس لان شيئا من هذا يزيد سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوة ولا لو خالفها ولم يحفظ معها يوهنها، بل هي التى قطع بها العذر، ولكنا رجونا الثواب في ارشاد من سمع ما كتبنا، فإن فيما كتبنا بعض ما يشرح قلوبهم لقبوله، ولو تنحت عنهم الغفلة لكانوا مثلنا في الاستغناء بكتاب الله عز وجل ثم سنة نبيه صلى الله عليه وسلم وما احتاجوا إذا أمر الله عز وجل بالرهن في الدين إلى أن يقول قائل هو جائز في السلف، لان أكثر ما في السلف أن يكون دينا مضمونا. اه

قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

وينعقد بلفظ السلف والسلم، وفى لفظ البيع وجهان من أصحابنا من قال لا ينعقد السلم بلفظ البيع، فإذا عقد بلفظ البيع كان بيعا ولا يشترط فيه قبض العوض في المجلس، لان السلم غير البيع فلا ينعقد بلفظه، ومنهم من قال ينعقد لانه نوع بيع يقتضى القبض في المجلس فانعقد بلفظ البيع كالصرف (الشرح) هذا الخلاف لفطى، لان صورة السلم يمكن أن تكون نوعا من أنواع البيوع مستثنى منها بإطلاق لفظ السلف أو السلم عليه، ولا يؤثر الخلاف اللفظى في جوهره إلا أنهم قضوا في حالة ما إذا عقد بلفظ البيع ولم يقبضه في المجلس خرج بذلك عن أن يكون سلما.

وكلام الشافعي في السلم في كل أنواعه يطلق عليه لفظ البيع فهو نوع خاص من أنواع البيوع أبيح فيه بعض ما هو ممنوع في صور البيوع الاخرى ومنع فيه بعض ما أبيح في البيوع الاخرى.

قال الشافعي في (باب السلف في السلعة بعينها حاضرة أو غائبة)

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 106)

________________________________________

ولو سلف رجل رجلا مائة دينار في سلعة بعينها على أن يقبض السلعة بعد

يوم أو أكثر كان السلف فاسدا، ولا تجوز بيوع الاعيان على أنها مضمونة على بائعها بكل حال، لانه لا يمتنع من فوتها ولا بأن لا يكون لصاحبها السبيل على أخذها متى شاء هو لا يحول بائعها دونها إذا دفع إليه ثمنها، وكان إلى أجل لانها قد تتلف في ذلك الوقت، وإن قل، فيكون المشترى قد اشترى غير مضمون على البائع بصفة موجودة بكل حال يكلفها بائعها، ولا ملكه البائع شيئا بعينه يتسلط على قبضه حين وجب له وقدر على قبضه.

 

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

ويثبت فيه خيار المجلس لقوله صلى الله عليه وسلم المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا ولا يثبت فيه خيار الشرط لانه لا يجوز أن يتفرقا قبل تمامه ولهذا لا يجوز أن يتفرقا قبل قبض العوض فلو أثبتنا فيه خيار الشرط أدى إلى أن يتفرقا قبل تمامه.

(الشرح) حديث المتبايعان بالخيار رواه الشيخان عن ابن عمر وحكيم بن حزام ورواه الشيخان وأصحاب السنن الا ابن ماجه بلفظ " البيع والمبتاع، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، ورواه أبو داود عن أبى برزة، وعن سمرة عند النسائي، وعن ابن عباس عند ابن حبان.

أما الاحكام فإنه لا يجوز في عقد السلم أن يتفرقا قبل توفر شروطه أن يكون في جنس معلوم بصفة معلومة ومقدار معلوم وأجل معلوم وتسليم رأس المال في المجلس وتسمية مكان التسليم.

قوله: ولهذا لا يجوز أن يتفرقا قبل قبض العوض، وذلك العوض هو رأس المال وهو الثمن الذى يجب تسليمه في المجلس الذى وقع العقد به قبل التفرق منه وقبل لزومه لان لزومه كالتفرق إذ لو تأخر لكان في معنى بيع الدين بالدين ان كان رأس المال في الذمة، ولان في السلم غررا، فلا يضم إليه غرر تأخير رأس المال، فلابد من حلول رأس المال كما قاله القاضى أبو الطيب كالصرف، ولا يغنى عنه شرط تسليمه في المجلس فلو تفرقا قبل قبض رأس المال أو ألزماه بطل العقد

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 107)

________________________________________

وكذلك إذا سلم بعضه بطل فيما لم يقبض، وفيما يقابله من المسلم فيه، وصح في الباقي بقسطه، كما لو اشترى شيئين فتلف أحدهما قبل القبض فيؤخذ منه ثبوت الخيار هذا ما أخذ به الرملي عن صاحب الانوار وخالف فيه السبكى، ولو اختلفا فقال المسلم: أقبضتك بعد التفرق، وقال المسلم إليه: قبله، ولا بينة صدق مدعى الصحة، كما علم مما مر فإن أقاما بينتين قدمت بينة المسلم إليه، لانها مع موافقتها للظاهر ناقلة والاخرى مستصحبة " ولا يكفى قبض المسلم فيه الحال في المجلس عن قبض رأس المال لان تسليمه فيه تبرع، وأحكام البيع لا تبنى على التبرعات وكذا لو قال: أسلمت اليك المائة التى في ذمتك مثلا في كذا فإنه لا يصح السلم.

قال الرملي: فلو أطلق رأس المال عن تعيينه في العقد، كأسلمت اليك دينارا في ذمتي في كذا ثم عين وسلم في المجلس قبل التخاير جاز، أي حل العقد وصح، لان المجلس حريم العقد فله حكمه.

فلو أحال المسلم به المسلم إليه أو عكسه على ثالث له عليه دين فالحوالة باطلة بكل تقدير كما يعلم ذلك في بابه..أعنى الحواله - فإذا قبضه المحيل وهو المسلم إليه في الصورة الاولى في المجلس نص عليه ليعلم منه حكم ما لم يقبض فيه بالاولى فلا يجوز، ومن ثم لو قبضه المحيل من المحال عليه أو من المحتال بعد قبضه بإذنه له وسلمه في المجلس صح بخلاف ما لو أمره المسلم بالتسليم للمسلم إليه، لان الانسان في ازالة ملكه لا يصير وكيلا لغيره، لكن المسلم إليه حينئذ وكيل للمسلم في القبض فيأخذه منه ثم يرده كما تقرر، ولا يصح قبضه من نفسه خلافا للقفال.

قال: ولو قبضه المسلم إليه وأودعه المسلم وهما بالمجلس جاز، ولو رده إليه قرضا أو عن دين جاز

أيضا على المعتمد من تناقض فيه، لان تصرف أحد المتعاقدين في مدة خيار الآخر انما يمتنع إذا كان مع غير الاخر، ولان صحته تقتضي اسقاط ما ثبت له من الخيار أما معه فيصح، ويكون ذلك اجازة منهما.

 

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

ويجوز مؤجلا للآية ويجوز حالا لانه إذا جاز مؤجلا فلان يجوز حالا وهو من الغرر أبعد أولى ويجوز في المعدوم إذا كان موجودا عند المحل،

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 108)

________________________________________

لما روى ابن عباس رضى الله عنه قَالَ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة وهم يسلفون في الثمرة السنتين والثلاث فقال أسلفوا في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم فلو لم يجز السلم في المعدوم لنهاهم عن السلم في الثمار السنتين والثلاث ويجوز السلم في الموجود لانه إذا جاز السلم في المعدوم فلان يجوز في الموجود أولى لانه أبعد من الغرر.

(الشرح) قوله: للآية قصد قوله تبارك وتعالى " إلى أجل مسمى " أما حديث ابن عباس فقد رواه الجماعة.

أما الاحكام فجوازه مؤجلا أمر مجمع عليه، أما جوازه حالا فجمهور المذاهب على خلافه، ويستدلون بحديث ابن عباس " إلى أجل معلوم " على اعتبار الاجل في السلم شرطا وفقهاء المذهب لم يختلفوا على جوازه حالا وهم يجيبون على استدلال المخالفين بأن ذكر الاجل في الحديث ليس للاشتراط، بل معناه ان كان لاجل فليكن معلوما، وتعقيب بالكتابة فان التأجيل شرط فيها، واجيب بالفرق لان الاجل في المكاتبة شرع لعدم قدرة العبد غالبا، واستدل المخالفون بما أخرجه الشافعي عن ابن عباس أنه قال: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل قد أحله الله في كتابه وأذن فيه ثم قرأ قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ".

وأجيب بأن هذا يدل على جواز السلم إلى أجل، ولا يدل على أنه لا يجوز الا مؤجلا، واستدل المخالفون بما أخرجه ابن أبى شيبة عن ابن عباس أنه قال " لا تسلف إلى العطاء ولا إلى الحصاد واضرب أجلا ".

وأجيب بأن هذا ليس بحجة لانه موقوف على ابن عباس وكذلك يجاب عن قول أبى سعيد الذى علقه البخاري، ووصله عبد الرزاق بلفظ " السلم بما يقوم به السعر ربا ولكن السلف في كيل معلوم إلى أجل ".

وقد اختلف الائمة في مقدار الاجل من ساعة إلى الميسرة ولو بلغت سنين، والحق ما ذهبنا إليه من عدم اعتبار الاجل لعدم ورود دليل يدل عليه، وأما ما يقال من أنه يلزم مع الاجل أن يكون بيعا للمعدوم ولم يرخص فيه الا

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 109)

________________________________________

في السلم ولا فارق بينه وبين البيع الا الاجل، فيجاب عنه بأن الصيغة فارقة، وذلك كاف.

قوله: ويجوز السلم في الموجود إلخ قلت: قال ابن رسلان أما المعدوم عند المسلم إليه وهو موجود عند غيره فلا خلاف في جوازه اه.

وقد اختلف العلماء في جواز السلم فيما ليس بموجود في وقت السلم إذا أمكن وجوده في وقت حلول الاجل، فذهب جمهور الفقهاء إلى جوازه قالوا ولا يضر انقطاعه قبل الحلول، وقال أبو حنيفة: لا يصح فيما ينقطع قبله بل لابد أن يكون موجودا من العقد إلى المحل، فلو أسلم في شئ فانقطع في محله لم ينفسخ عند الجمهور وفى وجه عندنا ينفسخ، واستدل أبو حنيفة ومن معه بما أخرجه أبو داود عن ابن عمر " أن رجلا أسلف رجلا في نخل فلم يخرج تلك السنة شيئا فاختصما إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: بم تستحل ماله؟ اردد عليه ماله، ثم قال: لا تسلفوا في النخل حتى يبدو صلاحه " وهذا نص في التمر وغيره يقاس عليه، ولو صح هذا الحديث لكان المصير إليه أولى لدلالته على المطلوب بخلاف حديث عبد الرحمن بن أبزى وعبد الله بن أبى أوفى فليس فيه الا مظنة الاقرار منه صلى الله عليه وسلم، ولكن حديث ابن عمر هذا في اسناده مجهول فإن أبا داود رواه عن محمد بن كثير عن سفيان عن أبى اسحاق عن رجل نجرانى عن ابن عمر ومثل هذا لا حجة فيه.

ولو صح هذا الحديث لحمل على بيع الاعيان أو على السلم الحال الذى يقول به أصحابنا، أو على ما قرب أجله.

 

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

ويجوز السلم في كل مال يجوز بيعه وتضبط صفاته كالاثمان والحبوب والثمار والثياب والدواب والعبيد والجوارى والاصواف والاشعار والاخشاب والاحجار والطين والفخار والحديد والرصاص والبلور والزجاج وغير ذلك من الاموال التى تباع وتضبط بالصفات والدليل عليه حديث ابن عباس في الثمار، وروى عبد الله بن أبى أوفى قال كنا نسلف ورسول الله صلى الله عليه وسلم فينا في الزيت والحنطه، وروى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 110)

________________________________________

ان النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يُجَهِّزَ جيشا فنفدت الابل فأمره أن يأخذ على قلاص الصدقة وكان يأخذ البعير بالبعير إلى إبل الصدقة.

وعن ابن عباس رضى الله عنه أنه قال في السلم في الكرابيس إذا كان ذرعا معلوما إلى أجل معلوم فلا بأس، وعن أبى النضر قال سئل ابن عمر رضى الله عنه عن السلم في السرق قال: لا بأس والسرق الحرير فثبت جواز السلم فيما رويناه بالاخبار وثبت فيما سواه مما يباع ويضبط بالصفات بالقياس على ما ثبت بالاخبار لانه في معناه.

(الشرح) حديث ابن عباس في الثمار، وحديث عبد الله بن أبى أوفى مر ذكرهما في أول الباب مع تخريجهما، أما حديث عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما فقد رواه أبو داود في سننه، وله شاهد عند سعيد بن منصور في سننه عن أبى معشر عن صالح بن كيسان عن الحسن بن محمد " أن عليا باع بعيرا يقال له: عصيفر بأربعة أبعرة إلى أجل " والاثران عن ابن عباس وابن عمر رواهما أصحاب السنن أما لغات الفصل فقوله: الاشعار جمع شعر والواحدة شعرة والمقصود هنا ما ينبت على جلود المعز والوبر ما ينبت على جلود الابل، وقوله: فنفدت الابل أي ذهبت ولم يبق منها شئ، وقوله: قلاص جمع قلوص وهو من الابل بمنزلة الشابة من النساء، وقوله: الكرابيس جمع كرباس وهو نسيج خشن، وقوله: السرق هي شقق الحرير.

أما الاحكام: فقوله: في كل مال يجوز بيعه خرج بذلك الخمر والخنزير والكلب وكل ما هو غير محترم من الحيوان، وقوله: وتضبط صفاته، يعنى مما يمتنع الخلاف فيه إذا وصفت، ويمكن تمييزها عن غيرها إذا وصفت بصفاتها قال الشافعي في باب ما يجوز من السلف: وأن يشترط عليه أن يسلفه فيما يكال كيلا أو فيما يوزن وزنا ومكيال وميزان معروف عند العامة، فأما ميزان يريه إياه أو مكيال يريه فيشترطان عليه فلا يجوز وذلك لانهما لو اختلفا فيه أو هللك لم يعلم ما قدره، ولا يبالى كان مكيالا قد أبطله السلطان أو لا إذا كان معروفا وان كان تمرا قال: تمر صيحانى أو بردى أو عجوه أو جنيب أو صنف من التمر

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 111)

________________________________________

معروف فإن كان حنطة، قال شامية أو ميسانية أو مصرية أو موصلية أو صنفا من الحنطة موصوفا، وان كان ذرة قال: حمراء، ثم قال: وان كان في بعير قال: بعير من نعم بنى فلان ثنى غير مودن نقى من العيوب سبط الخلق أحمر مجفر الجنبين الخ، وهذه الدواب يصفها بنتاجها وجنسها وألوانها وأسنانها وأنسابها وبراءتها من العيوب الا أن يسمى عيبا يتبرأ البائع منه ثم قال: وهكذا النحاس يصفه أبيض أو شبها أو أحمر، ثم قال: وأقل ما يجوز فيه السلف من هذا أن يوصف ما سلف فيه بصفة تكون معلومة عند أهل العلم ان؟ ؟ ؟ ؟ ف المسلف والمسلف، فكل ما وقعت عليه صفة يعرفها أهل العلم بالسلعة التى سلف فيها جاز السلف، وكذلك قال الشافعي في باب السلف في الكيل: ولا خير في السلف في مكيل الا موصوفا، ثم قال في السلف الذرة: والذرة كالحنطة توصف بجنسها ولونها وجودتها ورداءتها وجدتها وعتقها وصرام علم كذا أو عام كذا ومكيلتها وأجلها، فإن ترك من هذا شيئا لم يجز، وقال: لا يجوز السلف في الحنطه في أكمامها وما يكون من الذرة في حشرها لان الحشر والاكمام غلافان فوق القشرة التى هي من نفس الحبة التى هي انما هي للحبة بقاء لانها كمال خلقتها كالجلد تكمل به الخلقة لا يتميز منها إلى أن قال: فإن شبه على أحد بأن يقول في الجوز واللوز يكون عليه القشر فالجوز واللوز مما له قشر لا صلاح له إذا رفع الا بقشره، لانه إذا طرح عنه قشره ثم ترك عجل فساده.

وقال: وان سلف في وزن ثم أراد اعطاء كيلا لم يجز من قبل أن الشئ يكون خفيفا ويكون غيره من جنسه أثقل منه فإذا أعطاه اياه بالمكيال أقل أو أكثر مما سلفه فيه فكان أعطاه الطعام الواجب متفاضلا أو مجهولا، وانما يجوز أن يعطيه معلوما، فإن أعطاه حقه فذلك الذى لا يلزمه غيره، وان أعطاه حقه وزاده تطوعا منه على غير شئ كان في العقد فهذا نائل من قبله، فإن أعطاه أقل من حقه وأبرأه المشترى مما بقى عليه فهذا شئ تطوع به المشترى فلا بأس به.

وقال في تفريع الوزن من العسل: فإن سلف في عسل فجاءه بعسل رقيق أريه أهل العلم بالعسل، فإن قالوا: هذه الرقة في هذا الجنس من هذا العسل عيب

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 112)

________________________________________

ينقص ثمنه لم يكن عليه أن يأخذه.

وإن قالوا هكذا يكون هذا العسل.

وقالوا رق لحر البلاد أو لعلة غير العيب في نفس العسل لزمه أخذه وقال: ألا ترى أنى لو أسلمت في سمن ووصفته ولم أصف جنسه فسد من قبل أن سمن المعزى مخالف سمن الضأن، وأن سمن الغنم كلها مخالف البقر والجواميس، فإذا لم تقع الصفة على الجنس فسد السلف وقال في باب السلف في السمن: والسمن فيه ما يدخن ومالا يدخن، فلا يلزم المدخن لانه عيب.

وقال في السلف في الزيت: وما اشترى وزنا بظروفه لم يجز شراؤه بالوزن في الظروف لاختلاف الظروف، وأنه لا يوقف على حد وزنها إلى أن قال: وإن لم يراضيا وأراد اللازم لهما وزنت الظروف قبل أن يصب فيها الادام ثم وزنت بما يصب فيها ثم يطرح وزن الظروف، وإن كان فيها زيت وزن فرغت ثم وزنت الظروف ثم ألقى وزنها من الزيت، وما أسلف فيه من إلادام فهو له صاف من الرب والعكر وغيره مما خالف الصفاء.

(قلت) والظرف يشبه العلب التى يباع فيها الزيت في زماننا هذا وقال في السلف في اللبن: يجوز السلف في اللبن كما يجوز في الزبد.

ويفسد كما يفسد في الزبد بترك أن يقول ما هو ماعز أو ضأن أو بقر، وإن كان إبلا أن يقول: لبن غواد أو أوراك، ويقول في هذا كله لبن الراعية والمعلفة لاختلاف ألبان الرواعى والمعلفة، وتفاضلها في الطعم والصحة والثمن، فأى هذا سكت عنه لم يجز معه السلم، ولم يجز إلا بأن يقول " حليبا " أو يقول " لبن يومه " لانه يتغير في غده.

وقال في السلف في الجبن رطبا ويابسا: والسلف في الجبن كالسلف في اللبن لا يجوز إلا بأن يشرط صفته حين يومه - إلى أن قال - ولا خير فيه إلا بوزن - إلى أن قال - ويشترط فيه جبن ماعز أو بقر أو ضائن - إلى أن قال - وكل ما كان عيبا في الجبن عند أهل العلم من إفراط ملح أو حموضة طعم أو غيره لم يلزم المشترى.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 113)

________________________________________

وقال في الصوف والشعر: ولا خير في أن يسلم في صوف غنم بأعيانها، ولا شعرها إذا كان ذلك إلى يوم واحد فأكثر وذلك أنه قد تأتى الآفة عليه فتذهبه أو تنقصه، إلى أن قال: ولا خير في أن يسلم في ألبان غنم بأعيانها ولا زبدها ولا سمنها ولا لبنها ولا جبنها.

قال البلقينى: المراد ألا يسلم في صوف غنم معينة أو شعرها أو في غير معينة غير الصوف والشعر اه.

قال الشافعي: ولا بأس أن تسلف في شئ ليس في أيدى الناس حين تسلف فيه إذا شرطت محله في وقت يكون موجودا فيه بأيدى الناس.

وقال في صفة اللحم وما يجوز فيه وما لا يجوز: من أسلف في لحم فلا يجوز فيه حتى يصفه: لحم ماعز خصى أو ذكر ثنى فصاعدا أو جدى رضيع أو فطيم إلى أن قال: ويشترط الوزن إلى أن قال: وان شرط موضعا من اللحم وزن ذلك الموضع بما فيه من العظم لان العظم لا يتميز من اللحم كما يتميز التبن والمدر والحجارة من الحنطة (وقاسه على النوى في التمر) .

وقال الشافعي في الام كثيرا عن لحم الوحش والحيتان والرءوس والاكارع والسلف في العطر وزنا ومتاع الصيادلة واللؤلؤ وغيره من متاع أصحاب الجوهر والتبر غير الذهب والفضة وصمغ الشجر والطين الارمني وطين البحيرة والمختوم إلى أن وصل إلى السلف في الحيوان قال:

أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يسار عن أَبِي رَافِعٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استسلف بكرا فجاءته إبل من الصدقة فقال أبو رافع فأمرني رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ أقضى الرجل بكرة، فقلت: يا رسول الله إنى لم أجد في الابل إلا جملا خيارا رباعيا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أعطه إياه فإن خيار الناس أحسنهم قضاء " فهذا الحديث الثابت عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبه آخذ وفيه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضمن بعيرا بصفة وجنس وسن فكالدنانير بصفة وضرب ووزن، وكالطعام بصفة وكيل،

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 114)

________________________________________

وفيه دليل على أنه لا باس أن يقضى أفضل مما عليه متطوعا من غير شرط، وفيه أحاديث سوى هذا.

ثم روى بإسناده عن أبى الزبير عن جابر قال: جاء عبد فبايع رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الهجرة ولم يسمع أنه عبد، فجاء سيده يريده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " بعه " فاشتراه بعبدين أسودين، ثم لم يبايع أحدا بعده حتى يسأله: أعبد هو أم حر؟ قال وبهذا نأخذ، وهو إجازة عبد بعبدين، وإجازة أن يدفع ثمن شئ في يده فيكون كقبضه.

ثم روى الشافعي بإسناده " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مصدقا له فجاءه بظهر مسان، فَلَمَّا رَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: هلكت وأهلكت، فقال يا رسول الله إنى كنت أبيع البكرين والثلاثة بالبعير المسن يدا بيد، وعلمت من حاجة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الظهر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم فذاك إذن " ومذهبنا أنه لا ربا في الحيوان، وإنما النهى عن المضامين والملاقيح وحبل الحبلة مما كان أهل الجاهلية يتبايعونه، وهو مفصل في أبواب الربا التى سبقت في موطنها.

(فرع)

اختلف الفقهاء في السلم في الحيوان، فروى لا يصح السلم فيه وهو قول الثوري وأصحاب الرأى.

وروى ذلك عن عمر وابن مسعود وحذيفة وسعيد بن جبير والشعبى والجوزجاني، لما روى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قال: إن من الربا أبوابا لا تخفى، وإن منها السلم في السن " ولان الحيوان يختلف اختلافا متباينا فلا يمكن ضبطه، وان استقصى صفاته التى يختلف بها الثمن، مثل أزج الحاجبين، أكحل العينين، أقنى الانف أشم العرنين، أهدب الاشفار ألمى الشفة، بديع الصفة تعذر تسليمه لندرة وجوده على تلك الصفات ومذهبنا ومذهب أحمد صحة السلم فيه قال ابن المنذر: وممن روينا عنه أنه لا بأس بالسلم في الحيوان ابن مسعود وابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب والحسن والشعبى ومجاهد والزهرى والاوزاعي والشافعي وإسحاق وأبو ثور، وحكاه الجوزجانى عن عطاء والحكم،

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 115)

________________________________________

لان أبا رافع قال " استسلف النبي صلى الله عليه وسلم من رجل بكرا " رواه مسلم وقد سقناه عن الام قبل فأما حديث عمر فلم يذكره أصحاب الاختلاف، ثم هو محمول على أنهم يشترطول من ضراب فحل بنى فلان.

قال الشعبى " انما كره ابن مسعود السلف في الحيوان لانهم اشترطوا نتاج فحل معلوم. رواه سعيد ابن منصور.

وقد روى عن على أنه باع جملا يدعى عصيفير بعشرين بعيرا إلى أجل، ولو ثبت قول غمر في تحريم السلم في الحيوان فقد عارضه قول من سمينا ممن وافقنا قال الشافعي " وان كان السلف في خيل أجزأ فيها ما أجزأ في الابل وأحب إن كان السلف في الفرس أن يصف شيته مع لونه، فإن لم يفعل فله اللون بهيما وان كان له شية فهو بالخيار في أخذها وتركها، والبائع بالخيار في تسليمها وإعطائه

اللون بهيما " إلى أن قال " وان أتى على السن واللون والجنس أجزأه، وإن ترك واحدا من هذا فسد السلف " إلى أن قال " ولا يحل أن يسلف في ذات رحم من الحيوان - على أن يوفاها وهى حبلى - من قبل أن الحمل مالا يعلمه إلا الله، وأنه شرط شيئا فيها ليس فيها، وهو شراء مالا يعرف، وشراؤه في بطن أمه لا يجوز، لانه لا يعرف ولا يدرى أيكون أم لا.

ولا خير في أن يسلف في ناقة ومعها ولدها موصوفا ولا في وليدة ولا في ذات رحم من حيوان كذلك.

ولكن ان أسلف في وليدة أو ذات رحم من الحيوان بصفة ووصف بصفة، ولم يقل ابنها أو ولد ناقة أو شاة، ولم يقل ولد الشاة التى أعطاها جاز، وسواء أسلفت في صغير أو كبير موصوفين بصفة وسن تجمعهما أو كبيرين كذلك قال ولو سلف في ذات لبون على أنها لبون كان فيها قولان

(أحدهما) أنه جائز.

وإذا وقع عليه أنها لبون كانت له واللبن يتميز منها ولا يكون بتصرفها، انما هو شئ يخلقه الله عز وجل فيها، كما يحدث فيها البعر وغيره، فإذا وقعت على هذا صفة المسلف كان فاسدا كما يفسد أن يقول أسلفك في ناقة يصفها، ولبن معها غير مكيل ولا موصوف قال وكل ما أسلف من حيوان وغيره وشرطت معه غيره فإن كان المشروط

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 116)

________________________________________

معه موصوفا يحل فيه السلف على الانفراد فسد السلف، ولا يجوز أن يسلف في حيوان موصوف من حيوان رجل بعينه أو بلد بعينه ولا نتاج ماشية رجل بعينه، ولا يجوز أن يسلف فيه إلا فيما لا ينقطع من أيدى الناس كما قلنا في الطعام وغيره.

قال الشافعي في باب الاختلاف في أن يكون الحيوان نسيئة أو يصلح منه إثنان بواحد.

فخالفنا بعض الناس في الحيوان فقال " لا يجوز أن يكون نسيئة أبدا " قال

وكيف أجزتم أن جعلتم الحيوان دينا وهو غير مكيل ولا موزون، والصفة تقع على العبدين ومعهما دنانير وعلى البعيرين وبينهما تفاوت في الثمن؟ قال نقلناه، قلنا أولى الامور بنا أن نقول به بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في استسلافه بعيرا وقضائه إياه، والقياس على ما سواها من سنته، ولم يختلف أهل العلم فيه.

قال فاذكر ذلك (قلت) أما السنة النص، فإنه استسلف بعيرا.

وأما السنة التى استدللنا بها فإنه قضى بالدية مائة من الابل، ولم أعلم المسلمين اختلفوا أنها بأسنان معروفة، وفى مضى ثلاث سنين، وأنه صلى الله عليه وسلم افتدى كل من لم يطب عنه نفسا من قسم له من سبى هوازن بإبل سماها ست أو خمس إلى أجل قال " أما هذا فلا أعرفه " قلنا فما أكثر مالا تعرفه من العلم.

قال أفثابت؟ قلت نعم ولم يحضرني إسناده.

قال ولم أعرف الدية من السنة.

قلت وتعرف مما لا تخالفنا فيه أن يكاتب الرجل على الوصفاء بصفة، وأن يصدق الرجل المرأه العبيد والابل بصفة؟ قال نعم.

وقال ولكن الآية تلزم الابل، إبل العاقلة وسن معلومة وغير معيبة، ولو أراد أن ينقص من أسنانها سنا لم تجز، فلا أراك إلا حكمت بها مؤقتة، وأجزت فيها أن تكون دينا.

وكذلك أجزت في صداق النساء لوقت وصفة، وفى الكتابة لوقت وصفة.

ولو لم يكن روينا فيها شيئا إلا ما جامعتنا عليه من أن الحيوان يكون دينا في هذه المواضع الثلاث أما كنت محجوجا بقولك " لا يكون الحيوان دينا وكانت علتك فيه زائلة؟

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 117)

________________________________________

قلت: قد جَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دينا في السلف والدية، ولم تخالفنا في أنه يكون في موضعين آخرين دينا في الصداق والكتابة، فإن قلت: ليس بين العبد وسيده ربا، قلت: أيجوز أن يكاتبه على حكم السيد، وعلى أن يعطيه ثمرة لم يبد صلاحها، إلى أن قال، قال الشافعي: وقلت لمحمد بن الحسن: أنت أخبرتني عن أبى يوسف عن عطاء بن السائب عن أبى البحترى أن بنى عم لعثمان أتوا واديا فصنعوا شيئا في إبل رجل قطعوا به لبن إبله، وقتلوا فصالها، فأتى عثمان وعنده ابن مسعود فرضى بحكم ابن مسعود فحكم أن يعطى بواديه إبلا مثل إبله وفصالا مثل فصاله فأنفذ ذلك عثمان فيروى عن ابن مسعود أنه يقضى في حيوان بحيوان مثله دينا لانه إذا قضى به بالمدينة وأعطيه بواديه كان دينا ويزيد أن يروى عن عثمان أنه يقول بقوله، وأنتم تروون عن المسعودي عن القاسم بن عبد الرحمن قال: أسلم لعبد الله بن مسعود في وصفاء أحدهم أبو زائدة مولانا، فلو اختلف قول ابن مسعود فيه عندك فأخذ رجل ببعضه دون بعض ألم يكن له قال: بلى، قلت: ولو لم يكن فيه غير اختلاف قول ابن مسعود؟ قال: نعم قلت فلم خالفت ابن مسعود ومعه عثمان ومعنى السنة والاجماع؟ قال: فقال منهم قائل فلو زعمت أنه لا يجوز السلم فيه ويجوز إسلامه، وأن يكون دية وكتابة ومهرا وبعيرا ببعيرين نسيئة، قلت: فقله إن شئت قال: فإن قلته؟ قلت يكون أصل قولك لا يكون الحيوان دينا خطأ بحاله.

قال فإن انتقلت عنه؟ قلت فأنتم تروون عن ابن عباس أنه أجاز السلم في الحيوان، وعن رجل آخر مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: إنا لنرويه.

قلت: فإن ذهب رجل إلى قولهما أو قول أحدهما دون قول ابن مسعود أيجوز له؟ قال: نعم قلت: فان كان مع قولهما أو قول أحدهما القياس على السنة والاجماع؟ قال فذلك أولى أن يقال به، قلت أفتجد مع من أجاز السلم في الحيوان القياس فيما وصفت؟ قال نعم.

وقال الشافعي في السلف في الثياب: فان شرطه صفيقا ثخينا لم يكن له أن يعطيه دقيقا وإن كان خيرا منه.

لان في الثياب علة أن الصفيق الثخين يكون أدفأ في البرد

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 118)

________________________________________

وأكن في الحر، وربما كان أبقى فهذه علة تنقصه، وإن كان ثمن الادق أكثر فهو غير الذى أسلف فيه وشرط لحاجته.

وتكلم الشافعي عن السلف في الاهب والجلود فلم يجزه سلما ولا بيعا إلا منظورا إليه، قال.

وذلك أنه لم يجز لنا أن نقيسه على الثياب لانا لو قسناه على الثياب لم يحل إلا مذروعا مع صفته، وليس يمكن فيه لاختلاف خلقته عن أن يضبط بذرع بحال وسيأتى في الفصل التالى إن شاء الله.

وأجاز الشافعي السلف في الخشب وأجازه خشبا بخشب، بناء على قاعدة لا ربا فيما عدا الكيل والوزن من المأكول والمشروب كله والذهب والورق، وما عدا هذا فلا بأس بالفضل في بعضه على بعض يدا بيد ونسيئة، سلما وغير سلم كيف كان إذا كان معلوما، والسلف في الخشب مذروعا ومقيسا بالسنتى أو البوصة أو المتر، وفى الكثير منها بالطن والمتر والقليل منها بالوزن والقياس.

وتكلم الشافعي عن السلف في الحجارة والارحية وغيرها حتى تكلم على أصنافها ومنع أن يسلف في أنقاض البيوت للمجازفة وعدم الدقة في قدرها أما السلف في العدد فقد جعله الشافعي لا يجوز إلا مع مراعاة ما وصف من الحيوان الذى يضبط سنه وصفته وجنسه والثياب التى تضبط بجنسها وحليتها وذرعها والخشب الذى يضبط بجنسه وصفته وذرعه وما كان في معناه ولم يجز الشافعي السلف في البطيخ ولا القثاء ولا الخيار ولا الرمان ولا السفرجل ولا الموز ولا الجوز ولا البيض - أي بيض كان، دجاج أو حمام أو غيره - ولا البرتقال ولا اليوسفي، وكذلك ما سواه مما يتبايعه الناس عددا وما كان في معناه لاختلاف العدد، واختلافه في الوزن لان بعضها قد يزن الكيلو منها عددا يختلف بعضه عن بعض فلا يضبط بعدد ولا وزن، وما كان مما لا يضبط من صفة أو بيع عدد

فيكون مجهولا إلا أن يقدر على أن يكال أو يوزن فيضبط بالكيل والوزن كأن يقال أسلفتك في طن من الموز المغربي يزن اثنى عشر ألف أصبع أو طن من البطيخ لا تزيد حباته على مائتين من النوع الفلاني، لان هذه الانواع كلما قل عددها وزنا دل ذلك على كبر حجمها وجودة نوعها غالبا، وتلحق بالمأكول من

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 119)

________________________________________

البقول حيث قال: وإن كان منه شئ يختلف صغاره وكباره لم يجز إلا أن يسمى صغيرا أو كبيرا كالقنبيط تختلف صغاره وكباره، وكالفجل وكالجزر وما اختلف صغاره وكباره في الطعم والثمن اه.

وكذلك لا يجوز وزنا في القصب عدا ويجوز وزنا على الصفة التى أسلفناها كل ذلك فور قطعه، ولو حفظ شئ من ذلك بالثلاجات فزاد وزنه من فعل الرطوبة فسد السلف.

وإن جف في الشمس فنقص ذلك من وزنه أو من مذاقه فسد السلف ولا يجوز السلف فيما يفسد من تلقاء نفسه بمرور الزمن، إذا لم يتميز عن حديث العهد بصنعته كالاسمنت فإنه يفسد من تلقاء نفسه فلا يصلح للبناء ولا يمكن تمييزه من الصالح للبناء للاتفاق في الصفات الظاهرة والله تعالى أعلم.

(تنبيه) تركنا التفصيل في الطين والزجاج والحجارة لما يمكن للفقيه أن يعرف حكمها مما سقناه من تفصيل في أشياء كثيرة يؤخذ بقواعدها العامة ويقاس عليها وخشية الاطالة والله الموفق.

قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

وأما ما يضبط بالصفة فلا يجوز السلم فيه لانه يقع البيع فيه على مجهول وبيع المجهول لا يجوز، قال الشافعي رحمه الله: ولا يجوز السلم في النبل لان دقته وغلظه مقصود وذلك لا يضبط ولا يجوز في الجواهر كاللؤلؤ والعقيق والياقوت والفيروزج والمرجان لان صفاءها مقصود وعلى قدر صفائها يكون ثمنها

وذلك لا يضبط بالوصف ولا يجوز السلم في الجلود لان جلد الاوراك غليظ وجلد البطن رقيق ولا يضبط قدر رقته وغلظه ولانه مجهول المقدار لانه لا يمكن ذرعه لاختلاف أطرافه ولا يجوز في الرق لانه لا يضبط رقته وغلظه ويجوز في الورق لانه معلوم القدر معلوم الصفة.

(الشرح) قوله: الفيروزج هو من الجواهر الثمينة سماوي اللون والنسبة إليه فيروزى، والمرجان صغار اللؤلؤ، والرق بفتح الراء وتشديد القاف جلد رقيق يكتب عليه.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 120)

________________________________________

أما أحكام الفصل في باب السلف في الاهب والجلود: ولا يجوز السلف في جلود الابل ولا البقر ولا أهب الغنم ولا جلد إهاب من رق ولا غيره ولا يباع إلا منظورا إليه، قال: وذلك أنه لم يجز أن نقيسه على الثياب لانا لو قسناه عليها لم يحل إلا مذروعا مع صفته، وليس يمكن فيه الذرع لاختلاف خلقته عن أن يضبط بذرع بحال، ولو ذهبنا نقيسه على ما أجزنا بصفة لم يصح لنا، وذلك أنا إنما نجيز السلف في بعبر من نعم بنى فلان ثنى أو جذع موصوف فيكون هذا فيه كالذرع في الثوب، ويقول: رباع وبازل، وهو في كل سن من هذه الاسنان أعظم منه في السن قبله حتى يثناهى عظمه وذلك معروف مضبوط كما يضبط الذرع وهذا لا يمكن في الجلود - إلى أن قال رحمه الله: - هكذا الجلود لا حياة فيها وإنما تفاضلها في تخانتها وسعتها وصلابتها، ومواضع منها، فلما لم نجد خبرا نتبعه ولا قياسا على شئ مما أجزنا السلف فيه لم يجز أن نجيز السلف فيه.

أما الجواهر الثمينة فقد قال الشافعي رحمه الله في باب السلف في اللؤلؤ وغيره من متاع أصحاب الجوهر: لا يجوز عندي السلف في اللؤلؤ في الزبرجد ولا في الياقوت ولا في شئ من الحجارة التى تكون حليا من قبل أنى لو قلت: سلفت في

لؤلؤة مدحرجة صافيه وزنها كذا وكذا وصفتها مستطيلة ووزنها كذا، كان الوزن في اللؤلؤة مع هذه الصفة تستوى صفاته وتتباين، لان منه ما يكون أثقل من غيره فيتفاضل بالثقل والجودة، وكذلك الياقوت وغيره، فإذا كان هكذا فيما يوزن كان اختلافه لو لم يوزن في اسم الصغير والكبير أشد اختلافا.

ولو لم أفسده من قبل الصفاء، وإن تباين وأعطيته أقل ما يقع عليه اسم الصفاء أفسد من حيث وصفت، لان بعضه أثقل من بعض، فيكون الثقيلة الوزن بينا وهى صغيرة وأخرى أخف منها وزنا بمثل وزنها وهى كبيرة، فيتباينان في الثمن تباينا متفاوتا ولا أضبط أن أصفها بالعظم أبدا إذا لم توزن اه.

قال النووي في المنهاج، ولا يصح فيما لو استقصى وصفه عز وجوده كاللؤلؤ الكبار واليواقيت وجارية وأختها أو ولدها.

وخرج بقوله " اللؤلؤ الكبار " الانواع الصغيرة الدقيقة التى لا تستعمل في

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 121)

________________________________________

الزينة، وإنما التى تطلب للتداوي، وضبطها الجوينى بسدس دينار، ولا يصح في العقيق كما قال الماوردى، بخلاف البللور، فإنه لا يختلف، ومعياره إن كان مسطحا بقياس مساحته وسمكه.

(فرع)

السلف في الرؤوس والاكارع فيها قولان

(أحدهما)

لا، وهو أحد قولى الشافعي وقول أبى حنيفة لعدم انضباطه بكيل أو وزن، ولا عدد منفرد.

وذلك قد يشتبه ما يقع عليه اسم الصغير وهو متباين، وما يقع عليه اسم الكبير وهو متباين.

(والقول الثاني) نعم.

وهو قول أحمد ومالك والاوزاعي وأبى ثور، لانه لحم فيه عظم يجوز شراؤه، فجاز السلم فيه كبقية اللحم، وهو أحد القولين عند الشافعي.

قال في الام:

ولا يجوز عندي السلف في شئ من الرؤوس من صغارها ولا كبارها ولا الاكارع - إلى أن قال - ولو تحامل رجل فأجازه لم يجز عندي أن يؤمر أحد بأن يجيزه إلا موزونا.

ثم قال ولا جازته وجه يحتمل بعض مذاهب أهل الفقه ما هو أبعد منه، اه قوله " ويجوز في الورق " قلت إذا كان السلم فيه في نوع مقدور عليه للناس جاز، ولا يجوز أن يسلم في ورق يابانى حيث لا يوجد الا (راكتا (١)) ولا يسلم في وزن من الورق الراكتا لا يقوم المصنع بإشاعته في السوق وتمكين من أراده من نيله.

وصفات الورق ومصادره وأوزانه وأحجامه في زماننا هذا ينبغى أن يتحرز التجار فيها، وأكثرهم يشيع بينهم السلم في تجارة الورق، فلا يصح إلا موصوفا بوزنه وبلده ولونه وعلامته (٢) ان قدر عليه، وإلا فسد السلم، لان العلم إما بالرؤية وإما بالوصف - لانه في الذمة - فينبغي مراعاة ما ذكرنا وهو متفق عليه عند الشافعي وأحمد ومالك وأبى حنيفة قولا واحدا

________________________________________

(١) ورق أبيض مصنوع في الجمهورية العربية المتحدة، حرسها الله (٢) العلامة التى يقال لها الماركة كالبوريجار والفبريانو والمانيفولد والستانيه والطبع إلى آخر أصناف الورق التى لا حصر لها

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 122)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

ولا يجوز فيما عملت فيه النار كالخبز والشواء، لان عمل النار فيه يختلف فلا يضبط، واختلف أصحابنا في اللبأ المطبوخ، فقال الشيخ أبو حامد الاسفراينى رحمه الله لا يجوز لان النار تعقد أجزاءه فلا يضبط، وقال القاضى أبو الطيب الطبري رحمه الله يجوز لان ناره لينة.

(الشرح) قوله " لا يجوز فيما عملت فيه النار " وهو قول الاصحاب.

قال

النووي رحمه الله تعالى: ولا يصح في المطبوخ والمشوى، ولا يضر تأثير الشمس، والاظهر منعه في رءوس الحيوان والظاهر أن منع السلم فيما مسته النار علته عدم انضباط تأثير النار فيها، وإلا لو أمكن انضباط ذلك صح السلم فيه لجواز السلم في الصابون والسكر والفانيذ واللبأ والدبس، وقد نبه النووي على تصحيح ذلك في كتابه التنبيه في كل ما دخلته نار خفيفة، ومثل ببعض المذكورات، وإن خالف في ذلك ابن المقرى تبعا للاسنوى، ويؤيد صحة ذلك تصحيحهم للسلم في الآجر المطبوخ.

قال الشربينى الخطيب في المغنى من كتب المذهب: وعليه يفرق بين بابى الربا والسلم بضيق باب الربا.

فإن قيل قول النووي كغيره " إن نار ما ذكر لطيفة خلاف المشاهد.

وهو كلام من لا عهد له بعمل السكر " أجيب بأن مراده اللطيفة المضبوطة، كما عبرت به، وصرح الامام ببيع الماء المغلى بمثله، فيصح السلم فيه وفى ماء الورد لان ناره لطيفة كما جزم به الماوردى وغيره وكذلك أجازوا السلم في العسل المصفى بالنار، لان تصفيته بها لا تؤثر، لان ناره لطيفة للتمييز.

ويجوز في الشمع والقند - وهو السكر الخام - والخزف والفحم وقول النووي " والاظهر منعه في رءوس الحيوان " وذلك لاحتوائها على

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 123)

________________________________________

أجزاء مختلفة من المناخر والمشافر وغيرها - ويتعذر ضبطها - أي حرارة الشمس وتأثيرها.

وقد منع النووي السلم في البرمة المعمولة، وهى القدر، ولا يصح في القمقم

والطنجير والكوز والطست أو الطشت ونحوها كالاباريق والخابية والاسطال الضيقة الفتحات لندرة اجتماع الوزن مع الصفات المشروطة ولتعذر ضبطها اما لاختلاف الاجزاء في الدقة والغلظ فتكون كالجلد، أو لمخالفة أعلاها أو وسطها لاسفلها، أما الجلد المقطع فقد قال الشربينى الخطيب في المغنى يجوز فيها وزنا لانضباطها لان جملتها مقصودة، وما فيها من التفاوت يجعل عفوا، ولا يصح في الرق لما ذكر.

(مسألة) إذا كانت البرمة المعمولة لا يجوز فيها السلم، فهل يصح في البرمة المصبوبة في قالب؟ الراجح جوازه.

قال الاشمونى " والمذهب جواز السلم في الاواني المتخذة من الفخار " وهذا محمول على ما إذا ضبط بالقوالب ولم تختلف أجزاؤه اختلافا يصعب وصفه منضبطا، وذلك لان المعمولة هي التى تحفر بالآلات.

وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:

(فصل)

ولا يجوز فيما يجمع أجناسا مقصودة لا تتميز كالغالية والند والمعجون والقوس والخف والحنطة التى فيها الشعير لانه لا يعرف قدر كل جنس منه، ولا يجوز فيما خالطه ما ليس بمقصود من غير حاجة كاللبن المشوب بالماء والحنطة التى فيها الزوان لان ذلك يمنع من العلم بمقدار المقصود، وذلك غرر من غير حاجة فمنع صحة العقد، ويجوز فيما خالطه غيره للحاجة، كخل التمر وفيه الماء والجبن، وفيه الانفحة والسمك المملوح، وفيه الملح، لان ذلك من مصلحته فلم يمنع جواز العقد ويجوز في الادهان المطيبة، لان الطبيب لا يخالطه وانما تعبق به رائحته ولا يجوز في ثوب نسج ثم صبغ لانه سلم في ثوب وصبغ مجهول، ويجوز فيما صبغ غزله ثم نسج لانه بمنزلة صبغ الاصل، ولا يجوز في ثوب عمل فيه غير غزله كالقرقوبى لان ذلك لا يضبط، واختلف أصحابنا

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 124)

________________________________________

في الثوب المعمول من غزلين، فمنهم من قال لا يجوز لانهما جنسان مقصودان لا يتميز أحدهما عن الآخر فأشبه الغالية، ومنهم من قال يجوز لانهما جنسان يعرف قدر كل واحد منهما، وفى السلم في الرؤوس قولان، أحدهما يجوز لانه لحم وعظم فهو كسائر اللحوم، والثانى لا يجوز لانه يجمع أجناسا مقصودة لا تضبط بالوصف، ولان معظمه العظم وهو غير مقصود (الشرح) قوله " الغالية " طيب مختلط فيه المسك بماء الورد والكافور والعنبر، وأول من سماها بذلك سليمان بن عبد الملك " والند " بفتح النون نوع من الطيب معرب، وهو من العود كما في المصباح، والصواب أنه مزيج من المسك والعنبر والعود، أما الزوان فهو حب يخالط الحنطة فيكسبها رداءة، والمعجون خليط كثيف من الطيب، والقوس معروف أما الاحكام فقد قال الشافعي في باب السلف في الشئ المصلح لغيره: كل صنف حل السلف فيه وحده فخلط منه شئ بشئ غير جنسه مما يبقى فيه فلا يزايله بحال سوى الماء، وكان الذى يختلط به قائما فيه، وكان مما يصلح فيه السلف، وكانا مختلطين لا يتميزان، فلا خير في السلف فيهما من قبل أنهما إذا اختلطا فلم يتميز أحدهما من الآخر لم أدر كم قبضت من هذا وهذا، فكنت قد أسلفت في شئ مجهول، وذلك مثل أن أسلم في عشرة أرطال سويق لوز فليس يتميز السكر من دهن اللوز، ولا اللوز إذا خلط به أحدهما، فيعرف القابض المبتاع كم قبض من السكر ودهن اللوز واللوز.

فلما كان هكذا بيعا كان مجهولا، وهكذا إن أسلم إليه في سويق ملتوت مكيل، لانى لا أعرف قدر السويق من الزيت.

والسويق يزيد كيله باللتات، ولو كان لا يزيد كان فاسدا، من قبل أنى ابتعت سويقا وزيتا والزيت مجهول، وإن كان السويق معروفا.

اه

(قلت) ويجوز أن يسلف في لحم مقدد كالبسطرمة إذا تحدد صنفها من الحيوان، وكونها سمينة أو حمراء مع فصل ما يغشاها من البهار، ويفسد السلم إذا أخفى هذا البهار أوصافها، ويعفى عنه إذا لم يخف أوصافها، لانه كالملح في السمك المملح وهو مما يصلحه فجاز به.

ويعفى عن مس الشمس له والاظهر منعه

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 125)

________________________________________

في رءوس الحيوان لتعدد أجزائها وأشفارها كما نص على ذلك النووي في المنهاج.

ولا يجوز في لحم مشوى أو مطبوخ (أولا) لدخوله النار (وثانيا) لخفاء أوصافه ولعدم تقدير ما أخذت منه النار.

وخالف أصحاب أحمد ومالك والاوزاعي وأبو ثور، فجعلوا حكم ما مسته النار من ذلك حكم غيره ما عدا بعض الحنابلة وهو ضعيف عندهم ويجوز في الثياب كالقطن أو الكتان أو الصوف إن كانت هذه الاصناف خالصة من الخلط، أو كان خلطها مما يمكن تقديره وضبطه بدقة.

على أن يذكر في العقد النوع والبلد الذى ينسج فيه ان اختلف به الغرض.

وقيل يغنى ذكر النوع عنه وعن الطول، وهو اختيار الشربينى الخطيب، على أن يذكر الطول والعرض والغلظ والدقة، والصفاقة والرقة، والنعومة والخشونة، لاختلاف الغرض بذلك.

وذكر في البسيط اشتراط اللون في الثياب.

وقال الاذرعى هو متعين في الثياب كالحرير والقز والوبر.

وكذا القطن ببعض البلاد منه أبيض ومنه أشقر خلقة، وهو عزيز، وتختلف الاغراض والقيم بذلك، ويجوز فيما صبغ غزله قبل النسج.

قال الماوردى يجوز إذا بين ما صبغ به وكونه في الشتاء أو الصيف واللون وبلد الصبغ أما المصبوغ بعد النسج فقد ذهب النووي في المنهاج إلى أنه الاقبس وليس

الاصح، والاصح منعه، وبه قطع الجمهور، وهو المنصوص في البويطى، وفرق في الام بينه وبين ما صبغ غزله ثم نسج بأن الغزال إذا صبغ ثم نسج يكون السلم في الثوب، وإذا صبغ بعد النسج فكأنه أسلم في الثوب والصبغ معا والصبغ مجهول.

وهو قول أصحاب أحمد.

قال الماوردى: ولا يجوز السلم في الكتان على خشبه ويجوز بعد دقه، أي وبعد نفضه.

ويجوز أن يكون قصده النفض، فيذكر بلده وطوله ونعومته وخشونته، ويصح السلم في التمر ولا يصح في المكنوز منه كالعجوة في القواصر كما نقله الماوردى عن الاصحاب، ولو أسلم في تمر منزوع النوى ففى صحته وجهان في الحاوى يظهر منهما الصحة

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 126)

________________________________________

قال النووي: والحنطة كسائر الحبوب كالتمر، أعنى في الشروط المطلوبة فيبين نوعها كالشامي والمصري والصعيدي والبحيري، وأبيض أو أحمر أو أسمر.

قال السبكى وعادة الناس اليوم - أي على عهده رحمه الله تعالى - لا يذكرون اللون ولا صغر الحبات وكبرها، وهى عادة فاسدة مخالفة لنص الشافعي والاصحاب، فينبغي أن ينبه عليها.

اه ولاصحاب أحمد في ذكر الصفات واستقصائها، قال ابن قدامة: ولا يجب استقصاء كل الصفات لان ذلك يتعذر وقد ينتهى الحال فيها إلى أمر يتعذر تسليم المسلم فيه، إذ يبعد تسليم المسلم فيه عند المحل بتلك الصفات كلها، فيجب الاكتفاء بالاوصاف الظاهرة التى يختلف الثمن بها ظاهرا.

قلنا: يجمعنا مع القائلين بذلك ما هو مقرر عندنا وعندهم من اشتراط أن يكون السلم في عام الوجود عند المحل، فإذا تحقق هذا مع الصفات كلها مستقصاة صح السلم.

أما إذا تعذر وجوده عاما فلا يصح التعاقد ابتداء، والصفات التى

نذكرها إنما ترد إذا كان لذكرها أثر في القيمة أو الثمن أو الجودة أو الرداءة، فبطل الخلاف، والله أعلم قال النووي في المنهاج: ولا يصح فيما لو استقصى وصفه عز وجوده.

اه وإذا رجعنا إلى تفصيل الصفات في المسلم فيه عند ابن قدامة رحمه الله وجدناه يقول: ويصف البر بأربعة أوصاف، النوع، فيقول سبيلة أو سلموني، والبلد فيقول حورانى أو بلقاوى أو سمالى، وصغار الحب أو كباره.

وحديث أو عتيق وإن كان النوع الواحد يختلف لونه ذكره ولا يسلم فيه إلا مصفى، وكذلك الحكم في الشعير والقطنيات وسائر الحبوب (قلت) وبهذا قلنا.

قال النووي بعد ذلك الصفات في الحيوان تفصيلا، وكله على التقريب.

اه قوله والخف وكذلك النعل بالاولى لعدم انضباط أجزائها، ولان النعل يشتمل على الجلد وغير الجلد من القماش والورق والخيط والمواد اللاصقة.

لان بها ظهارة وبطانة وحشوا، والعقد لا يفى بذكر أوضاعها وأقدارها.

قال الشربينى الخطيب في المغنى.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 127)

________________________________________

وأما الخفاف المتخذة من شئ واحد ومثلها النعال فيصح السلم فيها إن كانت جديدة واتخذت من غير جلد كالثياب المخيطة والامتعة، وكذلك لا يجوز السلم في القسى - جمع قوس ويجمع على أقواس - وهى تصنع من خشب وعظم وعصب وكذلك النبل المريش - بفتح الميم وكسر الراء - لاختلاف وسطه وطرفيه دقة وغلظة، وتعذر ضبطه، وهو أحد القولين عند الحنابله، أما النبل قبل خرطه وترييشه فيصح لتيسر ضبطه قولا واحدا.

ولا يصح السلم في الكشك - وهو بفتح الكاف، وتنطقه العامة بكسرها -

لعدم ضبط حموضته.

ولا يصح السلم في الخبز وذلك عند أكثر الاصحاب، وإن صح عند مالك والشافعي وأحمد وأبى ثور والاوزاعي بناء على اعتبار أن ما مسته النار لا يفارق ما لم تمسه النار إذا انضبط، قال الاصحاب في الخبز: لا يصح لتأثير النار فيه تأثيرا لا ينضبط، ولان ملحه يقل ويكثر، والقول الثاني صحته، وصححه الشافعي ومن تبعه، وحكاه المزني عن النص الصحة لان ناره مضبوطة والملح غير مقصود وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:

(فصل)

ولا يجوز السلم في الطير لانه لا يضبط بالسن ولا يعرف قدره بالذرع ولا يجوز السلم في جارية وولدها ولا في جارية وأختها لانه يتعذر وجود جارية وولدها أو جارية وأختها على ما وصف، وفى الجارية الحامل طريقان: أحدهما لا يجوز السلم فيها لان الحمل مجهول.

والثانى: يجوز لان الجهل بالحمل لا حكم له مع الام كما نقول في بيع الجارية الحامل وفى السلم في شاة لبون قولان.

أحدهما لا يجوز لانه سلم في شاة ولبن مجهول والثانى: يجوز لان الجهل باللبن لا حكم له مع الشاة كما نقول في بيع شاة لبون.

(الشرح) فقد قال النووي - خلافا للمصنف - ويصح السلم في الطير ويذكر النوع والصغر، وكبر الجثة.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 128)

________________________________________

قال الشربينى في شرح المنهاج: والسن إن عرف، ويرجع فيه للبائع كما في الرقيق، والذكورة أو الانوثة إن أمكن التمييز وتعلق به الغرض.

(فرع)

قال الاذرعى: الظاهر أنه لا يجوز السلم في النحل، وان جوزنا بيعه، لانه لا يمكن حصره بعدد ولا وزن ولا كيل وأنه يجوز السلم في أوزة

وأفراخها، ودجاجة وأفراخها إذا سمى عددها.

قال الرملي وتابعه تلميذه الشربينى وما قاله في هذه مردود، يعنى في الاوزة والدجاجة وأفراخهما إذ هي داخله في قولهم: حكم البهيمة وولدها حكم الجارية وولدها.

قوله " لا يجوز السلم فيها لان الحمل مجهول " قال الشافعي: أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أنه قال: لا ربا في الحيوان وانما نهى من الحيوان عن ثلاث عن المضامين والملاقيح وحبل الحبلة، والمضامين ما في ظهور الجمال والملاقيح ما في بطون الاناث وحبل الحبله بيع كان أهل الجاهلية يتبايعونه، كان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة ثم ينتج ما في بطنها.

قال الشافعي ولا خير في أن يسلم في جارية بصفة على أن يوفاها وهى حبلى، ولا في ذات رحم من الحيوان على ذلك من قبل أن الحمل لا يعلمه الا الله اه.

قوله " وفى السلم في شاة لبون قولان " قال الشافعي في باب صفات الحيوان إذا كانت دينا: ولو سلف في ذات در على أنها لبون كان فيها قولان، أحدهما أنه جائز، وإذا وقع عليها أنها لبون كانت له، كما قلنا في المسائل قبلها، وان تفاضل اللبن كما يتفاضل المشى والعمل.

والثانى: لا يجوز ممن قبل أنها شاة بلبن لان شرطه ابتياع له، واللبن يتميز منها ولا يكون بتصرفها، انما هو شئ يخلقه الله عز وجل فيها كما يحدث في البعر وغيره، فإذا وقعت على هذا صفة المسلف كان فاسدا، كما يفسد أن يقول.

أسلفك في ناقة يصفها ولبن معها غير مكيل ولا موصوف، وكما لا يجوز أن أسلفك في وليدة حبلى، وهذا أشبه القولين بالقياس والله أعلم اه.

(فرع)

قال النووي في المنهاج: ولا يصح السلم فيما يندر وجوده كلحم الصيد بموضع العزة، ولا فيما لو استقصى وصفه عز وجوده كاللؤلؤ الكبار واليواقيت وجارية وأختها أو ولدها اه.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 129)

________________________________________

ويلحق بالجارية وولدها والشاة وولدها أو سخلتها وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

 

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:

(فصل)

وفى السلم في الاواني المختلفة الاعلى والاسفال كالابريق والمنارة والكراز وجهان

(أحدهما)

لا يجوز لانها مختلفة الاجزاء فلم يجز السلم فيها كالجلود

(والثانى)

يجوز لانها يمكن وصفها فجاز السلم فيها كالاسطال المربعة والصحاف الواسعة، واختلف أصحابنا في السلم في الدقيق فمنهم مَنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي القاسم الداركى رحمه الله لانه لا يضبط، والثانى يجوز لانه يذكر النوع والنعومة والجودة فيصير معلوما ولا يجوز السلم في العقار لان المكان فيه مقصود والثمن يختلف باختلافه فلابد من تعيينه والعين لا تثبت في الذمة.

(الشرح) قوله: الكراز - بضم الكاف وفتح الراء مخففة ومشددة ثم ألف فزاى - زنة غراب ورمان، وهو القارورة أو كوز ضيق الرأس.

أما الاحكام فقد قال النووي رحمه الله تعالى: ولا يصح في مختلف كبرمة معمولة وجلد وكوز وطسى وقمقم ومنارة وطنجير ونحوها، ويصح في الاسطال المربعة وفيما صب منها في قالب.

قلت: عدم صحة السلم فيما ذكر بسبب أختلاف بعض الآنية من حيث شكلها وقوامها ففى البرمة المعمولة وهى المحفورة بآلة وفى الابريق الذى يختلف اسفله عن أعلاه في سعته من أسفل ثم ينساب ضيقه إلى أعلا قليلا قليلا ثم يبلغ غاية الضيق المناسب لشكله عند الرقبة ثم يعوج صنبوره إلى الامام كرقبة الاوزة وذلك مع امتداد عنقه إلى أعلا، وقد يكون له غطاء متحرك، وفى الكراز كذلك إتساع من أسفل وضيق من وسطه وأعلاه، وفى الطسى أو الطست حافة كالطوق تندلى من طرفه الاعلى مع اختلاف في أسفله عن أعلاه.

كل هذه الاصناف التى

وصفناها هل يجوز فيها السلم؟ قولان.

أصحهما: لا، وذلك لعدم استطاعة المتعاقدين تحديد وصفها بالعبارة، وهذا قول أصحاب أحمد.

أما الاسطال المربعة والصحاف الواسعة فيجوز فيها قولا واحدا.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 130)

________________________________________

قال ابن قدامة: وإن أسلم في الاواني التى يمكن ضبط قدرها وطولها وسمكها ودورها، كالاسطال القائمة الحيطان والطسوت جاز اه.

قلت: لا يشترط ذكر الجيد أو الردئ في العقد ويحمل مطلقه على أجودها (فرع)

اختلف الاصحاب في الدقيق فذهب أبو القاسم الداركى إلى عدم الجواز لانه لا يضبط، والقول أنه يجوز لامكان ذكر النعومة والجودة والنوع وبذلك يصير معلوما مقدورا عليه، فلو أسلم في دقيق (علامة أو زيرو (١)) جاز لانضباط النوع وإمكان القدرة عليه لدى عامة الناس فإذا تعذر ذلك على الناس فسد السلم فيه والله أعلم.

(فرع)

استحدثت في أزماننا هذه من أسباب الصنعة أدوات لم تكن معروفة عند أئمتنا السابقين رضوان الله عليهم كالمذياع والمرناة وهو جهاز يأتيك بالصورة والصوت (تليفزيون) من بعيد والثلاجة الكهربية والغسالة الكهربية وكل نوع من هذه الانواع له من التركيب وتنوع القطع وتباين الاجزاء ما يصعب على المتعاقدين ضبطه، فإن أمكن تحديد النوع والعلامة وكان مع الجهاز دليل مطبوع مكتوب يوضح أجزاءه ومقاديرها وأبعادها وقوتها وكان المتعاقدان خبيرين بأسرارها كوكيل لمؤسسة لصنع الاجهزة أو توزيعها جاز السلم بينهما، أما إذا لم يكن عليما بدقائق هذه الاجهزة بحيث يمكن تغيير مصباح، أو محرك جيد ووضع بدله أقل جودة أو قديما فسد السلم لانعدام العلم والاحاطة بدقائق الجهاز ويؤخذ من قول الشافعي في الام في باب لحم الوحش جواز سؤال أهل العلم به، فان

بينوا عيبا رد بالعيب، وإلا فلا.

(فرع)

لا يجوز السلم في أنواع الاثاث إذا كان يشتمل على الحشايا والاسلاك اللولبية والقطن والجلد والقماش والطلاء وما أشبه ذلك لعدم إمكان انضباطه وتشابه الردئ منها بالجيد والله أعلم.

________________________________________

(١) الدقيق العلامة أو الزيرو وهو أجود الدقيق وأعلاه صنفا ويصنع منه الفطائر وأنواع الحلوى.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 131)

________________________________________

(فرع)

العقار يختلف مكانه من شارع كبير إلى أزقة ضيقة إلى نواصى الطرقات إلى واجهة في ميدان فسيح مما يجعل كل مكان يختلف ثمنه باختلاف موقعه، وقد يكون مكان مكتظ بالسكان والاهلين وهو أقل سعرا من مكان لا كثافة فيه بالاهلين، ومن هنا كان اختلاف الثمن مع اختلاف الغرض يجعل ثبوت العين بالصفات المطلوبة في الذمة أمرا مستحيلا، ومن ثم لا يجوز السلم في العقار كما قال المصنف.

قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

ولا يجوز السلم إلا في شئ عام الوجود مأمون الانقطاع في المحل فان أسلم فيما لا يعم كالصيد في موضع لا يكثر فيه أو ثمرة ضيعة بعينها أو جعل المحل وقتا لا يأمن انقطاعه فيه لم يصح لما روى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن زيد بن سعنة قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يا محمد هل لك أن تبيعني تمرا معلوما إلى أجل معلوم من حائط بنى فلان فقال لا يا يهودى ولكن أبيعك تمرا معلوما إلى كذا وكذا من الاجل ولانه لا يؤمن أن يتعذر المسلم فيه وذلك غرر من غير حاجة فمنع صحة العقد.

(الشرح) حديث عبد الله بن سلام مر ذكره في البيوع وبيان درجته وفى

بابه لانس في الطبراني في الكبير والبزار وفيه موسى بن عبيدة الربذى وهو ضعيف أورده الهيثمى في مجمع الزوائد، وزيد بن سعنة كان من أحبار اليهود، أسلم وشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم مشاهد كثيرة وتوفى في غزوة تبوك مقبلا إلى المدينة روى عنه عبد الله بن سلام، وكان عبد الله بن سلام يقول: قال زيد بن سعية - بالياء - ما من علامات النبوة شئ الا وقد عرفته في وجه محمد صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم، وهذه الرواية وقعت قبل أن يسلم زيد، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل ليهودي بعد اسلامه: يا يهودى فعرف أنها كانت قبل اسلامه.

أما أحكام الفصل: فإنه مكمل لما سبق أن بيناه من أقوال الفقهاء في أن السلم لا يصح في شئ يندر وجوده، ونتيجة لذلك لا يصح الا في عام الوجود مأمون

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 132)

________________________________________

الانقطاع في المحل المحدد لتسليمه فيه وفى الوقت المعين، فإن كان موسميا - أعنى يكثر في وقت من العام إلى أجل ما.

ثم يقل في الاسواق أو يندر أو ينقطع فيصح السلم فيه إلى موسمه الذى يكثر فيه ويعم الاسواق ويصح السلم في الاصناف المستوردة في وقت السلم، وتعرض السفن في البحار للمخاطر نادر الحدوث، وهو أشبه بتعرض القوافل التى تحمل السلع في الماضي لمخاطر الطريق، ولم يمنع ذلك من السلم، أما وقت الحروب فيمتنع السلم فيها، والله تعالى أعلم.

قال النووي: ولو أسلم فيما يعم فانقطع في محله لم ينفسخ على الاظهر، فيتخير المسلم بين فسخه وبين الصبر حتى يوجد، فلو علم قبل المحل انقطاعه عنده فلا خيار قبله في الاصح.

اه أما السلم في الصيد فقد أجازه الشافعي في لحمه كلحم الانيس.

قال في الام:

ولحم الوحش كله كما وصفت من لحم الانيس إذا كان ببلد يكون بها موجودا لا يختلف في الوقت الذى يحل فيه بحال جاز السلف فيه.

وإذا كان يختلف في حال ويوجد في أخرى لم يجز السلف فيه إلا في الحال التى لا يختلف فيها.

قال ولا أحسبه يكون موجودا في بلد إلا هكذا.

وذلك أن من البلدان ما وحش فيه وإن كان به منها وحش فقد يخطئ صائده ويصيبه.

والبلدان وان كان منها ما يخطئه لحم يجوز فيه في كل يوم أو بها بعض اللحم دون بعض، فإن الغنم تكاد أن تكون موجودة والابل والبقر، فيؤخذ المسلف البائع بأن يذبح فيوفى صاحبه حقه، لان الذبح له ممكن بالشراء، ولا يكون الصيد له ممكنا بالشراء فيه في الوقت الذى يتعذر فيه لحم الانيس أو شئ منه في الوقت الذى يتعذر فيه، لم يجز في الوقت الذى يتعذر فيه، ولا يجوز السلف في لحم الوحش إذا كان موجودا ببلد إلا على ما وصفت من لحم الانيس أن يقول: لحم ظبى أو أرنب أو تيتل أو بقر وحش أو حمر وحش أو صنف بعينه ويسميه صغيرا أو كبيرا، ويوصف اللحم كما وصفت، وسمينا أو منقيا كما وصفت في اللحم لا يخالفه في شئ يكون معه لحمه غير طيب، شرط صيد كذا دون صيد كذا، فإن لم يشرط سئل أهل العلم به، فإن كانوا يبينون في بعض اللحم الفساد، فالفساد عيب ولا يلزم

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 133)

________________________________________

المشترى، فإن كانوا يقولون: ليس بفساد ولكن صيد كذا أطيب فليس هذا بفساد، ولا يرد على البائع، ويلزم المشترى قال الشافعي: ويجوز السلم في لحم الطير كله لسن وسمانة وإنقاء ووزن غير أنه لا سن، وانما يباع بصفة مكان السن بكبير أو صغير، وما احتمل أن يباع مبعضا بصفة موصوفة وما لم يحتمل أن يبعض لصغره وصنف طائره وسمانته وأسلم فيه بوزن لا يجوز أن يسلم فيه بعدد وهو لحم، انما يجوز العدد في الحى

دون المذبوح، والمذبوح طعام إلا يجوز الا وزنا، وإذا أسلم في لحم طير وزنا لم يكن عليه أن يأخذ في الوزن رأسه ولا رجليه من دون الفخذين، لان رجليه لا لحم فيهما، وأن رأسه إذا قصد اللحم كان معروفا أنه لا يقع عليه اسم اللحم المقصود قصده.

انتهى

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

ولا يجوز السلم إلا في قدر معلوم لما روى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال " أسلفوا في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم، فان كان في مكيل ذكر كيلا معروفا، وان كان في موزون ذكر وزنا معروفا، وان كان في مذروع ذكر ذرعا معروفا، فان علق العقد على كيل غير معروف كملء زبيل لا يعرف ما يسع أو ملء جرة لا يعرف ما تسع أو زنة صخرة لا يعرف وزنها أو ذراع رجل بعينه لم يجز لان المعقود عليه غير معلوم في الحال لانه لا يؤمن أن يهلك ما علق عليه العقد فلا يعرف قدر المسلم فيه.

وذلك غرر من غير حاجة فمنع صحة العقد، كما لو علقه على ثمرة حائط بعينه، وان أسلم فيما يكال بالوزن وفيما يوزن بالكيل جاز لان القصد أن يكون معلوما والعلم يحصل بذلك، وان أسلم فيما لا يكال ولا يوزن كالجوز والبيض والقثاء والبطيخ والبقل والرءوس إذا جوزنا السلم فيها أسلم فيها بالوزن.

وقال أبو إسحق يجوز أن يسلم في الجوز كيلا لانه لا يتجافى في المكيال والمنصوص هو الاول.

(الشرح) حديث ابن عباس مر ذكره، وقد رواه الجماعة بصيغة الاخبار لا بصيغة الانشاء كما ساقه المصنف ولفظه " قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 134)

________________________________________

المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين، فقال: من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم "

أما الاحكام فقوله: فإن كان مكيلا ذكر كيلا معلوما، أعنى معروفا للناس، ولو كان السلطان قد أبطله، الا أن الناس ظلوا يتعاملون به فيما بينهم كان السلم فيه صحيحا، ولا يصح في كيل أو وزن غير معروفين للناس، ولو كان السلطان فرضهما ولكن الناس لم يتعاملوا بهما، والعبرة بشيوع المكيال والميزان عند عامة الناس، فإذا أعطى السلطان مهلة للناس لتصفية ما عندهم من موازين ومكاييل وحددها بأجل ينتهى فيه العمل بهذه المكاييل وجب على الناس طاعة للسلطان ألا يسلفوا في المكيال أو الميزان اللذين تحدد أجل العمل بهما إلا فيما قبل مهلة الابطال لاحتمال أن يتعرضوا للعقاب عند المخالفة قوله " وان كان في مذروع " أي كان القياس فيه بالذراع، ومثله المتر والياردة والقدم في عصرنا هذا، ويجرى على المقياس ما يجرى على الميزان والمكيال.

(فرع)

لا يجوز أن يسلم في المذروع وزنا، ولابد من تقدير المذروع بالذرع بغير خلاف نعلمه.

قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن السلم جائز في الثياب بذرع معلوم.

اه وفيما عدا المكيل والموزون والمذروع فعلى ضربين، معدود وغيره، فالمعدود نوعان

(أحدهما)

لا يتباين كثيرا كالبيض والبقل والرءوس من الانواع التى ذكرها المصنف، لان القثاء والبطيخ يباعان في زماننا هذا بالوزن في أكثر البلدان، فيسلم في الانواع المذكورة عددا، وقد نص الفقهاء على جواز السلم في الجوز كيلا ووزنا ولا يجوز عددا.

قال النووي: ويشترط الوزن في البطيخ والباذنجان والقثاء والسفرجل والرمان، ويصح في الجوز واللوز بالوزن في نوع يقل اختلافه، وكذا كيلا في الاصح.

قال السبكى: ويجوز الكيل والوزن في البندق واللوز والفستق، قال

ولا أظن فيهما خلافا (قلت) ويجوز في المشمش كيلا ووزنا وان اختلف نواه كبرا وصغرا.

والله أعلم

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 135)

________________________________________

فالذي لا يتباين كثيرا من المعدود يسلم فيه عددا، وهو قول أبى حنيفة والاوزاعي.

وقال الشافعي يسلم في البيض والجوز كيلا ووزنا ولا يجوز عددا لان ذلك يتباين ويختلف فلم يجز عددا كالبطيخ، فإن فيه الكبير والصغير ولاصحاب أحمد قول أنه إذا كان التفاوت يسيرا ويذهب باشتراط الكبر والصغر والوسط، ذهب التفاوت وان بقى شئ يسير عفى عنه، ويفارق البطيخ فإن التفاوت فيه كبير فلا ينضبط بالعدد (الضرب الثاني) ما يتفاوت كالرمان والسفرجل والقثاء والخيار فهذا حكمه حكم ما ليس بمعدود من البطيخ والبقول ففيه وجهان

(أحدهما)

يسلم فيه عددا ويضبطه بالصغر والكبر لانه يباع هكذا، وهو قول أحمد ومالك

(والثانى)

لا يسلم فيه الا وزنا، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي لانه لا يمكن تقديره بالعدد، لانه يختلف كثيرا ويتباين جدا فلم يمكن تقديره بغير الوزن، فتعين تقديره به.

والله أعلم (فرع)

لا يجوز أن يسلم في ثمره بستان بعينه، ولا قرية صغيرة، لانه لا يؤمن تلفه وانقطاعه.

قال ابن المنذر: ابطال السلم إذا أسلم في ثمرة بستان بعينه كالاجماع من أهل العلم، وممن حفظنا أنه قال ذلك الثوري ومالك والاوزاعي والشافعي وأصحاب الرأى واسحاق، وهو مذهب أحمد.

وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:

(فصل)

ولا يجوز حتى يصف السلم فيه بالصفات التى تختلف بها الاثمان كالصغر والكبر، والطول والعرض، والدور والسمك، والنعومة والخشونة،

واللين والصلابة، والرقة والصفاقة، والذكورية والانوثية، والثيوبة والبكارة والبياض والحمرة، والسواد والسمرة.

والرطوبة واليبوسة والجودة والرداءة، وغير ذلك من الصفات التى تختلف بها الاثمان، ويرجع فيما لا يعلم من ذلك إلى نفسين من أهل الخبرة، وان شرط الاجود لم يصح العقد، لانه ما من جيد إلا ويجوز أن يكون فوقه ما هو أجود منه فيطالب به فلا يقدر عليه، وان شرط الاردأ ففيه قولان

(أحدهما)

لا يصح لانه ما من ردئ إلا ويجوز أن يكون

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 136)

________________________________________

دونه ما هو أردأ منه فيصير كالاجود، والثانى أنه يصح لانه ان كان ما يحضره هو الاردأ فهو الذى أسلم فيه، وان كان دونه أردأ منه فقد تبرع بما أحضره فوجب قبوله فلا يتعذر التسليم.

وإن أسلم في ثوب بالصفات التى يختلف بها الثمن، وشرط أن يكون وزنه قدرا معلوما ففيه وجهان

(أحدهما)

لا يصح، وهو قول الشيخ أبى حامد الاسفراينى لانه لا يتفق ثوب على هذه الصفات مع الوزن المشروط إلا نادرا فيصير كالسلم في جارية وولدها وكالسلم فيما لا يعم وجوده

(والثانى)

أنه يجوز، لان الشافعي رحمه الله نص على أنه إذا أسلم في آنية وشرط وزنا معلوما جاز فكذلك ههنا.

(الشرح) هذا الفصل أحكامه مستوفاة في باب تسليم المسلم فيه بعد هذا الباب وإن كان المطلوب هنا عدم جواز العقد خاليا من ذكر الصفات في المسلم فيه، وقد مر بك تفصيل هذا.

 

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

فإن أسلم في مؤجل وجب بيان أجل معلوم لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أسلفوا في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم ولان الثمن يختلف باختلافه فوجب بيانه كالمكيل والوزن وسائر الصفات والاجل المعلوم ما يعرفه الناس كشهور العرب وشهور الفرس وشهور الروم وأعياد

المسلمين والنيروز والمهرجان، فإن أسلم إلى الحصاد أو إلى العطاء أو إلى عيد اليهود والنصارى لم يصح لان ذلك غير معلوم لانه يتقدم ويتأخر، وان جعله إلى شهر ربيع أو جمادى صح وحمل على الاول منهما.

ومن أصحابنا من قال لا يصح حتى يبين، والمذهب الاول لانه نص على أنه إذا جعل إلى النفر حمل على النفر الاول، فإن قال إلى يوم كذا كان المحل إذا طلع الفجر.

فإن قال إلى شهر كذا كان المحل إذا غربت الشمس من الليلة التى يرى فيها الهلال، فإن قال محله في يوم كذا أو شهر كذا أو سنة كذا ففيه وجهان: قال أبو على ابن أبى هريرة: يجوز ويحمل على أوله، كما لو قال لامرأته أنت طالق في يوم كذا أو شهر كذا أو سنة كذا فإن الطلاق يقع في أولها

(والثانى)

لا يجوز وهو الصحيح لان ذلك يقع على جميع أجزاء اليوم والشهر والسنة، فإذا لم يبين كان مجهولا ويخالف الطلاق فإنه يجوز إلى أجل مجهول وإذا صح تعلق بأوله بخلاف السلم.

فان ذكر شهورا مطلقة حمل على

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 137)

________________________________________

شهور الاهلة لان الشهور في عرف الشرع شهور الاهلة فحمل العقد عليها فان كان العقد في الليلة التى رؤى فيها الهلال اعتبر الجميع بالاهلة وإن كان العقد في أثناء الشهر اعتبر شهرا بالعدد وجعل الباقي بالاهلة فان أسلم في حال وشرط أنه حال صح العقد وان أطلق ففيه وجهان.

 

(أحدهما)

لا يصح لانه أحد محلى السلم فوجب بيانه كالمؤجل

(والثانى)

أنه يصح ويكون حالا لان ما جاز حالا ومؤجلا حمل اطلاقه على الحال كالثمن في المبيع وان عقد السلم حالا ثم تجعله مؤجلا أو مؤجلا فجعله حالا أو زاد في أجله أو نقص نظرت فان كان ذلك بعد التفرق لم يلحق بالعقد لان العقد استقر فلا يتغير وان كان قبل التفرق لحق بالعقد، وقال أبو على الطبري إن قلنا ان المبيع انتقل بنفس العقد لم يلحق به والصحيح هو الاول وقد ذكرناه في الزيادة في الثمن.

(الشرح) حديث ابن عباس سبق تخريجه وضبطه لفظا.

أما لغات الفصل: فشهور العرب هي المحرم وصفر وربيع الاول وربيع الآخر وجمادى الاولى وجمادى الآخرة ورجب وشعبان ورمضان وذو القعدة وذو الحجة أما شهور الفرس فقد كان معمولا بها في الدولة العباسية وتبدأ سنتها من عيد النيروز وهو نزول الشمس برج الميزان، والمهرجان بكسر الميم نزولها برج الحمل اما الشهور الرومية فهى كانون الثاني (يناير) وشباط (فبراير) وآذار (مارس) ونيسان (إبريل) وأيار (مايو) وحزيران (يونيو) وتموز (يوليو) وآب (أغسطس) وأيلول (سبتمبر) وتشرين الاول (اكتوبر) وتشرين الثاني (نوفمبر) وكانون الاول (ديسمبر) وهذه اسماؤها بالسريانية والفرنجية.

أما الاحكام، فقد قال النووي في المنهاج: فإن عين شهور العرب أو الفرس أو الروم جاز، وإن أطلق حمل على الهلالي، فإن انكسر شهر حسب الباقي بالاهلة، وتمم الاول ثلاثين.

قلت: يشترط لصحة السلم في شهور الفرس معرفة المسلمين بها فان كانت قد أهملت وترك الناس العمل بها كما هو واقع في زماننا لا يصح التوقيت بها في السلم، والعبرة بمعرفتها لدى المسلمين، ولذلك قال الشربينى في المغنى: يجوز بعيد

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 138)

________________________________________

الكفار (كالكريسماس) وكفصح النصارى وفطير اليهود إن عرفها المسلمون، ولو عدلان منهم أو المتعاقدان بخلاف ما إذا اختص الكفار بمعرفتها إذ لا يعتمد قولهم اه.

قال الرملي في النهاية: نعم إن كانوا عددا كثيرا يمنع تواطؤهم على الكذب جاز كما قاله ابن الصباغ لحصول العلم بقولهم اه.

نعم لو انعقد في أول ليله آخر الشهر اكتفى بالاشهر بعده بالاهلة، وان نقص

بعضها ولا يتمم الاول مما بعدها لانها مضت عربية كوامل، هذا إن نقص الشهر الاخير، والا لم يشترط انسلاخه، بل يتمم منه المنكسر ثلاثين يوما لتعذر اعتبار الهلال فيه حينئذ.

فإذا قال: أسلفتك إلى شهر ربيع أو جمادى ولم يبين أي الربيعين أو أي الجماديين، حمل على الاول أعنى على ربيع الاول وعلى جمادى الاولى، وكذلك إذا قال إلى العيد فان كان بعد الفطر وقبل الاضحى تحمل على الاضحى، وان كان بعد الاضحى حمل على الفطر، ومن أصحابنا من قال لا يصح حتى يبين، والمذهب الاول، وهو اختيار المصنف والنووي والرملى والشربينى أرجح ودليل ذلك أنه نص على أنه إذا جعله إلى النفر حمل على النفر الاول والله أعلم: كل هذا لان العلم بالاجل شرط فلو قال: إلى الحصاد أو الميسرة أو قدوم الحاج أو طلوع الشمس لم يصح، ولو قالا: أول فصل الشتاء وقصدا يوم الثاني والعشرين من كانون الثاني وهو أول الشتاء على ما قرره علماء الهيئة، أو قالا: أول فصل الربيع، وقصدا الحادى والعشرين من آذار، أو أول فصل الصيف وقصدا الثاني والعشرين من حزيران، أو أول الخريف وقصد الثالث والعشرين من تشرين الاول لم يصح لاحتمال أن يجحد أحدهما، ولان أول الفصل قد يبلغ الشهر أو أكثر فلم يصح الا على قول على بن أبى هريرة في حمل الاطلاق على الاول قياسا على النفر والعيد وربيع وجمادى وهو قياس غير مقبول عند الاصحاب.

فإذا قال: إلى أول أو آخر رمضان، قال الامام والبغوى: ان قال إلى أول أو آخر رمضان ينبغى أن يصح ويحمل على الجزء الاول من كل نصف كما في النفر

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 139)

________________________________________

قال في الشرح الصغير: وهو الاقوى.

وقال السبكى: وهو الصحيح، ونقله الاذرعى عمن ذكر وغيره عن نص الام وقال: إنه الاصح نقلا ودليلا.

وقال

الزركشي: إنه المذهب، وقد سوى الشيخ أبو حامد بين إلى رمضان وإلى غرته وإلى هلاله والى أوله، فان قال: إلى أول يوم من الشهر حل بأول جزء من أول اليوم، وكذا الماوردى.

وقال الرملي: وما ذكراه آخرا بعد الصحة من حمله على الجزء الاول من كل نصف رأى مرجوع في آخره، أما على الراجح فيحمل على آخر جزء منه، ولو قال: في رمضان لم يصح.

لانه جعل جميعه ظرفا فكأنهما قالا: يحل في جزء من أجزائه وهو مجهول، وإنما جاز ذلك في الطلاق، لانه لما قبل التعليق بالمجهول كقدوم زيد قبله بالعام ثم تعلق بأوله لصدق اللفظ به، فوجب وقوعه فيه لكونه قضية الوضع والعرف.

وأما السلم فلما لم يقبل التأجيل بالمجهول لم يقبله بالعام، وإنما قبله بنحو العيد لانه وضع لكل من الاول والثانى بعينه فدلالته على كل منهما أقوى من دلالة الظرف على أزمنته، لانه لم يوضع لكل منهما بعينه، بل لزمن مبهم منها اه.

وقال الشافعي في الام: وكذلك لو قال: أجلك فيه شهر كذا أوله وآخره لا يسمى أجلا واحدا، فلا يصلح حتى يكون أجلا واحدا، ولو سلفه إلى شهر كذا، فإن حبسه فله كذا كان بيعا فاسدا، وإذا سلف فقال: إلى شهر رمضان من سنة كذا كان جائزا والاجل حين يرى هلال شهر رمضان أبدا حتى يقول: إلى انسلاخ شهر رمضان أو مضيه أو كذا وكذا يوما يمضى منه إلى أن قال: ولو قال إلى عقب شهر كذا كان مجهولا فاسدا.

وكلام المصنف مشعر ببطلان العقد إذا أطلق الشهر ولم يحدد اليوم خلافا لابي على بن أبى هريرة لان الاطلاق في الشهر يقع على جميع أجزائه وإذا أطلق في السنة يقع على جميع أجزائها وقد رفض الاصحاب هذا القول.

(فرع)

إذا أحضر المسلم إليه المسلم فيه قبل محله - بكسر الحاء - أي وقت

حلول الاجل فامتنع المسلم من قبوله لغرض صحيح، كأن كان حيوانا يحتاج لمؤنة

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 140)

________________________________________

ونفقة إلى حلول الاجل، أو كان يترقب زيادة سعره عند المحل - فيما يظهر - أو وقت إغارة لو قبلها هلكت، أو كان يريد أكله طريا في محله إن كان في لحم ونحوه - وكان المؤدى في ذلك كله يريد أن يفوت على المسلم مصلحة أو يلحق به ضررا - لم يجبر على قبوله.

وان كان للمؤدى غرض صحيح، كفك رهن، أو براءة ضامن - كما لو كان المسلم فيه توقع عليه حجز وأراد استشكال هذا الحجز، ثم يرفع قضية استرداد لتسليم المسلم فيه المحجوز عليه للمسلم، أو كان يخاف انقطاع الجنس عند حلول الاجل، أو كان المسلم ليس له غرض صحيح في الامتناع، أو كان يريد الحاق الضرر بالمؤدى، أو كان المؤدى يريد مجرد ابراء الذمة، أجبر المسلم لان امتناعه حينئذ للتعنت.

وفى حالة ارادة مجرد ابراء الذمة فما قررناه فيها هو أظهر القولين والثانى لا يجبر للمنة، وسيأتى مزيد في باب تسليم المسلم فيه ان شاء الله تعالى.

(فرع)

إذا أطلق المتعاقدان في محل - بكسر الحاء - السلم فلم يذكرا وقتا ولم يحددا أجلا انصرف إلى كونه حالا، لان ما جاز حالا ومؤجلا حمل اطلاقه على الحال، وهذا هو قول الشافعي وابن المنذر وأبى ثور.

(فرع)

إذا أراد أحدهما أن يجعل الحال مؤجلا، أو أراد أن يزيد في الاجل نظرت، فان كان ذلك بعد التفرق وهو لزوم العقد لم يلحق بالعقد، لان العقد استقر فلا يتغير.

وإذا أراد أحدهما أن يجعل المؤجل حالا - نظرت - فان كان ذلك من المؤدى وهو المسلم إليه، أجرينا عليه ما قلناه فيما إذا أحضر المسلم فيه قبل محله في فرع سبق من هذا الفصل، وان كان بنقص في الاجل وكان ذلك بعد لزوم العقد أو

بعد التفرق فلا يلحق بالعقد لان العقد قد استقر، وان كان ذلك كله، أعنى الزيادة في الاجل أو النقصان فيه أو جعله حالا، قبل التفرق أو قبل لزوم العقد لحق ذلك بالعقد وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

 

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:

(فصل)

وان أسلم في جنسين إلى أجل أو في جنس إلى أجلين ففيه قولان

(أحدهما)

أنه لا يصح لان ما يقابل أحد الجنسين أقل مما يقابل الآخر وما يقابل

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 141)

________________________________________

أحدهما أجلا أقل مما يقابل الآخر وذلك مجهول فلم يجز

(والثانى)

أنه يصح وهو الصحيح لان كل بيع جاز في جنس واحد وأجل واحد جاز في جنسين وفى أجلين كبيع الاعيان ودليل القول الاول يبطل بيع الاعيان فانه يجوز إلى أجلين وفى جنسين مع الجهل بما يقابل كل واحد منهما.

(الشرح) إذا أسلم في جنسين إلى أجل، وصورة ذلك أن يسلم دينارا في قميص وكتاب ولم يبين ثمن كل واحد منهما على حدة، فقد جوزه مالك وأحد القولين عند الشافعي ومنعه أحمد، والقول الآخر عند الشافعي، والقول المجيز يحتج بأن كل عقد جاز على جنسين في عقدين جاز عليهما في عقد واحد كبيوع الاعيان لما يشتمل عليه من مباني وغيرها على النحو الذى سبق في بيوع الاعيان وهو كما لو بين ثمن أحدهما.

وبقول المانعون إن ما يقابل كل واحد من الجنسين مجهول فلم يصح كما لو عقد عليه مفردا بثمن مجهول، ولان فيه غررا أثر مثله في السلم وبمثل هذا عللوا معرفة صفة الثمن وقدره، والوجه الاخر أنه لا يشترط لانه لما جاز أن يسلم في شئ واحد إلى أجلين، ولا يبين ثمن كل واحد منهما، كذا ههنا، قال ابن موسى ولا يجوز أن يسلم خمسة دنانير وخمسين درهما في كر حنطة حتى يبين حصة ما لكل

واحد منهما من الثمن، والاولى صحة هذا، لانه إذا تعذر بعض المسلم فيه رجع بقسطه منهما وأمكن معرفة ثمن كل منهما ما دام موصوفا بصفاته من ثمن مثله في أجله، كذلك إذا أسلف في جنس واحد إلى أجلين فقد قال الشافعي: إذا أسلم في جنس واحد إلى أجلين ففيه قولان.

أحدهما: لا يصح، لان ما يقابل أبعدهما أجلا أقل مما يقابل الاخر وذلك مجهول فلم يجز، قلت: ولنا أن كل بيع جاز إلى أجل واحد جاز في أجلين، وقد أجازه أحمد وأصحابه في أكثر من أجلين إلى آجال، كبيوع الاعيان، فإذا قبض البعض وتعذر قبض الباقي ففسخ العقد رجع بقسطه من الثمن ولا يجعل للباقى فضلا عن المقبوض، لانه مبيع واحد متماثل الاجزاء فيقسط على أجزائه بالسوية كما لو اتفق أجله وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 142)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

وأما بيان موضع التسليم فإنه إن كان العقد في موضع لا يصلح للتسليم كالصحراء وجب بيانه، وان كان في موضع يصلح للتسليم ففيه ثلاثة أوجه: (أحدها) يجب بيانه لانه يختلف الغرض باختلافه فوجب بيانه كالصفات

(والثانى)

لا يجب بل يحمل على موضع العقد كما نقول في بيع الاعيان (والثالث) أنه إن كان لحمله مؤنة وجب بيانه لانه يختلف الثمن باختلافه فوجب بيانه كالصفات التى يختلف الثمن باختلافها، فإن لم يكن لحمله مؤنة لم يجب بيانه لانه لا يختلف الثمن باختلافها فلم يجب بيانه كالصفات التى لا يختلف الثمن باختلافها.

(الشرح) قال النووي رحمه الله تعالى " المذهب أنه إذا أسلم بموضع لا يصلح للتسليم أو يصلح، ولحمله مثونة اشترط محل التسليم وإلا فلا.

قال الرملي في النهاية

المذهب أنه إذا أسلم سلما حالا أو مؤجلا وهما بموضع لا يصلح للتسليم، أو سلما مؤجلا وهما بمحل يصلح له ولكن لحمله، أي المسلم فيه مئونة اشترط بيان محل.

بفتح الحاء، أي مكان التسليم للمسلم فيه لتفاوت الاغراض فيما يراد من الامكنة في ذلك، والا بأن كان صالحا للتسليم، والسلم حال أو مؤجل، ولا مئونة لحمل ذلك إليه فلا يشترط ما ذكر، ويتعين محل العقد للتسليم للعرف فيه، فإن عينا غيره تعين بخلاف المبيع، لان السلم لما قبل شرطا يقتضى تأخير التسليم، ولو خرج المعين للتسليم عن الصلاحية تعين أقرب محل صالح له، ولو أبعد منه، ولا أجرة له فيما يظهر لاقتضاء العقد له فهو من تتمة التسليم الواجب، ولا يثبت للمسلم، خيار ولا يجاب المسلم إليه لو طلب الفسخ ورد رأس المال، ولو لخلاص ضامن وفك رهن خلافا للبلقينى ومن تبعه (قلت) والمسألة فيها ثلاثة أوجه عند المصنف في الصلح فقط وستة طرق عند الرملي في الصالح وغيره، وسبعة عند الشبراملسى، فالمنصوص الاشتراط وعدمه، فقيل هما مطلقا، وقيل هما في حالين.

قيل في غير الصالح ومقابله.

وقيل هما في الصالح، ويشترط في غيره.

وقيل هما فيما لحمله مئونه، ولا يشترط في مقابله

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 143)

________________________________________

وقيل هما فيما ليس لحمله مئونة، ويشترط في مقابله.

والمدار هنا على ما يليق بحفظ المال والمؤن، والغالب استواء المحلة فيهما.

ويشهد لذلك قولهم: المراد بمحل العقد هنا محلته لا خصوص محله فيهما، ولهذا قالوا: لو قال تسلمه لى في بلد كذا وهى غير كبيرة كفى إحضاره في أولها وإن بعد عن منزله، أو في أي محل شئت منه صح ما لم يتسع، ومتى اشترط التعيين فتركه لم يصح العقد، ومن ثم عرف صحة كلام ابن الرفعة: إن محل قولهم السلم الحال يتعين فيه موضع العقد للتسليم مطلقا حيث كان صالحا له، وإلا كأن أسلم في كثير

من الشعير وهما سائران في البحر، فالظاهر اشتراط التعيين كما هو ظاهر كلام الائمة، وإن توقف فيه بعضهم، إذ هو ظاهر، وجزم به غيره لان من شرط الصحة القدرة على التسليم وهو حال وقد عجز عنه في الحال، وحينئذ فلا فرق بين الحال والمؤجل إذا لم يكن الموضع صالحا في اشتراط التعيين.

ويدل عليه كلام الماوردى أيضا، والكلام في السلم المؤجل.

أما الحال فيتعين فيه موضع العقد للتسليم، أي إذا كان صالحا وإلا اشترط بما فيه من التفصيل، وحينئذ فقد افترق الحال والمؤجل من بعض الوجوه، وذلك كاف في صحة المفهوم.

وقد اختلف أئمة المذاهب في تعيين مكان الايفاء، فقال ابن المنذر: لا يشترط تعيين مكان الايفاء.

وحكاه عن أحمد وإسحاق وطائفة من أهل الحديث.

وبه قال أبو يوسف ومحمد وهو أحد قولى الشافعي لقوله صلى الله عليه وسلم " في كيل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل معلوم " ولم يذكر مكان الايفاء، فدل على أنه لا يشترط وفى الحديث الذى فيه " ان اليهودي أسلم إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: أما من حائط بنى فلان فلا، ولكن كيل مسمى إلى أجل مسمى " رواه ابن ماجه ولم يذكر مكان الايفاء، ولانه عقد معاوضة فلا يشترط فيه مكان الايفاء كبيوع الاعيان وقال الثوري: يشترط ذكر مكان الايفاء، وهو القول الثاني للشافعي، وقال الاوزاعي هو مكروه، لان القبض يجب بحلوله ولا يعلم موضعه حينئذ، فيجب شرطه لئلا يكون مجهولا، وقال أبو حنيفة وهو قول أصحابنا: إن كان لحمله مئونة وجب شرطه، والا فلا يجب، لانه إذا كان لحمله مئونة اختلف فيه

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 144)

________________________________________

الغرض بخلاف مالا مئونة فيه، وقال ابن أبى موسى: ان كانا في برية لزم ذكر مكان الايفاء، وان لم يكونا في برية فذكر مكان الايفاء حسن، وان لم يذكراه

كان الايفاء مكان العقد، فإذا ترك ذكره كان مجهولا، وان لم يكونا في برية اقتضى العقد التسليم في مكان العقد، فاكتفى بذلك عن ذكره.

وللفقهاء أقوال حول هذا أجملناها بما يوفى المقصود والله أعلم قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

ولا يجوز تأخير قبض رأس المال عن المجلس لقوله صلى الله عليه وسلم: أسلفوا في كيل معلوم، والاسلاف هو التقديم، ولانه إنما سمى سلما لما فيه من تسليم رأس المال فإذا تأخر لم يكن سلما فلم يصح، ويجوز أن يكون رأس المال في الذمة ثم يعينه في المجلس ويسلمه، ويجوز أن يكون معينا، فإن كان في الذمة نظرت فإن كان من الاثمان حمل على نقد البلد، وان كان في البلد نقود حمل على الغالب منها، وان لم يكن في البلد نقد غالب وجب بيان نقد معلوم.

وان كان رأس المال عرضا وجب بيان الصفات التى تختلف بها الاثمان لانه عوض في الذمة غير معلوم بالعرف فوجب بيان صفاته كالمسلم فيه، وان كان رأس المال معينا ففيه قولان

(أحدهما)

يجب ذكر صفاته ومقداره لانه لا يؤمن أن ينفسخ السلم بانقطاع المسلم فيه، فإذا لم يعرف مقداره وصفته لم يعرف ما يرده

(والثانى)

لا يجب ذكر صفاته ومقداره لانه عوض في عقد لا يقتضى رد المثل فوجب أن تغنى المشاهدة عن ذكر صفاته ومقداره كالمهر والثمن في البيع وان كان رأس المال مما لا يضبط بالصفة كالجواهر وغيرها، فعلى القولين إن قلنا يجب ذكر صفاته لم يجز أن يجعل ذلك رأس المال لانه لا يمكن ذكر صفاته وان قلنا لا يجب جاز أن يجعل ذلك رأس المال، لانه معلوم بالمشاهدة والله أعلم (الشرح) الحديث هو حديث ابن عباس الذى دار عليه أكثر الفصول السابقة وأضحناه بلفظه وتخريجه فيما سبق، أما الاحكام فإنه لا يجوز تأخير قبض رأس المال عن مجلس العقد لان الاسلاف هو التقديم فكان لازمه تسليمه قبل

الصيغة.

وقال الخرقى من الحنابلة: ويقبض الثمن كاملا وقت السلم قبل التفرق

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 145)

________________________________________

قوله: ويجوز أن يكون رأس المال في الذمة ثم يعينه في المجلس خلافا لابن المنذر الذى قَالَ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ على أنه إذا كان له في ذمة رجل دينار فجعله سلما في طعام إلى أجل لم يصح اه.

وحكى هذا ابن قدامة عن مالك والاوزاعي والثوري وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأى والشافعي وعن ابن عمر أنه قال: لا يصح ذلك، وذلك لان المسلم فيه دين، فإن جعل الثمن دينا كان بيع دين بدين ولا يصح ذلك، قلت وقد مر بك في أول الباب مناقشة هذا الرأى.

والمهم في هذا جواز أن يكون رأس المال في الذمة ولكن يجب إحضاره إلى المجلس بعد تعيينه، فإن كان ما في الذمة من الاثمان حمل على نقد البلد، وإن كان في البلد أكثر من نقد حمل على النقد الغالب فيها وإن لم يكن في البلد نقد غالب وجب بيان نقد معلوم، وما دام رأس المال حاضرا في المجلس فإن المشاهدة تغنى عن ذكر صفاته ومقداره، كما لو كان رأس المال من الجواهر والاحجار الكريمة مما يصعب وصفه، فإن كان من الجواهر الثمينة وقلنا بأنه يجب ذكر صفاته لم يجز أن يكون ذلك رأس مال لتعذر وصفه، وإن قلنا لا يجب جاز لمشاهدته في المجلس.

وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ

 

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:

 

(باب تسليم المسلم فيه)

إذا حل دين السلم وجب على المسلم إليه تسليم المسلم فيه على ما اقتضاه العقد فإن كان المسلم فيه تمرا لزمه ما يقع عليه اسم التمر على الاطلاق.

فإن أحضر حشفا أو رطبا لم يقبل منه، فإن كان رطبا لزمه ما يقع عليه اسم الرطب على الاطلاق

ولا يقبل منه بسر ولا منصف ولا مذنب ولا مشدخ، وان كان طعاما لزمه ما نقى من التبن، فإن كان فيه قليل تراب نظرت، فإن كان أسلم فيه كيلا قبل منه لان القليل من التراب لا يظهر في الكيل، وإن كان أسلم فيه وزنا لم يقبل منه لانه يظهر في الوزن فيكون المأخوذ من الطعام دون حقه، وان كان عسلا لزمه ما صفى من الشمع، فإن أسلم إليه في ثوب فأحضر ثوبا أجود منه لزمه قبوله، لانه

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 146)

________________________________________

أحضر المسلم فيه وفيه زيادة صفة لا تتميز فلزمه قبوله، فإن جاءه بالاجود وطلب عن الزيادة عوضا لم يجز لانه بيع صفة والصفة لا تفرد بالبيع، فإن أتاه بثوب ردئ لم يجيز على قبوله لانه دون حقه، فان قال خذه وأعطيك للجودة درهما لم يجز لانه بيع صفة ولانه بيع جزء من المسلم فيه قبل قبضه فان أسلم في نوع من جنس فجاءه بنوع آخر من ذلك الجنس كالمعقلي عن البرنى والهروى عن المروى فَفِيهِ وَجْهَانِ.

قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ لَا يَجُوزُ لانه غير الصنف الذى أسلم فيه فلم يجز أخذه عنه كالزبيب عن التمر.

وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: يَجُوزُ لان النوعين من جنس واحد بمنزلة النوع الواحد.

ولهذا يحرم التفاضل في بيع أحدهما بالآخر، ويضم أحدهما إلى الآخر في إكمال النصاب في الزكاة.

فإن اتفق أن يكون رأس المال على صفة المسلم فيه فأحضره ففيه وجهان أحدهما لا يجوز قبوله لانه يصير الثمن هو المثمن، والعقد يقتضى أن يكون الثمن غير المثمن والثانى أنه يجوز لان الثمن هو الذى سلم إليه والمثمن هو الموصوف، وان أسلم إلى محل فأحضر المسلم فيه قبله أو شرط أن يسلم إليه في مكان فأحضر المسلم فيه في غير ذلك المكان فامتنع المسلم من أخذه، نظرت فان كان له غرض صحيح في الامتناع من أخذه بأن يلزمه في حفظه مؤن أو عليه في حمله مشقة أو يخاف عليه أن يهلك أو يؤخذ لم يلزمه أخذه، وان لم يكن له غرض صحيح في الامتناع

لزمه أخذه، فان لم يأخذه رفع إلى الحاكم ليأخذه عنه، والدليل عليه ما روى أن أنسا رضى الله عنه كاتب عبدا له على مال إلى أجل فجاءه بمال قبل الاجل فأبى أن يأخذه فأتى عمر (رض) فأخذه منه وقال له: اذهب فقد عتقت، ولانه زاده بالتقديم خيرا فلزمه قبوله.

وان سأله المسلم أن يقدمه قبل المحل فقال: أنقصني من الدين حتى أقدمه ففعل لم يجز لانه بيع أجل والاجل لا يفرد بالبيع، ولان هذا في معنى ربا الجاهلية، فانه كان في الجاهلية يقول من عليه الدين: زدنى في الاجل أزدك في الدين.

(الشرح) الخبر الذى ساقه المصنف عن أنس المذكور في الفصل لم أحفظه بهذه الصورة، وانما الذى أحفظه ما رواه الاثرم عن أبى بكر بن حزم أن رجلا أتى عمر فقال: يا أمير المؤمنين إنى كاتبت على كذا وكذا وانى أيسرت بالمال فأتيته به

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 147)

________________________________________

فزعم أنه لا يأخذها الا نجوما، فقال عمر: يأبى؟ وأمر عامله على بيت المال: فخذ هذا المال فاجعله في بيت المال وأد إليه نجوما في كل عام وقد عتق هذا، فلما رأى ذلك سيده أخذ المال، ورواه عثمان بن منصور في سننه عن عمر وعثمان جميعا والذى ثبت فيه ذكر أنس حديث أخرجه البخاري عن موسى بن أنس " أن سيرين - أبا محمد وإخوته - سأل أنس بن مالك المكاتبة، وكان كثير المال، فأبى، فانطلق إلى عمر فقال: كاتبه، فأبى فضربه عمر بالدرة وتلا عمر: فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا " وأحايث أخرى من باب المكاتبة ستأتي في الباب إن شاء الله تعالى.

أما لغات الفصل: فالبسر من ثمر النخل ما قبل الرطب وبقية لغات الفصل في الاحكام أما أحكام الفصل: فإنه إذا حل دين المسلم وجب على المسلم إليه تسليم المسلم فيه على ما اقتضاه العقد فإن كان المسلم فيه تمرا، قال الشافعي رحمه الله تعالى: فليس على المسلم أن يأخذه إلا جافا.

قال أصحابنا: ولم يرد بهذا أن يكون مشمسا

وإنما أراد به إذا بلغ إلى حالة الادخار فعليه أن يأخذه، وهو إذا وقع عليه اسم الجفاف، وإن لم يتناه جفافه، وان كان المسلم فيه رطبا لزمه ما يقع عليه اسم الرطب، ولا يلزمه أن يقبل بسرا ولا مذنبا، ولا منصفا، ولا مشدخا، فأما المذنب فهو الذى أرطب في أذنابه لا غير.

وأما المنصف فهو الذى صار نصف بسره رطبا ونصفها بسرا.

وأما المشدخ فذكر الشيخ أبو حامد أن المشدخ هو الذى ضرب بالخشب حتى صار رطبا فلا يلزمه قبوله لانه لا يتناوله اسم الرطب وإن تناوله فيكون رطبا مفتوتا.

وقيل: إنهم يشمسون البسر ثم يدلكونه بكسى صوف غليظ وما أشبهه فيصير طعمه طعم الرطب، يفعلون ذلك استعجالا لاكل الرطب من البسير قبل الارطاب، ولعل الشيخ أبا حامد أراد أنهم يضربون البسر بالخشب ليصير طعمه طعم الرطب، وان كان المسلم فيه طعاما لزمه أن يدفع إليه طعاما نقيا من الشعير والزوان وعقد التبن، لان هذه الاشياء تنقصه عن الكيل والوزن.

وإن كان فيه قليل تراب أو شئ من دقاق التبن - نظرت - فان أسلم فيه كيلا لزمه قبوله، لان ذلك لا يؤثر في الكيل، وإن أسلم فيه وزنا لم يلزمه قبوله لان دلك يؤثر في الوزن فيكون المقبوض دون حقه.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 148)

________________________________________

فإذا أسلم إليه في شئ فأتى المسلم إليه بالمسلم فيه لم يخل من ثلاثة أحوال: إما أن يأتيه بالمسلم فيه على الصفة المشروطة.

وإما أن يأتيه بأردأ منه.

وإما أن يأتيه بأعلى منه.

فإن أتى به على الصفة المشروطة وعلى صفة المسلم فيه، بأن أسلم إليه في طعام جيد فأتاه بطعام يقع عليه اسم الجيد، وان كان غيره اجود منه لزمه أن يقبل منه

وإن أتاه بأردأ من المسلم فيه، بأن أتاه بطعام ردئ لم يلزمه قبوله، لانه دون ما شرط، وان قال المسلم إليه: خذ هذا وأعطيتك عن الجودة عوضا لم يجز، لانه بيع جزء من المسلم فيه قبل القبض، وان أتاه بأعلى من المسلم فيه فلا تخلو الزيادة من أربعة أحوال: إما أن تكون زيادة في الصفة، أو في العدد، أو في الجنس، أو في النوع، فان كانت الزيادة في الصفة مثل أن يسلم إليه في طعام ردئ فجاءه بطعام جيد، فان رضى المسلم إليه بتسليمه عما في ذمته لزم المسلم قبوله، لانها زيادة لا تتميز أي لا تنفصل عن الطعام لانها صفة فيه.

فإذا رضى المسلم إليه بتسليمها لزم المسلم قبولها كما لو أصدق إمرأته عينا فزادت في يدها زيادة تتميز، ثم طلقها قبل الدخول، ورضيت المرأه بتسليم نصف العين مع زيادتها فان الزوج يلزمه قبولها.

وان لم يتطوع المسلم إليه بتسليمها بل طلب عن الجودة عوضا لم يصح لان الجودة صفة فلا يجوز إفرادها بالعقد، وان كانت الزيادة في العدد مثل أن يسلم إليه خمسة أرادب من القمح فجاءه بعشرة أرادب من القمح لم يلزمه المسلم قبول ما زاد على الخمسة، لان ذلك ابتداء هبة فلم يجبر على قبولها.

وإن كانت الزيادة في الجنس مثل أن يسلم إليه ذرة فأعطاه عن الذرة قمحا أو عدسا لم يلزمه قبول ذلك، فان قبله لم يصح لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من أسلم في شئ فلا يصرفه إلى غيره.

وإن كانت الزيادة في النوع مثل أن يسلفه على قمح هندي فجاءه بقمح شامى، أو ذرة صفراء فجاءه عنها بذرة بيضاء، فحكى الشيخ أبو حامد وجهين، أحدهما

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 149)

________________________________________

يلزم المسلم قبوله، وهذا الوجه يستند أصحابه إلى دلالة قول الشافعي رحمه الله

وأصل ما يلزم المسلف قبول ما سلف فيه هو أن يأتيه به من جنسه، وهذا قد أتى به من جنسه، ولانه قد أعطى من جنس حقه، وفيه زيادة لا تتميز، فأشبه ما لو أسلم في نوع ردئ فأعطاه من ذلك النوع جيدا، فانه يلزمه قبوله، ولانه يمكنه إكمال نصاب الزكاة به.

والوجه الثاني.

لا يلزمه قبوله، لانه لم يأت به على الصفة التى اشترط عليه فلا يلزمه قبوله، كما لو أتاه بجنس آخر، وهذا الوجه يقول أصحابه: إنه يجوز أن يقبله إن رضى بغير إلزام لانه من جنس حقه.

قال العمرانى في البيان: قال القاضى أبو الطيب: الوجهان في الجواز، فأما الوجوب فلا يجب عليه قبوله وجها واحدا، وهو اختيار الشيخ أبى إسحاق في المهذب، وإن أسلم إليه بذرة بيضاء فجاءه عنها بذرة حمراء فلا يلزمه قبولها وجها واحدا.

قال العمرانى: وهل يلزمه قبولها.

يحتمل أن يكون على وجهين اه.

قلت، وقوله - أعنى المصنف رحمه الله في الفصل - وان أسلم إلى محل الخ " قلت: ان أسلم إليه في شئ إلى محل فجاءه المسلم إليه به قبل المحل فامتنع المسلم من قبضه، فان كان المسلم فيه مما يلحقه التغير والتلف إلى وقت المحل، بأن كان لحما أو رطبا، أو من أنواع الفواكه الرطبة لم يلزم المسلم قبوله، لان له غرضا في تأخيره أن يحتاج إلى أكله أو اطعامه في ذلك الوقت، وكذلك إذا كان المسلم فيه حيوانا لم يلزمه قبوله قبل المحل لانه يخاف عليه التلف، ويحتاج إلى العلف إلى ذلك الوقت.

وان كان لا يخاف التغير ولا التلف ولكن يحتاج إلى مكان يحفظ فيه وكان يلزمه عليه مؤنة حفظه كالقمح والقطن لم يلزمه قبوله، لان عليه ضررا في المؤنة في حفظه إلى وقت المحل، فان كان يحتاج إلى مؤنة في حفظه كالحديد والنحاس

وغيرها من المعادن وكانت مغلفة محفوظة مأمونة يلزمه قبوله.

لانه لا ضرر عليه في قبوله، فان لم يقبله قبله الحاكم، لحديث أبى بكر بن حزم الذى رواه الاثرم

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 150)

________________________________________

ورواية عثمان بن منصور عن عمر وعثمان، وحديث أبى سعيد المقبرى الذى رواه الدارقطني بنحو حديث أبى بكر بن حزم.

وان سأل المسلم المسلم إليه أن يقدم المسلم فيه قبل المحل لم يلزم المسلم إليه تقديمه، لان ذلك يبطل فائدة التأجيل.

فان قال السلم إليه: أنقصني من الدين حق أقدمه لك ففعل لم يصح القبض لانه بيع أجل والاجل لا يفرد بالبيع.

فان جاء المسلم إليه بالمسلم فيه بعد حلول الدين على صفته فامتنع المسلم من قبضه قال له الحاكم: اما أن تقبضه أو يبرأ المسلم إليه منه، وان كان غرض، وسواء كان للمسلم غرض في الامتناع أو لا غرض له، لان للمسلم إليه غرضا في الدفع، وهو أن يبرأ مما عليه من الحق، وقد حل الحق، فان لم يفعل المسلم ذلك قبضه الحاكم عنه، وبرئ المسلم إليه، لان الحاكم ينوب عن الممتنع، ولا يملك الحاكم الابراء لانه لا نظر للمسلم في الابراء عنه ولا حظ له في حفظ ماله عنده.

(فرع)

إذا تعين موضع التسليم باطلاق العقد أو بالشرط لانه إذا أطلق العقد تعين موضع التعاقد وإذا اشترط موضعا بعينه فقد تعين بالشرط فإذا جاءه به في غير ذلك الموضع لم يلزمه قبوله، ولم يجز له أخذ الاجرة، لان بدل العوض عن المسلم فيه لا يجوز، فكذلك في تسليمه في موضع.

وان جعله نائبا عنه في حمله إلى ذلك الموضع، لم يكن المسلم قابضا له بهذه النيابة، بل يفتقر إلى تسليمه في الموضع المعين أو في غيره إذا رضى المسلم بذلك.

قال المصنف رحمه الله:

 

(فصل)

وان أسلم إليه في طعام بالكيل أو اشْتَرَى مِنْهُ طَعَامًا بِالْكَيْلِ فَدَفَعَ إلَيْهِ الطَّعَامَ من غير كيل لم يصح القبض، لان المستحق قبض بالكيل فلا يصح قبض بغير الكيل، فان كان المقبوض باقيا رده على البائع ليكيله له، وان تلف في يده قبل الكيل تلف من ضمانه، لانه قبض عن حقه، وان ادعى أنه كان دون حقه فالقول قوله، لان الاصل أنه لم يقبض الا ما ثبت باقراره، فان باع الجميع قبل الكيل لم يصح، لانه لا يتحقق أن الجميع له، وان باع منه القدر الذى

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 151)

________________________________________

يتحقق أنه له ففيه وجهان

(أحدهما)

يصح، وهو قول أبى إسحاق، لانه دخل في ضمانه فنفد بيعه فيه كما لو بالكيل

(وَالثَّانِي)

لَا يَصِحُّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ ابن أبى هريرة، وهو المنصوص في الصرف، لانه باعه قبل وجود القبض المستحق بالعقد، فلم يصح بيعه كما لو باعه قبل أن يقبضه، فإن دفع إليه بالكيل ثم ادعى أنه دون حقه فان كان ما يدعيه قليلا قبل منه، وإن كان كثيرا لم يقبل لان القليل يبخس به، والاصل عدم القبض والكثير لا يبخس به فكان دعواه مخالفا للظاهر فلم يقبل.

(الشرح) إذا أسلم إليه في شئ كيلا فأعطاه إياه وزنا، أو أسلم فيه وزنا فأعطاه كيلا لم يصح القبض، لان الكيل والوزن يختلفان، لان الرزين الرصين الثقيل يقل كيله ويكثر وزنه، والخفيف يقل وزنه ويكثر كيله، وهذا ما اتفق عليه أئمتنا وأئمة المذاهب.

قال ابن قدامة في المغنى من الحنابلة: ولا يقبض المكيل إلا بالكيل، ولا الموزون إلا بالوزن، ولا يقبضه جزافا ولا بغير ما يقدر به، لان الكيل والوزن يختلفان، فإن قبضه بذلك فهو كقبضه جزافا، فيقدره بما أسلم فيه، ويأخذ قدر حقه ويرد الباقي، ويطالب بالعوض، وهل له أن يتصرف في قدر حقه منه قبل

أن يعتبره؟ على وجهين - مضى ذكرهما في بيوع الاعيان - وإن اختلفا في قدره فالقول قول القابض مع يمينه اه.

وقال الشافعي رضى الله عنه: لو أعطاه طعاما فصدقه في كيله لم يجز، فإن قبض فالقول قول القابض مع يمينه، وجملة ذلك أنه إذا كان له في ذمة رجل طعام أو اشترى منه عشرة أقفزة (١) من صبرة (٢) بعينها، فسلم إليه من عليه الطعام طعاما من غير كيل، وأخبره بكيله فصدقه على كيله أو لم يصدقه لم يجز له

________________________________________

(١) القفيز مكيال معتبر عندهم كانوا يقولون عنه: إنه ثمانية مكاكيك.

(٢) الصبرة الكومة من أي شئ وقد نجد في أسواق القرى من يبيعون التمر أو العنب أكواما جزافا بغير كيل ولا وزن فهذه هي الصبرة.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 152)

________________________________________

قبضه بغير كيل، لان المستحق عليه القبض بالكيل، فإذا قبض من غير كيل لم يصح القبض.

فإن كان الطعام باقيا رده على البائع ثم يكيله على المسلم، فان كان أكثر من حقه كانت الزيادة للمسلم إليه، فان تلف الطعام في يد القابض قبل أن يكال عليه، تلف من ضمانه، لانه قبضه لنفسه، فان اتفقا على قدره فلا كلام.

وان اختلفا في قدره، فادعى القابض أنه كان دون حقه، وادعى مالك الطعام أنه قدر حقه أو أكثر فالقول قول القابض مع يمينه، سواء ادعى نقصانا قليلا أو كثيرا، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الصرف، لان الاصل عدم القبض وبقاء الحق فلا تبرأ ذمة من عليه الحق إلا من القدر الذى يقر به القابض، فان قيل: كيف سمعت دعوى القابض في النقصان، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي المسألة فيصدقه في كيله؟ قلنا: لم يرد الشافعي رحمه الله أنه اعترف بصحة الكيل، وإنما هو قبول

قول المخبر، وحمله قوله على الصدق، فإذا بان له خلافه سمعت دعواه.

قال الشيخ أبو حامد فيما نقله عنه العمرانى في البيان: إذا ثبت هذا: فانه يكون قبضا فاسدا، فان المسلم إذا قبضه وكان قدر حقه وزيادة عليه، فانه يملك قدر حقه بالقبض، وينتقل الضمان إليه، وتبرأ ذمة البائع عنه اه.

وهل يجوز للقابض التصرف فيه نظرت.

فان أراد أن يتصرف في الجميع لم يجز، لان للبائع فيه تعلقا، لانه ربما إذا كيل، خرج زيادة على قدر ما يستحق القابض، فلم يصح تصرفه في الجميع، فان أراد أن يبيع منه قدر ما يتحقق أنه له بأن باع نصف قفيز منه وله قفيز ففيه وجهان: الاول: قال أبو إسحاق: يصح، لان ذلك الشئ في ملكه وانتقل الضمان إليه.

ويعلم أنه قدر حقه فجاز بيعه فيه.

الثاني: قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا يصح بيعه، وهو المنصوص في الصرف عند الشافعي في الام، لان العلقة باقية بينه وبين البائع فيه، لان ماله غير متميز عن مال البائع فلم يصح بيعه.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 153)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

فان أحاله على رجل له عليه طعام لم يصح لان الحوالة بيع، وقد بينا في كتاب البيوع أنه لا يجوز بيع المسلم فيه قبل القبض.

وإن قال لى عند رجل طعام فاحضر معى حتى أكتاله لك فحضر واكتاله له لم يجز، لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الصَّاعَانِ، صاع البائع وصاع المشترى، وهذا لم يجز فيه الصاعان، وهل يصح قبض المسلم إليه لنفسه؟ فيه وجهان بناء على القولين فيمن باع دين المكاتب

فقبض منه المشترى، فإن قبض المشترى لنفسه لا يصح، وهل يصح القبض للسيد فيه قولان:

(أحدهما)

يصح لانه قبضه بإذنه فصار كما لو قبضه وكيله

(والثانى)

لا يصح لانه لم يأذن له في قبضه له، وإنما أذن له في قبضه لنفسه فلا يصير القبض له، ويخالف الوكيل فانه قبضه لموكله، فان قلنا ان قبضه لا يصح اكتال لنفسه مرة أخرى ثم يكيله للمسلم، وإن قلنا ان قبضه يصح كاله للمسلم، فان قال احضر معى حتى أكتاله لنفسي وتأخذه ففعل ذلك صح القبض للمسلم إليه لانه قبضه لنفسه قبضا صحيحا، ولا يصح للمسلم لانه دفعه إليه من غير كيل، وان اكتاله لنفسه وسلم إلى المسلم وهو في المكيال ففيه وجهان.

 

(أحدهما)

لا يصح لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الصَّاعَانِ، وهذا يقتضى كيلا بعد كيل، وذلك لم يوجد

(والثانى)

أنه يصح لان استدامة الكيل بمنزلة ابتدائه، ولو ابتدأ بكيله جاز فكذلك إذا استدامه.

(الشرح) حديث جابر رواه ابن ماجه والدارقطني أما الاحكام فقد قال الشافعي رحمه الله تعالى: ولو أسلم في طعام وباع طعاما آخر فأحضر المشترى من اكتاله من بائعه وقال: أكتاله لك.

لم يجز، لانه بيع الطعام قبل القبض.

واختلف أصحابنا في صورة هذه المسألة، فمنهم من قال: صورتها أن يسلم

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 154)

________________________________________

زيد إلى عمرو في طعام، فلما حل الاجل باع زيد الطعام الذى له في ذمه عمرو من خالد قبل قبضه، فان هذا لا يصح، لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال " من أسلف في شئ فلا يصرفه إلى غيره " ولان

بيع الطعام المشترى قبل القبض لا يصح، وان كان معينا، فبأن لا يصح فيه قبل القبض أولى.

قال وتعليله يدل عليه، لانه باع ذلك الطعام من آخر.

وقال أكثر أصحابنا: ما ذكره القائل صحيح في الفقه، ولكن ليس هذا صورة المسألة التى ذكرها الشافعي رضى الله عنه، وإنما صورتها لزيد طعام في ذمة عمرو سلم، وفى ذمة زيد لخالد طعام سلم.

فقال زيد لخالد: احضر اكتيال مالى عند عمرو لاكتاله لك فانه لا يصح، لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الصَّاعَانِ، صاع البائع وصاع المشترى " ولو كان الشافعي يريد على ذلك الطعام لقال: وباع ذلك الطعام آخر، ولانه قال بعدها، ولو قال أكتاله لنفسي وحده بالكيل لم يجز، ولو كان قد باعه لم يكن لحضوره واكتياله لنفسه معنى قالوا وأما تعليله فانما أراد أن هذا مثل بيع الطعام قبل القبض، لانه يقبضه قبل أن يضمنه بقبضه خالصا له، كما لا يجوز بيعه قبل قبضه.

إذا ثبت هذا ففيه خمس مسائل (الاولى) يقول زيد لخالد احضر معى حتى أكتاله لك، فاكتاله زيد لخالد من عمرو فلا يصح القبض لخالد وجها واحدا لِحَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الصَّاعَانِ، صاع البائع وصاع المشترى، وهذا لم يجر فيه الصاعان، ولانه لا يستحق على عمرو شيئا فلم يصح القبض له منه وهل يصح القبض لزيد من عمرو؟ فيه وجهان بناء على القولين في السيد إذا باع نجوم المكاتب وقلنا لا يصح البيع فقبض النجوم، فهل يعتق المكاتب؟ فيه قولان، فان قلنا يصح قبض زيد ما كاله لخالد مرة ثانية.

وان قلنا لا يصح قبض زيد لنفسه رد الطعام إلى عمرو ليكيله لزيد ثم يكيله زيد لخالد، فان اختلف

زيد وعمرو في المقبوض فالقول قول زيد مع يمينه، وانما يقبل قوله مع اليمين

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 155)

________________________________________

إذا كان ما يدعيه محتمل، فأما إذا ادعى تفاوتا كثيرا لم يقبل قوله، لان هذا القدر لا يتفاوت كثيرا، وهكذا لو اختلف زيد وخالد فيما قبض خالد فالقول قول خالد مع يمينه، إذا كان ما يدعيه تفاوتا يسيرا.

وإن كان تفاوتا كثيرا لم يقبل قوله، لان مثل ذلك لا يتفاوت (المسألة الثانية) أن يقول زيد لخالد اذهب فاكتل لنفسك من عمرو ففعل، فإن قبض خالد لنفسه لا يصح وجها واحدا: لانه لا شئ له في ذمة عمرو وهل يصح قبض خالد من عمرو لزيد؟ على الوجهين طبقا لما ذكرناه في المسألة الاولى.

(المسألة الثالثة) أن يقول زيد لخالد أحضر معى حتى أكتال من عمرو لنفسي ثم يأخذ بذلك الكيل فحضرا فاكتاله زيد لنفسه ثم سلمه زيد إلى خالد جزافا من غير كيل صح قبض زيد لنفسه، لانه قبضه لنفسه قبضا صحيحا، ولا يصح قبض خالد من زيد لانه قبضه من غير كيل (المسألة الرابعة) إذا اكتاله زيد لنفسه من عمرو، ثم كاله زيد لخالد مرة ثانية صح القبضان، لان الطعام قد جرى فيه الصاعان (المسألة الخامسة) أن يكتاله زيد لنفسه من عمرو ثم يسلمه إلى خالد عما عليه له وهو في المكيال، فان قبض زيد لنفسه من عمرو صحيح، وهل يصح قبض خالد من زيد؟ فيه وجهان

(أحدهما)

لا يصح لحديث جابر " حتى يجرى فيه الصاعان " وهذا يقتضى كيلا بعد كيل

(والثانى)

يصح لان استدامة الكيل بمنزلة ابتدائه، بدليل أنه لو أسلم إليه بذهب طعاما، فابتدأ المسلم إليه وكاله للسلم صح، ولو كان الطعام في الذهب عند السلم فسلمه إليه صح، فكذلك ها هنا.

وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

 

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى

(فصل)

وان دفع المسلم إليه إلى المسلم دراهم وقال اشتر لى بها مثل مالك على واقبضه لنفسك ففعل لم يصح قبضه لنفسه، وهل يصح للمسلم إليه على الوجهين المبنيين على القولين في دين المكاتب، فان قال اشتر لى واقبضه لى ثُمَّ اقْبِضْهُ لِنَفْسِكَ فَفَعَلَ صَحَّ الشِّرَاءُ وَالْقَبْضُ للمسلم إليه ولا يصح قبضه لنفسه لانه لا يجوز أن يكون وكيلا لغيره في قبض حق نفسه

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 156)

________________________________________

(الشرح) الاحكام: لو كان لزيد في ذمة عمرو طعام من سلم فدفع عمرو إلى زيد دراهم وقال اشتر بها لنفسك طعاما مثل الطعام الذى لك على ففعل لم يجز، لان الدراهم ملك لعمرو فلا يجوز أن تكون.

عوضا.

ملكا لزيد، فإن اشترى الطعام بقيمة الدراهم لم يصح الشراء، وان اشترى زيد الطعام بدراهم في ذمته ثم سلم تلك الدراهم عما في ذمته صح الشراء لنفسه ولا تبرأ ذمته بتسليم تلك الدراهم لانه لا يملكها وعليه ضمانها.

وإن قال عمرو لزيد اشتر بها لى طعاما واقبضه لنفسك فإن الشراء يصح لعمرو لانه اشتراه له، ولا يصح القبض لزيد لانه لا يصح أن يكون قابضا لنفسه.

من نفسه.

وهل يصح القبض لعمرو؟ فيه وجهان كالوجهين في المسألة قبلها.

(فرع)

وان كان لزيد في ذمة عمرو طعام من جهة القرض، ولخالد في ذمة زيد طعام من جهة السلم، وأحال زيد خالدا بالطعام الذى له عليه على عمرو لم تصح الحوالة، لان خالدا ببيع طعامه الذى له على زيد من السلم بالطعام الذى لزيد من جهة القرض، وقد بينا أن بيع المسلم فيه قبل القبض لا يصح، فالفساد ها هنا من جهة خالد، فإن كان الطعامان من جهة القرض، فهل تصح الحوالة بهما فيه وجهان حكاهما الشيخ أبو حامد

(أحدهما)

يصح.

وهو الصحيح.

لان بيع

العوض قبل القبض يصح، وكل واحد قرض، وكل واحد منهما مستقر في الذمة فجاز أن يعتاض من ذمة إلى ذمة بخلاف السلم، والباقى لا يصح لان الحوالة لو صحت في الطعام إذا كان من جهة القرض لصحت.

وان كانت من جهة البيع كالدراهم والدنانير لما جازت الحوالة بهما، إذا كانا من جهة القرض جازت أيضا إذا كانا من جهة البيع، فلما لم تجز الحوالة بالطعام إذا كان من جهة البيع إذا كان من جهة القرض (فرع)

ولا تجوز التولية والشركة في المسلم فيه قبل القبض، والشركة أن يقول لغيره أشركتك في النصف المسلم فيه بنصف الثمن، فيكون ذلك بيعا لنصف المسلم فيه.

والتولية أن يقول " وليتك بجميع الثمن أو وليتك نصفه بنصف الثمن "

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 157)

________________________________________

(فرع)

ذكر الشافعي في الصرف أربع مسائل: الاولى: لو كان في ذمة رجل لغيره طعام، فسأل من عليه الطعام من له الطعام أن يبيعه طعاما بشرط أن يقبض ماله عليه منه فباعه منه بهذا الشرط، فالبيع باطل، لان هذا تبايع بمقتضى العبد فأبطله.

الثانية: إذا اشترى منه طعاما مطلقا وسها أن يقبضه منه صح البيع لانه بيع مطلق.

الثالثة: أن يقول من له الطعام لمن عليه: اقض مالى عليك على أن أبيعك فقضاه صح، لان هذا قبض مستحق عليه، فإذا قضاه وقع عن المقبوض والقابض بالخيار، بين أن يبيعه منه أو لا يبيعه، لان هذا وعد وعده، فكان بالخيار في الوفاء به.

الرابعة: أن يقول من له الطعام: اقضنى أكثر مما أستحقه، أو أجود منه بشرط أن أبيعه منك فقضاه كذلك لم يصح القبض، لان هذا مستحق عليه فكان

قبضا فاسدا، فيجب عليه أن يرد الزيادة، وإن قضاه من غير جنس حقه رده وأخذ قدر حقه من جنسه، ثم إن شاء باعه منه، وإن شاء لم يبعه والله أعلم.

قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

إذا قبض المسلم فيه ووجد به عيبا فله أن يرده لان اطلاق العقد يقتضى مبيعا سليما فلا يلزمه قبول المعيب فان رد ثبت له المطالبة بالسليم لانه أخذ المعيب عما في الذمة فإذا رده رجع إلى ماله في الذمة وإن حدث عنده عيب رجع بالارش لانه لا يمكنه رده ناقصا عما أخذ ولا يمكن اجباره على أخذه مع العيب فوجب الارش.

(الشرح) الاحكام: إذا قبض المسلم المسلم فيه فوجد به عيبا فهو بالخيار بين أن يرضى به معيبا وبين أن يرده ويطالب بالمسلم فيه سليما، لان إطلاق العقد يقتضى التسليم، فإذا أخذ المعيب ورده رجع إلى الذى في ذمة المسلم إليه، وإن حدث عند المسلم بالمقبوض عيب آخر فله أن يطالب بأرش العيب الموجود قبل القبض إلا أن يرضى المسلم إليه بأخذه معيبا فلا يثبت للمسلم المطالبة بالارش وقال أبو حنيفة رحمه الله: ليس للمسلم المطالبة بالارش لان رجوعه بالارش

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 158)

________________________________________

أخذ عوض عن الجزء الفائت، وبيع المسلم فيه لا يجوز، دليلنا أنه عوض يجوز رده بالعيب فإذا سقط الرد لحدوث عيب ثبت له الرجوع بالارش كبيع الاعيان وأما قوله: إن الرجوع بالارش أخذ عوض عن الجزء الفائت، وبيع المسلم فيه لا يجوز مثل القبض فغير صحيح، لان بيع المبيع المعين قبل القبض لا يصح، وقد جاز أخذ الارش عنه، ولان ذلك فسخ العقد في الجزء الفائت، وليس ببيع، ولهذا يكون بحسب الثمن المسمى في العقد.

قال المصنف رحمه الله:

 

(فصل)

فان أسلم في ثمرة فانقطعت في محلها أو غاب المسلم إليه فلم يظهر حتى نفدت الثمرة ففيه قولان

(أحدهما)

أن العقد ينفسخ لان المعقود عليه ثمرة هذا العام وقد هلكت فانفسخ العقد كما لو اشترى قفيزا من صبرة فهلكت الصبرة

(والثانى)

أنه لا ينفسخ لكنه بالخيار بين أن يفسخ وبين أن يصبر إلى أن توجد الثمرة فيأخذ لان المعقود عليه ما في الذمة لا ثمرة هذا العام، والدليل عليه أنه لو أسلم إليه في ثمرة عامين فقدم في العام الاول ما يجب له في العام الثاني جاز وما في الذمة لم يتلف وإنما تأخر فثبت له الخيار كما لو اشترى عبدا فأبق.

(الشرح) الاحكام: إذا سلم في شئ مؤجل إلى وقت: الغالب فيه وجود المسلم فيه في ذلك الوقت فجاء ذلك الوقت ولم يوجد ذلك الشئ كالثمرة إذا انقطعت أو تعذر القبض حتى نفد ذلك الشئ المسلم فيه، ففيه قولان، أحدهما ينفسخ السلم، لان المعقود عليه قد تعذر تسليمه فانفسخ العقد كما لو اشترى منه قفيزا من صبرة فتلفت الصبرة قبل القبض، ولانه لو أسلم إليه في ثمرة بلد معين كبغداد أو أسيوط صح السلم، ولم يكن للمسلم إليه أن يدفع إليه من ثمرة غير أسيوط أو بغداد، فكذلك إذا أسلم إليه في ثمرة عام يكن له أن يدفع إليه من ثمرة غير ذلك العام.

والقول الثاني لا ينفسخ السلم ولكن يثبت للمسلم الخيار بين أن يفسخ العقد وبين أن لا يفسخ ويصبر إلى أن يوجد المسلم فيه، وبه قال أبو حنيفة رحمه الله، وهو الصحيح،

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 159)

________________________________________

لان المعقود عليه في الذمة لم يتلف، بدليل أنه لو أسلم إليه في الرطب من ثمرة عامين فقدم المسلم إليه في العام الاول ما يجب فيه، وفى العام الثاني جاز، وإن انقطع بعض المسلم فيه ووجد البعض، فان قلنا: السلم ينفسخ إذا عدم جميع المسلم فيه انفسخ السلم ها هنا في قدر المفقود من المسلم فيه، وهل ينفسخ في الموجود منه

فيه طريقان كما قلنا فيمن اشترى بقرتين فتلفت إحداهما قبل القبض، من أصحابنا مَنْ قَالَ: فِيهِ قَوْلَانِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لا ينفسخ قولا واحدا.

فإذا قلنا: ينفسخ فلا كلام، وإذا قلنا: لا ينفسخ ثبت للمسلم الخيار في الفسخ، لان الصفقة تفرقت عليه، فان فسخ فلا كلام، وإن لم يفسخ أخذ الموجود، وهل يأخذه بجميع الثمن أو بحصته؟ فيه قولان حكاهما الشيخ أبو حامد وابن الصباغ.

قلت: وعلى قياس ما ذكره المصنف أنه يأخذه بحصته من الثمن وهو رأس مال السلم قولا واحدا، فإذا قلنا: يأخذه بحصته فهل للمسلم إليه الخيار؟ فيه وجهان حكاهما ابن الصباغ.

وإن قلنا: ان المسلم فيه إذا انقطع جميعه لا ينفسخ، بل يثبت للمسلم الخيار، ثبت له أيضا ها هنا الخيار ليأخذ بعض حقه، فان اختار فسخ السلم في المفقود والموجود جاز ليفرق حقه عليه، وان اختار أن يفسخ السلم في المفقود ويقره في الموجود فهل له ذلك؟ فيه قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، فان قلنا: يجوز فسخ السلم في المفقود، فبكم يأخذ الموجود؟ فعلى ما مضى من قولنا حكاية عن الشيخ أبى حامد وابن الصباغ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:

(فصل)

يجوز فسخ عقد السلم بالاقالة لان الحق لهما فجاز لهما الرضا باسقاطه فإذا فسخا أو انفسخ بانقطاع الثمرة في أحد القولين أو بالفسخ في القول الآخر رجع المسلم إلى رأس المال فان كان باقيا وجب رده وان كان تالفا ثبت بدله في ذمة المسلم إليه، فان أراد أن يسلمه في شئ آخر لم يجز لانه بيع دين بدين وان أراد أن يشترى به عينا نظرت فان كان تجمعهما علة واحدة في الربا كالدراهم بالدنانير والحنطة بالشعير لم يجز أن يتفرقا قبل القبض كما لو أراد أن

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 160)

________________________________________

يبيع أحدهما بالآخر عينا بعين وإن لم تجمعهما علة واحدة في الربا كالدراهم بالحنطة والثوب بالثوب ففيه وجهان

(أحدهما)

يجوز أن يتفرقا من غير قبض كما يجوز إذا باع أحدهما بالآخر عينا بعين ان يتفرقا من غير قبض

(والثانى)

لا يجوز، لان المبيع في الذمة فلا يجوز أن يتفرقا قبل قبض عوضه كالمسلم فيه، والله تعالى أعلم.

(الشرح) الاحكام: الاقالة فسخ وليست ببيع على المشهور من المذهب سواء كان قبل القبض وبعده، وبه قال أبو حنيفة رحمه الله لانه يقول: هي بيع في حق غير المتعاقدين، فتثبت بها الشفعة، وقال أبو يوسف رحمه الله: إن كان قبل القبض فهى فسخ، وإن كان بعد القبض فهى بيع، وقال مالك رحمه الله: هي بيع بكل حال.

وحكى القاضى أبو الطيب أنه قول قديم للشافعي رحمه الله، وأما أبو حامد فحكاه وجها لبعض أصحابنا.

دليلنا أن المبيع عاد إلى البائع بلفظ لا ينعقد به البيع فكان فسخا كالرد بالعيب.

إذا ثبت هذا: فإن سلم رجل إلى غيره شيئا في شئ ثم تقايلا في عقد السلم صح، وقد وافقنا مالك رحمه الله على ذلك وهذا من أوضح دليل على أن الاقالة فسخ، لانها لو كانت بيعا لما صح في المسلم فيه قبل القبض، كما لا يصح بيعه، وإن أقاله في بعض المسلم فيه صح في القدر الذى أقاله.

وقال ابن أبى ليلى.

يكون إقالة في الجميع.

وقال ربيعة ومالك لا يصح.

دليلنا أن الاقالة مندوب إليها بدليل قوله صلى الله عليه وسلم " من أقال نادما في بيع أقاله الله نفسه يوم القيامة " وما جاز في جميع المبيع جاز في بعضه كالابراء والانظار، وان أقاله بأكثر من الثمن أو بأقل منه إلى جنس آخر لم تصح الاقالة.

وقال أبو حنيفة تصح الاقالة، ويجب رد الثمن المسمى في العقد، دليلنا أن المسلم

والمشترى لم يسقط حقه من المبيع الا بشرط العوض الذى شرطه، فإذا لم يصح له العوض لم تصح له الاقالة، كما لو اشترى منه داره بألف بشرط العوض الذى شرطه، فإذا لم يصح له العوض لم تصح له الاقالة، كما لو اشترى منه داره بألف بشرط أن يبيعه سيارته بألف.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 161)

________________________________________

(فرع)

وإن ضمن ضامن عن المسلم إليه المسلم فيه ثم ان الضامن صالح المسلم عما في ذمة المسلم إليه بمثل رأس مال السلم يصح الصلح، ولان الضامن لا يملك المسلم فيه فيعوض عنه، فأما إذا أكد المسلم إليه بمثل رأس مال السلم، قال أبو العباس صح الصلح وكان إقالة، لان الاقالة هو أن يشترى ما دفع ويعطى ما أخذ.

وهذا مثله (فرع)

وإذا انفسخ عقد السلم بالفسخ أو لانفساخ سقط المسلم فيه عن ذمة المسلم إليه، ورجع المسلم إلى رأس مال السلم، فإن كان باقيا أخذه، وإن كان تالفا رجع إلى مثله إن كان له مثل، وإن كان لا مثل له رجع إلى قيمته، وان أراد أن يسلم في شئ آخر لم يجز لانه بيع دين بدين.

وإن أراد أن يأخذ ما هو من جنسه جاز أن يأخذ مثله، ولم يجز أن يأخذ أكثر منه ولا أقل منه، ولا يصح أن يتفرقا قبل قبضه، وإن أراد أن يأخذ عنه من غير جنسه إلا أنه لا يصح أن يتفرقا قبل قبضه كما قلنا في البيع، وإن أراد أن يأخذ منه عوضا ليس من أموال الربا، كالثياب والدواب، أو كان رأس المال من غير أموال الربا صح ذلك أيضا وهل يشترط فيه القبض قبل التفرق؟ فيه وجهان أحدهما: أنه يشترط ذلك، فلا يفترقان والعوض المعوض في ضمان واحد والثانى لا يشترط ذلك، كما لو اشترى أحدهما بالآخر، وإن اختلفا في قدر

رأس مال السلم فالقول قول المسلم إليه مع يمينه، لان الاصل براءة ذمته مما زاد على ما أقر به، وإن اختلفا في قدر المسلم فيه أو الاجل أو في قدره تحالفا، وان اتفقا على الاجل واختلفا في انقضائه وادعى المسلم انقضاء الاجل، وادعى المسلم إليه بقاءه فالقول قول المسلم إليه مع يمينه لان الاصل بقاؤه.

وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:

* (باب القرض)

* القرض قربة مندوب إليه لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 162)

________________________________________

قال " من كشف عن مسلم كربة من كرب الدنيا كشف الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه " وعن أبى الدرداء رضى الله عنه أنه قال " لان أقرض دينارين ثم يردا ثم أقرضهما أحب إلى من أن أتصدق بهما " وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما أنهما قالا " قرض مرتين خير من صدقة مرة "

(فصل)

ولا يصح الا من جائز التصرف لانه عقد على المال فلا يصح إلا من جائز التصرف كالبيع ولا ينعقد الا بالايجاب والقبول لانه تمليك آدمى فلم يصح من غير إيجاب وقبول كالبيع والهبة، بلفظ القرض والسلف لان الشرع ورد بهما، ويصح بما يؤدى معناه، وهو أن يقول ملكتك هذا على أن ترد على بدله.

فإن قال ملكتك ولم يذكر البدل كان هبة، فإن اختلفا فيه فالقول قول الموهوب له لان الظاهر معه، فإن التمليك من غير ذكر عوض هبة في الظاهر وان قال أقرضتك ألفا وقبل وتفرقا ثم دفع إليه ألفا، فان لم يطل الفصل جاز لان الظاهر أنه قصد الايجاب، وان طال الفصل لم يجز حتى يعيد لفظ القرض

لانه لا يمكن البناء على العقد مع طول الفصل.

(الشَّرْحُ) حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رواه مسلم بلفظ " من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة.

ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة.

ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة.

وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ في عون أخيه.

ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة.

وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى يتلون كتاب الله تعالى ويتدارسونه بينهم الا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه " وفى حديث طويل عن ابن عمر رضى الله عنه " ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة. ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة "

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 163)

________________________________________

رواه البخاري ومسلم، والاثر عن أبى الدرداء في مسند أحمد.

وأما ما روى عن ابن مسعود فقد جاء مرفوعا وموقوفا بلفظ " ما من مسلم يقرض مسلما قرضا مرتين إلا كان كصدقتها مرة " المرفوع رواه ابن ماجه.

وفى إسناده سليمان بن بشير وهو متروك.

وقال الدارقطني " الصواب أنه موقوف على ابن مسعود " وأما حديث أنس فقد أخرجه ابن ماجه مرفوعا وفيه " الصدقة بعشرة أمثالها والقرض بثمانية عشر " وفى إسناده خالد بن يزيد بن عبد الرحمن الشامي.

قال النسائي " ليس بثقة " وهو باب من أبواب البر لقوله تعالى " وتعاونوا على البر والتقوى " وقد كان القرض خيرا من الصدقة لانها قد تدفع إلى من هو غنى عنها، أما القرض

فلا يسأله إنسان إلا وهو يحتاج إليه.

أما اللغات، فالقرض القطع والقرض في المكان العدول عنه، ومنه قوله " وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال، وقرضت الوادي جزته، وقرض فلان مات، وقرضت الشعر نظمته.

قال ابن دريد " وليس في الكلام يقرض على وزن ينصر البتة.

وإنما الكلام على وزن يضرب، والقرض ما تعطيه غيرك من المال لتقضاه، والجمع قروض، واستقرض طلب القرض واقترض أخذه.

ولانه قطع له من ماله قطعة.

أما الاحكام، فإن القرض مندوب إليه، يعنى مأمور به من غير إيجاب.

ولا يصح القرض الا من جائز التصرف في المال، لانه عقد على المال فلا يصح الا من جائز التصرف فيه كالبيع.

ولا يصح الا بالايجاب والقبول، لانه تمليك آدمى فافتقر إلى الايجاب والقبول كالبيع والهبة.

وفيه احتراز من العتق، وينعقد بلفظ القرض والسلف لانه قد ثبت له عرف الاستعمال، ويمكن انعقاده بما يؤدى معنى ذلك.

فإن قال ملكتك هذا على أن ترد إلى بدله كان قرضا.

وان قال ملكتك هذا ولم يذكر البدل فهو هبة، وان اختلفا فيه فالقول قول الموهوب له لان الظاهر معه، ولان التمليك من غير عوض هبة.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 164)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

إذا امتنع الراهن من تسليم الرهن، أو انفسخ العقد قبل القبض نظرت، فان كان الرهن غير مشروط في العقد على البيع، بقى الدين بغير رهن، وإن كان الرهن مشروطا في البيع ثبت للبائع الخيار، بين أن يمضى البيع من غير رهن أو يفسخه، لانه دخل في البيع بشرط أن يكون له بالثمن وثيقة، ولم تسلم له، فيثبت له الخيار بين الفسخ والامضاء.

(الشرح) الاحكام: إذا امتنع الراهن من الاقباض أو انفسخ عقد الرهن قبل القبض نظرت، فان كان الرهن غير مشروط في العقد بقى الدين بغير رهن، ولا خيار للمرتهن، وإن كان الرهن مشروطا في بيع ثبت للبائع الخيار بين فسخ البيع وبين إمضائه، لانه دخل في البيع بشرط الوثيقة ولم تسلم له الوثيقة، فثبت له الخيار.

قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

إذا أقبض الراهن الرهن تلزم العقد من جهته، ولا يملك فسخه لانه عقد وثيقة، فإذا تم لم يجز فسخه من غير رضا من له الحق كالضمان، ولانا لو جوزنا له الفسخ من غير رضا المرتهن بطلت الوثيقة، وسقط فائدة الرهن.

(الشرح) الاحكام: إذا قبض الراهن الرهن لزم من جهته فلم يملك فسخه قال ابن الصباغ: وهو اجماع لا خلاف فيه، ولانه يراد للوثيقة فلو جاز له الفسخ لم يحصل بذلك وثيقة، وإذا قبض الرهن فانه يكون وثيقة بالدين وبكل جزء منه فإذا رهنه عينين بألف وقبضهما المرتهن ثم تلفت احداهما كان الباقي رهنا بجميع الالف، وبه قال أبو حنيفة فيما روى عنه في الاصول، وروى عنه في الزيادات أن الدين يتقسط على الرهن.

وروى عن أحمد أن العقد ينفسخ في التالفة إذا كان قبل القبض ويبقى في الباقية لان العقد كان صحيحا فيهما وانما طرأ انفساخ العقد في احداهما فلم يؤثر، كما لو اشترى شيئين ثم رد أحدهما بعيب أو خيار أو اقالة، والراهن مخير بين

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 165)

________________________________________

يراد للفسخ وكل واحد منهما يملك فسخ القرض متى شاء، فلا معنى لاثبات الخيار ولو أقرضه شيئا إلى أصل ما يلزم الاجل وكان حالا، وهكذا لو كان له عنده له ثمن حال فأجله، أو كان مؤجلا فزاد في أجله لم يلزم ذلك

وقال مالك يدخل الاجل في ابتداء القرض بأن مقبوضه إلى أجل، ويدخل في انتهائه بأن يقرضه حالا ثم يؤجله له فيتأجل.

ووافقنا أبو حنيفة أن الاجل لا يدخل في القرض.

وأما الثمن الحال فيتأجل بالتأجيل دليلنا على مالك رحمه الله تعالى أن الاجل يقتضى جزءا من القرض، والقرض لا يحتمل الزيادة والنقصان في عوضه فلم يجز شرط الاجل فيه وأما الدليل على أبى حنيفة فقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ باطل " وتأجيل الحال ليس في كتاب الله تعالى فكان باطلا، ولانه حق مستقر فلم يتأجل بالتأجيل كالقرض وقولنا " مستقر " احتراز من الثمن في مدة الخيار، ولانه إنظار تبرع فلم يلزمه، كالمرأة إذا وجدت زوجها عنينا فأجلته ثم رجعت من ذلك، فإن لها ذلك وقال أصحاب أحمد لا يجوز له الرجوع لان العقد لازم في حق المقرض جائز في حق المقترض، فلو أراد المقرض الرجوع في عين ماله لم يملك ذلك.

وقال الشافعي رحمه الله، له ذلك، لان كل ما يملك المطالبة بمثله ملك أخذه إذا كان موجودا كالمغصوب والعارية.

(فرع)

يجوز شرط الرهن في القرض، لان النبي صلى الله عليه وسلم " رهن درعا عند يهودى بالمدينة وأخذ منه شعيرا لاهله " ولحديث عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " اشْتَرَى طعاما من يهودى إلى أجل ورهنه درعا من حديد " وفى رواية " توفى ودرعه مرهونة عند يهودى بثلاثين صاعا من شعير " أخرجهما البخاري ومسلم: ولاحمد والنسائي وابن ماجه مثله من حديث ابن عباس قال ابن تيمية أبو البركات " وفيه من الفقه جواز الرهن في الحضر ومعاملة أهل الذمة " وسيأتى تفصيل ذلك في الرهن

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 166)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

وفى الوقت الذى يملك فيه وجهان

(أحدهما)

أنه يملكه بالقبض لانه عقد يقف التصرف فيه على القبض فوقف الملك فيه على القبض كالهبة فعلى هذا إذا كان القرض حيوانا فنفقته بعد القبض على المستقرض فان اقترض أباه وقبضه عتق عليه

(والثانى)

أنه لا يملكه إلا بالتصرف بالبيع والهبة والاتلاف لانه لو ملك قبل التصرف لما جاز للمقرض أن يرجع فيه بغير رضاه، فعلى هذا تكون نفقته على المقرض فان اقترض أباه لم يعتق عليه قبل أن يتصرف فيه، واختلف أصحابنا فيمن قدم طعاما إلى رجل ليأكله على أربعة أوجه (أحدها) أنه يملكه بالاخذ

(والثانى)

أنه يملكه بتركه في الفم (والثالث) أنه يملكه بالبلع (والرابع) أنه لا يملكه بل يأكله على ملك صاحب الطعام.

(الشرح) الاحكام: متى يملك المستقرض العين التى استقرضها؟ فيه وجهان من أصحابنا من قال: لا يملكها إلا بالتصرف بالبيع أو الهبة أو يتلفها أو تتلف في يده، لان المقرض له أن يرجع في العين ولان المستقرض له أن يردها، ولو ملكها المستقرض بالقبض لم يملك واحد منهما فسخ ذلك فعلى هذا إن استقرض حيوانا كانت نفقته على المقرض إلى أن يتلفه المستقرض.

قوله: فان اقترض أباه.

قال أحمد: أكره قرضهم، وقال ابن قدامة يحتمل كراهية تنزيه، ويصح قرضهم، وهو قول ابن جريج والمزنى لانه مال يثبت في الذمة سلما فصح قرضه كسائر الحيوان، ويحتمل أن أراد كراهة التحريم، فلا يصح قرضهم، اختاره القاضى، ويصح قرض العبيد دون الاماء، وهو قول مالك والشافعي إلا أن يقرضهن من ذوى محارمهن، لان الملك بالقرض ضعيف وسيأتى بيان ذلك إن شاء الله.

ومنهم من قال: يملكها المستقرض بالقبض.

قال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح، لانه بالقبض يملك التصرف فيها في جميع الوجوه، فلو لم يملكها بالقبض لما ملك التصرف فيها بما فيه حظ، وبما لا حظ فيها.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 167)

________________________________________

وأما الرجوع في العين المقترضة، فلا خلاف بين أصحابنا أن للمستقرض أن يردها على المقرض، أما المقرض فهل له أن يرجع فيها وهى في يد المستقرض؟ فإن قلنا إن المستقرض لا يملكها إلا بالتصرف فللمقرض أن يرجع فيها، ومنهم من قال للمقرض أن يرجع فيها بكل حال، وهو المنصوص عليه في الام.

ولا يكون جواز رجوع المقرض فيها مانعا من ثبوت الملك للمستقرض فيها قبل التصرف، ألا ترى أن الاب إذا وهب لابنه هبة وأقبضه اياها فإن الابن قد ملكها، وللاب أن يرجع فيها، وكذلك إذا اشترى سلعة بسلعة ثم وجد كل واحد منهما بما صار إليه عيبا، فإن لكل واحد منهما أن يرجع في سلعته، وان كانت ملكا للآخر، ويبطل بما لو تصرف هذا المستقرض بالعيب المستقرض ثم رجعت إليه، فإن للمقرض أن يرجع فيها، ولا يدل ذلك على أن المستقرض لم يكن مالكا للعين وقت التصرف فيها، فعلى هذا إذا اقترض حيوانا وقبضه كانت نفقته على المستقرض، وان اقترض وقبضه عتق عليه.

(فرع)

واختلف أصحابنا فيمن قدم إلى غيره طعاما، وأباح له أكله حتى يملكه المقدم إليه، فمنهم من قال.

يملكه بالتناول، فإذا أخذ لقمة بيده ملكها، كما إذا وهبه شيئا وأقبضه اياه، فعلى هذا لو أراد أن المقدم أن يسترجعها منه بعد أن يأخذها بيده لم يكن له ذلك.

ومنهم من قال: يملكه بتركه في الفم، فعلى هذا للمقدم أن يرجع فيه ما لم يتركه المقدم إليه في فمه.

ومنهم من قال لا يملكه الا بالبلع.

والرابع الذى حكاه المصنف أنه لا يملكه بالاكل، بل بأكله وهو على ملك صاحبه، فإذا قلنا ان المقدم إليه ملكه بأخذه باليد أو بتركه في الفم، فهل له أن يبيح لغيره أو يتصرف فيه بغير ذلك فيه وجهان، قال عامة أصحابنا لا يجوز له ذلك، لانه أباح له انتفاعا مخصوصا، فهل يجوز له أن ينتفع به بغيره كما لو أعاره ثوبا لم يكن له أن يعيره.

وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: له أن يفعل به ما شاء من وجوه

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 168)

________________________________________

التصرفات مثل البيع والهبة لغيره، لانه ملكه، فهو كما لو وهبه شيئا وأقبضه اياه قال ابن الصباغ، وهذا الذى قالاه لا يجئ على أصولهما، لان من شرط الهبة عندهما الايجاب والقبول والاذن بالقبض إلا أن يتضمنها لقوله، ولم يوجد ذلك ها هنا، ولان الاذن بالتناول انما تضمن إباحة الاكل فلا يصح أن يحصل به الملك، ولو كان ذلك صحيحا لجاز له تناول جميع الذى قدم إليه، ويتصرف به إلى بيته، وكذلك إذا قلنا بتركه في فمه فانه لم يحصل الاكل المأذون فيه، وإنما يملكه بالبلع.

قال: وعندي أن بالبلع يبطل معنى الملك فيه، ويصير كالتالف.

قال: والاوجه في ذلك أن يكون إذنا في الاتلاف لا تمليك فيه وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

 

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:

(فصل)

ويجوز قرض كل مال يملك بالبيع ويضبط بالوصف لانه عقد تمليك يثبت العوض فيه في الذمة فجاز فيما يملك ويضبط بالوصف كالسلم، فأما ما لا يضبط بالوصف كالجواهر وغيرها ففيه وجهان

(أحدهما)

لا يجوز لان القرض يقتضى رد المثل ومالا يضبط بالوصف لا مثل له

(والثانى)

يجوز لان مالا مثل له يضمنه المستقرض بالقيمة والجواهر كغيرها في القيمة ولا يجوز إلا في مال معلوم القدر فان أقرضه دراهم لا يعرف وزنها أو طعاما لا يعرف كيله

لم يجز لان القرض يقتضى رد المثل فإذا لم يعلم القدر لم يمكن القضاء.

(الشرح) الاحكام: يصح القرض في كل عين يصح بيعها وتضبط صفتها كما قلنا في السلم، وأما ما لا يضبط بالصفة كالجواهر وما عملت فيه النار، فهل يصح قرضها؟ فيه وجهان بناء على الوجهين فيما يجب رده بالقرض فيما لا مثل له فان قلنا: يجب رد القيمة جاز قرض هذه الاشياء، وان قلنا: يجب رد المثل فيها لم يجز قرضها ويأتى توجيههما في رد المثليات.

(فرع)

قال الصيمري: ولا يجوز قرض الدراهم المزيفة، ولا الزرنيخية ولا المحمول عليها، ولو تعامل بها الناس، فلو أقرضه دراهم أو دنانير ثم حرمت لم يكن له الا ما أقرض، وقيل: قيمتها يوم حرمت، ولا يصح القرض الا في

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 169)

________________________________________

مال معلوم، فان أقرضه دراهم غير معلومة الوزن أو طعاما غير معلوم الكيل لم يصح، لانه إذا لم يعلم قدر ذلك لم يمكنه القضاء.

 

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

ويجوز استقراض الجارية لمن لا يحل له وطؤها ولا يجوز لمن يملك وطأها.

وقال المزني رحمه الله يجوز لانه عقد يملك به المال فجاز أن يملك به من يحل له وطؤها كالبيع والهبة والمنصوص هو الاول لانه عقد ارفاق جائز من الطرفين فلا يستباح به الوطئ كالعارية ويخالف البيع والهبة فان الملك فيهما تام لانه لو أراد كل واحد منهما أن ينفرد بالفسخ لم يملك والملك في القرض غير تام لانه يجوز لكل واحد منهما ان ينفرد بالفسخ فلو جوزنا فيمن يحل له وطؤها أدى إلى الوطئ في ملك غير تام وذلك لا يجوز وان أسلم جارية في جارية فَفِيهِ وَجْهَانِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: لَا يَجُوزُ لانا لا نأمن أن يطأها ثم يردها عن التى تستحق عليه فيصير كمن اقترض جارية فوطئها ثم ردها.

ومن أصحابنا من قال.

يجوز وهو

المذهب لان كل عقد صح في العبد بالعبد صح في الجارية بالجارية كالبيع.

(الشرح) الاحكام: يجوز قرض غير الجوارى من الحيوان فالعبيد والانعام وغيرهما مما يصح بيعها ويضبط وصفها، وقال أبو حنيفة لا يصح قرضها وبنى ذلك على أصله أن السلم فيها لا يصح.

دليلنا ما روى أبو رَافِعٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " استسلف من أعرابي بكرا فأمرني أن أقضيه فقلت: لم أجد في الابل الا جملا خيارا رباعيا فقال اقضه، فإن خير الناس أحسنهم قضاء رواه الجماعة إلا البخاري، ولان ما صح أن ثبت في الذمة مهرا صح أن يثبت فيها قرضا كالثياب.

وأما استقراض الجوارى فيجوز ذلك لم لا يحل له وطؤها بنسب أو رضاع أو مصاهرة كغيرها من الحيوان، ولا يجوز لمن يحل له وطؤها.

وقال المزني وابن داود وابن جرير الطبري يجوز.

وحكى الطبري عن بعض أصحابنا الخراسانيين أنه يجوز قرضها ولا يحل للمستقرض وطؤها.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 170)

________________________________________

دليلنا أنه عقد ارفاق لا يلزم كل واحد من المتعاقدين فلم يملك به الاستمتاع كالعارية، فقولنا عقد ارفاق احتراز من البيع إذا اشترى جارية بجارية ووجد كل واحد بما صار إليه عيبا فان لكل واحد منهما أن يطأ جاريته وليس بعقد ارفاق، ولا ينتقض بالرجل إذا وهب لابنه جارية، لان الهبة تلزم جهة الموهوب، ولا تلزم جهة الواهب، ويقول ابن قدامة من الحنابلة وانا أنه عقد ناقل للملك فاستوى فيه العبيد والاماء كسائر العقود ولا نسلم ضعف الملك، فانه مطلق لسائر التصرفات بخلاف الملك في مدة الخيار.

وقولهم متى شاء المقترض ردها، ممنوع.

فاننا إذا قلنا الواجب رد القيمة لم يملك المقترض رد الامة، وانما يرد قيمتها، وان سلمنا ذلك لكن متى قصد المقترض

هذا لم يحل له فعله، ولا يصح اقتراضه كما لو اشترى أمة ليطأها ثم يردها بالمقايلة أو بعيب فيها وان وقع هذا بحكم الاتفاق لم يمنع الصحة كما لو وقع ذلك في البيع اه

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

ولا يجوز قرض جر منفعة مثل أن يقرضه ألفا على أن يبيعه داره أو على أن يرد عليه أجود منه أو أكثر منه أو على أن يكتب له بها سفتجة يربح فيها خطر الطريق، والدليل عليه ما رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عن سلف وبيع والسلف هو القرض في لغة أهل الحجاز، وروى عن أبى بن كعب وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أنهم نهوا عن قرض جر منفعة ولانه عقد ارفاق فإذا شرط فيه منفعة خرج عن موضوعه فان شرط أن يرد عليه دون ما أقرضه ففيه وجهان.

 

(أحدهما)

لا يجوز، لان مقتضى القرض رد المثل فإذا شرط النقصان عما أقرضه فقد شرط ما ينافى مقتضاه فلم يجز كما لو شرط الزيادة

(والثانى)

يجوز، لان القرض جعل رفقا بالمستقرض وشرط الزيادة يخرج به عن موضوعه فلم يجز وشرط النقصان لا يخرج به عن موضوعه فجاز فان بدأ المستقرض فزاده أورد عليه ما هو أجود منه أو كتب له سفتجة أو باع منه داره جاز لما روى أبو رافع رضى الله عنه قال استسلف رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ رجل بكرا فجاءته

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 171)

________________________________________

إبل الصدقة فأمرني أن أقضى الرجل بكرا، فقلت لم أجد في الابل إلا جملا خيارا رباعيا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أعطه " فإن خياركم أحسنكم قضاء " وروى جَابِرِ بْنِ عَبْدُ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ لى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حق فقضاني وزادني، فإن عرف لرجل عادة أنه إذا استقرض زاد في العوض، ففى إقراضه وجهان:

 

(أحدهما)

لا يجوز إقراضه إلا أن يشترط رد المثل لان المتعارف كالمشروط ولو شرط الزيادة لم يجز فكذلك إذا عرف بالعادة

(والثانى)

أنه يجوز وهو المذهب لان الزيادة مندوب إليها فلا يجوز أن يمنع ذلك صحة العقد، فإن شرط في العقد شرطا فاسدا بطل الشرط.

وفى القرض وجهان

(أحدهما)

انه يبطل لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كل قرض جر منفعة فهو ربا، ولانه إنما أقرضه بشرط ولم يسلم الشرط فوجب أن لا يسلم القرض

(والثانى)

أنه يصح، لان القصد منه الارفاق، فإذا زال الشرط بقى الارفاق.

(الشرح) حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ فقد رواه ابن خزيمة والحاكم وابن حبان بلفظ " لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ وَلَا شَرْطَانِ فِي بيع " وقد رواه من طريق ابن عمر صاحب المنتقى وقال رواه الخمسة ابن ماجه، فخطأ الشوكاني روايته عن ابن عمر وقال الصحيح اثبات الواو، فتكون رواية عن عبد الله بن عمرو.

وبذلك تستقيم الروايات، فإن عمرو بن شعيب جد أبيه عبد الله بن عمرو.

والله تعالى أعلم.

أما لغات الفصل فقوله: سفتجة فارسية، وهى ما يقال لها بالعامية (كمبيالة) وقوله " بكرا " هي الثنى من الابل، وفى قول أبى عبيد أنه من الابل بمنزلة الفتى من الناس.

وقوله " خيارا " أعنى مختارا عند الطلب وقضاء الامور أما الاحكام: فلا يجوز بيع وسلف، وهو أن يقول: بعتك هذه الدار بمائة على أن تقرضني خمسين، لرواية عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ " نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بيعتين في بيعة.

وعن ربح ما لم يضمن وبيع ما ليس عندك "

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 172)

________________________________________

ولا يجوز أن يقرضه دراهم على أن يعطيه بدلها في بلد آخر، ويكتب له بها

صحيفة (كمبيالة) فيأمن خطر الطريق ومئونة الحمل، وهو مذهبنا، وخالفنا أحمد وغيره مستدلين بأن عبد الله بن الزبير كان يقترض ويعطى من أقرضه صحيفة يأخذ قيمتها من مصعب أخيه واليه على العراق.

وفى المغنى مزيد بيان.

ودليل أصحاب أحمد وخلاصته أنه عقد ارفاق.

دليلنا أن أمن الطريق منفعة، وكل قرض جر نفعا فهو ربا.

ولا يجوز أن يقرضه شيئا بشرط أن يرد عليه درهمين، ولان هذا ربا عند تماثل البدلين فهو كالبيع فلا يجوز فيه التفاضل عند التماثل.

نعم ان كان ذلك في غير أموال الربا كالثياب والحيوان ففيه وجهان حكاهما الشيخ أبو حامد

(أحدهما)

يجوز لما روى عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ أجهز جيشا فنفدت الابل، فأمرني أن آخذ بعيرا ببعيرين إلى أجل، وهذا استسلاف مر بك في أبواب السلم

(والثانى)

لا يجوز وهو المذهب للحديث " كل قرض جر منفعة فهو حرام " ولان هذا زيادة لا يقابلها عوض فلم يصح، كما لو باعه داره بمائة على أن يعطيه مائة وعشرة، ولانه لو اشترط زيادة في الجودة لم يصح، فلان لا يجوز اشتراط الزيادة في العود أولى.

وأما الخبر في الحيوان فهو وارد في السلم بدليل أنه قال: كنت آخذ البعير بالبعيرين إلى أجل، والقرض لا يدخل الاجل وان أقرضه شيئا وشرط أن يرد عليه دون ما أقرضه، ففيه وجهان حكاهما المصنف

(أحدهما)

لا يجوز لان مقتضى القرض رد المثل، فإذا شرط النقصان عما أقرضه فقد شرط ما ينافى مقتضى العقد فلم يصح، كما لو شرط الزيادة.

 

(والثانى)

يجوز لان القرض جعل رفقا بالمستقرض وشرط الزيادة يخرج القرض عن موضوعه فلم يجز وشرط النقصان لا يخرجه عن موضوعه فجاز.

والله تعالى أعلم.

(فرع)

إذا اقترض من غيره درهما فرد عليه درهمين، أو درهما أجود منه كأن أخذ منه جنيها مصريا فرد عليه جنيها استرلينيا، أو باع منه داره أو كتب له

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 173)

________________________________________

بدراهمه صحيفة (كمبيالة) إلى بلد آخر من غير شرط ولا جرت للمقرض عادة بذلك جاز.

ومن أصحابنا من قال لا يجوز ذلك في أموال الربا ويجوز في غيرها، وليس بصحيح لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقرض نصف صاع فرد صاعا واقترض صاعا فرد صاعين، واقترض من الاعرابي بكرا فرد عليه أجود منه وقال صلى الله عليه وسلم " خيار الناس أحسنهم قضاء " وقال جابر رضى الله عنه: كان لى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دين فقضاني وزادني ولانه متطوع بالزيادة فجاز، كما لو وصله بها كصلة.

وكذلك لو اقترض رجل شيئا فرد أنقص مما أخذ وطابت نفس المقرض بذلك، فإن كان الرجل معروفا إذا اقترض رد أكثر مما اقترض أو أجود منه، فهل يجوز إقراضه مطلقا، فيه وجهان

(أحدهما)

لا يصح إقراضه إلا بشرط أن يرد عليه مثل ما أخذ لان ما علم بالعرف كالمعروف بالشرط

(والثانى)

وهو الصحيح أنه يجوز إقراضه من غير شرط لان الزيادة مندوب إليها في القضاء، فلا يمنع من جواز العقد فأما ما كان معروفا من جهة العرف فلا يمنع جواز الاقراض.

ألا ترى أنه لو وجدت عادة رجل أنه إذا اشترى من إنسان تمرا أطعمه منه أو أطعم البائع من غيره لم يضر ذلك بمنزلة المشروط في بطلان البيع منه قال العمرانى: وان أقرضه شيئا بشرط فاسد بأن أقرضه إلى أجل أو أقرضه درهما بدرهمين بطل الشرط لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ باطل " وهل يبطل القرض، فيه وجهان

(أحدهما)

يبطل.

فعلى هذا لا يملكه المقترض، لان القرض انما وقع

بهذا الشرط، فإذا بطل الشرط بطل العقد كالبيع بشرط فاسد

(والثانى)

لا يبطل لان القرض عقد ارفاق، فلم يبطل بالشرط الفاسد بخلاف البيع وقال في المغنى " ان شرط في القرض أن يوفيه أنقص مما أقرضه وكان ذلك مما يجرى فيه الربا لم يجز لافضائه إلى فوات المماثلة فيما هي شرط فيه، وان كان في غيره لم يجز أيضا، وهو أحد الوجهين لاصحاب الشافعي، وفى الوجه الآخر يجوز لان القرض جعل للرفق بالمستقرض، وشرط النقصان لا يخرجه عن موضوعه بخلاف الزيادة.

اه

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 174)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

ويجب على المستقرض رد المثل فيما له مثل، لان مقتضى القرض رد المثل، ولهذا يقال الدنيا قروض ومكافأة فوجب أن يرد المثل، وفيما لا مثل له وجهان

(أحدهما)

يجب عليه القيمة، لان ما ضمن بالمثل إذا كان له مثل ضمن بالقيمة إذا لم يكن له مثل كالمتلفات

(والثانى)

يجب عليه مثله في الخلقة والصورة، لحديث أبى رَافِعٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يقضى البكر بالبكر، ولان ما ثبت في الذمة بعقد السلم ثبت بعقد القرض قياسا على ما له مثل، ويخالف المتلفات فإن المتلف متعد فلم يقبل منه الا القيمة لانها أحصر، وهذا عقد أجيز للحاجة فقبل فيه مثل ما قبض كما قبل في السلم مثل ما وصف، فإن اقترض الخبز وقلنا يجوز اقراض ما لا يضبط بالوصف ففى الذى يرد وجهان

(أحدهما)

مثل الخبز

(والثانى)

ترد القيمة فعلى هذا إذا أقرضه الخبز وشرط أن يرد عليه الخبز ففيه وجهان

(أحدهما)

يجوز لان مبناه على الرفق فلو منعناه من رد الخبز شق وضاق

(والثانى)

لا يجوز لانه إذا شرط صار بيع خبز بخبز وذلك لا يجوز

(الشرح) الاحكام: وإذا أقرض شيئا له مثل كالحبوب والادهان والدراهم والدنانير وجب على المقترض رد مثلها لانه أقرب إليه، وان اقترض منه مالا مثل له كالثياب والحيوان ففيه وجهان

(أحدهما)

يجب رد قيمته، وهو اختيار للشيخ أبى حامد ولم يذكر غيره، لانه مضمون بالقيمة في الاتلاف، فكذلك في القرض

(والثانى)

يضمنه بمثله في الصورة، وهو اختيار القاضى أبى الطيب الطبري لحديث أبى رافع رضى الله عنه قضاء البكر، ولان طريق القرض الرفق فسومح فيه بذلك، ألا ترى أنه يجوز فيه النسبة فيما فيه الربا، ولا يجوز ذلك في البيع بخلاف المتلف فإنه متعد، فأوجبت عليه القيمة لانها أحصر قال ابن الصباع فإذا قلنا يجب القيمة فإن قلنا انه يملك بالقبض وجبت القيمة حين القبض، وان قلنا انه لا يملك الا بالتصرف وجبت عليه القيمة أكثر ما كانت من القبض إلى حين التلف، وان اختلفا في قدر القيمة أو صفة المثل فالقول قول المستقرض مع يمينه لانه غارم.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 175)

________________________________________

(فرع)

واما إقراض الخبز، فإن قلنا: يجوز قرض مالا يضبط بالصفة كالجواهر جاز قرض الخبز، وإن قلنا لا يجوز قرض مالا يضبط بالوصف ففى قرض الخبز وجهان

(أحدهما)

لا يجوز، وبه قال أبو حنيفة كغيره مما لا يضبط بالوصف

(والثانى)

يجوز.

قال ابن الصباغ: لاجماع أهل الامصار على ذلك، فإنهم يقترضون الخبز، فإذا قلنا.

يجوز.

فإن قلنا يجب فيما لا مثل له رد مثله في الصورة رد مثل الخبز وزنا.

وإن قلنا يجب رد قيمة مالا مثل له رد قيمة الخبز فعلى هذا إن شرط أن يرد مثل الخبز ففيه وجهان

(أحدهما)

يصح، لان الرفق باقتراض الخبز لا يحصل إلا بذلك

(والثانى)

لا يصح كما لا يجوز بيع الخبز بالخبز وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:

(فصل)

إذا أقرضه دراهم بمصر ثم لقيه بمكة فطالبه بها لزمه دفعها إليه، فان طالبه المستقرض بأن يأخذها وجب عليه أخذها لانه لا ضرر عليه في أخذها فوجب أخذها فان أقرضه طعاما بمصر فلقيه بمكة فطالبه به لم يجبر على دفعه إليه لان الطعام بمكة أغلى فان طالبه المستقرض بالاخذ لم يجبر على أخذه لان عليه مؤنة في حمله فان تراضيا جاز لان المنع لحقهما وقد رضيا جميعا، فان طالبه بقيمة الطعام بمكة أجبر على دفعها لانه بمكة كالمعدوم وماله مثل إذا عدم وجبت قيمته ويجب قيمته بمصر لانه يستحقه بمصر فان أراد أن يأخذ عن بدل القرض عوضا جاز لان ملكه عليه مستقر فجاز أخذ العوض عنه كالاعيان المستقرة وحكمه في اعتبار القبض في المجلس حكم ما يأخذه بدلا عن رأس مال السلم بعد الفسخ وقد بيناه والله أعلم.

(الشرح) قال الشافعي في الصرف: فإذا اقترض طعاما بمصر فلقيه بمكة وطالبه، لان عليه ضررا في نقل الطعام من مصر إلى مكة، ولان الطعام بمكه أكثر قيمة، وإن طالبه المستقرض بأخذه لم يلزم المقرض أخذه لان عليه مؤنة في حمله إلى مصر، وإن تراضيا على ذلك جاز لان الحق لهما، وإن طالب المقرض

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 176)

________________________________________

المستقرض بقيمة طعامه بمكة أجبر المقترض على دفع قيمة الطعام، لان الطعام بمكة كالمعدوم وماله مثل إذا عدم وجبت قيمته.

قال الشيخ أبو حامد: ويأخذ قيمة الطعام بمصر يوم المطالبة لا بمكة، لانه إنما وجب عليه دفع القيمة يوم المطالبة، وهكذا إن غصب منه طعاما بمصر، أو أسلم إليه بطعام مصر فلقيه بمكة كان الحكم فيه كالحكم في القرض، الا أن الغاصب إذا دفع القيمة للطعام بمكة، وكان الطعام باقيا لم يملكه الغاصب، بل

إذا رجع إلى مصر رد الطعام الذى غصبه واسترجع القيمة، فإذا كان في ذمته له دراهم أو دنانير من قرض أو غصب أو سلم بمصر فطالبه بقضائها في مكة وجب عليه القضاء لانه ليس لنقلها مؤنة، ولا يختلف باختلاف البلد.

(فرع)

وان اقترض من رجل شيئا وقبضه وتصرف فيه أو أتلفه ثم أراد أن يعطيه عن بدل القرض عوضا جاز لانه مستقر في الذمة، لا يخشى انتقاصه بهلاكه فجاز تصرفه فيه قبل القبض كالمبيع بعد القبض بخلاف المسلم فيه، فإنه غير مستقر يخشى انتقاصه بهلاكه، وحكمه في اعتبار القبض حكم ما يأخذ عوضا عن رأس مال السلم بعد الفسخ وقد مضى بيانه، وان كانت العين المقترضة باقية في يد المقترض فانه لا يجوز أخذ العوض عنها، لانا ان قلنا: ان المقترض قد ملكها بالقبض فلا يجوز أخذ العوض، لان ملك المقرض قد زال عن العين، ولم يستقر بدلها في ذمة المستقرض، لان للمقترض أن يرجع في العين، وان قلنا ان المقترض لا يملك العين الا بالتصرف لم يجز للمقرص أخذ بدل العين، لان ملكه عليه ضعيف بتسليط المقترض عليه.

هكذا قال ابن الصباغ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 177)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله: كتاب الرهن ويجوز الرهن على الدين في السفر لقوله عز وجل " وان كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة " ويجوز في الحضر لِمَا رَوَى أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم رهن درعا عند يهودى بالمدينة وأخذ منه شعيرا لاهله.

(الشرح) حديث أنس رواه أحمد والبخاري والنسائي وابن ماجه وبعد: - فالرهن بفتح الراء وسكون الهاء الاحتباس من قولهم: رهن الشئ إذا دام وثبت، ومنه قوله تعالى " كل نفس بما كسبت رهينة " وفى الشرع جعل مال وثيقة

على دين ليستوفى منه الدين عند تعذره ممن عليه ويطلق أيضا على العين المرهونة تسمية للمفعول به باسم المصدر، وأما الرهن بضمتين فالجمع، ويجمع أيضا على رهان بكسر الراء ككتب وكتاب، وقرئ بهما.

وقوله: عند يهودى هو أبو الشحم كما بينه الشافعي والبيهقي من طريق جعفر ابن محمد عَنْ أَبِيهِ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم رهن درعا عند أبى الشحم اليهودي رجل من بنى ظفر، في شعير " وأبو الشحم بفتح المعجمة وسكون المهملة كنيته، وظفر بفتح الظاء والفاء بطن من الاوس وكان حليفا لهم، وضبطه بعض المتأخرين بهمزة ممدودة وموحدة مكسورة اسم فاعل من الاباء وكأنه التبس عليه بآبى اللحم الصحابي.

وفى الحديث الذى روته عائشة رضى الله عنها عند البخاري ومسلم ولاحمد والنسائي وابن ماجه مثله " توفى صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودى بثلاثين صاعا من شعير " في رواية الترمذي والنسائي من هذا التوجه " بعشرين " وقال في فتح الباري: لعله كان دون الثلاثين فجبر الكسر تارة وألغى الجبر أخرى والرهن مجمع على جوازه، وفيها أيضا دليل على صحة الرهن في الحضر وهو

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 178)

________________________________________

قول الجمهور، والتقييد بالآية في السفر " وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة " خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له لدلالة الاحاديث على مشروعيته في الحضر، وايضا السفر مظنة فقد الكاتب فلا يحتاج إلى الرهن غالبا إلا فيه، وخالف مجاهد والضحاك فقالا: لا يشرع إلا في السفر حيث لا يوجد الكاتب وبه قال داود وأهل الظاهر، والاحاديث ترد عليهم.

وقال ابن حزم: إن شرط المرتهن الرهن في الحضر لم يكن له ذلك، وان تبرع به الراهن جاز، وحمل أحاديث الباب على ذلك.

قال العمرانى في البيان: دليلنا على جوازه في الحضر مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه اقترض من أبى الشحم اليهودي ثلاثين صاعا من شعير لاهله بعد ما عاد من غزوة تبوك بالمدينة، ورهن عنده درعه فكانت قيمتها أربعمائة درهم، ففى هذا الخبر فوائد (منها) جواز الرهن لان النبي صلى الله عليه وسلم رهن.

(ومنها) جواز الرهن في الحضر، لان ذلك كان بالمدينة وكانت موطن النبي صلى الله عليه وسلم.

(ومنها) أنه يجوز معاملة من في ماله حلال وحرام إذا لم يعلم عين الحلال والحرام، لان النبي صلى الله عليه وسلم عامل اليهودي، ومعلوم أن اليهود يستحلون ثمن الخمر ويربون.

(ومنها) أن الرهن لا ينفسخ بموت الراهن، لان النبي صلى الله عليه وسلم مات ودرعه مرهونة.

(ومنها) أن الابراء يصح وأن يقبل المبرأ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يعدل عن معاملة مياسير الصحابة رضى الله عنهم وأرضاهم مثل عثمان وعبد الرحمن رضى الله عنهما وأرضاهما إلا لانه كان يعلم أنه لو استقرض منهم أبروه، فلو كانت البراءة لا تصح إلا بقبول المبرأ لكان لا تقبل البراءة فعدل النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليهودي الذى يعلم أنه يطالبه بحقه، ولانه وثيقة في السفر فجازت في الحضر كالضمان والشهادة اه.

وقال ابن المنذر: لا نعلم أحدا خالف في الرهن في الحضر إلا مجاهدا قال:

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 179)

________________________________________

لبس الرهن إلا في السفر لان الله تعالى شرط السفر في الرهن.

قال الشافعي رحمه الله، بعد أن ساق قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل

مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل " وقوله تعالى " وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة " قال: فكان بينا في الآية الامر بالكتاب في الحضر والسفر، وذكر الله تبارك وتعالى الرهن إذا كانوا مسافرين ولم يجدوا كاتبا فكان معقولا - والله أعلم - فيها أنهم أمروا بالكتاب والرهن احتياطا لملك الحق بالوثيقة والمملوك عليه بأن لا ينسى ويذكر، لا أنه فرض عليهم أن يكتبوا، ولا أن يأخذوا رهنا لقول الله عز وجل " فإن أمن بعضكم بعضا " فكان معقولا أن الوثيقة في الحق في السفر والاعواز غير محرمة - والله أعلم - في الحضر وغير الاعواز، ولا بأس بالرهن في الحق الحال والدين في الحضر والسفر وما قلت من هذا مما لا أعلم فيه خلافا، ثم أورد أحاديث رهن النبي صلى الله عليه وسلم درعه عند أبى الشحم.

ثم قال: والدين حق لازم، فكل حق مما يملك، أو لزم بوجه من الوجوه جاز الرهن فيه، ولا يجوز الرهن فيما لا يلزم، فلو ادعى رجل على رجل حقا فأنكره وصالحه ورهنه به رهنا كان الرهن مفسوخا لانه لا يلزم الصلح على الانكار اه.

 

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

ولا يصح الرهن إلا من جائز التصرف في المال لانه عقد على المال فلم يصح إلا من جائز التصرف في المال كالبيع.

(الشرح) الاحكام: لا يصح الرهن إلا من جائز التصرف في المال، فأما الصبى والمجنون والمحجور عليه، فلا يصح منه الرهن لانه عقد على المال فلم يصح منهم كالبيع.

وقال الشافعي رضى الله عنه: كل من جاز بيعه من بالغ حر غير محجور عليه جاز رهنه ومن جاز له أن يرهن أو يرتهن من الاحرار فإذا جازت هبته في ماله جاز له رهنه بلا نظر، ولا يجوز أن يرتهن الاب لابنه، ولا ولى اليتيم له، إلا بما فيه فضل لهما.

ويصح الرهن بكل حق لازم في الذمة كديون

السلم، ويدل القرض، وثمن المبيعات، وقيم المتلفات، والاجرة والمهر وعوض

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 180)

________________________________________

الخلع والارش على الجاني، وأما الدية على العاقلة - فإن كان قبل الحول لم يصح لانه لم يجب عليهم شئ، وإن كان بعد حلول الحول صح

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

ويجوز أخذ الرهن على دين السلم وعوض القرض للآية والخبر، ويجوز على الثمن والاجرة والصداق وعوض الخلع ومال الصلح وأرش الجناية وغرامة المتلف، لانه دين لازم فجاز أخذ الرهن عليه كدين السلم وبدل القرض ولا يجوز أخذه على دين الكتابة لان الرهن إنما جعل ليحفظ عوض ما زال عنه ملكه من مال ومنفعة وعضو، والمعوض في الكتابة هو الرقبة، وهى باقية على ملكه لا يزول ملكه عنها إلا بالاداء فلا حاجة به إلى الرهن، ولان الرهن إنما يعقد لتوثيق الدين حتى لا يبطل، والمكاتب يملك أن يبطل الدين بالفسخ إذا شاء فلا يصح توثيقه.

فأما مال الجعالة قبل العمل ففيه وجهان

(أحدهما)

لا يجوز أخذ الرهن به لانه مال شرط في عقد لا يلزم فلا يجوز أخذ الرهن به كمال الكتابة

(والثانى)

يجوز لانه دين يؤول إلى اللزوم فجاز أخذ الرهن به كالثمن في مدة الخيار.

وأما مال السبق والرمى ففيه قولان

(أحدهما)

أنه كالاجارة فيجوز أخذ الرهن به

(والثانى)

أنه كالجعالة فيكون على الوجهين.

وأما العمل في الاجارة فانه ان كانت الاجارة على عمل الاجير فلا يجوز أخذ الرهن به، لان القصد بالرهن استيفاء الحق منه عند التعذر، وعمله لا يمكن استيفاؤه من غيره، وإن كانت الاجارة على عمل في الذمة جاز أخذ الرهن به، لانه يمكن استيفاؤه من الرهن

بأن يباع ويستأجر بثمنه من يعمل (الشرح) قال الشيخ أبو حامد: ويحكى عن بعض الناس أنه قال، لا يصح الرهن إلا في دين السلم وهو خلاف الاجماع اه قلت: قد يكون الدين في الذمة ثمنا، وقد يكون فيها مثمنا، ولانه حق ثابت في الذمة فجاز أخذ الرهن كالسلم، ويجوز أخذ الرهن بالدين الحال، لان النبي

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 181)

________________________________________

صلى الله عليه وسلم رهن درعه ببدل القرض، وهو حال ولا يصح، ولا يصح الرهن بدين الكتابة.

وقال أبو حنيفة يصح.

دليلنا أنه وثيقة يستوفى منها الحق فلم يصح في دين الكتابة كالضمان، ولان الرهن إنما جعل لكى يستوفى منه من له الحق إذا امتنع من عليه الحق وهذا لا يمكن في الكتابة، لان للكاتب أن يعجز نفسه أي وقت شاء.

ويسقط ما عليه، فلا معنى للرهن به.

وأما الرهن بمال الجعالة بأن يقول: من رد لى حصاني الجمامح فله دينار، فإن رده رجل استحق الدينار وصح أخذ الرهن به وهل يصح أخذ الرهن به قبل الرد؟ فيه وجهان.

أحدهما: لا يصح وهو اختيار أبى على الطبري والقاضى أبى الطيب لانه حق غير لازم، فهو كمال الكتابة والثانى: يصح لانه يؤول إلى اللزوم فهو كالثمن في مدة الخيار وأما مال السبق والرمى فإن كان بعد العمل صح أخذ الرهن به، وإن كان قبل العمل.

فان قلنا إنه كالاجارة صح أخذ الرهن به، وإن كان قبل العمل، فان قلنا انه كالاجارة صح أخذ الرهن به.

وان قلنا إنه كالجعالة فعلى الوجهين في الجعالة.

وأما العمل في الاجارة فهل يصح أخذ الرهن به، ينظر فيه فان كانت الاجارة على عمل الاجير بنفسه لم يصح أخذ الرهن به لانه لا يمكن استيفاء عمله من الرهن، وان كانت الاجارة على تحصيل عمل في ذمته صح أخذ الرهن به، لانه

يمكن استيفاء العمل به من الرهن لانه يباع الرهن ويستأجر منه من يعمل (فرع)

لا يصح أخذ الرهن باليمين والاجرة والصداق وعوض الخلع.

- إذا كان معينا - ولا بالعين المغصوبة ولا المعارة، ولا بالعين المأخوذة بالسوم.

وقال أبو حنيفة: كل عين كانت مضمونة بنفسها جاز أخذ الرهن بها، وأراد بذلك أن ما كان مضمونا بمثله أو قيمته جاز أخذ الرهن به، لان المبيع لا يجوز أخذ الرهن به لانه مضمون بفساد العقد، ويجوز عنده أخذ الرهن بالمهر وعوض الخلع لانه يضمن بمثله أو قيمته.

دليلنا أنه قبل هلاك العين في يده يثبت في ذمته دين فلا يصح أخذ الرهن به كالمبيع.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 182)

________________________________________

وعند أحمد ومالك مثل ما عند أبى حنيفة.

قال ابن قدامة: فإذا رهنه المضمون كالمغصوب والعارية والمقبوض في بيع فاسد أو على وجه السوم صح وزال الضمان، وبهذا قال مالك وأبو حنيفة.

اه وقال الشافعي رضى الله عنه: لا يزول الضمان ويثبت فيه حكم الرهن، والحكم الذى كان ثابتا فيه يبقى بحاله لانه لا تنافى بينهما، بدليل أنه لو تعدى في الرهن صار مضمونا ضمان الغصب، وهو رهن كما كان فكذلك ابتداؤه، لانه أحد حالتى الرهن.

قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

ويجوز عقد الرهن بعد ثبوت الدين، وهو أن يرهن بالثمن بعد البيع، وبعوض القرض بعد القرض، ويجوز عقده مع العقد على الدين، وهو أن يشترط الرهن في عقد البيع وعقد القرض، لان الحاجة تدعو إلى شرطه بعد ثبوته وحال ثبوته، فأما شرطه قبل العقد فلا يصح لان الرهن تابع للدين

فلا يجوز شرطه قبله، (الشرح) الاحكام: يجوز عقد الرهن بعد ثبوت الدين، مثل أن يقرضه شيئا أو يسلم إليه في شئ فيرهنه بذلك لانه وثيقة بالحق بعد لزومه فصح كالشهادة والضمان.

ويجوز شرط الرهن مع ثبوت الحق بأن يقول: بعتك هذا بدينار في ذمتك بشرط أن ترهننى كذا، أو أقرضك هذا بشرط أن ترهننى كذا، لان الحاجة تدعو إلى شرطه في العقد، فإذا شرط هذا الشرط لم يجب على المشترى الرهن، أي لا يجبر عليه، ولكن متى امتنع مه ثبت للبائع الخيار في فسخ البيع ولا يجوز عقد الرهن قبل ثبوت الحق.

مثل أن يقول: رهنتك هذا على عشرة دراهم تقرضنيها، أو على عشرة أبتاع بها منك.

وقال مالك وأبو حنيفة رحمهما الله تعالى: يصح دليلنا أنه وثيقة بحق فلم يجز أن يتقدم عليه كالشهادة بأن تقول: اشهدوا أن له على ألفا أقترضها منه غدا

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 183)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

ولا يجوز أخذ الرهن على الاعيان كالمغصوب والمسروق والعارية والمأخوذ على وجه السوم، لانه إن رهن على قيمتها إذا تلفت لم يصح، لانه رهن على دين قبل ثبوته، وان رهن على عينها لم يصح، لانه لا يمكن استيفاء العين من الرهن.

(الشرح) الاحكام: إن نقلت السفينة لقوم في البحر متاعا وخافوا الغرق، فقال رجل لغيره ألق متاعك في البحر وعلى ضمانه، فإن كان المتاع غير معلوم لم يصح أخذ الرهن به قبل الالقاء لانه رهن بدين قبل وجوبه، وهل يصح الضمان

به؟ فيه وجهان حكاهما الصيمري.

أحدهما: لا يصح الرهن به ولا الضمان به.

وهذا هو المشهور لان القيمة لا تجب قبل الالقاء.

والثانى: يصحان، ويمكن أن يكون للمسألة وجه ثالث: يصح الضمان ولا يصح الرهن.

وأما إذا ألقاه في البحر وجبت القيمة في ذمة المستدعى وصح أخذ الرهن بها والضمان لانها دين واجب فإذا رهنه المضمون، كالمغصوب والعارية والمقبوض في بيع فاسد أو على وجه السوم لم يصح عندنا، وعند أصحاب أحمد ومالك وأبى حنيفة صح وزال الضمان.

ولانه مأذون له في إمساكه رهنا لم يتجدد منه فيه عدوان فلم يضمنه كما لو قبضه منه ثم أقبضه إياه أو أبرأه من ضمانه، ويقولون عن التنافى بينهما انه ممنوع لان الغاصب يده عادية يجب عليه إزالتها، ويد المرتهن محقة جعلها الشرع له، ويد المرتهن يد أمانة، ويد الغاصب والمستعير ونحوهما يد ضامنة، وهم ينقضون قول الامام الشافعي رضى الله عنه في قوله " لا يزول الضمان ويثبت فيه حكم الرهن، والحكم الذى كان ثابتا فيه يبقى بحاله لانه لا تنافى بينهما، بدليل أنه لو تعدى في الرهن صار مضمونا ضمان الغصب وهو رهن كما كان، فكذلك ابتداؤه لانه أحد حالتى الرهن

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 184)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

ولا يلزم الرهن من جهة المرتهن، لان العقد لحظه، لا حظ فيه للراهن، فجاز له فسخه إذا شاء، فأما من جهة الرهن فلا يلزم إلا بقبض، والدليل عليه قوله عزوجل: فرهن مقبوضة، فوصف الرهن بالقبض، فدل على أنه لا يلزم إلا به، ولانه عقد إرفاق يفتقر إلى القبول والقبض فلم يلزم من

غير قبض كالهبة، فإن كان المرهون في يد الراهن لم يجز للمرتهن قبضه إلا بإذن الراهن.

لان للراهن أن يفسخه قبل القبض فلا يملك المرتهن إسقاط حقه من غير إذنه فان كان في يد المرتهن فقد قال في الرهن انه لا يصير مقبوضا بحكم الرهن إلا بإذن الراهن، وقال في الاقرار والمواهب إذا وهب له عينا في يده صارت مقبوضة من غير إذن، فمن أصحابنا من نقل جوابه في الرهن إلى الهبة وجوابه في الهبة إلى الرهن فجعلهما على قولين.

 

(أحدهما)

لا يفتقر واحد منهما إلى الاذن في القبض لانه لما لم يفتقر إلى نقل مستأنف لم يفتقر إلى أذن مستأنف.

 

(والثانى)

أنه يفتقر وهو الصحيح لانه عقد يفتقر لزومه إلى القبض فافتقر القبض إلى الاذن، كما لو لم تكن العين في يده، وقولهم: إنه لا يحتاج إلى نقل مستأنف لا يصح، لان النقل يراد ليصير في يده، وذلك موجود، والاذن يراد لتمييز قبض الهبة والرهن عن قبض الوديعة والغصب، وذلك لا يحصل الا بإذن، ومن أصحابنا من حمل المسئلتين على ظاهرهما، فقال في الهبة لا تفتقر إلى الاذن، وفى الرهن يفتقر، لان الهبة عقد يزيل الملك فلم يفتقر إلى الاذن لقوته والرهن لا يزيل الملك فافتقر إلى الاذن لضعفه، والصحيح هو الطريق الاول، لان هذا الفرق يبطل به إذا لم تكن العين في يده فإنه يفتقر إلى الاذن في الرهن والهبة مع ضعف أحدهما وقوة الآخر فإن عقد على عين رهنا واجارة وأذن له في القبض عن الرهن والاجارة صار مقبوضا عنهما، فان أذن له في القبض عن الاجارة دون الرهن لم يصر مقبوضا عن الرهن، لانه لم يأذن له في قبض

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 185)

________________________________________

الرهن، فإن أذن له في القبض عن الرهن دون الاجارة صار مقبوضا عنهما لانه أذن له في قبض الرهن، وقبض الاجارة لا يفتقر إلى الاذن لانه مستحق عليه

(الشرح) الاحكام، لا يلزم الرهن من جهة المرتهن بحال، بل متى ما شاء فسخه لانه عقد لحسابه أو لحظه فيجاز له إسقاطه متى شاء كالابراء من الدين.

وأما من جهة الراهن فلا يلزم قبل القبض سواء كان مشروطا في عقد أو غير مشروط، وبه قال أبو حنيفة، وقال مالك رحمه الله تعالى: يلزم من جهة الراهن بالايجاب والقبول، فمن رهن شيئا أجبر على إقباضه، وكذلك قال في الهبة.

دليلنا: قوله تعالى " وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة " فوصف الرهن بالقبض، فدل على أنه لا يكون رهنا إلا بالقبض، كما أنه وصف الرقبة المعتوقة بالاعيان ثم لا يصح على الكفارة الا عتق رقبة مؤمنة، ولانه عقد إرفاق احتراز من البيع، فانه عقد معاوضة، وقولنا: من شرطه القبول، احتراز من الوقف.

إذا ثبت هذا: فالعقود على ضربين.

ضرب لازم من الطرفين كالبيع والحوالة والاجارة والنكاح والخلع.

وضرب جائز من الطرفين كالوكالة والشركة، والمضاربة والرهن قبل القبض، والضمان، والكتابة، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:

(فصل)

وإن أذن له في قبض ما عنده لم يصر مقبوضا حتى يمضى زمان يتأتى فيه القبض، وقال في حرملة: لا يحتاج إلى ذلك كما لا يحتاج إلى نقل، والمذهب الاول، لان القبض انما يحصل بالاستيفاء أو التمكين من الاستيفاء، ولهذا لو أستأجر دارا لم يحصل له القبض في منافعها الا بالاستيفاء، أو بمضي زمان يتأتى فيه الاستيفاء فكذلك ههنا، فعلى هذا ان كان المرهون حاضرا فبأن يمضى زمان لو أراد أن ينقله أمكنه ذلك، وان كان غائبا، فبأن يمضى هو أو وكيله ويشاهده ثم يمضى من الزمان ما يتمكن فيه من القبض، وقال أبو إسحاق:

ان كان مما ينتقل كالحيوان لم يصر مقبوضا الا بأن يمضى إليه لانه يجوز أن يكون

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 186)

________________________________________

قد انتقل من المكان الذى كان فيه فلا يمكنه أن يقدر الزمان الذى يمكن المضى فيه إليه من موضع الاذن إلى موضع القبض، فأما ما لا ينتقل فانه لا يحتاج إلى المضى إليه بل يكفى أن يمضى زمان لو أراد أن يمضى ويقبض أمكنه، ومن أصحابنا من قال: إن أخبره ثقة أنه باق على صفته ومضى زمان يتأتى فيه القبض صار مقبوضا، كما لو رآه وكيله ومضى زمان يتأتى فيه القبض، والمنصوص هو الاول وما قال أبو إسحاق لا يصح لانه كما يجوز أن ينتقل الحيوان من مكان إلى مكان فلا يتحقق زمان الامكان ففى غير الحيوان يجوز أن يكون قد أخذ أو هلك، وما قال القائل الآخر من خبر الثقة لا يصح، لانه يجوز أن يكون بعد رؤية الثقة حدث عليه حادث فلا يتحقق امكان القبض ويخالف الوكيل، فإنه قائم مقامه فقام حضوره مقام حضوره، والثقة بخلافه.

(الشرح) الاحكام، ان عقد الرهن على عين في يد الراهن لم يجز للمرتهن قبضها الا بإذن الراهن، لان للراهن أن يفسخ الرهن مثل القبض فلم يجز للمرتهن اسقاط حقه من ذلك بغير اذنه.

وان كانت العين المرهونة في يد المرتهن وديعة أو عارية فان الرهن يصح، لانه إذا صح عقد الرهن على ما في يد الراهن، فلان يصح على ما بيد المرتهن للراهن أولى.

(الشرح) فأما القبض فيها فقد قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ فِي بَابِ مَا يتم به الرهن من القبض فلما كان معقولا أن الرهن غير مملوك الرقبة للمرتهن ملك البيع، ولا مملوك المنفعة له ملك الاجارة لم يجز أن يكون رهنا الا بما أجازه الله عز وجل به من أن يكون مقبوضا.

وإذا لم يجز فللراهن ما لم يقبضه المرتهن منه منعه منه، وكذلك لو أذن له في قبضه فلم يقبضه المرتهن حتى رجع الراهن في الرهن كان ذلك له لما

وصفت من أنه لا يكون رهنا الا بأن يكون مقبوضا، وكذلك ما لم يتم الا بأمرين فليس يتم بأحدهما دون الآخر مثل الهبات التى لا تجوز الا مقبوضة وما في معناها، ولو مات الراهن قبل أن يقبض المرتهن الرهن كان المرتهن والغرماء فيه أسوة سواء اه.

وقال فيما يكون قبضا في الرهن: وإذا أقر الراهن أن المرتهن قد قبض الرهن

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 187)

________________________________________

وادعى ذلك المرتهن حكم له بأن الرهن تام باقرار الراهن ودعوى المرتهن.

ولو كان الرهن في الشقص غائبا فأقر الراهن أن المرتهن قد قبض الرهن وادعى ذلك المرتهن أجزت الاقرار، لانه قد يقبض له وهو غائب عنه فيكون قد قبضه بقبض من أمره بقبضه له.

اه وقال أيضا " إذا وهب له عينا في يد الموهوب له فقبلها تمت الهبة ولم يعتبر الاذن بالقبض " واختلف أصحابنا فيها عَلَى ثَلَاثَةِ طُرُقٍ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يلزم واحد منهما الا بالقبض ولا يصح قبضهما الا بالاذن، وما قال الشافعي رحمه الله في الهبة، فأراد إذا أذن، وأضمر ذلك، وصرح به في الرهن.

ومنهم من نقل جواب كل واحدة منهما إلى الاخرى وخرجهما على قولين.

أحدهما: لا يفتقر واحد منهما إلى الاذن بالقبض، ولانه لما لم يفتقر إلى اذن مستأنف لم يفتقر إلى اذن.

والثانى: يفتقر إلى الاذن.

قال المصنف: وهو الصحيح.

قلت: لانه قبض يلزمه به عقد غير لازم فلم يحصل الا باذن، كما لو كانت العين في يد الراهن.

ومنهم من حمل المسئلتين على ظاهرهما، فقال في الهبة.

لا يفتقر إلى الاذن بالقبض فيها، وفى الرهن لابد من الاذن بالقبض فيه، لان الهبة عقد اقوى يزيل الملك، فلم يفتقر إلى الاذن فيها، والرهن عقد ضعيف لا يزيل الملك فافتقر

إلى الاذن بالقبض فيه.

إذا ثبت هذا: فرهنه ما عنده فانه لا يحتاج إلى نقله بلا خلاف على المذهب، وهل يحتاج إلى الاذن بالقبض على الطرق المذكورة وسواء قلنا: يفتقر إلى الاذن فلابد من مضى مدة يتباين فيها القبض في مثله ان كان مما ينتقل فيمضى زمان يمكنه نقله، وان كان مما يخلى بينه وبينه فيمضى زمان يمكنه التخلية فيه.

قال الشيخ أبو حامد: وحكى عن حرملة نفسه أنه قال: لا يحتاج إلى مضى مدة، بل يكفيه العقد والاذن، إذا قلنا: انه شرط إلى العقد لا غير - إذا قلنا ان الاذن ليس بشرط - لان يده ثابتة عليه، فلا معنى لاعتبار زمان ابتداء القبض، وهذا غلط، لان القبض لا يحصل الا بالفعل أو بالامكان، ولم يوجد

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 188)

________________________________________

واحد منهما، فعل هذا إن كان المرهون معه في المجلس أو بقربه وهو يراه أو يعلم به فإن القبض فيه مضى مدة لو قبضه فيها أمكنه، وإن كان الرهن في صندوق في البيت وهو في البيت وتحقق كونه فيه فقبضه أن بمضي مدة لو أراد أن يقوم إلى الصندوق ويقبضه أمكنه، وإن كان الرهن غائبا عن المجلس بأن يكون في البيت والمرتهن في المسجد أو السوق، فنقل المزني عن الشافعي رحمه الله أنه لا يصير مقبوضا حتى يصير المرتهن إلى منزله والرهن فيه، فقال المصنف: هذا فيما يزول بنفسه مثل العبد أو البهيمة، فأما ما لا يزول بنفسه مثل الثوب والدار فلا يحتاج إلى أن يصير إلى منزله، ويكفى أن يأتي عليه زمان يمكنه القبض فيه قال القاضى أبو الطيب: وقد نص الشافعي على مثل ذلك في الام، لان ما يزول بنفسه لا يعلم مكانه، وأما الشيخ أبو حامد فقال غلط أبو إسحاق، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْأُمِّ عَلَى أنه لا فرق بين الحيوان وغيره.

ولانه يجوز أن يحدث على غير الحيوان التلف من سرقة أو حريق أو غرق فهو بمنزلة الحيوان

وحكى المصنف أن من أصحابنا من قال أخبره ثقة بأنه باق على صفته بمضي زمان يتأتى فيه القبض، وليس بشئ لانه يجوز أن يكون قد تلف بعد رؤية الثقة.

قال الشافعي رحمه الله: لا يكون القبض إلا ما حضره المرتهن أو وكيله.

قال أصحابنا: هذا الكلام يحتمل تأويلين:

(أحدهما)

أن هذه مسألة مبتدأة، أي أن القبض لا يحصل في الرهن إلا أن يقبضه المرتهن أو وكيله، يقصد بهذا بينان جواز الوكالة في القبض لان القبض هو نقله من يد الراهن إلى يد المرتهن، وهو لا يوجد إلا بحضور المرتهن أو وكيله، وقد فرع الشافعي رحمه الله على هذا في الام أن المرتهن لو وكل الراهن في قبض الرهن له من نفسه لم يصح لانه لا يجوز أن يكون وكيلا لغيره على نفسه في القبض.

والتأويل الثاني أن هذا عطف على المسألة المتقدمة إذا رهنه وديعة عنده غائبة عنه فلا يكون مقبوضا حتى يرجع المرتهن أو وكيله ويشاهدها.

قالوا وهذا أشبه لانه اعتبر مجرد الحضور لا غير، وانما يكفى ذلك فيما كان عنده، وأما ما كان في يد المرتهن فلابد من النقل فيه.

والله أعلم

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 189)

________________________________________

(فرع)

إذا أذن الراهن للمرتهن في قبض الرهن ومضت مدة يتأتى فيها القبض صار مقبوضا عن الرهن ولا يزول عن الغاصب ضمان النصب إلا بالرهن يسلمه إلى المغصوب منه عن الضمان في أحد الوجهين.

وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد والمزنى رحمهم الله تعالى: يزول ضمان الغصب عن المرتهن دليلنا: أنه لم يتخلل بين الغصب والرهن أكثر من عقد الرهن وقبضه.

والرهن لا ينافى الغصب لانهما قد يجتمعان، بأن يرتهن عينا ويتعدى فيها، فإن ارتهن عارية في يده وأذن له في قبضها عن الرهن صح وكان له الانتفاع بها

لان الرهن لا ينافى ذلك، ويكون ضمان العارية باقيا عليه، فإن منعه المعير من الانتفاع فهل يزول عن المستعير الضمان؟ فيه وجهان:

(أحدهما)

يزول لانها خرجت عن أن تكون عارية

(والثانى)

لا يزول عنه الضمان لان يده لم تزل، وإن أودعها المعير عند المستعير، والمغصوب منه عند الغاصب، فهل يزول عنه الضمان، فيه وجهان

(أحدهما)

لا يزول عنه الضمان لبقاء يده

(والثانى)

يزول لان الايداع ينافى الغصب والعارية وقال الشافعي: والقبض في العبد والثوب مما يحول يأخذه مرتهنه من يد راهنه، وقبض مالا يحول من أرض أو دار أن يسأله بلا حامل.

وهذا كما قال: القبض في الرهن كالقبض في البيع، فإذا رهنه ما ينقل مثل الدراهم والثياب فقبضها كان له أن يتناولها وينقلها من مكان إلى مكان.

وكذلك إذا رهنه بهيمة فقبضها له أن يسوقها أو يقودها من مكان إلى مكان، وكذلك صبرة جزافا أو مكيالا من صبرة وقبضه بالكيل، وإن رهنه مالا ينقل كالارض والدكان والدار فالقبض فيها أن يزيل الراهن يده عنها بأن يخرج منها ويسلمها إلى المرتهن ولا حائل بينه وبينها، فإن كانا في الدار وخرج الراهن منها صح القبض.

وقال أبو حنيفة لا يصح حتى يخلى بينه وبينها بعد خروجه منها، لانه إذا كان في الدار فيده عليها فلا تصح التخلية، وهذا ليس بصحيح لان التخلية تحصل بقوله وبرفعه يده عنها ألا ترى أن بخروجه من الدار لا تزول يده عنها، وبدخول دار غيره لا تثبت يده عليها، ولانه بخروجه محقق لقوله، فلا معنى لاعادة التخلية، هكذا ذكره ابن الصباغ، وان خلى بينه وبين الدار وفيها قماش للراهن صح التسليم في الدار فقط

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 190)

________________________________________

وقال أبو حنيفة: لا لانها مشغولة بملك الراهن، وكذلك يقال في دابة عليها حمل، لو رهنه الحمل دون الدابة وهو عليها صح، لان كل ما كان قبضا في

البيع كان قبضا في الرهن.

وقال أبو حنيفة: إذا رهنه سرج دابة ولجامها وسلمها بذلك لم يصح القبض، وهذا يناقض قوله في الحمل (فرع)

ولو أمر الراهن وكيله ليقبض المرتهن فأقبضه وكيله جاز.

قال الصيمري: ولو قال الراهن للمرتهن وكل عنى رجلا لقبضك أو ليقبض وكيلك عنى جاز، ولو أمر الراهن وكيله ليقبض المرتهن فأقبض وكيله جاز (فرع)

قال الشافعي، والاقرار بقبض الرهن جائز إلا فيما لا يمكن في مثله اه (قلت) وهذا كما إذا أقرا بزمان أو مكان لا يمكن صدقهما فيه، كأن زعما أنهما تراهنا دارا بيافا وهما في القاهرة ويافا في يد اليهود لم يصح، أما إذا أقرا أنهما تراهنا دارا اليوم بأسوان وهما في القاهرة وأمكن انتقالهما بالطائرة وعودتهما صح وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

 

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:

(فصل)

وان أذن له في القبض ثم رجع لم يجز أن يقبض لان الاذن قد زال فعاد كما لو لم يأذن له، وإن أذن له ثم جن أو أغمى عليه لم يجز أن يقبضه لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الاذن ويكون الاذن في القبض إلى من ينظر في ماله، فان رهن شيئا ثم تصرف فيه قبل أن يقبضه نظرت فان باعه أو جعله مهرا في نكاح أو أجرة في إجارة أو وهبه وأقبضه أو رهنه وأقبضه أو كان عبدا فكاتبه أو أعتقه انفسخ الرهن، لان هذه التصرفات تمنع الرهن فانفسخ بها الرهن، فان دبره فالمنصوص في الام أنه رجوع.

وقال الربيع فيه قول آخر أنه لا يكون رجوعا.

وهذا من تخريجه، ووجهه أنه يمكن الرجوع في التدبير، فإذا دبره أمكنه أن يرجع فيه فيقبضه في الرهن ويبيعه في الدين.

والصحيح هو الاول، لان المقصود بالتدبير هو العتق، وذلك ينافى الرهن، فجعل رجوعا كالبيع والكتابة، فان رهن ولم يقبض، أو وهب

ولم يقبض كان ذلك رجوعا على المنصوص، لان المقصود منه ينافى الرهن.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 191)

________________________________________

وعلى تخريج الربيع لا يكون رجوعا لانه يمكنه الرجوع فيه.

وان كان المرهون جارية فزوجها لم يكن ذلك رجوعا لان التزويج لا يمنع الرهن فلا يكون رجوعا في الرهن وإن كان دارا فأجرها نظرت، فإن كانت الاجارة إلى مدة تنقضي قبل محل الدين لم يكن رجوعا لانها لا تمنع البيع عند المحل، فلم ينفسخ بها كالتزويج، وإن كانت إلى مدة يحل الدين قبل انقضائها، فإن قلنا إن المستأجر يجوز بيعه لم يكن رجوعا لانه لا يمنع البيع عند المحل، وإن قلنا لا يجوز بيعه كان رجوعا لانه تصرف ينافى مقتضى الرهن فجعل رجوعا كالبيع.

(الشرح) الاحكام: إن رهن عينا وأذن له بقبضها فقبل أن يقبضها المرتهن رجع الراهن عن الاذن لم يكن للمرتهن قبضها، لانه إنما يقبضها بإذن الراهن وقد بطل إذنه برجوعه، وإن رهنه شيئا ثم جن الراهن أو أغمى عليه أو أفلس أو حجر عليه لم يصح إقباضه الراهن ولا يكون للمرتهن قبضه لانه لا يصح قبضه إلا باذن الراهن، وقد خَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْإِذْنِ.

وكذلك إذا أذن له في القبض فقبل أن يقبض طرأ على الراهن الجنون أو العمى أو الحجر بطل إذنه بذلك ولا يبطل الرهن بذلك.

إذا ثبت ما ذكرناه فان الولى على المجنون والمغمى عليه ينظر فان كان الحظ باقباض الرهن مثل أن يكون شرطاه في بيع يستضير بفسخه وما أشبه ذلك أقبضه عنهما، وان كان الحظ في تركه لم يقبضه، وان كان للمحجور عليه غرماء غير المرتهن قال ابن الصباغ: لم يجز للحاكم تسليم الرهن إلى من رهنه عنده قبل الحجر لانه ليس له أن يبتدئ عقد الرهن في هذه الحالة، فكذلك تسليم الرهن.

(فرع)

وان رهن عنده غيره رهنا ثم تصرف فيه الراهن قبل القبض نظرت

فان باعه أو أصدقه أو جعله عوضا أو رهنه وأقبضه، أو كان عبدا فأعتقه أو كاتبه بطل عقد الرهن لانه يملك فسخ الرهن قبل القبض فجعلت هذه التصرفات اختيارا منه للفسخ، فان كانت أمة فزوجها أو عبدا فزوجه لم يبطل الرهن لان التزويج لا ينافى الرهن، ولهذا يصح رهن الامة المزوجة والعبد المزوج، وان أجرا الرهن، فان قلنا يجوز بيع المستأجر لم ينفسخ الرهن بالاجارة، وان قلنا

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 192)

________________________________________

لا يجوز بيع المستأجر، فان كانت مدة الاجارة تنقضي قبل حلول الدين لم ينفسخ الرهن.

وإن كان الدين يحل قبل انقضاء مدة الاجارة انفسخ الرهن بها، وإن دبر الراهن العبد المرهون فالمنصوص أن الرهن ينفسخ (فرع)

استدامة القبض في الرهن ليس بشرط في الرهن.

وقال أبو حنيفة ومالك: الاستدامة شرط فيه.

دليلنا أنه عقد يعتبر فيه القبض فلم تكن استدامته شرطا كالهبة مع أبى حنيفة والقرض مع مالك قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

وإن مات أحد المتراهنين فقد قال في الرهن: إذا مات المرتهن لم ينفسخ.

وقال في التفليس: إذا مات الراهن لم يكن للمرتهن قبض الرهن، فمن أصحابنا من جعل ما قال في التفليس قولا آخر أن الرهن ينفسخ بموت الراهن، ونقل جوابه فيه إلى المرتهن، وجوابه في المرتهن إليه، وجعلهما على قولين.

أحدهما ينفسخ بموتهما لانه عقد لا يلزم بحال، فانفسخ بموت العاقد، كالوكالة والشركة.

والثانى لا ينفسخ لانه عقد يؤول إلى اللزوم فلم ينفسخ بالموت كالبيع في مدة الخيار.

ومنهم من قال يبطل بموت الراهن ولا يبطل بموت المرتهن، لان بموت الراهن يحل الدين ويتعلق بالتركة، فلا حاجة إلى بقاء الرهن، وبموت المرتهن

لا يحل الدين، فالحاجة باقية إلى بقاء الرهن.

ومنهم من قال لا يبطل بموت واحد منهما قولا واحدا، لانه إذا لم يبطل بموت المرتهن على ما نص عليه والعقد غير لازم في حقه بحال، فلان لا يبطل بموت الراهن والعقد لازم له بعد القبض أولى، وما قال في التفليس لا حجة فيه لانه لم يرد أن الرهن ينفسخ، وانما أراد أنه إذا مات الراهن لم يكن للمرتهن قبض الرهن من غير اذن الورثة (الشرح) الاحكام: وان عقد الرهن ثم مات أحد المتراهنين قبل القبض فقد نص الشافعي أن الرهن لا ينفسخ بموت المرتهن بل الراهن بالخيار بين أن

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 193)

________________________________________

يقبض ورثة المرتهن ولا يقبضهم.

وحكى الداركى أن الشافعي رحمه الله قال في موضع آخر: إن الرهن ينفسخ بموت الراهن قبل التسليم واختلف أصحابنا في المسألة على ثلاثة طرق، فمنهم من نقل جوابه في كل واحدة منهما إلى الاخرى وخرجهما على قولين

(أحدهما)

ينفسخ بموت أحدهما لانه عقد جائز فبطل بالموت كالوكالة والشركة.

 

(والثانى)

لا ينفسخ بموت واحد منهما لانه عقد يئول إلى اللزوم فلم ينفسخ بالموت كالبيع بشرط الخيار.

ومنهم من قال: ينفسخ بموت الراهن ولا ينفسخ بموت المرتهن، لان بموت الراهن يحل الدين المؤجل عليه، فإذا كان عليه دين غير دين المرتهن كان للمرتهن أسوة الغرماء، ولا يجوز للورثة تخصيص المرتهن بالرهن، وان لم يكن عليه دين غير المرهون به فقد تعلق بجميع التركة، فلا وجه لتسليم الرهن به.

وليس كذلك المرتهن، فإن ماله من الدين لا يحل بموته فالحاجة باقية إلى

الاستيثاق بالرهن.

ومن أصحابنا من قال: لا يبطل الرهن بموت واحد منهما قولا واحدا، لان الرهن إذا لم ينفسخ بموت المرتهن والعقد لا يلزم من جهته بحال، فلان لا يبطل بموت الراهن - والعقد قد يلزم من جهته - بعد القبض أولى.

وأنكر الشيخ أبو حامد ما حكاه الداركى وقال: بل كلام الشافعي رحمه الله يدل أن الرهن لا ينفسخ بموت الراهن لانه قال في الام: وإذا رهن عند رجل شيئا ثم مات الراهن قبل أن يقبض الرهن، فإن كان عليه دين كان أسوة الغرماء وان لم يكن عليه دين فوارثه بالخيار بين أن يقض الرهن المرتهن أو يبقيه، وإن مات أحدهما بعد القبض لم ينفسخ الرهن بلا خلاف، ويقوم وارث كل واحد منهما مقامه لان الرهن لازم جهة من الراهن والعقد اللازم لا يبطل بالموت كالبيع والاجارة.

والله أعلم

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 194)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

وإن كتب إليه وهو غائب أقرضتك هذا، أو كتب إليه بالبيع ففيه وجهان:

(أحدهما)

ينعقد لان الحاجة مع الغيبة داعية إلى الكتابة

(والثانى)

لا ينعقد لانه قادر على النطق فلا ينعقد عقده بالكتابة، كما لو كتب وهو حاضر.

وقول القائل الاول ان الحاجة داعية إلى الكتابة لا يصح لانه يمكنه أن يوكل من يعقد العقد بالقول (الشرح) الاحكام: إن كتب إليه وهو غائب إلى آخر الصورة التى حكاها المصنف في انعقاد القرض وصحته وجهان، أصحهما ينعقد، لاننا قلنا في الفصل

قبله: ويمكن انعقاده بما يؤدى معنى ذلك، ولانه عقد ارفاق وقربة.

قال ابن قدامة: والشرع لا يرد بتحريم المصالح التى لا مضرة فيها، بل بمشروعيتها، ولان هذا ليس بمنصوص على تحريمه، ولا في معنى المنصوص فوجب الابقاء على الاباحة.

قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

ولا يثبت فيه خيار المجلس وخيار الشرط، لان الخيار يراد للفسخ، وفى القرض يجوز لكل واحد منهما أن يفسخ إذا شاء، فلا معنى لخيار مجلس وخيار الشرط، ولا يجوز شرط الاجل فيه لان الاجل يقتضى جزءا من العوض والقرض لا يحتمل الزيادة والنقصان في عوضه فلا يجوز شرط الاجل فيه ويجوز شرط الرهن فِيهِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رهن درعه على شعير أخذه لاهله، ويجوز أخذ الضمين فيه لانه وثيقه فجاز في القرض كالرهن.

(الشرح) الحديث رواه أحمد والبخاري والنسائي وابن ماجه عن أنس.

أما الاحكام فإنه لا يثبت في القرض خيار المجلس ولا خيار الشرط، لان الخيار

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 195)

________________________________________

إقباض الباقية وبين منعها، وإن كان بعد القبض للاخرى فقد لزم الرهن فيها، ولو تلفت احداهما بعد فلا خيار للبائع إذا كان الرهن مشروطا ببيع، لان الرهن لو تلف كله لم يكن له خيار، فإذا تلف بعضه أولى.

دليلنا أنه مال محبوس بحق فوجب أن يكون محبوسا بالحق وبكل جزء منه كما لو مات وخلف تركة ودينا عليه، فان التركة محبوسة بالدين وبكل جزء منه، ولانه وثيقه بحق فكان وثيقة بالحق وبكل جزء منه كالشهادة والضمان، فإذا قضى الراهن الدين أو أبرأه منه المرتهن - والرهن في يد المرتهن بقى في يده أمانة.

وقال أبو حنيفة: إن قضاه الرهن كان الرهن مضمونا على المرتهن، وإن أبرأه المرتهن أو وهبه ثم تلف الرهن في يده لم يضمنه استحسانا لان البراءة والرهن لا يقتضى الضمان وكان هذا منا منه لان القبض المضمون عنده لم يحول ولم يبرئه منه قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

ولا ينفك من الرهن شئ حتى يبرأ الراهن من جميع الدين لانه وثيقة محضة، فكان وثيقة بالدين وبكل جزء منه، كالشهادة والضمان، فان رهن اثنان عند رجل عينا بينهما بدين له عليهما فبرئ أحدهما، أو رهن رجل عند اثنين عينا بدين عليه لهما فبرئ من دين أحدهما انفك نصف العين من الرهن، لان الصفقة إذا حصل في أحد شطريها عاقدان فهما عقدان، فلا يقف الفكاك في أحدهما على الفكاك في الآخر، كما لو فرق بين العقدين، وإن أراد الراهنان في المسألة الاولى أن يقتسما أو الراهن في المسألة الثانية أن يقاسم المرتهن الذى لم يبرأ من دينه نظرت، فان كان مما لا ينقص قيمته بالقسمة كالحبوب جاز ذلك من غير رضا المرتهن، وإن كان مما ينقص قيمته ففيه وجهان.

 

(أحدهما)

لا يجوز من غير رضا المرتهن، لانه يدخل عليه بالقسمة ضرر فلم يجز من غير رضاه

(والثانى)

يجوز لان المرهون عنده نصف العين فلا يملك الاعتراض على المالك فيما لا حق له فيه.

(الشرح) الاحكام: إن أسلم في طعام فأخذ به رهنا ثم تقايلا عقد السلم برئ المسلم إليه من الطعام ووجب عليه رد رأس مال المسلم، وبطل الرهن لان

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 196)

________________________________________

الدين الذى ارتهن به قد بطل، ولا يكون له حبس الرهن إلى أن يأخذ رأس المال لانه لم يرهنه به، وإن اقترض منه ألفا ورهنه بها رهنا ثم أخذ المقرض بالالف عينا سقطت الالف عن ذمة المقترض وبطل الرهن، وإن تلفت العين في

يد المقترض قبل أن يقبضها المقرض انفسخ القضاء وعاد الرهن والقرض لانه متعلق به وقد عاد.

قال الشيخ أبو حامد: وإن باع من رجل كر (١) طعام بألف درهم إلى أجل وأخذ بالثمن رهنا فإذا حل الاجل أو كان حالا فللبائع أن يأخذ منه بدل الثمن دنانير، فإذا أخذها انفسخ الرهن، وان تفرقا قبل القبض بطل القضاء، وعاد الثمن إلى ذمة المشترى، ويعود الرهن لان الرهن من حق ذلك الثمن فسقط بسقوطه فإذا عاد الثمن عاد بحقه، وان ابتاع منه مائة دينار بألف درهم في ذمته ودفع عن الدراهم رهنا صح، فان تقابضا في المجلس صح الصرف، وانفك الرهن، وان تفرقا من غير قبض بطل الصرف والرهن.

(فرع)

وان كان للرجل على رجلين دين فرهناه ملكا بينهما مشاعا جاز، كما لو باعا ذلك منه، فإذا أقضاه أحدهما ما عليه له أو أبرأ المرتهن أحدهما انفك نصف الرهن، لان الصفقة إذا حصل في أحد شطريها عاقدان فهما عقدان فلا يقف الفكاك في أحدهما على الفكاك في الآخر، فان طلب من انفك نصيبه القسمة نظرت، فان كان الرهن مما لا تتساوى أجزاؤه كالثياب والحيوان أو كانا دارين فأراد من انفك نصيبه أن يجعل كل دار سهما لم يجز ذلك من غير اذن المرتهن، لان ذلك منافلة، والرهن يمنع من ذلك.

وان كان الرهن مما يتساوى أجزاؤه كالطعام فله مطالبته بقسمته لانه لا ضرر على المرتهن بذلك، وهكذا إذا كانت الارض متساوية الاجزاء فهى كالطعام وان كان الرهن تنقص قيمته بالقسمة كالحجرة الواحدة، إذا قسمتها نصفين أو الشقة إلى شقتين فهل للمرتهن أن يمتنع؟ فيه وجهان.

أحدهما: له أن يمتنع لان

________________________________________

(١) الكر واحد الاكرار ما يخزن فيه القمح ومنه قول العامة عن غرفة في البيت فيها مخزونه من الطعام (غرفة الكرار) وصوابه السكر أو الاكرار.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 197)

________________________________________

الضرر يدخل عليه بذلك

(والثانى)

ليس له أن يمتنع لان المرهون عنده النصف فلا يملك الاعتراض على المالك فيما لا حق له فيه.

وهذا نقل البغداديين من أصحابنا.

وقال المسعودي: إن قلنا إن القسمة قدر النصيبين جازت القسمة، وإن قلنا إنها بيع لم يجز، وإن رهن رجل ملكا له عند رجلين بدين لهما عليه فقضى أحدهما دينه أو أبرأه أحدهما عن دينه انفك نصف الرهن، لان في أحد شطرى الصفقة عاقدين فهما كالعقدين، والحكم في القسمة ما مضى

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

وإذا قبض المرتهن الرهن ثم وجد به عيبا كان قبل القبض نظرت فإن كان في رهن عقد بعد عقد البيع لم يثبت له الخيار في فسخ البيع، وان كان في رهن شرط في البيع فهو بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ وَبَيْنَ أَنْ يمضيه، لانه دخل في البيع بشرط أن يسلم له الرهن، فإذا لم يسلم له ثبت له الخيار، فإن لم يعلم بالعيت حتى هلك الرهن عنده أو حدث به عيب عنده لم يملك الفسخ، لانه لا يمكنه رد العين على الصفة التى أخذ، فسقط حقه من الفسخ كما قلنا في المبيع إذا هلك عند المشترى أو حدث به عيب عنده، ولا يثبت له الارش، لان الارش بدل عين الجزء الفائت، ولو فات الرهن بالهلاك لم يجب بدله، فإذا فات بعضه لم يجب بدله.

والله أعلم (الشرح) الاحكام، إذا قبض المرتهن الرهن ثم وجد به عيبا كان موجودا في يد الراهن نظرت فان كان الرهن غير مشروط في عقد البيع فلا خيار في فسخ البيع لان الراهن متطوع بالرهن، فان كان الرهن مشروطا في عقد البيع ثبت للبائع الخيار في فسخ البيع، لانه لم يسلم له الشرط، وان لم يعلم بالعيب حتى هلك الرهن عنده أو حدث به عنده عيب لم يثبت له الخيار لانه لا يمكنه رد الرهن كما أخذ،

ولا يثبت له أرش العيب كما ثبت للمشترى أرش العيب، والفرق بينهما أن المبيع يجبر البائع على إقباضه فأجبر على دفع الارش، والراهن لا يجبر على إقباض الرهن فلم يجبر على دفع الارش

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 198)

________________________________________

وبهذا قال أحمد وأصحابه وابن المنذر.

ولان المبيع لو تلف جميعه في يد البائع قبل التسليم لوجب عليه ضمانه بالثمن.

وها هنا لو تلف الرهن في يد الراهن قبل التسليم لم يجب عليه بدله.

ولانا لو قلنا لا أرش للمشترى لاسقطنا حقه، وها هنا لا يسقط حق المرتهن لان حقه في ذمة الراهن، قال الشيخ أبو حامد: فلو باعه شيئا بشرط أن يرهنه عبدين فرهنهما عنده وأقبضه أحدهما وتلف عند المرتهن وامتنع الراهن من إقباض الثاني أو تلف في يد الراهن لم يكن للمرتهن الخيار في فسخ البيع لانه لا يمكن رد العبد الذى قبض فيمضى البيع بلا رهن، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:

* (بَابُ مَا يجوز رهنه وما لا يجوز)

* ما لا يجوز بيعه كالوقف وأم الولد، والكلب والخنزير لا يجوز رهنه، لان المقصود من الرهن أن يباع ويستوفى الحق منه، وهذا لا يوجد فيما لا يجوز بيعه فلم يصح رهنه.

(الشرح) الاحكام: كل عين جاز بيعها جاز رهنها لان مقصود الرهن الاستيثاق بالدين للتوصل إلى استيفائه من ثمن الرهن، إن تعذر استيفاؤه من ذمة الراهن، وهذا يتحقق في كل عين جاز بيعها، ولان ما كان محلا للبيع كان محلا لحكمة الرهن، ومحل الشئ محل لحكمته إلا أن يمنع مانع من ثبوته، أو

يفوت شرط فينتفى الحكم لانتفائه كالمشاع، فإنه استثنى من هذه القاعدة فيجوز رهن المشاع لذلك.

وبه قال ابن أبى ليلى ومالك والبتى والاوزاعي وسوار والعنبري وأبو ثور، وقال أصحاب الرأى: لا يصح الا أن يرهنها من شريكه أو يرهنها الشريكان من رجل واحد، لانه عقد تخلف عنه مقصوده لمعنى اتصل به فلم يصح كما لو تزوج أخته من الرضاع ولنا أنها عين يجوز بيعها في محل الحق فيصح رهنها كالمفرزة، ولا نسلم أن مقصوده الحبس بل مقصوده استيفاء الدين من ثمنه عند تعذره من غيره، والمشاع

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 199)

________________________________________

قابل لذلك، والغريب أن أصحاب الرأى يمنعون هذا ويجيزون رهن القاتل والمرتد والمغصوب ورهن ملك غيره بغير إذنه من غير ولاية قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

وما يسرع إليه الفساد من الاطعمة والفواكه الرطبة التى لا يمكن استصلاحها، يجوز رهنه بالدين الحال والمؤجل الذى يحل قبل فساده، لانه يمكن بيعه واستيفاء الحق من ثمنه، فأما ما رهنه بدين مؤجل إلى وقت يفسد قبل محله فإنه ينظر فيه، فإن شرط أن يبيعه إذا خاف عليه الفساد جاز رهنه، وإن أطلق ففيه قولان:

(أحدهما)

لا يصح وهو الصحيح، لانه لا يمكن بيعه بالدين في محله فلم يجز رهنه كأم الولد.

 

(والثانى)

يصح.

وإذا خيف عليه أجبر على بيعه ويجعل ثمنه رهنا، لان مطلق العقد يحمل على المتعارف ويصير كالمشروط.

والمتعارف فيما يفسد أن يباع قبل فساده، فيصير كما لو شرط ذلك، ولو شرط ذلك جاز رهنه، فكذلك إذا أطلق، فإن رهن ثمرة يسرع إليها الفساد مع الشجر ففيه طَرِيقَانِ، مِنْ أَصْحَابِنَا

مِنْ قَالَ فِيهِ قَوْلَانِ، كما لو أفرده بالعقد، ومنهم من قال يصح قولا واحدا لانه تابع للشجر، فإذا هلكت الثمرة بقيت الشجرة (الشرح) الاحكام: ان رهنه شيئا رطبا يسرع إليه الفساد، فإن كان مما يمكن تجفيفه كالرطب والعنب صح رهنه ووجب على الراهن مئونة تجفيفه، كما يجب عليه مئونة حفظه وعلف الحيوان، فان احتاج إلى ثلاجة ليحفظ فيها كان على الراهن استهلاك الثلاجة من الثلج أو الكهرباء، وان كان مما لا يمكن تجفيفه أو حفظه في الثلاجات نظرت فان رهنه بحق حال أو مؤجل قبل فساده صح الرهن لان الغرض يحصل بذلك وان شرط الراهن أن لا يباع الا بعد حلول الحق لم يصح الرهن لانه يتلف ولا يحصل المقصود، وان أطلقا ذلك ففيه قولان

(أحدهما)

يصح الرهن، فإذا خيف عليه الفساد بيع وجعل ثمنه رهنا: لان العقد يبنى على عرف الناس،

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 200)

________________________________________

وفى عرفهم أن المالك لا يترك من ماله ما يخلف عليه الفساد ليفسد

(والثانى)

لا يصح الرهن وهو الصحيح.

قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

وان علق عتق عبد على صفة توجد قبل محل الدين لم يجز رهنه، لانه لا يمكن بيعه في الدين.

وقال أبو على الطبري رحمه الله: إذا قلنا يجوز رهن ما يسرع إليه الفساد جاز رهنه، وان علق عتقه على صفة يجوز أن توجد قبل محل الدين، ويجوز أن لا توجد، ففيه قولان

(أحدهما)

يصح لان الاصل بقاء العقد وامكان البيع، ووقوع العتق قبل محل الدين مشكوك فيه، فلا يمنع صحة الرهن كجواز الموت في الحيوان المرهون

(والثانى)

لا يصح لانه قد توجد الصفة قبل محل الدين فلا يمكن بيعه، وذلك غرر من غير حاجة، فمنع صحة الرهن.

(الشرح) الاحكام، ان علق عتق عبده على صفة ثم رهنه ففيه ثلاث مسائل (الاولى) إذا قال " إذا جاء رأس الشهر فأنت حر، وكان قد رهنه بحق حال أو مؤجل قبل مجئ رأس الشهر فيصح الرهن قولا واحدا، لانه يمكن استيفاء الحق من ثمنه.

(الثانية) أن يرهنه بحق مؤجل توجد الصفة قبله، فقد قال عامة أصحابنا لا يصح قولا واحدا.

وقال أبو على الطبري فيه قولان، كرهن ما يسرع إليه الفساد، والصحيح هو الاول، لان الطعام الرطب الظاهر من جهة الراهن بيعه إذا خيف عليه الفساد وجعل ثمنه رهنا، والظاهر ممن علق عتق عبده على صفة أنه أراد ايقاع العتق بذلك (الثالثة) إذا علق عتقه على صفة يجوز أن توجد قبل محل الدين، ويجوز أن يحل الدين قبلها، بأن يقول إذا قدم زيد فأنت حر.

وإذا دخلت الدار أو كلمت زيدا فأنت حر، فهل يصح رهنه ها هنا بعد ذلك؟ فيه قولان

(أحدهما)

يصح الرهن لان وقوع العتق قبل محل الدين مشكوك فيه

(والثانى)

لا يصح، لان الصفة قد توجد قبل محل الدين فيبطل الرهن، وَذَلِكَ غَرَرٌ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ فَلَمْ يَجُزْ، هذا قول عامة أصحابنا.

وقال أبو على في الافصاح لا يصح رهنه قولا واحدا لانه عقد الرهن على غرر.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 201)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

واختلف أصحابنا في المدبر.

فمنهم من قال: لا يجوز رهنه قولا واحدا، لانه قد يموت المولى فجأة فيعتق فلا يمكن بيعه، وذلك غرر من غير حاجة، فمنع صحه الرهن.

ومنهم من قال: يجوز قولا واحدا لانه يجوز بيعه فجاز رهنه كالعبد القن.

ومنهم من قال.

فيه قولان، بناء على القولين في أن التدبير

وصية أو عتق بصفة، فان قلنا: إنه وصية جاز رهنه، لانه يجوز الرجوع فيه بالقول، فجعل الرهن رجوعا.

وان قلنا: إنه عتق بصفة لم يجز رهنه، لانه لا يجوز الرجوع فيه بالقول، وإنما يجوز الرجوع فيه بتصرف يزيل الملك، والرهن لا يزيل الملك.

قال أبو إسحاق، إذا قلنا: إنه يصح رهنه فحل الحق وقضى سقط حكم الرهن وبقى العبد على تدبيره، وإن لم يقض قيل له: أترجع في التدبير؟ فان اختار الرجوع بيع العبد في الرهن، وإن لم يختر فإن كان له مال غيره قضى منه الدين، ويبقى العبد على التدبير، وان لم يكن له مال غيره ففيه وجهان.

 

(أحدهما)

أنه يحكم بفساد الرهن، لانا إنما صححنا الرهن لانا قلنا لعله يقضى الدين من غيره أو يرجع في التدبير، فإذا لم يفعل حكمنا بفساد الرهن

(والثانى)

أنه يباع في الدين وهو الصحيح، لانا حكمنا بصحة الرهن، ومن حكم الرهن أن يباع في الدين وما سوى ذلك من الاموال كالعقار والحيوان وسائر ما يباع يجوز رهنه، لانه يحصل به مقصود الرهن وما جاز رهنه جاز رهن البعض منه مشاعا، لان المشاع كالمقسوم في جواز البيع، فكان كالمقسوم في جواز الرهن، فإن كان بين رجلين دار فرهن أحدهما نصيبه من بيت بغير إذن شريكه ففيه وجهان.

 

(أحدهما)

يصح كما يصح بيعه

(والثانى)

لا يصح لان فيه إضرارا بالشريك بأن يقتسما فيقع هذا البيت في حصته فيكون بعضه رهنا.

(الشرح) الاحكام: قال الشافعي رحمه الله " ولو دبره ثم رهنه كان الرهن مفسوخا " وجملة ذلك أنه إذا قال لعبده إذا مت فأنت حر ثم رهنه بعد.

فاختلف

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 202)

________________________________________

أصحابنا في صحة الرهن على ثلاث طرق، فمنهم من قال: إن قلنا.

إن التدبير وصية صح الرهن وبطل التدبير، لان الوصية يجوز فيها بالقول،

فجعل الرهن رجوعا.

وإن قلنا: إن التدبير عتق بصفة لم يصح، لانه لا يصح الرجوع فيه، الا بتصرف يزيل الملك، قالوا: وقول الشافعي: كان الرهن مفسوخا أراد على هذا القول، ومنهم من قال: لا يصح الرهن قولا واحدا، وعليه يدل ظاهر قوله في الام، لانه قال: إذا دبر عبده ثم رهنه كان الرهن مفسوخا، ولو قال: كنت رجعت قبل الرهن عن التدبير فهل يصح الرهن فيه قولان، وهذا نص في أنه لا يصح الرهن قبل الرجوع قولا واحدا، ولانا - وان قلنا: ان التدبير وصية - الا أنه أقوى من الوصية بدليل أنه يتحرر بالموت من غير قبول بخلاف الوصية ومنهم من قال: يصح الرهن قولا واحدا، ولا يبطل التدبير، لان الشافعي رحمه الله قال: كل ما جاز بيعه جاز رهنه كالمدبر يجوز بيعه قولا واحدا فكذلك رهنه.

قال ابن الصباغ: والطريقة الاولى أصح، والثانية: ظاهر كالامة، والثالثة: مخالفة للنص والقياس.

فإذا قلنا: بالطريقة الاولى، وأن الرهن يصح - إذا قلنا، ان التدبير وصية - فان التدبير يبطل، وهو اختيار المزني، فان قضى الحق من غيره فلا كلام ولم يعتق العبد بالموت الا بتدبير ثان أو عتق، وان لم يقضه من غيره بيع العبد بالموت الا بتدبير ثان أو عتق، وان لم يقضه من غيره بيع العبد في الدين، وان قلنا بالطريقة الثانية أن الرهن صحيح والتدبير صحيح نظرت، فان حل الحق وقضى الحق من غير الرهن بقى العبد في الدين، وان لم يختر الرجوع فيه، فان كان له مال غير العبد أجبر على قضاء الدين وبقى العبد على التدبير، وان لم يكن له مال غيره ففيه وجهان من أصحابنا من قال: يحكم بفساد الرهن، لانا انما صححنا الرهن رجاء أن أن يرجع في التدبير فيباع، وتأول قول الشافعي " كان الرهن مفسوخا " على هذا للموضع، ومنهم من قال: يباع في الدين، وهو الصحيح.

لانه إذا حكمنا بصحة

الرهن لم يتعقبه الفساد بامتناع الراهن، ومن حكم الرهن أن يباع في الدين.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 203)

________________________________________

(فرع)

وان رهن عبده ثم دبره فان دبره قبل أن يقبض كان فسخا للرهن على المنصوص، وعلى تخريج الربيع لا يكون فسخا له، وقد مضى ذكره، وان أقبضه ثم دبره قال الشافعي رحمه الله أوقفت التدبير، فان حل الحق وقضى الدين من غير الرهن خرج العبد من الرهن وكان مدبرا، وإن لم يقضه من غيره - وان باعه - صح وبطل التدبير، وإن لم يختر الرجوع في التدبير - فإن كان له مال غيره - أجبر على قضائه منه وبقى العبد على التدبير، وإن لم يكن له مال غير العبد بيع في الدين وبطل التدبير، وان مات الراهن قبل قضاء الدين فقد حل الدين بموته، وان خلف تركة تفى بالدين عن العبد قضى الدين منها وعتق العبد من ثلث ما بقى، وان لم يكن له مال غيره، فان كان الدين يستغرق قيمته بيع العبد في الدين، وان كانت قيمته أكثر من الدين بيع منه بقدر الدين، وعتق ثلث ما بقى بالتدبير، فإن أجازه الورثة عتق باقيه.

(مسألة) وما صح رهنه صح رهن جزء منه مشاعا سواء كان مما ينقسم كالدور والارضين، أو مما لا ينقسم كالجواهر، وسواء رهنه من شريكه أو من غيره وقد مضى تفصيل الخلاف فيه والرد على أبى حنيفة وأصحاب الرأى في أول الباب فراجعه وتتمة القول: ان كان بين رجلين عمارة فيها شقق فرهن أحدهما نصيبه من شقة من غير شريكه فإن كان بإذن شريكه صح الرهن، وان كان بغير اذنه ففيه وجهان.

 

(أحدهما)

يصح كما يصح بيعه

(والثانى)

لا يصح، لان في ذلك ضررا على الشريك لانهما قد يقتسمان فتقع هذه الشقة في حق شريكه فيكون قد رهن ملك غيره بغير اذنه بخلاف البيع، فإنه إذا باع زال ملكه فيه، ولا يملك المقاسمة

على ما باع.

إذا ثبت هذا: ورهن سهما مشاعا في عين بينه وبين غيره - فإن كان مما لا ينقل - فإن الراهن يخلى بينه وبين المرتهن سواء حضر الشريك أو لم يحضر، وان كان مما ينقل كالجواهر والبضائع والدواب وما أشبهها فان القبض لا يحصل الا بالنقل، ولا يمكنه تناولها الا باذن الشريك، فان رضى الشريك تناولها،

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 204)

________________________________________

وإن امتنع - فإن رضى المرتهن أن يكون في يد الشريك - جاز، وناب عنه في القبض، وان تنازعا فإن الحاكم ينصب عدلا، وهو ما يسمى في العرف الحاضر حارسا أمينا يكون في يده لهما، وان كان مما له أجرة ومنفعة (رسوم أتعاب) كانت عليهما.

 

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

ولا يجوز رهن مال الغير بغير اذنه: لانه لا يقدر على تسليمه ولا على بيعه في الدين، فلم يجز رهنه، كالطير الطائر والعبد الآبق، فان كان في يده مال لمن يرثه وهو يظن أنه حى فباعه أو رهنه، ثم بان أنه قد مات قبل العقد.

فالمنصوص أن العقد باطل لانه عقد، وهو لاعب فلم يصح.

ومن أصحابنا من قال يصح لانه صادف ملكه فأشبه إذا عقد وهو يعلم أنه ميت (الشرح) سبق للنووي رحمه الله أن أخذ على المصنف تعريفه لغير بالالف واللام، فكان الاصح ثم الافصح أن يقول " مال غيره " وان كان سلفنا السبكى رحمه الله تعالى تجوز في استعمالها في شوطه في التكملة.

أما الاحكام فانه لا يجوز رهن مال غيره بغير اذنه لانه لا يقدر على تسليمه، فهو كما لو رهنه سمكة في البحر، وان كان في يده مال لمن يرثه فباعه أو رهنه قبل أن يعلم بموته ثم بان أنه كان قد مات قبل البيع والرهن ففيه وجهان

 

(أحدهما)

وهو المنصوص أنه لا يصح، لانه باع ورهن مالا يعتقده ملكه فكان متلاعبا في ذلك فلم يصح

(والثانى)

يصح لانه بان أنه ملكه، قال الشيخ أبو حامد.

وهكذا لو وكل رجلا يشترى له شيئا بعينه فباعه الموكل أو رهنه قبل الشراء وقال بعتك هذا الشئ ان كان لى فبان أنه كان له، وان كان له مال في صندوق وقد رآه المرتهن فرهنه أو باعه وهو لا يتحقق كونه فيه، ثم بان أنه كان فيه، فعلى الوجهين المنصوص أنه لا يصح.

(فرع)

وان رهنه سكنى دار لم يصح، لان الدين ان كان مؤجلا فالمنافع تتلف إلى وقت الحلول، وان كان الدين حالا لم يحصل الاستيثاق، والرهن لا يلزم

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 205)

________________________________________

إلا بالقبض، والقبض لا يمكن في السكنى إلا بإتلافه، فكأنه رهنه مالا يمكنه إقباضه، فإن قال أردت به إن أجرتها كانت الاجرة رهنا لم يصح أيضا لانه لا يدرى بكم يؤاجرها فكان باطلا، أما في المساكن التى تحددت أجرتها بأوامر السلطات والحكام طبقا لقواعد المثلية أو نفقات البناء أو غير ذلك من مراعاة العدل بين الناس، فقد تعين للمرتهن قدر إجارتها، فصح أن تكون الاجرة من قيمة الرهن.

وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:

(فصل)

وان رهن مبيعا لم يقبضه نظرت، فان رهنه قبل أن ينقد ثمنه لم يصح الرهن لانه محبوس بالثمن فلا يملك رهنه كالمرهون، فان رهنه بعد نقد الثمن ففيه وجهان

(أحدهما)

لا يصح، لانه عقد يفتقر إلى القبض فلم يصح في المبيع قبل القبض كالبيع

(والثانى)

يصح، وهو المذهب، لان الرهن لا يقتضى الضمان فجاز فيما لم يدخل في ضمانه بخلاف البيع

(الشرح) الاحكام: ان اشترى عينا فرهنها قبل أن يقبضها - فان كان قبل أن يدفع الثمن لم يصح الرهن لانها مرهونة بالثمن.

وكذلك ان رهنها بثمنها لم يصح لانها قد صارت مرهونة به، وإن نقد الثمن ثم رهنها ففيه وجهان

(أحدهما)

لا يصح لان عقد الرهن يفتقر إلى القبض فلم يصح من المبيع قبل القبض، كما لو باعه وفيه احتراز من العتق والتزويج.

 

(والثانى)

يصح، وهو الصحيح لان الرهن لا يقتضى الضمان على المرتهن فصح فيما لم يدخل في ضمانه بخلاف البيع.

 

قال المصنف رحمه الله تعالى

(فصل)

وفى رهن الدين وجهان

(أحدهما)

يجوز، لانه يجوز بيعه فجاز رهنه كالعين

(والثانى)

لا يجوز لانه لا يدرى هل يعطيه أم لا، وذلك غرر من غير حاجة فمنع صحة العقد.

(الشرح) الاحكام، وفى بيع الدين المستقر وهبته ورهنه من غير من هو عليه ثلاثة أوجه (أحدها) لا يصح واحد منها، لانه غير مقدور على تسليمه

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 206)

________________________________________

فلم يصح كالسمك في الماء

(والثانى)

يصح الجميع منها وهو اختيار ابن الصباغ، لان الذمم تجرى مجرى الاعيان، ألا ترى أنه يصح أن يشترى بثمن في ذمته ويبيع فيها، كما يجوز أن يشترى الاعيان ويبيعها، الا أن البيع لا يفتقر لزومه إلى القبض.

وفى الهبة والرهن لا يلزمان من غير قبض، ولا يصح الرهن لان البيع والهبة يصحان، ويلزمان من غير قبض، ولا يصح الرهن لان البيع والهبة تمليك فجرى مجرى الحوالة بخلاف الرهن.

 

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

ولا يجوز رهن المرهون من غير إذن المرتهن، لان ما استحق

يعقد لازم لا يجوز أن يعقد عليه مثله من غير اذن من له الحق، كبيع ما باعه، وإجارة ما أجره، وهل يجوز رهنه بدين آخر عند المرتهن؟ ففيه قولان.

قال في القديم " يجوز " وهو اختيار المزني.

لانه إذا جاز أن يكون مرهونا بألف ثم يصير مرهونا بخمسمائة جاز أن يكون مرهونا بخمسمائة، ثم يصير مرهونا بألف.

وقال في الجديد: لا يجوز لانه رهن مستحق بدين، فلا يجوز رهنه بغيره، كما لو رهنه عند غير المرتهن، فإن جنى العبد المرهون ففداه المرتهن، وشرط على الراهن أن يكون رهنا بالدين والارش، فَفِيهِ طَرِيقَانِ، مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ هُوَ على القولين، ومنهم من قال يصح ذلك قولا واحدا، والفرق بين الارش وبين سائر الديون أن الارش متعلق بالرقبة، فإذا رهنه به فقد علق بالرقبة ما كان متعلقا بها، وغيره لم يكن متعلقا بالرقبة فلم يجز رهنه به، ولان في الرهن بالارش مصلحة للراهن في حفظ ماله، وللمرتهن في حفظ وثيقته، وليس في رهنه بدين آخر مصلحة، ويجوز للمصلحة ما لا يجوز لغيرها، والدليل عليه أنه يجوز أن يفتدى العبد بقيمته في الجناية ليبقى عليه، وان كان لا يجوز أن يشترى ماله بماله.

(الشرح) الاحكام، إذا رهن عبدا عند رجل وأقبضه إياه فقبضه ثم رهنه الراهن عند آخر بغير إذن الاول لم يصح الرهن الثاني.

لان ما استحق بعقد لازم لا يجوز أن يعقد عليه مثله من غير إذن من له الحق، كما لو باع عينا من زيد

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 207)

________________________________________

ولزم البيع ثم باعها من عمرو، فقوله بعقد لازم احتراز من الرهن قبل القبض، ومن إعارة ما أعاره وقوله " لا يجوز أن يعقد عليه مثله " احتراز من عقد الاجارة على الرهن، فإنه يصح بغير إذن المرتهن.

وقوله: من غير إذن من له الحق، لان المرتهن

لو أذن في رهنه من غيره صح، وان رهن رجلا عبدا بألف درهم ثم رهنه عنده بألف أخرى ففيه قولان.

قال في القديم " يصح " وبه قال مالك وأبو يوسف رحمهم الله تعالى، لانه لما جاز أن يزيد في الحق الواحد رهنا آخر جاز أيضا أن يرهن الرهن الواحد بحق آخر.

ولان الرهن وثيقة كالضمان، فلما جاز أن يضمن من غيره حقا ثم يضمن عنه حقا جاز في الرهن مثله.

وقال في الجديد " لا يصح " وبه قال أبو حنيفة لانه رهن لازم بدين آخر، كما لو رهنه عند غيره، وفيه احتراز من رهنه قبل القبض، فعلى هذا إذا كان أراد أن يرهنه بألفين فسخ الاول ثم يرهنه بالالفين، فإن رهنه بألف ثم رهنه بألف وأقر أنه رهنه بألفين كان كالاقرار صحيحا في الظاهر والباطن على القديم.

وأما على الجديد فيكون رهنا بالالفين حكما ظاهرا.

وأما في الباطن فلا يكون الامر مرهونا بألف، فإن ادعى المقر أنه رهنه بألف ثم رهنه بألف، وادعى المقر له أنه رهنه بهما معا فالقول قول المقر له مع يمينه، لان الظاهر صحة الاقرار.

وإن شهد شاهدان على عقد الرهنين ثم أرادا أن يقيما الشهادة، فان كانا يعتقدان صحة القول الجديد شهدا أنه رهنه بألف ثم رهنه بألف، فان كانا يعتقدان صحة القول القديم ففيه وجهان

(أحدهما)

يجوز أن يشهدا أنه رهنه بألفين، ويطلقا ذلك، لانهما يعتقدان صحة ما يشهدان به

(والثانى)

لا يجوز أن يشهدا الا على ما وقع عليه العقدان، لان الاجتهاد في ذلك إلى الحاكم قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

وفى رهن العبد الجاني قولان.

واختلف أصحابنا في موضع القولين على ثلاث طرق، فمنهم من قال القولان في العمد، فأما في جناية الخطأ فلا يجوز

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 208)

________________________________________

قَوْلًا وَاحِدًا.

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْقَوْلَانِ فِي جناية الخطأ، فأما في جناية العمد فيجوز قَوْلًا وَاحِدًا.

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْقَوْلَانِ فِي الجميع، وقد بينا وجوههما في البيع

(فصل)

ولا يجوز رهن ما لا يقدر على تسليمه كالعبد الآبق والطير الطائر، لانه لا يمكن تسليمه ولا بيعه في الدين فلم يصح رهنه

(فصل)

وما لا يجوز بيعه من المجهول لا يجوز رهنه، لان الصفات مقصودة في الرهن للوفاء بالدين كما أنها مقصودة في البيع للوفاء بالثمن، فإذا لم يجز بيع المجهول وجب أن لا يجوز رهن المجهول (الشرح) في رهن العبد الجاني قولان وفى موضع القولين ثلاث طرق مضى ذكر ذلك في البيع، ولا يجوز رهن ما لا يقدر على تسليمه كالطير الطائر والعبد الآبق، ولا رهن عبد من عبد كما لا يجوز بيع ذلك (فرع)

إذا قال رهنتك هذا الصندوق بما فيه، أو هذا البيت بما فيه، أو هذه الحقيبة بما فيها فقد نص الشافعي رحمه الله في الام أن الرهن لا يصح بما في هذه الاشياء، قال الشيخ أبو حامد: وهل يصح الرهن في الحق بضم الحاء المهملة.

والبيت والجراب والخريطة، فيه قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، وان قال: رهنتك هذا الحق دون ما فيه.

وهذا البيت دون ما فيه، أو هذا الجراب دون ما فيه، أو هذه الخريطة دون ما فيها صح الرهن في هذه الاشياء دون ما فيها.

وإن قال رهنتك هذا الحق أو هذا البيت أو هذا الجراب أو هذه الخريطة ولم يقل دون ما فيه ولا بما فيه، فنص الشافعي رحمه الله أن الرهن يصح في البيت والحق والجراب، ولا يصح في الخريطة، والخريطة وعاء من أدم وغيره تشرج على ما فيها كما في الصحاح، وفى ديارنا يسمى أهل الريف كيسا خشن النسج يطوونه على فلوسهم خريطة.

قال لان الحق والبيت والجراب لها قيمة تقصد في

العادة.

والخريطة ليس لها قيمة مقصودة في العادة، وانما المقصود ما فيها.

قال الشيخ أبو حامد: ولاصحابنا في هذا تخليط.

ومنصوص الشافعي رحمه الله ما ذكرته.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 209)

________________________________________

(فرع)

قال الشافعي رحمه الله: وإن رهنه أرضا من أرض الخراج فالرهن مفسوخ، لانها غير مملوكة، واختلف أصحابنا في تأويل هذا فقال أبو سعيد الاصطخرى أراد الشافعي رحمه الله بذلك سواد العراق، وذلك أن أمير المؤمنين عمر (رض) افتتحها وأخرجها من أيدى المجوس وقسمها بين الناس واستغلوها سنتين أو ثلاثا، ثم رأى أنهم قد اشتغلوا بالارض عن الجهاد فسألهم أن يردوها عليه فمنهم من طابت نفسه بالرد بغير عوض، ومنهم من لم يطيب نفسا إلا بعوض ثم وقفها أمير المؤمنين على المسلمين وأجرها ممن هي في يده على كل نوع من الغلات أجرة معلومه لا إلى غاية، فعلى هذا لا يجوز بيعها أو رهنها، وهذا ظاهر النص وقال أبو العباس بن سريج: لما استردها أمير المؤمنين من المسلمين باعها ممن هي في يده، وجعل منها جعلا هو الخراج الذى يؤخذ منهم، فيجوز بيعها ورهنها لان الناس من وقت أمير المؤمنين إلى وقتنا هذا يبيعونها ويبتاعونها من غير منكر.

وأما قول الشافعي رحمه الله فمحمول عليه لو أوقف الامام أرضا وضرب عليها الخراج، فإن قيل فهذا الذى قلتموه في فعل أمير المؤمنين من التأويلين جميعا لا يصح على مذهب الشافعي ولا غيره، ولان الاجارة لا تجوز إلى غير مدة معلومة ولا بأجرة غير معلومة، وكذلك البيع لا يجوز إلى أجل غير معلوم، ولا بثمن غير معلوم.

فالجواب أن هذا انما لا يصح إذا كانت المعاملة في أموال المسلمين، فأما إذا كانت في أملاك المشركين فيصح، ألا ترى أن رجلا لو قال من جاء بعبدي الآبق

فإن له عبدا وثوبا وهما غير موصوفين لم يكن هذا جعلا صحيحا، ولو قال الامام من دلنا على القلعة الفلانية فله منها جارية كان جعلا صحيحا اه.

فإن كان في الخراج بناء أو غراس، فان كان محدثا في أرض الخراج من غيرها صح بيعه ورهنه مفردا، وان باعه أو رهنه مع أرض الخراج - وقلنا لا يصح بيعها ورهنها بطل في الارض، وهل يصح في البناء والغراس؟ فيه قَوْلَانِ، بِنَاءً عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، وقد مضى ذكر ذلك، وان كان البناء والغراس من أرض الخراج لم يصح بيعه ورهنه.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 210)

________________________________________

وقال الشافعي رحمه الله: فان أدى عنه الخراج كان متطوعا لا يرجع به إلا أن يكون دفع بأمره فيرجع، وهذا كما قال: إذا رهن أرضا من أرض الخراج وأجرها فان الخراج الذى يجب في الارض يجب على راهن الارض الذى رهنها وأجرها، فان دفع المرتهن أو المستأجر الخراج الواجب فيها نظرت، فان كان بغير أمر من وجب عليه أو قضى الدين عن غيره بغير اذنه لم يرجع عليه بشئ.

وقال مالك رحمه الله: يرجع عليه.

دليلنا: أنه متطوع بالدفع عنه فلم يرجع بشئ كما لو وهبه شيئا، وان قضى باذنه وشرط عليه البدل.

والثانى.

لا يرجع عليه بشئ وهو اختيار ابن الصباغ لان الشافعي رحمه الله قال: ولو دفع ثوبا إلى قصار فقصره لا أجرة له لانه لم يشرطها له، ولانه لم يشرط الرجوع فلم يرجع عليه بشئ كما لو وهبه شيئا، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:

(فصل)

وفى رهن الثمرة قبل بدو الصلاح من غير شرط القطع قولان.

 

(أحدهما)

لا يصح لانه عقد لا يصح فيما لا يقدر على تسليمه فلم يجز في الثمرة

قبل بدو الصلاح من غير شرط القطع كالبيع.

 

(والثانى)

أنه يصح لانه ان كان بدين حال فمقتضاه أن تؤخذ فتباع فيأمن أن تهلك بالعاهة وان كان بدين مؤجل فتلفت الثمرة لم يسقط دينه وانما تبطل وثيقته والغرر في بطلان الوثيقة مع بقاء الدين قليل فجاز بخلاف البيع فان العادة فيه أن يترك إلى أوان الجذاذ فلا يأمن أن يهلك بعاهة فيذهب الثمن ولا يحصل المبيع فيعظم الضرر فلم يجز من غير شرط القطع.

(الشرح) الاحكام: إذا رهنه نخلا وعليها طلع مؤبر لم يرهنه الثمرة صح الرهن في النخل دون الثمرة لانه لو باعه نخلا عليها طلع مؤبر، ولم يرهنه الثمرة صح الرهن في النخل دون الثمرة، لانه لو باعه نخلا عليها طلع مؤبر، ولم يشترط دخوله في البيع لم يدخل، فكذلك في الرهن، وان كان عليها طلع غير مؤبر،

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 211)

________________________________________

ولم يشترط دخوله في الرهن ولا خروجه من الرهن فهل يدخل الطلع في الرهن المنصوص أنه لا يدخل.

قال الربيع وفيه قول آخر أنه يدخل كالبيع، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: فِيهِ قَوْلَانِ.

 

(أَحَدُهُمَا)

يدخل في الرهن كما قلنا في البيع

(والثانى)

لا يدخل وهو الصحيح كما لا تدخل الثمرة الحادثة بعد الرهن، ومنهم من قال.

لا يدخل قولا واحدا وهو اختيار أبى حامد لما ذكرناه.

وقال أبو حنيفة: تدخل الثمرة في الرهن بكل حال بخلاف قوله في البيع، وهذا ليس بصحيح، لان البيع أقوى من الرهن، فإذا لم تدخل الثمرة في البيع، فلان لا تدخل في الرهن أولى.

وان قال.

رهنتك النخل والثمرة صح، سواء كان قبل التأبير أو بعده كما قلنا في البيع، ثم ينظر فيه، فإذا رهن ذلك بحق حال أو بمؤجل يحل قبل ادراك

الثمرة أو مع ادراكها صح ذلك، لانه لا يمكن استيفاء الحق منها، وان كان الحق مؤجلا لا يحل الا بعد ادراك الثمرة نظرت في الثمرة، فان كان مما يمكن استصلاحها وتجفيفها كالتمر والزبيب صح ذلك، ولزم الراهن مؤنة تجفيفها، وان كانت ثمرة لا يمكن تجفيفها كالتفاح والكمثرى، فمن أصحابنا من قال.

فيه قولان كما قلنا في رهن ما يسرع إليه الفساد، ومنهم من قال.

يصح الرهن قولا واحدا لان الثمرة تابعة للاصول فصح رهنها كما يجوز بيع الثمرة التى يبدو صلاحها مع الاصول، ولا يجوز بيعها مفردة.

فإذا قلنا.

يبطل الرهن في الثمرة فهل يبطل في الاصول، يبنى على القولين في تفريق الصفقة، وقد مضى ذكره، وان رهنه الثمرة مفردة، فان كان بعد بدو صلاحها فهو بمنزلة رهن الاشياء الرطبة، وقد مضى ذكره، وان كان قبل بدو صلاحها سواء كانت قد أبرت أو لم تؤبر - فان كان الدين حالا وشرط القطع صح الرهن، كما يصح البيع، وان لم يشرط القطع ففيه قولان، أحدهما لا يصح الرهن كما لا يصح البيع.

والثانى يصح الرهن، لان رهنه بالدين الحال يوجب القطع، وصار كما لو شرط القطع، وان رهنها بدين مؤجل، فان كان بشرط القطع فقد قال ابن الصباغ كان بمنزلة رهن البقول والفواكه.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 212)

________________________________________

وذهب أصحاب أحمد إلى صحة الرهن في الثمرة دون الاصول قبل بدو صلاحها من غير شرط القطع، وكذلك الزرع الاخضر وهو اختيار القاضى منهم وذكره ابن قدامة.

قال أصحابنا، أطلق جواب ذلك.

وإن رهنها مطلقا ففيه ثلاثة أقوال، (أحدها) لا يصح الرهن كما لا يصح البيع

(والثانى)

يصح، لان البيع إنما لم يصح لما فيه من الغرر، وليس في الرهن غرر، لانه يتلف إن تلف مال

صاحبه (والثالث) نقله المزني إن شرط القطع عند حلول الاجل صح.

وإن أطلق لم يصح.

إذا أن الاطلاق يوجب بقاءه إلى حال الجذاذ.

وذلك تأخير للدين عن محله.

هذا ترتيب ابن الصباغ كما حكاه العمرانى في البيان.

وأما الشيخ أبو حامد فذكر أنها على القولين الاولين شرط القطع أو لم شرط

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

وإن كان له أصول تحمل في السنة مرة بعد أخرى كالتين والقثاء فرهن الحمل الظاهر، فان كان بدين يستحق فيه بيع الرهن قبل أن يحدث الحمل الثاني ويختلط به جاز لانه يأمن الغرر بالاختلاط، وإن كان بدين لا يستحق البيع فيه إلا بعد حدوث الحمل الثاني واختلاطه به نظرت فإن شرط أنه إذا خيف الاختلاط قطعه جاز لانه منع الغرر بشرط القطع.

وإن لم يشترط القطع ففيه قولان

(أحدهما)

أن العقد باطل لانه يختلط بالمرهون غيره فلا يمكن إمضاء العقد على مقتضاه

(والثانى)

أنه صحيح لانه يمكن الفصل عند الاختلاط بأن يسمح الراهن بترك تمرته للمرتهن أو ينظر كم كان المرهون فيحلف عليه ويأخذ ما زاد فإذا أمكن إمضاء العقد لم يحكم ببطلانه (الشرح) إذا رهن ثمرة شجر يحمل في السنة حملين لا يتميز أحدهما من الآخر فرهن الثمرة الاولى إلى محل تحدث الثانية على وجه لا يتميز فالرهن باطل.

ومثال ذلك النباتات الزاحفة، وهى التى يمتد شجرها على الارض كالباذنجان والقثاء والخيار والدباء والبطيخ، وإذا كانت شجرة تحمل في السنة

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 213)

________________________________________

حملين فرهن الشجرة والحمل الاول أو رهن الحمل الاول منفردا نظرت، فإن كان بحق حال أو بمؤجل يحل قبل حدوث الثمرة الثانية صح الرهن، وكذلك ان رهنه بحق مؤجل لا يحل إلا بعد حدوث الثانية إلا أنهما اشترطا أنه إذا خيف اختلاط

الثانية بالاولى قطعت الاولى، أو كانت الثانية إذا اختلطت بالاولى تميزت عنها، فان الرهن صحيح، لان الرهن لا يختلط بغيره، وان رهنه بحق مؤجل لا يحل الا بعد حدوث الثانية ولا يتميز احداهما عن الاخرى فذكر أبو حامد وابن الصباغ أن الرهن لا يصح، لانه لا يمكن استيفاء الحق من الرهن لانه يختلط بغيره فيصير مجهولا.

وذكر المصنف أنها على قولين " أحدهما " لا يصح الرهن لما ذكرناه " والثانى " يصح لانه يمكن الفصل عند الاختلاط بأن يسمح الراهن بترك الثمرة للمرتهن، أو ينظر كم كان المرهون فيحلف عليه، فلم يحكم ببطلان الرهن، قال الشيخ أبو حامد: فإذا رهنه لحق حال فتوانى في قطع الثمرة الاولى حتى حدثت الثانية، واختلطت ولم تتميز ففيه قولان " أحدهما " يبطل الرهن، لان الرهن قد صار مجهولا، لاختلاطه بما ليس برهن " والثانى " لا يبطل لانه كان معلوما عند العقد، وعند حلول الحق فلا يبطل بالجهالة الحادثة، فإذا قلنا يبطل فلا كلام، وإذا قلنا لا يبطل، قلنا للراهن أتسمح بترك الثمرة الثانيه لتكون رهنا.

فان سمح فلا كلام، وان لم يسمح، فان اتفقوا على قدر الاولى فلا كلام، وان اختلفا في قدر الاولى فالقول قول الراهن مع يمينه في قدر الاولى، وسواء كانت الثمرة في يده أو في يد المرتهن اه وقال المزني: إن كانت الثمرة في يد المرتهن فالقول قوله مع يمينه.

قال العمرانى، وهذا غلط لانهما اتفقا على أن الحادثة ملك الراهن، وانما يختلفان في قدر المرهون منهما، فكان القول قول الراهن مع يمنه لانه مدعى عليه.

(فرع)

وإذا رهنه ثمرة قال الشافعي رحمه الله تعالى: على الراهن سقيها وصلاحها وجذاذها وتشميسها، كما يكون عليه نفقة العبد.

وقال في موضع آخر ليس عليه تشميسها.

قال أصحابنا: ليس التشميس على قولين، وإنما هو على اختلاف حالين،

فالموضع الذى قال عليه التشميس إذا بلغت الثمرة أو ان الجذاذ قبل حلول الحق،

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 214)

________________________________________

والذى قال ليس عليه التشميس إذا كان الحق قد حل مع تكامل صلاح الثمرة لانها تباع في الحق، وليس لاحدهما أن يطالب بقطعها قبل أو ان قطعها إلا برضى الآخر، لان على كل واحد منهما ضررا بقطعها قبل وقت قطعها فلم يجز ذلك من غير رضاهما.

 

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

ويجوز أن يرهن الجارية دون ولدها لان الرهن لا يزيل الملك فلا يؤدى إلى التفريق بينهما، فان حل الدين ولم يقضه بيعت الام والولد ويقسم الثمن عليهما فما قابل الام تعلق به حق المرتهن في قضاء دينه وما قابل الولد يكون للراهن لا يتعلق به حق المرتهن.

(الشرح) الاحكام: إذا رهن الجارية ولها ولد صغير من زوج، أو زنا ولم يرهن الولد معها صح الرهن، لان الرهن لا يزيل الملك فلا يكون فيه تفرقة بينهما فإذا حل الحق فان قضى الراهن الدين من غير الرهن انفسخ الرهن، وان لم يقضه وكان الولد صغيرا يومئذ بيعت الجارية والولد، لانه لا يجوز التفرقة بينهما، ويقسم الثمن على قدر قيمتهما، فما قابل الام تعلق به حق المرتهن، وما قابل الولد تعلق به حق الراهن.

قال الشيخ أبو حامد: وكيف ذلك أن يقال: كم قيمة هذه الجارية ولها ولد دون ولدها؟ لانها إذا كانت ذات ولد كانت قيمتها أنقص، فان قيل قيمتها مثلا مائة، قيل فكم قيمة ولدها؟ فان قيل خمسون، تعلق حق المرتهن بثلثي ثمنهما، وللراهن ثلث ثمنهما.

وهذا إذا علم المرتهن بولد حال الرهن أو بعد ورضى به.

وإن لم يعلم ثم علم ثبت له الخيار في فسخ البيع المشروط به الرهن.

وأما إذا رهنه جارية حايلا ثم حملت في يد المرتهن من زوج أو زنا، فان الولد خارج من الرهن، فإذا أراد البيع بيعت الجارية وولدها الصغير، ويكون للمرتهن حصتها من الثمن، وللراهن حصة الولد، وكيفية التقسيط أن يقال: كم قيمة هذه الجارية خالية من الولد ثم يقسم الولد ويقسم الثمن على قدر قيمتها.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 215)

________________________________________

والفرق بينهما أن المرتهن رضى في الاولة بكون الجارية التى لها ولد صغير رهنا وها هنا لم يرض بكونها لها ولد صغير رهنا.

وهذا كما قال الشافعي رحمه الله: إذا رهن أرضا فحدث فيها نخل وشجر، إذا بيعت الارض والشجر برضاهما فإن الارض تقوم بيضاء لا شجر فيها.

اه

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

وفى جواز رهن المصحف وكتب الاحاديث والعبد المسلم عند الكافر طريقان.

قال أبو إسحاق والقاضى أبو حامد فيه قولان كالبيع " أحدهما " يبطل " والثانى " يصح ويجبر على تركه في يد مسلم.

وقال أبو على الطبري في الافصاح يصح الرهن قولا واحدا ويجبر على تركه في يد مسلم، ويفارق البيع بأن البيع ينتقل الملك فيه إلى الكافر، وفى الرهن المرهون باق على ملك المسلم.

(الشرح) الاحكام: أما المصحف فقد روى عن أحمد روايتان، الاولى " لا أرخص في رهن المصحف " والثانية " إذا رهن مصحفا لا يقرأ فيه إلا بإذنه " ومن هنا كان لمذهبه قولان.

أما أصحابنا فقد جعلوا في رهن المصحف وكتب الفقه والحديث والعبد المسلم من الكافر طريقين.

قال أبو إسحاق والقاضى أبو حامد فيه قولان " أحدهما " لا يصح " والثانى " يصح ويوضع ذلك على يد مسلم - كقولهم في البيع - وقال أبو على في الافصاح: يصح الرهن قولا واحدا ويوضع على يد مسلم، لان الكافر لا يملك الرهن بخلاف البيع.

 

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

فإن شرط في الرهن شرطا ينافى مقتضاه مثل أن يقول: رهنتك

على أن لا أسلمه أو على أن لا يباع في الدين أو على أن منفعته لك، أو على أن ولده لك، فالشرط بَاطِلٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " كُلُّ شَرْطٍ ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل، ولو كان مائة شرط " وهل يبطل الرهن؟ ينظر فيه، فان كان الشرط نقصانا في حق المرتهن كالشرطين الاولين، فالعقد باطل لانه يمنع المقصود فأبطله، وإن كان زيادة في حق المرتهن كالشرطين الآخرين ففيه قولان: أحدهما يبطل الرهن وهو الصحيح، لانه شرط فاسد قارن العقد فأبطله، كما لو شرط نقصانا في حق المرتهن، والثانى أنه لا يبطل لانه شرط جميع أحكامه وزاد فبطلت الزيادة وبقى العقد بأحكامه، فإذا قلنا ان الرهن يبطل، فان كان الرهن مشروطا في بيع فهل يبطل البيع؟ فيه قولان:

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 216)

________________________________________

أحدهما: أنه لا يبطل لانه يجوز شرطه بعد البيع، وما جاز شرطه بعد تمام العقد لم يبطل العقد بفساده كالصداق في النكاح.

والثانى: أنه يبطل وهو الصحيح، لان الرهن يترك لاجله جزء من الثمن، فإذا بطل الرهن وجب أن يضم إلى الثمن الجزء الذى ترك لاجله، وَذَلِكَ مَجْهُولٌ وَالْمَجْهُولُ إذَا أُضِيفَ إلَى مَعْلُومٍ صار الجميع مجهولا، فيصير الثمن مجهولا.

والجهل بالثمن يفسد البيع.

(الشرح) الحديث رواه البزار والطبراني عن ابن عباس رضى الله عنهما بلفظ " كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل وإن كان مائة شرط ".

أما الاحكام فإنه إذا اشترط المتراهنان شرطا نظرت، فإن كان يقتضيه كأن شرطا أن يباع المرهون في الدين عند حلول الدين أو أن يباع بثمن المثل أو على أن منفعته للراهن صح الشرط والرهن، لان العقد يقتضى ذلك، فكان هذا الشرط تأكيدا، وإن كان شرطا لا يقتضيه العقد - فلا يخلو - إما أن يكون

نقصانا في حق المرتهن أو زيادة في حقه، فإن كان نقصانا في حقه مثل أن رهنه رهنا على أن لا يباع في الدين، أو على أن لا يباع إلا بأكثر من ثمن مثله، أو على أن لا يباع إلا بما يرضى به الراهن فالشرط باطل، لانه ينافى مقتضى العقد، ويبطل الرهن، لانه يمنع مقصود الرهن، وإن كان الرهن زيادة في حق المرتهن كأن يرهنه شيئا بشرط أن يباع قبل محل الحق، أو على أن يباع بأى ثمن كان، وان كان أقل من ثمن المثل، فالشرط باطل لانه ينافى مقتضى الرهن.

وهل يبطل الرهن؟ فيه قولان.

أحدهما: يبطل الرهن، وهو اختيار الشيخ المصنف لانه شرط فاسد قارن عقد الرهن فأبطله كما لو كان نقصانا في حق المرتهن والثانى: لا يبطل، لان المقصود من الرهن الوثيقة، وهذه الشروط لا تقدح في الوثيقة، لانها زيادة في حق المرتهن بخلاف الشروط التى تقتضي نقصانا في حق المرتهن، فإذا قلنا: الرهن غير مشروط في بيع بقى الدين بغير شرط، وان شرط ذلك في البيع، بأن قال بعتك سيارتي هذه بألف على أن ترهننى دارك هذه بألف على أن لا تباع في الدين، فهل يبطل البيع؟ فيه قولان.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 217)

________________________________________

(أحدهما)

لا: لان البيع ينعقد منفردا عن الرهن فلم يبطل البيع ببطلان الرهن، كالصداق في النكاح لانه قد يتزوجها من غير صداق ثم يفرض لها صداقا بعد ذلك ثم لا يفسد النكاح لفساد الصداق.

وان قارنه فكذلك الرهن مع البيع

(والثانى)

يبطل البيع وبه قال أبو حنيفة لانه شرط فاسد قارن عقد البيع فأفسده كما لو باعه شيئا بشرط أن لا يسلمه.

(فرع)

إذا قال لغيره بعنى سيارتك هذه بألف على أن أرهنك دارى هذه، ويكون منفعة الدار لك، فإن كانت منفعة الدار مجهولة المدى كان الرهن والبيع باطلين قولا واحدا، لانه باع السيارة بألف وبمنفعة مدة غير معلومة والبيع

بثمن مجهول باطل لان منفعة الدار جزء من الثمن وإن كانت منفعة الدار معلومة فقد قال القاضى أبو الطيب في مثل هذه الصورة: هذه صفقة بيعا وإجارة فهل يصحان؟ فيه قولان.

وقال أبو حامد: شرط منفعة المرهون للمرتهن باطل لانه ينافى مقتضاه وهل يبطل به الرهن؟ فيه قولان لانه زيادة في حق المرتهن، فإذا قلنا: إنه باطل فهل يبطل البيع؟ فيه قولان.

فإذا قلنا: ان الرهن صحيح، أو قلنا انه باطل ولا يبطل البيع ثبت للبائع الخيار في البيع، لانه لم يسلم له فأشرط، وهذا ظاهر كلام الشافعي رحمه الله تعالى.

وان قال لغيره: بعنى سيارتك بألف على أن يكون دارى رهنا به ومنفعتهما رهنا أيضا به، فإن المنفعة لا تكون رهنا، لانها مجهولة، ولانه لا يمكن اقباضها فإذا بطل رهن المنفعة فهل يبطل الرهن في أصل الدار؟ فيه قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ.

فإذا قلنا: ان الرهن لا يفسد في أصل الدار لم يفسد البيع، ولكن ثبت للبائع الخيار، لانه لم يسلم له جميع الرهن.

وان قلنا: يفسد في أصل الدار فهل يبطل البيع؟ فيه قولان.

(فرع)

وان كان لشخص على آخر ألف بغير رهن فقال من عليه الالف بعنى سيارتك هذه بألف على أن أعطيك دارى رهنا بها وبالالف الذى لك على بغير رهن، فقال: بعتك كان البيع باطلا، لان ثمن السيارة مجهول لانه باعها

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 218)

________________________________________

بألف ومنفعة، وهو أن يعطيه رهنا بالالف التى لا رهن بها، ولانه بيعتان في بيعة وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك كما سبق في كتاب البيوع.

(فرع)

إذا قال لغيره، أقرضنى ألف جنيه على أن أعطيك سيارتي هذه رهنا وتكون منفعة لك، فأقرضه فالقرض باطل لانه قرض جر منفعة، وهكذا لو

كان عليه ألف بغير رهن فقال له أقرضنى ألفا على أن أعطيك سيارتي هذه رهنا بها، وبالالف التى لا رهن، فأقرضه فالقرض فاسد، لانه قرض جر نفعا، والرهن باطل فيهما، لان الرهن انما يصح بالدين ولا دين له في ذمته.

وان قال: أقرضنى ألفا على أن أرهنك دارى به وتكون منفعته رهنا بها أيضا لم يصح شرط رهن المنفعة، لانها مجهولة، ولانه لا يمكن اقباضها، فإذا ثبت أنه لا يصح هذا الشرط، فانه زيادة في حق المرتهن، وهل يبطل به الرهن فيه قولان.

(فرع)

لو رهنه شيئا وشرط على المرتهن ضمان الرهن، فان الرهن غير مضمون عليه على ما يأتي بيانه، ويكون هذا شرطا فاسدا لانه يخالف مقتضاه، وهل يفسد الرهن بهذا الشرط؟ من أصحابنا من قال: يفسد قولا واحدا لان ذلك نقصان في حق المرتهن.

قال أبو على في الافصاح: هل يبطل الرهن؟ فيه قولان، لان شرط الضمان يجرى مجرى الحقوق الزائدة في الرهن لانه لم ينقص حق المرتهن.

قال ابن الصباغ: والاول أصح.

(فرع)

قال ابن الصباغ: إذا أقرضه ألفا برهن وشرط أن يكون نماء الرهن داخلا فيه فالشرط باطل في أشهر القولين.

وهل يفسد الرهن؟ فيه قولان، لانه زيادة في حق المرتهن.

وأما القرض فصحيح، لانه لم يجر منفعة، وانما الشرط زيادة في حق الاستيثاق، ولم يثبت.

(فرع)

إذا كان له دين مستقر في ذمته متطوع بالرهن به فقال: رهنتك هذه النخلة على أن ما تثمر يكون داخلا في الرهن، أو هذه الماشية على أن ما ينتج داخل في الرهن، فهل يصح الرهن في الثمرة والنتاج؟ فيه قولان.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 219)

________________________________________

(أحدهما)

يصح الرهن فيهما، لانهما متولدان من الرهن، فجاز أن يكونا

رهنا معا

(والثانى)

لا يصح الرهن فيهما، وهو الصحيح لانه رهن معدوم ومجهول.

فعل هذا فهل يبطل الرهن في النخلة والماشية فيه قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ.

وان قال: بعتك سيارتي هذه بألف على أن ترهننى نخلتك هذه على أن ما تثمر داخل في الرهن.

فان قلنا: يصح الرهن في الثمرة صح البيع.

وان قلنا لا يصح الرهن في الثمرة.

فان قلنا: لا يبطل الرهن في النخلة لم يبطل البيع في السيارة.

ولكن يثبت لبائعها الخيار، لانه لم يسلم جميع الرهن المشروط.

وان قلنا يبطل الرهن في النخله فهل يبطل البيع في السيارة.

فيه قولان.

فان قلنا لا يبطل ثبت للبائع الخيار.

لانه لم يسلم له جميع الرهن المشروط فيحصل في هذه المسألة أربعة اقوال (أحدها) يصح الرهن في الكل ويصح البيع

(والثانى)

يبطل الرهن والبيع صحيح.

وللبائع الخيار والله أعلم.

(فرع)

إذا اشترى سلعة بشرط أن يجعلها رهنا بالثمن فالرهن باطل لانه رهن ما لا يملك والبيع باطل.

لانه رهن ما لا يملك والبيع باطل.

لانه في معنى من باع عينا واستثنى منفعتها.

فكان باطلا.

ولان هذا شرط يمنع كمال تصرف المشترى.

لان من اشترى شيئا فله أن يبيعه ويهبه.

والرهن يمنع ذلك فأبطل البيع.

وسواء شرطا أن يسلمها البائع إلى المشترى ثم يرهنها منه أو لم يشرط.

تسليمها إليه فالحكم واحد لما ذكرناه.

وان كان لرجل على آخر دين إلى أجل فقال من عليه الدين: رهنتك دراجتى هذه بدينك لتزيدني في الاجل لم يثبت الاجل المزيد لان التأجيل لا يلحق بالدين.

والرهن باطل.

لانه جعله في مقابلة الاجل.

وإذا لم يسلم له الاجل لم يصح الرهن.

وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:

(فصل)

ويجوز أن يجعل الرهن في يد المرتهن.

ويجوز أن يجعل في يد عدل

لان الحق لهما فجاز ما اتفقا عليه من ذلك.

فان كان المرهون أمة لم توضع الا عند امرأة أو عند محرم لها.

أو عند من له زوجة لقوله صلى الله عليه وسلم

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 220)

________________________________________

" لا يخلون أحدكم بإمرأة ليست له بمحرم، فان ثالثهما الشيطان " فان جعل الرهن على يد عدل ثم أراد أحدهما أن ينقله إلى غيره لم يكن له ذلك، لانه حصل عند العدل برضاهما، فلا يجوز لاحدهما أن ينفرد بنقله، فان اتفقا على النقل إلى غيره جاز لان الحق لهما، وقد رضيا فان مات العدل أو اختل فاختلف الراهن والمرتهن فيمن يكون عنده أو مات المرتهن أو اختل والرهن عنده فاختلف الراهن.

ومن ينظر في مال المرتهن فيمن يكون الرهن عنده رفع الامر إلى الحاكم فيجعله عند عدل، فان جعلا الرهن على يد عدلين.

فأراد أحد العدلين أن يجعل الجميع في يد الآخر ففيه وجهان.

أحدهما: لا يجوز لان ما جعل إلى اثنين لم يجز أن ينفرد به أحدهما كالوصية والثانى: يجوز لان في اجتماع الاثنين على حفظه مشقة.

فعلى هذا ان اتفقا على أن يكون في يد أحدهما جاز.

وان تشاحا نظرت.

فان كان مما لا ينقسم جعل في حرز لهما.

وان كان مما ينقسم جاز أن يقتسما فيكون عند كل واحد منهما نصفه فان اقتسما ثم سلم أحدهما حصته إلى الآخر ففيه وجهان

(أحدهما)

يجوز لانه لو سلم إليه قبل القسمة جاز.

فكذلك بعد القسمة.

والثانى لا يجوز لانهما لما اقتسما صار كل واحد منهما منفردا بحصته فلا يجوز أن يسلم ذلك إلى غيره كما لو جعل في يد كل واحد منهما نصفه والله أعلم.

(الشرح) الحديث مر في كتاب الصلاة وقبله في كتاب الحيض.

وفى كتاب الحج بجميع طرقه ورواياته وأصحهن رواية الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا يخلون رجل بامرأة الا مع ذى محرم "

أما الاحكام: فانهما إذا شرطا في البيع رهن عبد معلوم أو موصوف نظرت فان شرطا أن يكون الرهن على يد عدل جاز وان شرطا أن يكون على يد المرتهن صح، لان الحق لهما فجاز ما اتفقا عليه من ذلك.

وان أطلقا ذلك ففيه وجهان حكاهما الشيخ أبو حامد.

أحدهما أن الرهن باطل لان كون الرهن في يد أحدهما ليس بأولى من الآخر فإذا لم يذكر ذلك بطل الرهن.

والثانى: يصح الرهن ويدفع إلى الحاكم ليجعله على يد عدل ان اختلفا فيمن يكون عنده.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 221)

________________________________________

وإن كان الرهن جارية ولم يشرطا كونها عند أحد قال الشيخ أبو حامد: صح الرهن وجها واحدا، وجعل على يد امرأة ثقة، لانه ليس لها جهة يوضع فيها غير هذا بخلاف غير الجارية، فان شرطا أن تكون هذه الجارية عند المرتهن أو عند عدل نظرت، فان كان محرما لها جاز ذلك.

قال القاضى أبو الطيب: وكذلك ان كانت صغيرة ولا يشتهى مثلها جاز تسليمها إلى المرتهن أو العدل لانه لا يخشى عليها منه، وإن كانت كبيرة فاشترطا وضعها على يد المرتهن والعدل وليس بذى محرم لها: فان كانت له زوجة أو جارية قال الشيخ أبو حامد: وفى داره نساء تكون هذه المرهونة معهن جاز تركها معه لانه لا يخشى عليها أن يخلو بها.

فان لم يكن له زوجة ولا جارية لم يجز وضعها على يده للحديث، فإذا شرطا ذلك بطل الشرط ولم يبطل الرهن، ولان هذا الشرط لا يؤثر في الرهن ويسرى هذا على الخنثى المشكل على تفصيل بين أن يكون كبيرا أو صغيرا لا حاجة بنا للاطالة في هذا لعدم الحاجة إذا اتفق المتراهنان على وضع الرهن على يد عدل ثم أقرا أن العدل قد قبض الرهن وأنكر العدل ذلك لزم الرهن لان الحق لهما دون العدل، فان رجع

أحدهما وصدق العدل أنه لم يقبض لم يقبل رجوعه لانه إقراره السابق يكذبه.

وان أقرا الراهن والعدل بالقبض وأنكر المرتهن فالقول قول المرتهن، لان الاصل عدم القبض، ولا يقبل قول العدل عليه لانه يشهد على فعل نفسه وان قبض العدل الرهن باذن المرتهن صح، وبه قال أبو حنيفة، وقال ابن أبى ليلى: لا يصح توكيل العدل في القبض، دليلنا أن من اشترى شيئا صح أن يوكل في قبضه فكذلك في الرهن وإذا حصل الرهن عند العدل باتفاق المتراهنين فان نقلاه إلى عدل غيره جاز وان أراد أحدهما أن ينقله إلى غيره لم يجز من غير رضا الآخر، لانه حصل في يده برضاهما فلا يخرج عن يده إلا برضاهما، فان دعا أحدهما إلى نقله وامتنع الآخر رفع الامر إلى الحاكم، فان كان العدل ثقة لم ينقل عنه، وان تغير عن الامانة أو حدثت بينه وبين أحدهما عداوة جاز للحاكم نقله إلى غيره

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 222)

________________________________________

وإذا كان الرهن عند المرتهن فمات أو أحيل بجناية أو فلس أو حجر عليه نقل الرهن من يده إلى غيره.

ولا يجوز للعبد حفظه ولا بيعه سواء بأجر أم بغير أجر عندنا وعند أصحاب أحمد وإذا أراد العدل رد الرهن على المتراهنين فان كانا حاضرين رده عليهما، ويجب عليهما قبوله، لانه أمين متطوع فلا يلزمه المقام على ذلك، فان امتنعا من أخذه رفع الامر في ذلك إلى الحاكم ليجبرهما على تسليمه، فان رده العدل على الحاكم قبل أن يرده عليهما ضمن العدل وضمن الحاكم، لانه لا ولاية للحاكم على غير ممتنع.

وكذلك ان أودعه العدل عند ثقة، قال ابن الصباغ جاز، فان امتنع أحدهما فرفعه إلى الآخر ضمن، وإن كانا غائبين، فان كان للعدل عذر.

مثل ان يريد سفرا أو به مرض يخاف منه أو قد عجز عن حفظه دفعه إلى الحاكم وقبضه الحاكم

أو نصب عدلا ليكون عنده، وإن لم يكن هناك حاكم جاز أن يرفعه إلى ثقة ومع وجود الحاكم فيه وجهان يذكران في الوديعة إن شاء الله، وإن لم يكن له عذر في الرد، فان كانت غيبتهما إلى مسافة يقصر فيها الصلاة وقبض الحاكم منه أو نصب عدلا ليقبضه، لان للحاكم أن يقضى عليهما فيما لزمهما من الحقوق، فان لم يكن حاكم أودعه عند ثقة، وإن كانت عيبتهما إلى مسافة لا يقصر فيها الصلاة، فهو كما لو كانا حاضرين، فان كان أحدهما حاضرا والآخر غائبا لم يجز تسليمه إلى الحاضر، وكان كما لو كانا غائبين، فان رد على أحدهما في موضع لا يجوز له الرد إليه.

قال الشيخ أبو حامد: ضمن الآخر قيمته وذكر المسعودي أنه ان رد على الراهن ضمن للمرتهن الاقل من قيمة الرهن وقدر الدين الذى رهن به، وان رده على المرتهن ضمن الراهن قيمته.

قال العمرانى: وهذا التفصيل حسن قال ابن الصباغ: إذا غصب المرتهن الرهن من العدل وتجب عليه رده إليه، فإذا رده إليه زال الضمان عنه.

ولو كان الرهن في يد المرتهن فتعدى فيه ثم زال التعدي لم يزل عنه الضمان، لان الاستئمان قد بطل.

قال العمرانى في البيان: إذا تركا الرهن في يد عدلين فهل لاحدهما أن يفوض نحفظ جميعه إلى الآخر فيه وجهان

(أحدهما)

ليس له ذلك، لان المتراهنين لم يرضيا الا بأمانتهما جميعا

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 223)

________________________________________

فهو كما لو أوصى إلى رجلين فليس لاحدهما أن ينفرد بالتصرف، فعلى هذا عليهما أن يحفظا الرهن في حرز يدهما عليه، اما بملك أو عارية أو اجارة، وان سلم أحدهما جميعه إلى الآخر ضمن نصفه

(والثانى)

يجوز لان عليهما مشقة في الاجتماع على حفظه، فان كان مما لا ينقسم جاز لاحدهما أن يسلمه إلى الاخر، وان كان مما ينقسم فاقتسما فهل

لاحدهما أن يسلم إلى الاخر ما حصل بيده بعد القسم؟ فيه وجهان، احدهما يجوز لانه لو سلم إليه ذلك قبل القسمة صح، فكذلك بعد القسمة، والثانى لا يجوز لانهما لما اقتسما صار كما لو قسمه المتراهنان بينهما.

اه (قلت) وقال أبو يوسف ومحمد: إذا رضى أحدهما بامساك الاخر - فيما يمكن قسمته جاز.

وقال أبو حنيفة: ان كان مما ينقسم اقتسماه والا فلكل واحد منهما امساك جميعه، لان اجتماعهما على حفظه يشق عليهما.

وقال أصحاب أحمد، ان المتراهنين إذا لم يرضيا إلا بحفظهما لم يجز لاحدهما الانفراد بذلك كالوصيين لا ينفرد أحدهما بالتصرف.

وقالوا في المشقة انه يمكن لكل واحد منهما أن يضع قفله على المخزن فلا يشق عليهما ذلك، فكان كالقول عندنا.

أما مذهبنا فدليله أن المالك لم يرض الا بأمانتهما فلم يكن لاحدهما أن ينفرد بحفظه جميعه كالوصية.

وإذا وضعا الرهن على يد عدل ووكلاه في بيعه عند حلول الدين صح التوكيل ولا يكون هذا تعليقا للوكالة على شرط، وانما هو تعليق التصرف.

قال ابن الصباغ: وإذا حل الحق لم يجز للعدل أن يبيعه حتى يستأذن المرتهن، لان البيع لحقه فإذا لم يطالب به لم يجز بيعه، فإذا أذن المرتهن ذلك فهل يحتاج إلى استئذان الراهن ليجدد له الاذن؟ فِيهِ وَجْهَانِ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: لابد من استئذانه كما يفتقر إلى تجديد اذن المرتهن، ولانه قد يكون له غرض في أن يقضى الحق من غيره.

وقال المصنف لا يفتقر إلى استئذانه لانه الاذن الاول كاف ويفارق المرتهن لان البيع يفتقر إلى مطالبة بالحق.

وأما غرض الراهن فلا اعتبار به لانه ما لم يغير الاذن الاول فهو

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 224)

________________________________________

رأض به.

وإن عزل الراهن العدل انعزل ولم يجز له البيع وبه قال أحمد رحمه الله وقال مالك وأبو حنيفة لا ينعزل.

دليلنا أن الوكالة عقد جائز فانعزل بعزله كسائر الوكالات، وإن عزله المرتهن ففيه وجهان، من أصحابنا من قال: ينعزل لان الشافعي رحمه الله قال: ولكل واحد منهما منعه من البيع، ولانه أحد المتراهنين فملك عزل كالراهن.

وقال أبو إسحاق: لا ينعزل لانه وكيل الراهن فلا ينعزل بعزل غيره، وتأول كلام الشافعي رحمه الله أنه أراد أن لكل واحد منهما منعه من البيع، لان للمرتهن أن يمنعه من البيع، لان البيع إنما يستحق بمطالبته، فإذا لم يطالب به ومنع منه لم يجز، فأما أن يكون فسخا فلا.

قال الشيخ أبو حامد في تعليقته.

إذا كان الرهن مشرطا أن يكون في يد عدل ووكل العدل في بيعه ولم يقبضه فلا يجوز للعدل أن يبيعه في محل الحق لانه وكله في بيعه رهنا وهذا رهن لم يلزم لانه لم يقبضه، اللهم إلا أن يقبضه الآن فيكون له بيعه.

وذكر الطبري في العدة أنه ان وكله في بيعه رهنا لم يكن له بيعه لانه لا يصير رهنا إلا بالقبض، فإن كان له الاذن في بيعه مطلقا كان له أن يبيعه، لان للوكيل بيع الشئ وهو في يد الموكل.

ويجوز أن يتراهن المسلمان على يد ذمى أو ذميان على يد مسلم أو المسلم والذمى على يد مسلم أو ذمى جاز، أما إذا اقترض مسلم من ذمى ورهنه خمرا ووضعها على يد ذمى ووكلاه في بيعه لم يصح، لانه بيع خمر على مسلم.

وكذلك الذميان إذا تراهنا ووضعا الخمر على يد مسلم ووكلاه في البيع فباعه لم يصح لانه بيع خمر من مسلم، وإن اقترض ذمى من مسلم ورهنه خمرا وجعلاه على يد ذمى ووكلاه في بيعه فباعه فهل يجبر المسلم على قبض حقه منه؟ فيه وجهان.

 

(أحدهما)

لا يجبر، لانه ثمن خمر وثمن الخمر محرم على المسلم

(والثانى)

 

يجبر، فيقال له.

إما أن تأخذه، وإما أن تبرئه من قدره من الدين، لان أهل الذمة إذا تقابضوا في ثمن الخمر وما أشبهه من العقود الفاسدة أقروا عليها وصار ذلك مالا من أموالهم.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 225)

________________________________________

(فرع)

إذا وكل العدل في بيع الرهن وكان الثمن في يده كان ضمانه على الراهن إلى أن يصل ليد المرتهن، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ.

وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ هو من ضمان المرتهن، دليلنا أن العدل وكيل الراهن في البيع، والثمن ملك الراهن وكان من ضمانه كالموكل في غير الرهن، فإن تلف الثمن في يده وخرج المبيع مستحقا، فعلى من يرجع المشترى ننظر في العدل، فان أطلق البيع ولم يذكر أن يبيعه على ذمة الراهن رجع المشترى على العدل، لان الظاهر أنه باع مال نفسه فلزمه الضمان بحكم الظاهر، وإن ذكر عند البيع أنه يبيعه على حساب الراهن أو صدقه المشترى على ذلك، فان المشترى يرجع بالعهدة على الراهن دون العدل، فان العقد له، فان قبض العدل الثمن وسلمه إلى المرتهن ثم وجد المشترى بالرهن عيبا، فان لم يذكر العدل أنه يبيعه للراهن فان المشترى يرجع بالثمن على العدل ويرجع العدل على الراهن، لانه وكيله، ولا يسترجع الثمن من المرتهن.

لان الرهن لما بيع حصل ثمنه للراهن وهو مالكه، وعندما أخذه المرتهن فقد استوفى دينه من ملك الراهن فزال حينئذ ملك الراهن عنه، فان لم يكن للعدل ولا للراهن مال غير الرهن بيع وقضى حق المشترى من ثمنه وما بقى يكون دينا للمشترى على العدل وللعدل على الراهن، وللبحث تتمة في البيوع فليراجع.

والله تعالى أعلم.

إذا شرطا أن يبيع المرتهن الرهن فالشرط باطل، فإذا حل الحق لم يجز للمرتهن بيع الرهن الا أن يحضر الراهن، وهل يبطل الرهن بهذا الشرط قولان

لانه زيادة في حق المرتهن، وقد مضى ذكر مثل ذلك، فأما إذا رهنه رهنا صحيحا وأقبضه اياه فلما حل الحق وكل الراهن المرتهن ببيع الرهن لم تصح الوكالة وإذا باع المرتهن كان البيع باطلا، وبذلك قال أحمد.

وقال مالك وأبو حنيفة: يصح التوكيل والبيع.

دليلنا أنه توكيل يجتمع فيه غرضان متضادان، وذلك أن الراهن يريد التأني في البيع للاستقصاء في الثمن، والمرتهن يريد الاستعجال في البيع ليستوفى دينه فلم يجز كما لو كان قد وكله ببيع الشئ من نفسه، فان كان الراهن حاضرا فهل يصح بيع المرتهن باذن فيه وجهان

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 226)

________________________________________

(أحدهما)

يصح، وهو ظاهر النص قال في الام " إلا أن يحضر رب الرهن " ولانه بحضوره سمع تقدير الثمن فانتفت التهمة عن المرتهن فصح بيعه

(والثانى)

وهو اختيار الطبري في العدة أنه لا يصح البيع لانه توكيل فيما يتعلق به حقه فلم يصح، كما لو كان غائبا، ويجيب عن قول الشافعي رحمه الله " إلا أن يحضر رب الرهن " بقوله معناه فيبيعه بنفسه، ألا ترى أنه قال " فإن امتنع أمره الحاكم ببيعه، فإن قيل هلا قلتم يصح البيع وإن كانت الوكالة فاسدة كما قلتم في سائر الوكالات الفاسدة، فالجواب أن الوكالة الفاسدة إنما يصح البيع فيها لان الفساد غير راجع إلى الاذن، وإنما هو راجع إلى معنى في العوض.

وها هنا الفساد راجع إلى الاذن نفسه فهو كما لو وكله أن يبيع من نفسه فباع.

والله أعلم

قال المصنف رحمه الله:

(باب ما يدخل في الرهن ومالا يدخل، وما يملكه الراهن وما لا يملكه)

ما يحدث من عين الرهن من النماء المتميز، كالشجر والثمر واللبن والولد والصوف والشعر، لا يدخل في الرهن، لما روى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لا يغلق الرهن الرهن من راهنه الذى رهنه،

له غنمه وعليه غرمه " والنماء من الغنم فوجب أن يكون له.

وعن ابن عمر وأبى هريرة مرفوعا " الرهن محلوب ومركوب " ومعلوم أنه لم يرد أنه محلوب ومركوب للمرتهن، فدل على أنه أراد به محلوب ومركوب للراهن ولانه عقد لا يزيل الملك فلم يسر إلى النماء المتميز كالاجارة، فإن رهن نخلا على أن ما يتميز داخل في الرهن، أو ماشية على أن ما تنتج داخل في الرهن، فالمنصوص في الام أن الشرط باطل وقال في الامالى القديمة: لو قال قائل إن الثمرة والنتاج يكون رهنا كان مذهبا، ووجهه أنه تابع للاصل فجاز أن يتبعه كأساس الدار، والمذهب الاول وهذا مرجوع عنه لانه رهن مجهول ومعدوم فلم يصح، بخلاف أساس الدار فإنه موجود، ولكنه شق رؤيته فعفى عن الجهل به

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 227)

________________________________________

وأما النماء الموجود في حال العقد ينظر فيه، فإن كان شجرا فقد قال في الرهن لا يدخل فيه، وقال في البيع يدخل، واختلف أصحابنا فيه على ثلاث طرق وقد بيناها في البيوع، وان كان ثمرا نظرت، فإن كان ظاهرا كالطلع المؤبر وما أشبهه من الثمار لم يدخل في الرهن، لانه إذا لم يدخل ذلك في البيع وهو يزيل الملك، فلان لا يدخل في الرهن وهو لا يزيل الملك أولى، وإن كان ثمرا غير ظاهر كالطلع الذى لم يؤبر وما أشبهه من الثمار ففيه طَرِيقَانِ، مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْ قَالَ فِيهِ قَوْلَانِ

(أحدهما)

يدخل فيه قياسا على البيع

(والثانى)

لا يدخل فيه وهو الصحيح لانه لما لم يدخل فيه ما يحدث بعد العقد لم يدخل الموجود حال العقد، ومنهم من قال لا يدخل فيه قولا واحدا.

ويخالف البيع، فإن في البيع ما يحدث بعد العقد ملك للمشترى، والحادث بعد العقد لا حق للمرتهن فيه، ولان البيع يزيل

الملك فيدخل فيه النماء، والرهن لا يزيل الملك فلم يدخل فيه واختلف أصحابنا في ورق التوت والآس وأغصان الخلاف، فمنهم من قال: هو كالورق والاغصان من سائر الاشجار فيدخل في الرهن.

ومنهم من قال انها كالثمار من سائر الاشجار فيكون حكمها حكم الثمار، وان كان النماء صوفا أو لبنا فالمنصوص أنه لا يدخل في العقد.

وقال الربيع في الصوف قول آخر أنه يدخل، فمن أصحابنا مَنْ قَالَ فِيهِ قَوْلَانِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لا يدخل قولا واحدا، وما قاله الربيع من تخريجه.

(الشرح) الحديث عزاه المصنف لابن عمر وفيه نظر.

أما الحديث فقد رواه الجماعة الا مسلما والنسائي عن أبى هريرة رضى الله عنه بلفظ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يقول " الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا، وعلى الذى يركب ويشرب النفقة " وفى لفظ رواه أحمد " إذا كانت الدابة مرهونة فعلى المرتهن علفها، ولبن الدر يشرب وعلى الذى يشرب نفقته " وللدارقطني والحاكم وصححه من طريق الاعمش عن أبى صالح عن أبى هريرة مرفوعا " الرهن مركوب ومحلوب " وقال ابن أبى حاتم، قال أبى " رفعه " يعنى أبا معاوية مرة ثم ترك الرفع بعد.

ورجح البيهقى أيضا الوقف

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 228)

________________________________________

وقال الشافعي وأبو حنيفة ومالك وجمهور العلماء: هذا الحديث ورد على خلاف القياس من وجهين

(أحدهما)

التجويز لغير المالك أن يركب ويشرب بغير إذنه

(والثانى)

تضمينه ذلك بالنفقة لا بالقيمة.

قال ابن عبد البر: هذا الحديث عند جمهور الفقهاء ترده أصول مجمع عليها، وآثار ثابتة لا يختلف في صحتها، ويدل على نسخه حديث ابن عمر عند البخاري وغيره بلفظ " لا تحلب ماشية إمرئ بغير إذنه " قال الشوكاني: ويجاب عن

دعوى مخالفة هذا الحديث الصحيح للاصول بأن السنة الصحيحة من جملة الاصول فلا ترد الا بمعارض أرجح منها بعد تعذر الجمع.

وعن حديث ابن عمر بأنه عام وحديث الباب خاص فيبنى العام على الخاص، والنسخ لا يثبت الا بدليل يقضى بتأخر الناسخ على وجه يتعذر معه الجمع لا بمجرد الاحتمال مع الامكان.

وقال الاوزاعي والليث وأبو ثور، انه يتعين حمل الحديث على ما إذا امتنع الراهن من الانفاق على المرهون، فيباح حينئذ للمرتهن، وأجود ما يحتج به للجمهور حديث أبى هريرة الذى رواه الشافعي والدارقطني وقال: هذا اسناد حسن متصل " لا يغلق الرهن من صاحبه الذى رهنه، له غنمه وعليه غرمه " وفى أحاديث هذا الباب تفصيل في كتب الحديث.

أما لغات الفصل فالآس نوع من النبات يقال له الهدس يستخرج منه الطيب ومثله أغصان الخلاف.

أما الاحكام: فإنه إذا رهنه أرضا فيها بناء أو شجر فان شرط دخول ذلك في الرهن أو قال.

رهنتكها بحقوقها دخل البناء والشجر في الرهن مع الارض، وهكذا ان قال.

رهنتك هذا البستان أو هذه الدار دخل الشجر والبناء في الرهن وان قال رهنتك هذه الارض وأطلق فهل يدخل البناء والشجر، فيه ثلاث طرق ذكرها المصنف في البيع، وان باعه شجرة أو رهنها منه صح البيع والرهن في الشجرة، وهل يدخل قرارها في الرهن والبيع، ذكر الشيخ أبو حامد وابن الصباغ أن قرارها لا يدخل في الرهن وجها واحدا.

وهل يدخل في البيع فيه وجهان، وذكر الطبري في العدة أن البيع والرهن على وجهين.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 229)

________________________________________

(أحدهما)

لا يدخل لان المسمى في العقد هو الشجرة، وهذا ليس بشجر.

فعلى هذا إذا انقلعت الشجرة لم يكن للمشترى أن يغرس مكانها غيرها.

 

(والثانى)

يدخل فيه قرار الشجرة، لان قوام الشجرة به، فهو كعروق الشجرة تحت الارض، فعلى هذا إذا انقلعت هذه الشجرة كان للمشترى أن يغرس مكانها.

وأما نماء الرهن فضربان: موجود حال الرهن، وحادث بعد الرهن، فأما الموجود حال الرهن، فإن كان ثمرة فقد سبق بيانه.

واختلف أصحابنا في ورق التوت وأغصان الخلاف والآس، فمنهم من قال: هو كالاغصان من سائر الاشجار فيدخل في الرهن.

ومنهم من قال هو كالثمار من سائر الاشجار وقد سبق بيانه.

وإن رهنه ماشية وفيها لبن أو صوف فالمنصوص أنه لا يدخل في الرهن، وقال الربيع في الصوف قول آخر أنه يدخل، فمن أصحابنا من قال: في الصوف قولان، ومنهم من قال لا يدخل قولا واحدا، وما ذكره البيع من تخريجه.

وأما النماء الحادث بعد الرهن كالولد والثمرة واللبن وسائر منافعه فاختلف أهل العلم فيه.

مذهبنا أنه ملك للراهن وأنه لا يدخل في الرهن وللراهن أن ينتفع بالرهن، وقال قوم من أصحاب الحديث: نماء الرهن ومنافعه ملك لمن ينفق عليه فإن كان الراهن هو الذى ينفق عليه فالنماء ملك له.

وقال أحمد: الرهن ملك للمرتهن فله حلبه وشربه، وقال أبو حنيفة: الثمرة والولد واللبن الحادث بعد الرهن ملك للراهن إلا أنه يدخل في الرهن.

وقال أيضا، ليس للراهن ولا للمرتهن الانتفاع بالرهن بل تترك المنافع تتلف، وقال مالك: الولد الحادث يكون رهنا كقول أبى حنيفة.

وأما الثمرة فلا تكون رهنا كقولنا.

دليلنا على أصحاب الحديث وعلى أحمد ما رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " لَا يغلق الرهن الرهن من راهنه له غنمه وعليه

غرمه " وقد رواه الشافعي والدارقطني والحاكم والبيهقي وابن حبان وابن ماجه وصحح أبو داود والبزار والدارقطني إرساله عن سعيد بن المسيب.

فمن قال إنه ملك للمرتهن فقد خالف نص الحديث.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 230)

________________________________________

وروى الشعبى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال " من رهن دابة فعليه نفقتها وله ظهرها ونتاجها " ولان الرهن ملك للراهن فكان نماؤه ملكا له كما لو لم يكن مرهونا، وعلى أبى حنيفة ما روى الاعمش عن أبى هريرة مرفوعا " الرهن محلوب ومركوب للراهن " وبالاجماع بيننا وبين أبى حنيفة أنه محلوب ومركوب للمرتهن، فثبت أنه محلوب ومركوب للراهن وحديث " الرهن من راهنه له غنمه وعليه غرمه " وغنمه نماؤه، فمن قال انه رهن فقد خالف الاحاديث، ولان الرهن عقد لا يزيل الملك عن الرقبة فلم يسر إلى الولد كالاجارة، ولان الرهن حق تعلق بالرقبة ليستوفى من ثمنها، فلم يسر إلى الولد كأرش الجناية.

قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

ويملك الراهن التصرف في منافع الرهن على وجه لا ضرر فيه على المرتهن، كخدمة العبد وسكنى الدار وركوب الدابة وزراعة الارض، لقوله صلى الله عليه وسلم " الرهن محلوب ومركوب " ولانه لم يدخل في العقد ولا يضر بالمعقود له، فبقى على ملكه وتصرفه كخدمة الامة المزوجة، ووطئ الامة المستأجرة، وله أن يستوفى ذلك بالاجارة والاعارة، وهل له أن يستوفى ذلك بنفسه؟ قال في الام له ذلك.

وقال في الرهن الصغير لا يجوز، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ فِيهِ قَوْلَانِ

(أَحَدُهُمَا)

لَا يجوز لانه لا يأمن أن يجحد فيبطل حق المرتهن

 

(والثانى)

يجوز وهو الصحيح، لان كل منفعة جاز أن يستوفيها بغيره جاز أن يستوفيها بنفسه كمنفعة غير المرهون، ودليل القول الاول يبطل به إذا أكراه من غيره فإنه لا يؤمن أن يجحد ثم يجوز ومنهم من قال: إن كان الراهن ثقة جاز، لانه يؤمن أن يجحد، وإن كان غير ثقة لم يجز، لانه لا يؤمن أن يجحد، وحمل القولين على هذين الحالين (الشرح) الاحكام: إذا ثبت أن منافع الرهن ملك للراهن فله أن يستوفيها على وجه لا ضرر فيه على المرتهن، فإن كان الرهن دابة فله أن يعيرها من ثقة.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 231)

________________________________________

وله أن يؤاجرها من ثقة إلى مدة تنتهى قبل حلول الحق.

وهل له أن يستخدمها بنفسه أو يركبها.

قال الشافعي رحمه الله: له ذلك.

وقال في موضع آخر، ليس له ذلك، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ فِيهِ قَوْلَانِ

(أَحَدُهُمَا)

لَا يجوز، لانه لا يؤمن أن يجحده

(والثانى)

يجوز وهو الصحيح، لانه لما جاز أن يستوفيه بغيره جاز أن يستوفيه بنفسه كغير الرهن.

ومنهم من قال: إن كان الراهن ثقة جاز أن يستوفيه بنفسه، وان كان غير ثقة لم يجز أن يستوفى بنفسه، لان الثقة يؤمن منه أن يجحد، وحمل القولين على هذين الحالين والطريق الصحيح الطريق الاول، ومن هنا له أن يعير الرهن ويؤاجره ويستوفى ذلك بنفسه بحيث لا يخرجه من سلطان المرتهن مثل أن يفعل ذلك في بلده بحيث يمكن رده إلى المرتهن أو إلى العدل، فلا يؤاجر لمسافر، ولا يسافر هو به، وعلى الطريقين أيضا في سكناه فيها، ففى الدابة عليه أن يسلمها للمرتهن ليلا.

أما الدار فله أن يسكنها ليلا ونهارا ما دامت في سلطان المرتهن.

أما الثوب فليس له أن يلبسه ولا يعيره ولا يؤاجره لانه مفض إلى إتلافه قال المصنف رحمه الله:

 

(فصل)

وأما ما فيه ضرر بالمرتهن فإنه لا يملك لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا ضَرَرَ وَلَا ضرار " فان كان المرهون مما ينقل فأراد أن ينتفع به في السفر، أو يكريه ممن يسافر به لم يجز، لان أمن السفر لا يوثق به فلا يؤمن أن يؤخذ فيه، فيدخل على المرتهن الضرر، وإن كان ثوبا لم يملك لبسه لانه ينقص قيمته وإن كان أمة لم يملك تزويجها، لانه ينقص قيمتها، وهل يجوز وطؤها.

ينظر فإن كانت ممن تحبل لم يجز وطؤها، لانه لا يؤمن أن تحبل فتنقص قيمتها وتبطل الوثيقة باستيلادها.

وان كانت ممن لا تحبل لصغر أو كبر ففيه وجهان، قال أبو إسحاق يجوز وطؤها لانا قد أمنا الضرر بالاحبال.

وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا يجوز، لان السن الذى لا تحبل فيه لا يتميز عن السن الذى تحبل فيه مع اختلاف الطباع، فمنع من الجميع كما قلنا في شرب الخمر لما لم يتميز ما يسكر مما لا يسكر مع اختلاف الطباع في السكر حرم الجميع، فإذا منعنا من الوطئ منعنا

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 232)

________________________________________

من الاستخدام لانه لا يؤمن أن يطأها، وإذا لم يمنع من الوطئ جاز الاستخدام فإن كان أرضا فأراد أن يغرس فيها أو يبنى لم يجز، لانه يراد للبقاء وينقص به قيمة الارض عند القضاء، فإذا خالف وغرس أو بنى - والدين مؤجل - لم يقلع في الحال لانه يجوز أن يقضى الدين من غير الارض، وربما لم تنقص قيمة الارض مع الغراس والبناء عن الدين، فلا يجوز الاضرار بالراهن في الحال، لضرر متوهم بالمرتهن في ثانى الحال، فإن حل الدين ولم يقض وعجزت قيمة الارض مع الغراس والبناء عن قدر الدين قلع، فإن أراد أن يزرع ما يضر بالارض لم يجز، وإن لم يضر بالارض نظرت، فان كان يحصد قبل محل الدين جاز، وإن كان لا يحصد إلا بعد محل الدين ففيه قولان

(أحدهما)

لا يجوز لانه ينقص قيمة الارض فيستضر به المرتهن

 

(والثانى)

يجوز لانه ربما قضاه الدين من غير الارض، وربما وفت قيمة الارض مع الزرع بالدين فلا يمنع منه في الحال، وان أراد أن يؤجر إلى مدة يحل الدين قبل انقضائها لم يجز له لانه ينقص قيمة الارض وقال أبو على الطبري رحمه الله: فيها قولان كزراعة ما لا يحصد قبل محل الدين.

وإن كان فحلا وأراد أن ينزيه على الاناث جاز، لانه انتفاع لا ضرر فيه على المرتهن فلم يمنع منه كالركوب، فان كان أنثى أراد أن ينزى عليها الفحل نظرت فان كانت تلد قبل محل الدين جاز، لانه لا ضرر على المرتهن، وإن كان الدين يحل قبل ولادتها وقبل ظهور الحمل بها جاز، لانه يمكن بيعها، وإن كان يحل بعد ظهور الحمل، فان قلنا إن الحمل لا حكم له جاز لانه يباع معها، وإن قلنا له حكم لم يجز لانه خارج من الرهن، فلا يمكن بيعه مع الام، ولا يمكن بيع الام دونه فلم يجز.

(الشرح) الاحكام، وإن كان الرهن أرضا فأراد الراهن أن يزرع فيها نظرت، فان كان زرعا يضر بها كزراعة ورد النيل (١) لم يكن له ذلك، لقوله

________________________________________

(١) ورد النيل نبات تكافحه الجمهورية العربية المتحدة لخطره على الانهار والاراضي وهو نبات يتليف ويتكاثر ويتماسك بسرعة شديدة تؤدى إلى طمس معالم الارض والماء وقتل المحاصيل وقف تيار الماء الجارى

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 233)

________________________________________

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا ضَرَرَ وَلَا ضرار " وان كان لا يضر بالارض نظرت فان كان محصوله قبل حلول الدين لم يمنع منه، وان كان محصوله بعد حلول الدين فالمنصوص أنه ليس له ذلك.

قال الشيخ أبو حامد: ليس له أن يزرع الارض قولا واحدا.

وإن حدث أن زرع أو بنى في الارض فليس يجوز قلعها أو هدمها لانه لا يجوز

الاضرار به، لانه قد يقضى الدين في موعده وإن حل الدين ولم يقضه من غير الرهن، نظرت فإن كانت قيمة الارض وحدها تفى بالدين بيعت بغير الغراس والبناء، فان نقصت قيمتها بالغراس والبناء فالراهن بالخيار بين أن يقلع ويهدم ما عليها وبين أن يبيعها بما عليها ثم يوفى المرتهن حقه.

وإن كان الراهن محجورا عليه وبيعت الارض بما عليها لم يجز للمرتهن أخذ الثمن جميعه بل يأخذ ثمن الارض وللغرماء ثم الغراس والبناء، فان كان ثمن الارض والغراس معا مائتين، وثمن الارض وحدها مائة وثمن الغراس وحده خمسين بيعت بما عليها للزيادة في الخمسين فتعلق حق المرتهن بثلثي الخمسين الزائدة وللراهن ثلثها وخمسين للغرماء ومائة للمرتهن (فرع)

إذا أراد الراهن أن يؤاجر الرهن إلى مدة لا تنقضي الا بعد محل الدين، فان قلنا لا يجوز بيع المستأجر لم يكن له ذلك، لان ذلك يمنع من بيعه، وان قلنا يجوز بيع المستأجر ففيه طريقان، قال عامة أصحابنا: لا يكون له ذلك لان ذلك ينقص من قيمته عند البيع.

وقال أبو على الطبري: فيه قولان كالقولين في زراعة ما لا يحصد الا بعد محل الدين وان كان الرهن فحلا وأراد الراهن أن ينزيه على ماشيته أو ماشية غيره، قال الشافعي رحمه الله جاز، لان هذا منفعة ولا ينقص به كثيرا، وان كان أتانا وأراد ينزى عليها الفحل، فان كانت تلد قبل حلول الدين أو مع حلول الدين جاز له استيفاء منفعة لا ضرر على المرتهن بها.

وان كانت لا تلد الا بعد حلول الدين فان قلنا: لا حكم للحمل كان له ذلك لان الحق إذا حل وهى حامل صح له بيعها مع حملها.

وان قلنا للحمل حكم لم يكن له ذلك لان الحمل لا يدخل في الرهن ولا يمكن بيعها دون الحمل.

هكذا ذكر الشيخ أبو حامد في تعليقته من غير تفصيل.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 234)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

ويملك الراهن التصرف في عين الرهن بما لا ضرر فيه على المرتهن كودج الدابة وتبزيغها، وفصد العبد وحجامته، لانه إصلاح مال من غير إضرار بالمرتهن، وإن أراد أن يختن العبد، فان كان كبيرا لم يجز، لانه يخاف منه عليه وإن كان صغيرا نظرت، فان كان في وقت يندمل الجرح فيه قبل حلول الدين جاز، وإن كان في وقت يحل الدين قبل اندمال جرحه لم يجز لانه ينقص ثمنه وإن كانت به أكلة يخاف من تركها ولا يخاف من قطعها جاز أن يقطع وإن كان يخاف من تركها ويخاف من قطعها لم يجز قطعها، لانه جرح يخاف عليه منه فلم يجز، كما لو أراد أن يجرحه من غير أكلة، وان كانت ماشية فأراد أن يخرج بها في طلب الكلا - فان كان الموضع مخصبا - لم يجز له ذلك، لانه يغرر به من غير حاجة، وان كان الموضع مجدبا جاز له، لانه موضع ضرورة، وإن اختلفا في موضع النجعة فاختار الراهن جهة واختار المرتهن أخرى، قدم اختيار الراهن، لانه يملك العين والمنفعة وليس للمرتهن إلا حق الوثيقة، فكان تقديم اختياره أولى، وإن كان الرهن عبدا فأراد تدبيره جاز، لانه يمكن بيعه في الدين، فان دبره وحل الدين فان كان له مال غيره لم يكلف بيع المدبر، وإن لم يكن له مال غيره بيع منه بقدر الدين وبقى الباقي على التدبير، وان استغرق الدين جميعه بيع الجميع.

(الشرح) في الفصل لغات منها قوله: ودج الدابة بتشديد الدال وتخفيفها وهو منها كالفصد للانسان، ويسميه العامة في ديارنا الخزام، وقوله: تبزيغها مثله وفى المصباح: بزغ البيطار والحاجم بزغا من باب قبل شرط الدم وأساله، وفى الاحكام مزيد بيان لنا.

أما الاحكام، فان الراهن يملك التصرف في عين الرهن بما لا ضرر فيه على المرتهن كاجراء الودج أو التبزيغ للحيوان أو ملء الساعة، أو تشحيم السيارة

أو حقن آلة الطباعة أو نحوها بالزيت أو وضع مركبات النفتالين فيالثياب حتى لا تأتى عليها العثة فتبلى وكل ما هو من شأنه اصلاح المرهون وكماله ولا ضرر فيه

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 235)

________________________________________

على المرتهن جاز قولا واحدا، ولا يجوز للمرتهن منعه، وان أراد الراهن أن يقطع شيئا من جوارح الحيوان - فان كان في قطعه، منفعة وفى تركه خوف عليه لفساد دب في هذا العضو ويخشى أن يمتد المرض فيتلف غيره أو يصيب الحيوان بالتسمم، فان للراهن أن يقطع ذلك بغير اذن المرتهن، لان في ذلك مصلحة من غير خوف وان كان يخشى من قطعه كما يخشى من بقائه ففيه وجهان ان كان الرهن دابة، واحتاجت إلى التودج وهو فتح عرقين عريضين عن يمين تفرع النحر ويسارها ويسميان الوريدين أو إلى التبزيغ وهو فتح الراهصة من حافره فللراهن أن يفعل ذلك بغير اذن المرتهن، وان أراد الراهن أن يفعل شيئا من هذا بغير اذن المرتهن.

قال الشافعي: فكل ما فيه مصلحة ولا يتضمن المضرة أصلا جاز مثل أن يدهن الجرب بالقطران، أما ما كان فيه منفعة وقد يضر كشرب الدواء " ومثله اعطاء الحقن في العضل أو الوريد " فليس للمرتهن أن يفعل ذلك بغير اذن الراهن اه.

وقد استغرب الشيخ أبو حامد هذا في التعليق.

(فرع)

للراهن أن يرعى ماشيته وليس للمرتهن منعه وذلك لانها تأوى بالليل إليه، وان أراد الراهن أن ينتجع بها - أي يحملها أو يسوقها إلى موضع بعيد طلبا للمرعى، فان اتفقا عليه جاز، وان امتنع أحدهما نظرت، فان كان الموضع مخصبا - أي موضع المرتهن - فله أن يمنعه لانه رهنها فليس له نقلها بغير مسوغ أو ضرورة، وان كان الموضع مجدبا، فان اتفقا على النجعة واختلفا في المكان.

قال الشيخ أبو حامد: وكان المكانان متساويين في الخصب والامن

قدم قول الراهن لانه هو المالك للرقبة، وان اختلفا في النجعة أجبر الممتنع من النجعة عليها، لان المرتهن ان كان هو الممتنع قيل له: ليس لك ذلك لما فيه من الاضرار بالماشية، فاما أن تخرج معها أو تبعث بعدل أو ينصب الحاكم عدلا، وان كان الممتنع هو الراهن قيل له: ليس لك ذلك لانك تضر بالمرتهن، واما أن تبعث بعدل يأخذ لبنها ويرعاها ويحفظها.

(فرع)

وان كان الرهن نخلا فأطلعت كان للراهن تأبيرها من غير اذن المرتهن لانه مصلحة من غير ضرر، وما ينزع من السعف والليف فهو للراهن

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 236)

________________________________________

فهو كالثمرة ولا يدخل في الرهن.

فان قيل هذا قد تناوله عقد الرهن وليس بحادث فالجواب أن ما يجد وينمو من السعف والليف وقوم مقامه، فصار هذا بمنزلة المنفعة خارجا عن الاصول، فان خرجت الفسلان في جذع النخل.

قال ابن الصباغ: فعندي أن ذلك يكون للراهن لا حق للمرتهن فيه لانه كالولد للماشية وكذلك ان ازدحمت أرض الرهن بالفسلان وأراد الراهن أن يحسن توزيعها في أرض الرهن.

قال الشافعي: جاز له ذلك بغير اذن المرتهن مادام في ذلك مصلحة للباقى، وكذلك إذا ازدحمت وأراد تخفيفها بالقطع أو القلع وكان في ذلك مصلحة لزيادة نمو الباقي جاز للراهن بغير اذن المرتهن وكانت أخشابها من الرهن، وان أراد الراهن تحويلها إلى أرض أخرى أو قطع جميعها لم يكن له ذلك للضرر.

قال الشافعي لو أراد تحويل المساقى فان كان يضر بالرهن لم يكن له.

وقال الشيخ أبو حامد وإذا أراد المرتهن ذلك لم يكن له.

قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

ولا يملك التصرف في العين بما فيه ضرر على المرتهن لقوله صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا ضَرَرَ وَلَا ضرار " فان باعه أو وهبه أو جعله مهرا في نكاح أو أجره في اجارة أو كان عبدا فكاتبه لم يصح، لانه تصرف لا يسرى إلى ملك الغير يبطل به حق المرتهن من الوثيقة فلم يصح من الراهن بنفسه كالفسخ، وان أعتقه ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: يصح، لانه عقد لا يزيل الملك فلم يمنع صحة العتق، كالاجارة.

والثانى: أنه لا يصح، لانه قول يبطل الوثيقة من عين الرهن، فلم يصح من الراهن بنفسه كالبيع.

والثالث، وهو الصحيح أنه ان كان موسرا صح، وان كان معسرا لم يصح لانه عتق في ملكه يبطل به حق غيره، فاختلف فيه الموسر والمعسر كالعتق في العبد المشترك بينه وبين غيره، فان قلنا ان العتق يصح، فان كان موسرا أخذت منه القيمة وجعلت رهنا مكانه، لانه أتلف رقه فلزمه ضمانه كما لو قتله، وتعتبر

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 237)

________________________________________

قيمته وقت الاعتاق لانه حالة الاتلاف، ويعتق بنفس اللفظ، ومن أصحابنا من قال: في وقت العتق ثلاثة أقوال: (أحدها) بنفس اللفظ

(والثانى)

بدفع القيمة (والثالث) موقوف، فان دفع القيمة حكمنا أنه عتق من حين الاعتاق، وان لم يدفع حكمنا أنه لم يعتق في حال الاعتاق، كما قلنا فيمن أعتق شركا له في عبد أنه يسرى، وفى وقت السراية ثلاثة أقوال - وهذا خطأ - لانه لو كان كالعتق في العبد المشترك لوجب أن لا يصح العتق من المعسر، كما لا يسرى العتق باعتاق المعسر في العبد المشترك.

وان كان معسرا وجبت عليه القيمة في ذمته، فان أيسر قبل محل الدين طولب بها لتكون رهنا مكانه، وان أيسر في محل الدين طولب بقضاء الدين.

وان قلنا ان العتق لا يصح ففكه أو بيع في الدين ثم ملكه لم يعتق عليه.

ومن أصحابنا من قال: يعتق، لانه انما لم يعتق في الحال لحق المرتهن، وقد زال حق المرتهن فنفذ العتق، كما لو أحبلها ثم فكها أو بيعت ثم ملكها والمذهب الاول لانه عتق لم ينفذ في الحال فلم ينفذ بعد ذلك، كما لو أعتق المحجور عليه عبده ثم فك عنه الحجر، ويخالف الاحبال فانه فعل، وحكم الفعل أقوى من حكم القول، ولهذا لو أحبل المجنون جاريته نفذ احباله وثبت لها حق الحرية، ولو أعتقها لم يصح.

وان قلنا انه يصح العتق ان كان موسرا ولا يصح إذا كان معسرا، فقد بينا حكم الموسر والمعسر.

وان كان المرهون جارية فأحبلها فهل ينفذ إحباله أم لا، على الاقوال الثلاثة، وقد بينا وجوهها في العتق، فان قلنا انه ينفذ فالحكم فيه كالحكم في العتق وان قلنا انه لا ينفذ احباله صارت أم ولد في حق الراهن لانها علقت بحر في ملكه، وانما لم ينفذ لحق المرتهن، فان حل الدين وهى حامل لم يجز بيعها لانها حامل بحر، وان ماتت من الولادة لزمه قيمتها لانها هلكت بسبب من جهته.

وفى القيمة التى تجب ثلاثة أوجه (أحدها) تجب قيمتها وقت الوطئ، لانه وقت سبب التلف، فاعتبرت القيمة فيه، كما لو جرحها وبقيت ضنيئة إلى أن ماتت.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 238)

________________________________________

(والثانى)

تجب قيمتها أكثر ما كانت من حين الوطئ إلى حين التلف، كما قلنا فيمن غصب جارية وأقامت في يده ثم ماتت (والثالث) أنه تجب قيمتها وقت الموت، لان التلف حصل بالموت والمذهب الاول، وما قال الثاني لا يصح، لان الغصب موجود من حين الاخذ إلى حين التلف، والوطئ غير موجود من حين الوطئ إلى حين التلف.

وما قال الثالث يبطل به إذا جرحها ثم ماتت، فان

التلف حصل بالموت، ثم تجب القيمة وقت الجراحة، وان ولدت نظرت، فان نقصت بالولادة وجب عليه أرش ما نقص، وان حل الدين ولم يقضه فان أمكن أن يقضى الدين بثمن بعضها بيع منها بقدر ما يقضى به الدين، وان فكها من الرهن أو بيعت وعابت إليه ببيع أو غيره صارت أم ولد له، وقال المزني: لا تصير كما لا تعتق إذا أعتقها ثم فكها أو ملكها، وقد بينا الفرق بين الاعتاق والاحبال فأغنى عن الاعادة.

(الشرح) الحديث رواه أحمد في مسنده عن ابن عباس وابن ماجه في سننه عن عبادة بن الصامت عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا ضَرَرَ وَلَا ضرار " وإسناده حسن.

أما اللغات ففى النهاية: الضر ضد النفع ضره يضره ضرا وضرارا، وأضر به يضر إضرارا، فمعنى قوله " لا ضرر " أي لا يضر الرجل أخاه فينقصه شيئا من حقه والضرار فعال من الضرر، أي لا تجازيه على إضراره بادخال الضرر عليه والضرر فعل الواحد، والضرار فعل الاثنين، أو الضرر ابتداء الفعل، والضرار الجزاء.

أما الاحكام، فان أزال الراهن ملكه عن الرهن بغير إذن المرتهن نظرت فان كان ببيع أو هبة أو ما أشبهها من التصرفات لم يصح للحديث لان فيها إضرار على المرتهن، ولانه تصرف لا يسرى إلى ملك الغير احترازا من العتق وقوله " يبطل به حق المرتهن من الوثيقة " احتراز من اجارته وإعارته.

وقوله " بغير إذن المرتهن " احتراز منه إذا أذن، وان كان الرهن رقيقا فأعتقه الراهن بغير اذن المرتهن.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 239)

________________________________________

قال الشافعي في الام، إذا كان موسرا فقد عتقه، وإن كان معسرا فعلى قولين

وقال في القديم: قال عطاء لا ينفذ عتقه موسرا كان أو معسرا، ولهذا وجه.

ثم قال: قال بعض أصحابنا ينفذ ان كان موسرا ولا ينفذ ان كان معسرا.

واختلف أصحابنا في ترتيب المذهب، فقال أبو على الطبري وابن القطان: في المسألة ثلاثة أقوال (أحدها) ينفذ اعتاقه موسرا كان أو معسرا

(والثانى)

لا ينفذ موسرا كان أو معسرا (والثالث) ينفذ ان كان موسرا ولا ينفذ ان كان معسرا وهذه الطريقة اختيار المصنف وابن الصباغ.

 

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

وان وقف المرهون ففيه وجهان

(أحدهما)

أنه كالعتق لانه حق لله تعالى لا يصح اسقاطه بعد ثبوته فصار كالعتق

(والثانى)

انه لا يصح لانه تصرف لا يسرى إلى ملك الغير فلا يصح كالبيع والهبة (الشرح) الاحكام: إذا تصرف الراهن بغير العتق كالبيع والاجارة والهبة والوقف وغيره فتصرفه باطل، لانه تصرف يبطل حق المرتهن من الوثيقة غير مبنى على التغليب والسراية فلم يصح بغير اذن المرتهن كفسخ الرهن، فان أذن فيه المرتهن صح وبطل الرهن، لانه اذن فيما ينافى حقه، فيبطل بفعله كالعتق، وان زوج الام المرهونة لم يصح، وهذا هو مذهبنا ومذهب مالك وأحمد، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:

(فصل)

وما منع منه الراهن لحق المرتهن كالوطئ والتزويج وغيرهما، إذا أذن فيه جاز له فعله، لان المنع لحقه فزال بإذنه، وما يبطل لحقه كالبيع والعتق وغيرهما إذا فعله بإذنه صح، لان بطلانه لحقه فصح بإذنه، فان أذن في البيع أو العتق ثم رجع قبل أن يبيع، أو قبل أن يعتق لم يجز البيع والعتق لانه بالرجوع سقط الاذن فصار كما لو لم يأذن، فان لم يعلم بالرجوع فباع أو أعتق ففيه وجهان

(أحدهما)

أنه يسقط الاذن ويصير كما إذا باع أو أعتق بغير الاذن

 

(والثانى)

أنه لا يسقط الاذن بناء على القولين في الوكيل إذا عزله الموكل ولم يعلم حتى تصرف.

(الشرح) فيما سبق في الفصل قبله الكفاية

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 240)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

وإن أذن له في العتق فأعتق أو في الهبة فوهب وأقبض بطل الرهن لانه تصرف ينافى مقتضى الوثيقة فعله باذنه فبطلت به الوثيقة، فان أذن له في البيع لم يخل، إما أن يكون في دين حال أو في دين مؤجل، فان كان في دين حال تعلق حق المرتهن بالثمن، ووجب قضاء الدين منه، لان مقتضى الرهن بيعه واستيفاء الحق منه، وان كان في دين مؤجل نظرت، فان كان الاذن مطلقا فباع بطل الرهن وسقط حقه من الوثيقة، لانه تصرف في عين الرهن لا يستحقه المرتهن، فعله باذنه فبطل به الرهن، كما لو أعتقه باذنه، وإن أذن له في البيع بشرط أن يكون الثمن رهنا ففيه قولان.

قال في الاملاء: يصح، ووجهه أنه لو أذن له في بيعه بعد المحل بشرط أن يكون ثمنه رهنا إلى أن يوفيه جاز.

وقال في الام: لا يصح، لان ما يباع به من الثمن مجهول، ورهن المجهول لا يصح، فإذا بطل الشرط بطل البيع، لانه انما أذن في البيع بهذا الشرط ولم يثبت الشرط فلم يصح البيع، وإن أذن له في البيع بشرط أن يعجل الدين فباع لم يصح البيع.

وقال المزني: يبطل الشرط ويصح العقد، لانه شرط فاسد سبق البيع، فلم يمنع صحته، كما لو قال لرجل: بع هذه السلعة ولك عشر ثمنها، وهذا خطأ، لانه إنما أذن له بشرط أن يعجل الدين وتعجيل الدين لم يسلم له، فإذا لم يسلم له الشرط بطل الاذن فيصير البيع بغير إذن، ويخالف مسألة الوكيل، فان هناك

لم يجعل العوض في مقابلة الاذن، وإنما جعله في مقابلة البيع وههنا جعل تعجيل الدين في مقابلة الاذن، فإذا بطل التعجيل بطل الاذن، والبيع بغير اذن المرتهن باطل.

وحكى عن أبى إسحاق أنه قال: في هذه المسألة قول آخر أنه يصح البيع ويكون ثمنه رهنا، كما لو أذن له في البيع بشرط أن يكون ثمنه رهنا.

(الشرح) الاحكام: بيانه في الفصول السابقة.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 241)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

وما يحتاج إليه الرهن من نفقة وكسوة وعلف وغيرها فهو على الراهن لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا وعلى الذى يركب ويشرب نفقته، والذى يركب ويشرب هو الراهن فوجب أن تكون النفقة عليه، ولان الرقبة والمنفعة على ملكه فكانت النفقة عليه وان احتاج إلى شرب دواء أو فتح عرق فامتنع لم يجبر عليه لان الشفاء بيد الله تعالى، وقد يجئ من غير فصد ولا دواء ويخالف النفقة فانه لا يبقى دونها فلزمه القيام بها.

 

(فصل)

وان جنى العبد المرهون لم يخل اما أن يجنى على الأجنبي، أو على المولى أو على مملوك للمولى، فان كانت الجناية على أجنبي تعلق حق المجني عليه برقبته، وقدم على حق المرتهن، لان حق المجني عليه يقدم على حق المالك، فلان يقدم على حق المرتهن أولى، ولان حق المجني عليه يختص بالعين فلو قدمنا حق المرتهن عليه أسقطنا حقه، وحق المرتهن يتعلق بالعين والذمة، فإذا قدمنا حق المجني عليه لم يسقط حقه فوجب تقديم حق المجني عليه، فان سقط حق المجني عليه بالعفو أو الفداء بقى حق المرتهن، لان حق المجني عليه لم يبطل الرهن وانما قدم عليه حق المجني عليه لقوته، فإذا سقط حق المجني عليه بقى حق المرتهن

وان لم يسقط حق المجني عليه نظرت، فان كان قصاصا في النفس اقتص له وبطل الرهن، وان كان في الطرف اقتص له، وبقى الرهن في الباقي، وان كان مالا وأمكن أن يوفى حقه ببيع بعضه بيع منه ما يقضى به حقه، وان لم يمكن الا ببيع جميعه بيع فان فضل عن حق المجني عليه شئ من ثمنه تعلق به حق المرتهن وان كانت الجناية على المولى نظرت، فان كان فيما دون النفس اقتص منه ان كان عمدا، وان كان خطأ أو عمدا فعفى عنه على مال لم يثبت له المال.

وقال أبو العباس: فيه قول آخر أنه يثبت له المال، ويستفيد به بيعه وابطال

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 242)

________________________________________

حق المرتهن من الرهن، ووجهه أن من ثبت له القصاص في العمد ثبت له المال في الخطأ كالأجنبي، والصحيح هو الاول، لان المولى لا يثبت له المال على عبده ولهذا لو أتلف له مالا لم يستحق عليه بدله، ووجه الاول يبطل بغير المرهون، فانه يجب له القصاص في العمد، ولا يجب له المال في الخطأ، وإن كانت الجناية على النفس - فان كانت عمدا - ثبت للوارث القصاص، فان اقتص بطل الرهن وإن كانت خطأ أو عمدا وعفى على مال ففيه قولان.

أحدهما: لا يثبت له المال، لان الوارث قائم مقام المولى، والمولى لا يثبت له في رقبة العبد مال، فلا يثبت لمن يقوم مقامه.

والثانى: أنه يثبت له، لانه يأخذ المال عن جناية حصلت، وهو في غير ملكه فصار كما لو جنى على من يملكه المولى، وان كانت الجناية على مملوك للمولى، فان كانت على مملوك غير مرهون، فان كانت الجناية عمدا.

فللمولى أن يقتص منه.

وان كانت خطأ أو عمدا وعفا على مال لم يجز.

لان المولى لا يستحق على عبده مالا.

وان كانت الجناية على مملوك مرهون عند مرتهن آخر.

فان كانت الجناية عمدا فللمولى أن يقتص منه.

فان اقتص بطل الرهن.

وان كانت خطأ أو عمدا

وعفى على مال ثبت المال لحق المرتهن الذى عنده المجني عليه، لانه لو قتله المولى لزمه ضمانه فإذا قتله عبده تعلق الضمان برقبته.

فان كانت قيمته أكثر من قيمة المقتول وأمكن أن يقضى أرش الجناية ببيع بعضه بيع منه ما يقضى به أرش الجناية ويكون الباقي رهنا.

فان لم يمكن الا ببيع جميعه بيع.

وما فضل من ثمنه يكون رهنا.

فان كانت قيمته مثل قيمة المقتول أو أقل منه ففيه وجهان.

 

(أحدهما)

أنه ينقل القاتل إلى مرتهن المقتول.

ليكون رهنا مكانه.

لانه لا فائدة في بيعه.

 

(والثانى)

أنه يباع لانه ربما رغب فيه من يشتريه بأكثر من قيمته فيحصل عند كل واحد من المرتهنين وثيقة بدينه.

وان كانت الجناية على مرهون عند المرتهن الذى عنده القاتل.

فان كانت عمدا فاقتص منه بطل الرهن.

وان كانت خطأ أو عمدا وعفى عنه على مال نظرت.

فان اتفق الدينان في المقدار والحلول

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 243)

________________________________________

والتأجيل، واتفقت قيمة العبدين ترك على حاله، لانه لا فائدة في بيعه، وان كان الدين الذى رهن به المقتول حالا.

والدين الذى رهن به القاتل مؤجلا.

بيع لان في بيعه فائدة، وهو أن يقضى الدين الحال، فان اختلف الدينان.

واتفقت القيمتان نظرت، فان كان الدين الذى ارتهن به القاتل أكثر لم يبع لانه مرهون بقدر، فإذا بيع صار مرهونا ببعضه.

وإن كان الدين الذى ارتهن به القاتل أقل نقل، فإن في نقله فائدة، وهو أن يصير مرهونا بأكثر من الدين الذى هو مرهون به، وهل يباع وينقل ثمنه؟ أو ينقل بنفسه؟ فيه وجهان، وقد مضى توجيههما، وإن اتفق الدينان بأن كان كل واحد منهما مائة، واختلف القيمتان نظر فيه، فان كانت قيمة المقتول أكثر لم يبع، لانه إذا ترك كان رهنا بمائة، وإذا بيع كان ثمنه رهنا بمائة، فلا يكون في

بيعه فائدة، وان كانت قيمة القاتل أكثر بيع منه بقدر قيمة المقتول ويكون رهنا بالحق الذى كان المقتول رهنا به وباقيه على ما كان.

(الشرح) حديث أبى هريرة رواه الجماعة إلا مسلما والنسائي وفى لفظ " إذا كانت الدابة مرهونة فعلى المرتهن علفها ولبن الدر يشرب وعلى الذى يشرب نفقته " رواه أحمد وتقدم كلام المحدثين في أول الباب مستوفى فيراجع.

أما أحكام الفصل: فقد تكلمنا على مضمونه فيما سبق فيما يصلح الرهن.

قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

فإن جنى العبد المرهون باذن المولى نظرت، فان كان بالغا عاقلا فحكمه حكم ما لو جنى بغير إذنه في القصاص والارش، على ما بيناه، ولا يلحق السد بالاذن الا الاثم، فانه يأثم لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله فان كان غير بالغ نظرت فان كان مميزا يعرف ان طاعة المولى لا تجوز في القتل كان كالبالغ في جميع ما ذكرناه الا في القصاص.

فان القصاص لا يجب على الصبى وان كان صغيرا لا يميز أو أعجميا لا يعرف ان طاعة المولى لا تجوز

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 244)

________________________________________

في القتل لم تتعلق الجناية برقبته بل يتعلق حكم الجناية بالمولى.

فان كان موسرا أخذ منه الارش، وان كان معسرا فقد قال الشافعي رحمه الله يباع العبد في أرش الجناية، فمن أصحابنا من حمله على ظاهره.

وقال يباع لانه قد باشر الجناية فبيع فيها، ومنهم من قال: لا يباع لان القاتل في الحقيقة هو المولى، وانما هو آلة كالسيف وغيره، وحمل قول الشافعي رحمه الله على أنه أراد إذا ثبت بالبينة أنه قتله فقال المولى أنا أمرته فقال يؤخذ منه الارش ان كان موسرا بحكم اقراره، وان كان معسرا بيع العبد بظاهر البينة والله أعلم.

 

(فصل)

وان جنى على العبد المرهون فالخصم في الجناية هو الراهن، لانه هو المالك للعبد، ولما يجب من بدله، فان ادعى على رجل أنه جنى عليه فأنكره ولم تكن بينة فالقول قول المدعى عليه مع يمينه، فان نكل عن اليمين ردت اليمين على الراهن، فان نكل فهل ترد اليمين على المرتهن، فيه قولان، بناء على القولين في المفلس، إذا ردت عليه اليمين فنكل، فهل ترد على الغريم؟ فيه قولان.

 

(أحدهما)

لا ترد، لانه غير مدع.

 

(والثانى)

ترد، لانه ثبت له حق فيما يثبت باليمين.

فهو كالمالك.

فان أقر المدعى عليه أو قامت البينة عليه أو نكل وحلف الراهن أو المرتهن على أحد القولين.

فان كانت الجناية موجبة للقود.

فالراهن بالخيار بين أن يقتص وبين أن يعفو.

فان اقتص بطل الرهن.

وان قال: لا أقتص ولا أعفو ففيه وَجْهَانِ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: للمرتهن اجباره على اختيار القصاص أو أخذ المال لان له حقا في بدله فجاز له اجباره على تعيينه.

وقال أبو القاسم الداركى: ان قلنا: ان الواجب بقتل العمد هو القود لم يملك اجباره لانه إذا ملك اسقاط القصاص فلان يملك تأخيره أولى.

وان قلنا: ان الواجب أحد الامرين أجبر على التعيين لان له حقا هو القصاص وللمرتهن حقا هو المال فلزمه التعيين وان عفى على مال أو كانت الجناية خطأ وجب الارش.

وتعلق حق المرتهن به.

لان الارش بدل عن المرهون.

فتعلق حق المرتهن به.

وان أسقط المرتهن حقه من الوثيقة سقط.

لانه لو كان الرهن باقيا فأسقط حقه

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 245)

________________________________________

منه سقط، فكذلك إذا أسقط من بدله، فإن أبرأ المرتهن الجاني من الارش لم يصح إبراؤه لانه لا يملكه فلا ينفذ إبراؤه فيه، كما لو كان الراهن باقيا فوهبه.

وهل يبطل بهذا الابراء حقه من الوثيقة؟ فيه وجهان

 

(أحدهما)

يبطل، لان إبراءه تضمن إبطال حقه من الوثيقة، فإذا سقط الابراء بقى ما تضمنه من إبطال الوثيقة.

 

(والثانى)

لا يبطل، لان الذى أبطله هو الابراء، والابراء لم يصح، فلم يبطل ما تضمنه، فان أبرأه الراهن من الارش لم يصح ابراؤه، لانه يبطل حق المرتهن من الوثيقة من غير رضاه فلم يصح، كما لو كان الرهن باقيا فأراد أن يهبه فان أبرأه ثم قضى دين المرتهن أو أبرأه المرتهن منه فهل ينفذ ابراء الراهن للجاني من الارش؟ فيه وجهان:

(أحدهما)

ينفذ، لان المنع منه لحق المرتهن، وقد زال حق المرتهن فينفذ ابراء الراهن.

 

(والثانى)

أنه لا ينفذ لانا حكمنا ببطلانه فلا يجوز أن يحكم بصحته بعد الحكم ببطلانه، كما لو وهب مال غيره ثم ملكه.

وان أراد أن يصالح عن الارش على حيوان أو غيره من غير رضا المرتهن لم يجز، لان حق المرتهن يتعلق بالقيمة، فلا يجوز اسقاطه إلى بدل من غير رضاه، كما لو كان الرهن باقيا فأراد أن يبيعه من غير رضاه، فان رضى المرتهن بالصلح فصالح على حيوان تعلق به حق المرتهن، وسلم إلى من كان عنده الرهن ليكون رهنا مكانه، فان كان مما له منفعة انفرد الراهن بمنفعته، وان كان له نماء انفرد بنمائه كما كان ينفرد بمنفعة أصل الرهن ونمائه، فان كان المرهون جارية فجنى عليها فأسقطت جنينا ميتا وجب عليه عشر قيمة الام ويكون خارجا من الرهن لانه بدل عن الولد، والولد خارج من الرهن، فكان بدله خارجا منه.

وان كانت بهيمة فألقت جنينا ميتا وجب عليه ما نقص من قيمة الام ويكون رهنا، لانه بدل عن جزء من المرهون، فان ألقته حيا ثم مات ففيه قولان:

(أحدهما)

يجب عليه قيمة الولد حيا لانه يمكن تقويمه: فيكون للراهن، فان

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 246)

________________________________________

عفى عنه صح عفوه

(والثانى)

يجب عليه أكثر الامرين من قيمته حيا أو ما نقص من قيمة الام، فان كان قيمته حيا أكثر وجب ذلك للراهن وصح عفوه عنه، وان كان ما نقص من قيمة الام أكثر كان رهنا.

 

(فصل)

وان جنى على العبد المرهون ولم يعرف الجاني فأقر رجل أنه هو الجاني، فان صدقه الراهن دون المرتهن، كان الارش له ولا حق للمرتهن فيه وان صدقه المرتهن دون الراهن كان الارش رهنا عنده، فان لم يقضه الراهن الدين استوفى المرتهن حقه من الارش، فان قضاه الدين أو أبرأه منه المرتهن رد الارش إلى المقر.

(الشرح) حديث من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة لقى الله مكتوب بين عينيه: آيس من رحمة الله، أخرجه ابن ماجه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ المناوى: كناية عن كونه كافرا إذ لا ييأس من روح الله الا القوم الكافرون وهذا زجر وتهويل أو المراد يستمر.

هذا حاله حتى يطهر بالنار ثم يخرج.

اه وقال الحفتى: ان استحل ذلك فهو كافر

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

فان كان المرهون عصيرا فصار في يد المرتهن خمرا زال ملك الراهن عنه وبطل الرهن لانه صار محرما لا يجوز التصرف فيه فزال الملك فيه وبطل الرهن كالحيوان إذا مات، فان تخللت عاد الملك فيه لانه عاد مباحا يجوز التصرف فيه فعاد الملك فيه كجلد الميتة إذا دبغ، ويعود رهنا لانه عاد إلى الملك السابق، وقد كان في الملك السابق رهنا فعاد رهنا، فان كان المرهون حيوانا فمات وأخذ الراهن جلده ودبغه فهل يعود الرهن فيه وجهان.

قال أبو على ابن خبران يعود رهنا، كما لو رهنه عصيرا فصار خمرا ثم صار خلا.

وقال أبو إسحاق

لا يعود الرهن لانه عاد الملك فيه بمعالجة وأمر أحدثه فلم يعد رهنا بخلاف الخمر فانها صارت خلا بغير معنى من جهته (الشرح) الاحكام: إذا رهنه عصيرا صح رهنه كالثياب، ولان أكثر ما فيه أنه يخشى تلفه بأن يصير خمرا، وينفسخ الرهن، وذلك لا يمنع صحة الرهن،

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 247)

________________________________________

كالحيوان يجوز رهنه، وإذا جاز أن يموت، فإذا رهنه عصيرا فاستحال خلا أو مالا يسكر كثيره، فالرهن فيه بحاله لانه يتغير إلى حالة لا تخرجه عن كونه مالا فلم يخرجه من الرهن، كما لو رهنه عبدا شابا فصار شيخا، فإذا رهنه عصيرا فاستحال خمرا زال ملك الراهن عنه وبطل الرهن فيه.

وقال أبو حنيفة وأصحابه لا يزول ملك الراهن عنه، ولا يبطل الرهن به لانه يجوز أن تصير له قيمة دليلنا أن كونه خمرا يمنع صحة التصرف فيه، والضمان على متلفه، فبطل به الملك والرهن، كموت الشاة.

إذا ثبت هذا فإنه يجب إراقته، فان أتلف فلا كلام، ولا خيار للمرتهن في البيع - إن كان شرط رهنه فيه - إذا كان انقلابه بيده، لان التلف حصل بيده، وإن استحال الخمر خلا بنفسه من غير معالجة عاد الملك فيه للراهن بلا خلاف، وعاد الرهن فيه للمرتهن، لانا إنما حكمنا بزوال ملك الراهن عنه وبطلان الرهن بحدوث الاسكار، وقد زالت تلك الصفة من غير أن تخلف نجاسة فوجب أن يعود إلى سابق ملكه كما كان.

فان قيل: أليس العقد إذا بطل لم يصح حتى يبتدأ، والرهن قد بطل فكيف عاد من غير أن يجدد عقده؟ قيل إنما يقال ذلك إذا وقع العقد فاسدا، وأما وقد وقع العقد صحيحا ابتداء ثم طرأ عليه ما أخرجه عن حكم العقد فانه إذا زال ذلك المعنى عاد العقد صحيحا، كما نقول: إذا أسلمت زوجة الكافر يحرم عليه وطؤها

فإذا أسلم الزوج قبل انقضاء العدة عاد العقد كما كان، وكذلك إذا ارتد الزوجان أو أحدهما، فإذا استحال الخمر خلا بصنعة آدمى لم يطهر بذلك.

بل تزول الخمرية عنه، ويكون خلا نجسا لا يحل الائتدام به، ولا يعود امتلاكه ولا رهنه.

وقال أبو حنيفة: يكون طاهرا يحل شربه والرهن فيه بحاله دليلنا ما روى أبو طلحة رضى الله عنه قال: لما نزل تحريم الخمر قلت: يا رسول الله ان عندي خمرا لايتام ورثوه.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أرقه قلت أفلا أخلله؟ قال لا، فنهاه عن تخليله، وهذا يقتضى التحريم، فان كان مع رجل خمر فأراقه فأخذه آخر وصار في يده خلا أو وهبه لغيره فصار في يد الموهوب خلا، ففيه وجهان.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 248)

________________________________________

من أصحابنا من قال يكون لمن أراقه، لانه يعود إلى سابق ملكه، والملك للمريق، فهو كما لو غصب من رجل خمرا وصار في يده خلا

(والثانى)

يكون ملكا لمن هو في يده، لانه إذا أراقه صاحبه فقد رفع يده عنه، فإذا جمعه الآخر صارت له عليه يد والاول أصح.

قال ابن الصباغ: إذا رهنه عصيرا فصار خمرا في يد الراهن قبل القبض بطل الرهن، فان عاد خلا لم يعد الرهن، ويخالف إذا كان بعد القبض لان الرهن قد لزم، وقد صار مانعا للملك، وكذلك إذا اشترى عصيرا فصار خمرا في يد البائع وعاد خلا فسد العقد ولم يكن ملكا للمشترى بعوده خلا، والفرق بينه وبين الرهن أن الرهن عاد تبعا لملك الراهن، وها هنا يعود لملك البائع لعدم العقد.

(فرع)

إذا رهن عند رجل شاة وأقبضه اياها فماتت زال ملك الراهن وبطل الرهن فيها لانها خرجت عن أن تكون مالا، فان أخذ الراهن جلدها فدبغها

عاد ملكه على الجلد بلا خلاف، وهل يعود رهنا؟ فيه وجهان قال ابن خيران: انما عاد بمعالجته، ومعنى أحدثه بخلاف الخمر، وسئل أبو إسحاق عن رجل ماتت له شاة، فجاء آخر وأخذ جلدها فدبغه، فقال إذا لم يطرحها مالكها فان الجلد لمالك الشاة دون الدابغ، لان الملك وان عاد بمعنى أحدثه الدابغ إلا أن يد المالك كانت مستقرة على الجلد وجوز له استصلاحه فإذا غصبه غاصب ودبغه لم ينقل يد المالك كما لو كان له جرو كلب يريد تعليمه الصيد فغصبه إنسان وعلمه، فان المغصوب منه أحق به، لان يده كانت مستقرة عليه، قال فأما إذا طرح صاحب الشاة شاته على المزبلة فأخذ رجل جلدها ودبغه ملكه لان المالك قد أزال يده عنها.

قيل له: أليس من يحجر مواتا يكون أحق بإحيائها من غيره ثم جاء غيره فأحياها ملكها، فقال الفرق بينهما أن من يحجر على شئ من الموات صار به بمعنى أثره فيه، وهو الحجز ويده ضعيفة لاستبدال ملك، فإذا وجد سبب الملك وهو الاحياء بطلت يده، وكذلك من ماتت له شاة لان يده مقرة عليها بالملك.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 249)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

وإن تلف الرهن في يد المرتهن من غير تفريط تلف من ضمان الراهن ولا يسقط من دينه شئ لما روى سعيد بن المسيب رضى الله عنه قَالَ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ لا يغلق الرهن ممن رهنه، ولانه وثيقة بدين ليس بعوض منه فلم يسقط الدين بهلاكه كالضامن، فإن غصب عينا ورهنها بدين ولم يعلم المرتهن وهلكت عنده من غير تفريط فهل يجوز للمالك أن يغرمه فيه وجهان

(أحدهما)

لا يغرمه لانه دخل على الامانة

(والثانى)

له أن يغرمه لانه أخذه من يد ضامنة، فان قلنا انه يغرمه فغرمه فهل يرجع بما غرم على الراهن

فيه وجهان

(أحدهما)

يرجع لانه عره

(والثانى)

لا يرجع لانه حصل التلف في يده فاستقر الضمان عليه، فان بدأ وغرم الراهن، فان قلنا ان المرتهن إذا غرم رجع على الراهن لم يرجع الراهن على المرتهن بما غرمه، وإن قلنا ان المرتهن إذا غرم لا يرجع على الراهن رجع عليه الراهن بما غرمه، فان رهن عند رجل عينا وقال رهنتك هذا إلى شهر فان لم أعطك مالك فهو لك بالدين فالرهن باطل لانه وقته والبيع باطل لانه علقه على شرط فان هلك العين قبل الشهر لم يضمن لانه مقبوض بحكم الرهن فلم يضمنه كالمقبوض عن رهن صحيح، وان هلك بعد الشهر ضمنه لانه مقبوض بحكم البيع فضمنه كالمقبوض عن بيع صحيح (الشرح) الحديث مر تخريجه في غير موضع أما الاحكام فانه إذا قبض المرتهن الرهن فهلك في يده من غير تفريط لم يلزمه ضمانه ولا يسقط من دينه شئ، وبه قال الاوزاعي وعطاء وأحمد وأبو عبيد وهى إحدى الروايتين عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه، وذهب الثوري وأبو حنيفة وأصحابه إلى أن الرهن مضمون على المرتهن بأقل الامرين من قيمته، أو قدر الدين، فإذا هلك فان كان الدين مائة وقيمة الرهن تسعين ضمنه بتسعين وبقى له من الدين عشرة، وان كان الدين تسعين وقيمة الرهن مائة فهلك الرهن سقط الرهن وسقط جميع دينه، ولا يرجع الراهن عليه بشئ لسقوط الدين، وروى ذلك عن عمر رضى الله عنه.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 250)

________________________________________

وذهب إسحاق بن راهويه إلى أن الرهن مضمون على المرتهن بكمال قيمته، ثم يترادان، وهى الرواية الثانية عن على رضى الله عنه.

وذهب الشعبى والحسن البصري إلى أن الرهن إذا هلك في يد المرتهن سقط جميع دينه، سواء كانت قيمته أكثر من قدر الدين أو أقل أو كانا متساويين.

وقال مالك: إن هلك الرهن هلاكا ظاهرا، مثل أن كان عبدا فمات أو دارا فاحترقت فهو غير مضمون على المرتهن، وان هلك هلاكا خفيا، مثل أن يدعى المرتهن أنه هلك، فهو مضمون كما قال اسحاق بن راهويه.

دليلنا ما روى سعيد بن المسيب عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وسلم قال " لا يغلق الرهن من راهنه الذى رهنه له غنمه وعليه غرمه " فهذا الحديث دليل في ثلاثة أمور: (أحدها) قوله صلى الله عليه وسلم " لا يغلق الرهن " وله ثلاثة تأويلات.

أحدهما: لا يكون الرهن للمرتهن بحقه إذا حل الحق.

والتأويل الثاني: لا يسقط الحق بتلفه.

والثالث: أي لا ينغلق حتى لا يكون للراهن فكه عن الرهن بل له فكه.

فإن قيل فهذا حجة عليكم لان قوله صلى الله عليه وسلم " لا يغلق الرهن " أي لا يهلك بغير عوض.

قال زهير: وفارقتك رهن لا فكاك له

* يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا يعنى ارتهن فخلبه الحب يوم الوداع، فأمسى وقد غلق الرهن، أي هلك بغير عوض.

قلنا هذا غلط لان القلب لا يهلك، وانما معناه أن القلب صار رهنا بحقه وقد انغلق انغلاقا لا ينفك (الثاني) قوله صلى الله عليه وسلم " من راهنه " يعنى من ضمانه، قال الشافعي رضى الله عنه: وهذه أبلغ كلمة للعرب في أنهم إذا قالوا هذا الشئ من فلان يريدون من ضمانه.

(الثالث) قوله صلى الله عليه وسلم " له غنمه وعليه غرمه " قال الشافعي رضى الله عنه وغرمه هلاكه وعطبه، ولانه مقبوض عن عقد لو كان فاسدا لم يضمن فوجب إذا كان صحيحا أن لا يضمن أصله، كالوديعة ومال المضاربة والوكالة والشركة، وعكسه المقبوض عن البيع والقرض

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 251)

________________________________________

وان غصب رجل من رجل عينا فرهنها عند آخر وقبضها المرتهن فأتلفها أو تلفت عنده بغير تفريط، فإن كان عالما بأنها مغصوبة فللمغصوب منه أن يرجع بقيمتها على الغاصب أو المرتهن لانه أتلفها ولانه كان عالما بغصبها فيستقر عليه الضمان لحصول التلف في يده، وان رجع المغصوب منه على المرتهن لم يرجع المرتهن على الراهن لان الضمان استقر عليه.

وان كان المرتهن غير عالم لكونها مغصوبة وتلفت عنده من غير تفريط فللمغصوب منه أن يرجع على الغاصب لانه أخذها من مالكها متعديا.

وهل للمالك أن يرجع على المرتهن؟ فيه وجهان

(أحدهما)

لا يرجع عليه لانه أخذها على وجه الامانة

(والثانى)

يرجع عليه لانه أخذها من يد ضامنه.

وإذا قلنا يرجع على المرتهن، فهل للمرتهن أن يرجع بما ضمنه على الراهن؟ قال أبو العباس بن سريج من أئمتنا: لا يرجع لانه تلف في يده فاستقر الضمان عليه.

وفيه وجه آخر.

ولم يقل الشيخ أبو حامد في التعليق غير أنه يرجع عليه، لان المرتهن أمين فلا يضمن بغير تعد، فيكون تلف الرهن من ضمان الراهن، فرجع بالقيمة عليه لانه غره.

وان بدا المغصوب منه المرتهن أنه لا يرجع على الراهن رجع الراهن ها هنا على المرتهن وقال في الام " ولو رهنه رهنا على أنه إذا دفع الحق وقضاه أخذ الرهن، وان لم يقض له بدينه فالرهن والبيع فاسدان " وهذا صحيح قال العمرانى: أما الرهن فبطل لانه مؤقت لمحل الدين ومن شأنه أن يكون مطلقا.

وأما البيع فبطل لانه ملق بزمان مستقبل، فيكون هذا الرهن في يد المرتهن إلى أن يحل الحق غير مضمون عليه لانه مقبوض عن رهن فاسد، وحكم المقبوض في الضمان عن العقد الفاسد كالمقبوض عن العقد الصحيح، فان تلف

الرهن لم يضمن وإذا حل الحق كان مضمونا على المرتهن لانه مقبوض عن بيع فاسد فضمنه كالمقبوض عن بيع صحيح فعلى هذا إذا تلف في يده لزمه ضمانه سواء فرط فيه أو لم يفرط

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 252)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله: باب اختلاف المتراهنين إذا اختلف المتراهنان فقال الراهن ما رهنتك، وقال المرتهن رهنتني فالقول قول الراهن مع يمينه لان الاصل عدم العقد.

 

(فصل)

إذا اختلفا في عين الرهن فقال الراهن رهنتك العبد وقال المرتهن بل رهنتني الثوب فالقول قول الراهن أنه لم يرهن الثوب فإذا حلف خرج الثوب عن أن يكون رهنا بيمينه وخرج العبد عن أن يكون رهنا برد المرتهن.

(الشرح) الاحكام: أولا: إذا اختلف المتراهنان، فقال أحدهما للآخر لقد رهنتني عينا بدين لى عليك، فقال الآخر: ما رهنتكها - ولم تكن ثم بينه، فالقول قول من عليه الدين مع يمينه أنه ما رهنه، لان الاصل عدم الرهن.

ثانيا: اختلفا في عين الرهن فادعى المرتهن أنه ارتهن منه راديو (مذياع) فقال الراهن: ما رهنتك هذا المذياع وإنما رهنتك مرناة (تليفزيون) حلف الراهن أنه ما رهنه الراديو وإنما رهنه التليفزيون.

فخرج المذياع عن أن يكون رهنا بيمين الراهن وخرج التليفزيون عن أن يكون رهنا بإنكار المرتهن له.

ثالثا: اختلفا في قدر الرهن، فقال المرتهن: رهنتني هاتين الدراجتين بعشرة جنيهات فقال الراهن: بل رهنتك إحداهما بعشرة.

رابعا: اختلفا في قدر الدين المرهون به فقال المرتهن: رهنتني هذه السيارة

بمائة لى عليك، وقال الراهن: بل رهنتكها بخمسين.

فالقول في الثالث والرابع قول الراهن مع يمينه في كل من المثلين، وبه قال أبو حنيفة وأحمد رضى الله عنهما وقال مالك رضى الله عنه: القول قول من الظاهر معه، فإن كانت الدراجة التى أقر الراهن برهنها تساوى عشرة أو دونها ويرهن مثلها بعشرة فالقول قول الراهن وان كانت لا تساوى عشرة ولا يرهن مثلها في العادة بعشرة فالقول قول المرتهن

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 253)

________________________________________

وكذلك في السيارة القول قول المرتهن في قدر الرهن إن كانت قيمة السيارة مائة، وإن كانت قيمتها أكثر من مائة فالقول قول الراهن.

دليلنا قوله صلى الله عليه وسلم " البينة على من ادعى واليمين على من أنكر " وهذا الراهن منكر فيهما، ولانهما لو اختلفا في أصل العقد لكان القول قول الراهن، فكذلك إذا اختلفا في قدر المعقود عليه.

خامسا: ان كان له عليه ألف مؤجلة وألف معجلة فرهنه سيارة بألف ثم اختلفا، فقال المرتهن: رهنتنيه بالالف الحال.

وقال الراهن: بل رهنتكه بالالف المؤجل، فالقول قول الراهن مع يمينه، لما ذكرناه في المسائل قبلها.

قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

وإذا اختلفا في قدر الرهن فقال الراهن رهنتك هذا العبد وقال: بل رهنتني هذين العبدين فالقول قول الراهن، لان الاصل عدم الرهن إلا فيما أقر به، ولان كل من كان القول قوله إذا اختلفا في أصله كان القول قوله إذا اختلفا في قدره كالزوج في الطلاق فإن رهنه أرضا وأقبضه ووجد فيها نخيل يجوز أن يكون حدث بعد الرهن، ويجوز أن يكون قبله فقال الراهن حدث بعد الرهن فهو خارج من الرهن.

وقال المرتهن: بل كان قبل الرهن ورهنتنيه مع الارض فالقول قول الراهن.

وقال المزني: القول قول المرتهن لانه في يده وهذا خطأ

لما ذكرناه في العبدين.

وقوله: إنه في يده لا يصح، لان اليد إنما يقدم بها في الملك دون العقد، ولهذا لو اختلفا في أصل العقد كان القول قول الراهن، وإن كانت العين في يد المرتهن، فان رهن حمل شجرة تحمل حملين وحدث حمل آخر وقلنا: إنه يصح العقد فاختلفا في مقدار الحمل الاول، فالقول قول الراهن، وقال المزني: القول قول المرتهن، لانه في يده، وهذا لا يصح، لان الاصل أنه لم يدخل في العقد إلا ما أقر به، وأما اليد فقد بينا أنه لا يرجح بها في العقد.

(الشرح) الاحكام: إذا رهنه أرضا ووجد فيها نخل أو شجر، فقال المرتهن: كان هذا موجودا وقت الرهن فهو داخل في الرهن.

وقال الراهن:

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 254)

________________________________________

بل حدث بعد الرهن فهو خارج من الرهن، فإن كان ما قاله المرتهن غير ممكن كان يكون النخل صغيرا وكان العقد من مدة لا تسمح بأن يكون النخل باقيا على صغره لحداثة مظهره فلا يجوز من ثم أن يكون النخل موجودا وقت العقد، فالقول قول الراهن من غير يمين، لانه لا يمكن صدق المرتهن.

وإن كان ما قاله الراهن غير ممكن، كأن يكون لعقد الرهن مدة لا يمكن حدوث النخل بعدها لكبر النخل وقصر مدة العقد وما إلى ذلك فالقول قول المرتهن بلا يمين لان ما يقوله الراهن مستحيل فلم يقبل قوله.

وإن كان يمكن صدق كل منهما كأن يكون احتمال وجود النخل مساويا لاحتمال حدوثه بعد العقد، قال الشافعي رضى الله عنه: فالقول قول الراهن مع يمينه.

قال المزني قولا ضعيفا في المذهب: القول قول المرتهن، لانه في يده.

والمذهب الاول، لان المرتهن قد اعترف للراهن بملك النخل، وقد صار يدعى عليه عقد الرهن، والراهن ينكر ذلك، فكان القول قول الراهن، كما لو ادعى

عليه عقد الرهن في النخل مفردا دون الارض واما اليد التى تعلل بها المزني فلا يرجح بها في دعوى لعقد وانما يرجح بها في دعاوى الملك فإذا حلف الراهن نظرت فإن كان الرهن في القرض أو كان متطوعا به في الثمن غير مشروطا في البيع بقى الرهن في الارض ولا كلام وإن كان الرهن مشروطا في البيع فإن هذ الاختلاف يوجب التحالف وقد حلف الراهن وخرج الرهن عن الراهن، فان رضى المرتهن بذلك فلا كلام، وان لم يرض حلف المرتهن أن النخل كان داخلا في الرهن.

وهل ينفسخ البيع والرهن بنفس التحالف أو بالفسخ؟ على الوجهين في التحالف.

فان قلنا لا ينفسخ فتطوع الراهن بتسليم النخل رهنا فليس للمرتهن فسخ البيع.

قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

وإن اختلفا في قدر الدين فقال الراهن: رهنتك هذا العبد بألف وقال المرتهن: بل رهنتيه بألفين فالقول قول الراهن، لان الاصل عدم الالف فان قال رهنته بألف وزادني ألفا آخر على أن يكون رهنا بالالفين.

وقال المرتهن

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 255)

________________________________________

بل رهنتني بالالفين، وقلنا: لا تجوز الزيادة في الدين في رهن واحد ففيه وجهان أحدهما: أن القول قول الراهن لانهما لو اختلفا في أصل العقد كان القول قوله فكذلك إذا اختلفا في صفته.

والثانى: أن القول قول المرتهن، لانهما اتفقا على صحة الرهن والدين، والراهن يدعى أن ذلك كان في عقد آخر، والاصل عدمه، فكان القول قول المرتهن، فان بعث عبده مع رجل ليرهنه عند رجل بمال ففعل، ثم اختلف الراهن والمرتهن فقال الراهن أذنت له في الرهن بعشرة، وقال المرتهن بل بعشرين نظرت، فان صدق الرسول الراهن حلف الرسول أنه ما رهن إلا بعشرة، ولا يمين على الراهن، لانه لم يعقد العقد، وإن صدق الرسول المرتهن فالقول قول

الراهن مع يمينه، فإذا حلف بقى الرهن على عشرة، وعلى الرسول عشرة، لانه أقر بقبضها.

(الشرح) إذا اختلفا فقال الراهن رهنتك شيئا بمائة بعقد ثم زدتني مائة أخرى فعقدت الرهن بها على هذا الشئ قبل فسخ العقد، إذا حدث هذا وقلنا: لا يصح ذلك، وقال المرتهن بل ارتهنته منه بالمائتين بعقد واحد ففيه وجهان.

 

(أحدهما)

القول قول الراهن مع يمينه، لانهما لو اختلفا في أصل العقد لكان القول قوله، فكذلك إذا اختلفا في صفته

(والثانى)

القول قول المرتهن مع يمينه، لانهما اتفقا على عقد الرهن، والراهن يدعى معنى يقتضى بطلانه، والاصل عدم ما يبطله.

(فرع)

إذا قال الرجل لغيره هذه السيارة التى عندي هي لك رهنتنيها بألف لى عليك، فقال له: هذه السيارة لى وديعة لى عندك، وإنما رهنتك بألف على سيارة أخرى أحرقتها، وأنا استحق عليك قيمتها، فالقول قول المقر مع يمينه، أنه ما أحرق له سيارة ولا شئ له عليه من القيمة لان الاصل براءة ذمته والقول قول المقر له مع يمينه أنه ما رهنه هذه السيارة، وعليه الالف لانه مقر بوجوبها (فَرْعٌ)

قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْأُمِّ " إذا قال الرجل لغيره رهنتك عبدى هذا بألف درهم لك على، فقال المرتهن بل رهنتنيه أنا وزيدا بألفى درهم ألف درهم لى وألف درهم لزيد، وادعى زيد بذلك، فالقول قول الراهن أنه

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 256)

________________________________________

ما رهن زيدا شيئا، فإذا حلف كان العبد رهنا عند الذى أقر له به " قال الشيخ أبو حامد: وهذا لا يجئ على أصل الشافعي رحمه الله، لان المالك أقر للمرتهن برهن جميع العبد، وهو لا يدعى نصفه، وإنما ادعى وقد حلف له المالك، فيجب ألا يبقى عند المقر له إلا نصف العبد مرهونا.

قال الشافعي رحمه الله: وأما إذا قال لغيره رهنتك عبدى هذا بألف درهم لك على، فقال المرتهن هذا الالف الذى أقررت أنه لى رهنتني به العبد هو لى ولزيد قيل ذلك لانه إقرار في حق نفسه فقبل، فيكون بينه وبين زيد قال الشيخ أبو حامد، ولم يذكر الشافعي رحمه الله حكم الرهن ها هنا، ولكن يكون العبد رهنا بالالف لان المرتهن اعترف بالحق الذى أرهن به أنه له ولغيره فقبل إقراره في ذلك، كما لو كان له ألف برهن، فقال هذا الالف لزيد، كان له الالف بالرهن، كذلك هذا مثله.

 

قال المصنف رحمه الله تعالى

.

 

(فصل)

قال في الام " إذا كان في يد رجل عبد لآخر فقال رهنتنيه بألف وقال السيد بل بعتكه بألف حلف السيد أنه ما رهنه بألف: لان الاصل عدم الرهن، ويحلف الذى في يده العبد انه ما اشتراه، لان الاصل عدم الشراء، ويأخذ السيد عبده، فإن قال السيد رهنتكه بألف قبضتها منك قرضا، وقال الذى في يده العبد بل بعتنيه بألف قبضتها منى ثمنا، حلف كل واحد منهما على نفى ما ادعى عليه، لان الاصل عدم العقد، وعلى السيد الالف لانه مقر بوجوبها، فان قال الذى في يده العبد " بعتنيه بألف " وقال السيد بل رهنتكه بألف حلف السيد انه ما باعه، فإذا حلف خرج العبد من يد من هو في يده لان البيع قد زال والسيد معترف بأنه رهن، والمرتهن ينكر، ومتى أنكر المرتهن الرهن زال الرهن.

(الشرح) ذكر الشافعي رحمه الله في باب الرسالة من الام أربع مسائل الاول، إذا دفع لرجل ثوبا، وأرسله ليرهنه له بحق عند رجل فرهنه، ثم اختلف الراهن والمرتهن، فقال المرتهن جاءني برسالتك في أن أسلفك عشرين

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 257)

________________________________________

فأعطيته إياها فكذبه الرسول، فالقول قول الرسول والمرسل، ولا أنظر إلى قيمة الرهن.

قال العمرانى فيحلف الرسول أنه ما رهنه إلا بعشرة ولا يمين على المرسل، لان الرسول هو الذى باشر العقد قال ابن الصباغ: وعندي أن المرتهن إذا ادعى مع المرسل أنه أذن له في ذلك وقبض منه عشرين بإذنه أن له أن يحلفه، لان المرسل لو أقر بذلك لزمه ما قاله، فإذا أنكره حلف له.

الثانية: ولو صدقه الرسول فقال: قد قبضت منك عشرين ودفعتها إلى المرسل، وكذبه المرسل، كان القول قول المرسل مع يمينه ما أمره إلا بعشرة ولا دفع إليه إلا هي، وكان الرهن بعشرة، وكان الرسول ضامنا للعشرة التى أقر بقبضها مع العشرة التى أقر بها المرسل - بفتح السين - بقبضها.

قال ابن الصباغ وعندي أن المرتهن إذا صدق الرسول أن الراهن أذن له في ذلك لم يكن له الرجوع على الرسول لانه يقر أن الذى ظلمه هو المرسل الثالثة: قال الشافعي ولو دفع إليه ثوبا فرهنه عند رجل.

وقال الرسول أمرتنى برهن الثوب عند فلان بعشرة فرهنته، وقال المرسل أمرتك أن تستسلف من فلان عشرة بغير رهن.

ولم آذن لك في رهن الثوب، فالقول قول صاحب الثوب والعشرة حالة عليه.

ولو كانت المسألة بحالها فقال أمرتك بأخذ عشرة سلفا في عبدى فلان، وقال الرسول بل في ثوبك هذا أو عبدك هذا العبد غير الذى أقر به الآمر فالقول قول الآمر والعشرة حالة عليه ويسوق العمرانى في البيان المسألة بصورة أخرى فيقول: إذا دفع إليه ثوبا وعبدا وأمره أن يرهن أحدهما عند رجل بشئ يأخذه له منه فرهن الرسول العبد ثم قال المرسل إنما أذنت له في رهن الثوب، وأما العبد فوديعة، وقال الرسول أو المرتهن، إنما أذنت له في رهن العبد، حلف المرسل أنه ما أذن له في رهن

العبد وخرج العبد عن الرهن بيمينه.

وخرج الثوب عن الرهن لانه لم يرهن.

الرابعة: إذا قال المرسل أمرتك برهن الثوب ونهيتك عن رهن العبد، وأقام على ذلك بينة، وأقام الرسول بينة أذن له في رهن العبد فيصح، وإذا احتمل هذا

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 258)

________________________________________

وهذا فقد وجد من الرسول عقد الرهن على العبد، والظاهر أنه عقد صحيح، فلا يحكم ببطلانه لامر محتمل.

 

قال المصنف رحمه الله تعالى

(فصل)

وان اتفقا على رهن عين، ثم وجدت العين في يد المرتهن، فقال الراهن قبضته بغير اذنى، وقال المرتهن بل قبضته بإذنك فالقول قول الراهن لان الاصل عدم الاذن، ولانهما لو اختلفا في أصل العقد والعين في يد المرتهن كان القول قول الراهن، فكذلك إذا اختلفا في الاذن، فان اتفقا على الاذن فقال الراهن رجعت في الاذن قبل القبض.

وقال المرتهن لم يرجع حتى قبضت فالقول قول المرتهن، لان الاصل بقاء الاذن، وان اتفقا على الاذن واختلفا في القبض فقال الراهن لم تقبضه، وقال المرتهن بل قبضت، فان كانت العين في يد الراهن فالقول قوله لان الاصل عدم القبض، وان كان في يد المرتهن فالقول قوله لانه أذن في قبضه والعين في يده، فالظاهر أنه قبضه بحق، فكان القول قوله.

وان قال رهنته وأقبضته ثم رجع، وقال ما كنت أقبضته حلفوه أنه قبض، فالمنصوص أنه يحلف.

وقال أبو إسحاق ان قال وكيلى أقبضه وبان لى أنه لم يكن أقبضه حلف.

وعليه تأول النص.

وان قال أنا أقبضته ثم رجع لم يحلف لان اقراره المتقدم يكذبه.

وقال أبو على بن خيران وعامة أصحابنا انه يحلف لانه يمكن صدقه بأن يكون قد وعده بالقبض فأقر به، ولم يكن قبض.

(الشرح) إذا كان في يد رجل شئ لغيره فقال من بيده الشئ للمالك رهنتني هذا بألف هي لى عليك قرضا.

وقال المالك بل بعتكه بألف هي لى عليك ثمنا حلف المالك أنه ما رهنه هذا الشئ، لان الاصل عدم الرهن، ويحلف من بيده الشئ أنه ما اشتراه، لان الاصل عدم الشراء، ويبطل العقدان ويسقط المالان ويرد الشئ إلى صاحبه.

فان قال من بيده الشئ رهنتنيه بألف أقبضتكها، وقال المالك بل رهنتكه بألف لم أقبضها - فالقول قول المالك مع يمينه - لان الاصل عدم القبض

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 259)

________________________________________

قال العمرانى في البيان: وإن قال من بيده العبد (إن كان الرهن عبدا) بعتنيه بألف وقال السيد: رهنتكه بألف، حلف السيد أنه ما باعه العبد، فإذا حلف خرج العبد من يد من هو بيده لان المبيع زال بيمين السيد، وبطل الرهن، لان المالك يقر له به والمرتهن ينكره، ومتى أنكر المرتهن الرهن زال الرهن ثم قال قال الشيخ أبو إسحاق في المهذب والمحاملى في المجموع: فإن قال السيد: رهنتكه بألف قبضتها منى ثمنا حلف كل واحد منهما على نفى ما ادعى عليه، لان الاصل عدم العقد، وعلى السيد الالف، لانه مقر بوجوبها.

قلت: والذى يقتضى القياس عندي أنه لا يمين على الذى بيده العبد لانه ما ارتهن العبد لما ذكرناه في المسألة قبلها.

 

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

وإن رهن عصيرا وأقبضه، ثم وجده خمرا في يد المرتهن فقال: أقبضتنيه وهو خمر، فلى الخيار في فسخ البيع.

وقال الراهن: بل أقبضتكه وهو عصير، فصار في يدك خمرا، فلا خيار لك، ففيه قولان.

 

(أحدهما)

أن القول قول المرتهن، وهو اختيار المزني، لان الراهن يدعى

قبضا صحيحا، والاصل عدمه.

 

(والثانى)

أن القول قول الراهن، وهو الصحيح، لانهما اتفقا على العقد والقبض.

واختلفا في صفة يجوز حدوثها فكان القول قول من ينفى الصفة، كما لو اختلف البائع والمشترى في عيب بعد القبض، وإن اختلفا في العقد فقال المرتهن رهنتنيه وهو خمر.

وقال الراهن: بل رهنتكه وهو عصير.

فصار عندك خمرا، فقد اختلف أصحابنا فيه، فقال أكثرهم: هي على قولين.

وقال أبو على بن أبى هريرة: القول قول المرتهن قولا واحدا، لانه ينكر العقد والاصل عدمه.

فإن رهن عبدا فأقبضه في محمل أو ملفوفا في ثوب، ووجد ميتا.

فقال المرتهن أقبضتنيه وهو ميت، فلى الخيار في فسخ البيع.

وقال الراهن أقبضتكه حيا ثم مات عندك، فلا خيار لك ففيه طريقان.

 

(أحدهما)

وهو الصحيح: أنه على القولين كالعصير

(والثانى)

وهو قول

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 260)

________________________________________

أبى على الطبري أن القول قول المرتهن، لان هذا اختلاف في اصل القبض لان الميت لا يصح قبضه، لانه لا يقبض إلا ظاهرا، بخلاف العصير، فانه يقبض في الظرف، والظاهر منه الصحة.

(الشرح) الاحكام: إذا رهنه عينا فوجدت في يد المرتهن، فقال المرتهن.

قبضتها بإذنك رهنا.

وقال الراهن لم آذن لك بقبضها، وإنما غصبتنيها أو أجرتها منك، فقبضتها عن الاجارة فالقول قول الراهن مع يمينه، لان الاصل عدم الاذن، وإن اتفقا على الرهن والاذن والقبض، ولكن قال الراهن رجعت في الاذن قبل أن يقبض، وقال المرتهن لم ترجع، ولم تقم بينة على الجوع فالقول قول المرتهن مع يمينه أنه ما يعلم أنه رجع، لان الاصل عدم الرجوع.

وان اتفقا على الرهن والاذن، واختلفا في القبض، فقال الراهن.

لم تقبض

وقال المرتهن بل قبضت.

قال الشافعي في موضع القول قول المرتهن وقال في موضع القول قول الراهن قال أصحابنا ليست على قولين وإنما هي على حالين فان كانت العين في يد الراهن فالقول قول الراهن لان الاصل عدم القبض والذى يقتضى المذهب عندي أن يحلف أنه ما يعلم أنه قبض، لا يحلف على نفى فعل غيره، وإن كانت العين في يد المرتهن حلف أنه قبض لان الظاهر أنه قبض بحق.

(فرع)

وإن أقر أنه رهن عند غيره عينا وأقبضه إياها ثم قال الراهن لم يكن قبضها، وأراد منعه من القبض لم يقبل رجوعه عن إقراره بالقبض، لان إقراره لازم، فإن قال الراهن للمرتهن.

احلف أنك قبضتها.

قال الشافعي رضى الله عنه أحلفته.

قال في البيان واختلف أصحابنا فيه فقال أبو إسحاق ان كان المرهون غائبا فقال أقررت بالقبض لان وكيلى أخبرني أنه أقبضه ثم بان لى أنه لم يقبضه أحلف المرتهن لانه لا يكذب لنفسه، وانما يدعى أمرا محتملا.

فأما إذا كان الرهن حاضرا أو أقر أنه أقبضه بنفسه ثم رجع.

وقال لم يقبض، لم تسمع دعواه، ولم يحلف المرتهن لانه يكذب نفسه.

وقال أبو على بن خيران وعامة أصحابنا يحلف المرتهن بكل حال وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أما مع غيبة الرهن فلما ذكر الشيخ أبو إسحاق مع

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 261)

________________________________________

حضوره فلانه قد يستنيب غيره بالاقباض، فيخبره بأن المرتهن قد قبض، ثم يبين له أنه خان في إخباره، وأيضا فإنه قد يعده بالاقباض مقر له به قبل فعله، فكانت دعواه محتملة.

قالوا: وهكذا لو أن رجلا أقر بأنه أقبض من رجل ألفا ثم قال بعد ذلك: لم أقبضها، وإنما وعدني أن يقرضنى فأقررت به ثم لم يفعل استحلف المقرض، لانه لا يكذب نفسه، فأما إذا شهد شاهدان بأنه رهنه عبده وأقبضه ثم ادعى أنه لم يقبضه، وطلب يمين المرتهن لم تسمع دعواه، ولم يحلف

المقر له، لان في ذلك قدحا في البينة اه.

قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

وإن كان لرجل عبد، وعليه ألفان لرجلين لكل واحد منهما ألف فادعى كل واحد منهما أنه رهن العبد عنده بدينه، والعبد في يد الراهن أو في يد العدل نظرت، فإن كذبهما فالقول قوله مع يمينه، لان الاصل عدم الرهن، وإن صدقهما وادعى الجهل بالسابق منهما فالقول قوله مع يمينه، فإذا حلف فسخ الرهن على المنصوص، لانه ليس أحدهما بأولى من الآخر فبطل، كما لو زوج امرأة وليان من رجلين، وجهل السابق منهما، ومن أصحابنا من قال: يجعل بينهما نصفين، لانه يجوز أن يكون مرهونا عندهما بخلاف الزوجة، وإن صدق أحدهما وكذب الآخر أو صدقهما وعين السابق منهما، فالرهن للمصدق، وهل يحلف للآخر؟ فيه قولان.

 

(أحدهما)

يحلف

(والثانى)

لا يحلف بناء على القولين فيمن أقر بدار لزيد.

ثم أقر بها لعمرو، فهل يغرم لعمرو شيئا أم لا؟ فيه قولان.

فان قلنا لا يغرم لم يحلف، لانه إن نكل لم يغرم فلا فائدة في عرض اليمين، وان قلنا يغرم حلف لانه ربما نكل فيغرم للثاني قيمته، فان قلنا لا يحلف فلا كلام.

وان قلنا يحلف نظرت، فان حلف انصرف الآخر، وإن نكل عرضت اليمين على الثاني، فان نكل انصرف، وإن حلف بنينا على القولين في يمين المدعى مع نكول المدعى عليه.

فان قلنا انها كالبينة نزع العبد وسلم إلى الثاني.

وان قلنا انه كالاقرار، ففيه ثلاثة أوجه.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 262)

________________________________________

أحدها: أنه ينفسخ لانه أقر لهما وجهل السابق منهما.

والثانى: يجعل بينهما لانهما استويا، ويجوز أن يكون مرهونا عندهما فجعل

بينهما.

والثالث: يقر الرهن في يد المصدق ويغرم للآخر قيمته، ليكون رهنا عنده، لانه جعل كأنه أقر بأنه حال بينه وبين الرهن فلزمه ضمانه، وان كان العبد في يد أحد المرتهنين نظرت، فان كان في يد المقر له أقر في يده، لانه اجتمع له اليد والاقرار؟ وهل يحلف للثاني؟ على القولين، فان كان في يد الذى لم يقر له فقد حصل لاحدهما اليد وللآخر الاقرار، وفيه قولان.

 

(أحدهما)

يقدم الاقرار لانه يخبر عن أمر باطن.

 

(والثانى)

يقدم اليد وهو قول المزني، لان الظاهر معه، والاول أظهر، لان اليد انما تدل على الملك لا على العقد، وان كان في يدهما فللمقر له الاقرار.

واليد على النصف.

وفى النصف الآخر له الاقرار.

وللآخر يد، وفيه قولان.

أحدهما: يقدم الاقرار فيصير الجميع رهنا عند المقر له.

والثانى يقدم اليد فيكون الرهن بينهما نصفين.

(الشرح) الاحكام: إذا باعه شيئا بشرط أن يرهنه عصيرا فرهنه العصير.

وقبض المرتهن فوجد خمرا.

فقال المرتهن: أقبضتنيه خمرا فلى الخيار في فسخ البيع.

وقال الراهن: بل صار خمرا بعد أن أخذته في يدك فلا خيار لك: ففيه قولان.

أحدهما: أن القول قول المرتهن مع يمينه.

وهو قول أبى حنيفة والمزنى لان الراهن يدعى قبضا صحيحا والاصل عدمه.

والثانى: أن القول قول الراهن وهو الصحيح لانهما قد اتفقا على العقد والتسليم.

واختلفا في تغير صفته.

والاصل عدم التغيير.

وبقاء صفته كما لو باعه شيئا وقبضه فوجد به عيب في يد المشترى يمكن حدوثه بيده.

فان القول قول البائع.

وان قال المرتهن: رهنتنيه وهو خمر.

وقال الراهن: رهنتكه وهو عصير.

وقبضته عصيرا.

وانما صار خمرا في يدك.

فاختلف أصحابنا فيه.

فقال أبو على بن أبى هريرة: القول قول المرتهن قولا واحدا.

لانه ينكر أصل العقد.

وقال عامة أصحابنا هي على قولين

كالتى قبلها وهو المنصوص في مختصر المزني وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 263)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله.

 

(فصل)

وإن رهن عبدا وأقبضه ثم أقر أنه جنى قبل الرهن على رجل وصدقه المقر له، وأنكر المرتهن ففيه قولان

(أحدهما)

أن القول قول المرتهن وهو اختيار المزني لانه عقد إذا تم منع البيع فمنع الاقرار كالبيع

(والثانى)

أن القول قول الراهن، لانه أقر في ملكه بما لا يجر نفعا إلى نفسه فقبل إقراره كما لو لم يكن مرهونا، ويخالف هذا إذا باعه لان هناك زال ملكه عن العبد فلم يقبل اقراره عليه وهذا باق على ملكه فقبل اقراره عليه، فان قلنا ان القول قول الراهن فهل يحلف؟ فيه قولان

(أحدهما)

لا يحلف لان اليمين انما يعرض ليخاف فيرجع إن كان كاذبا والراهن لو رجع لم يقبل رجوعه، فلا معنى لعرض اليمين، ولانه أقر في ملكه لغيره فلم يحلف عليه كالمريض إذا أقر بدين

(والثانى)

يحلف لانه يحتمل أن يكون كاذبا بأن واطأ المقر له ليسقط بالاقرار حق المرتهن فحلف فإذا ثبت أنه رهنه وهو جان ففى رهن الجاني قولان

(أحدهما)

أنه باطل

(والثانى)

أنه صحيح، وقد بينا ذلك في أول الرهن، فإن قلنا انه باطل وجب بيعه في أرش الجناية، فإن استغرق الارش قيمته بيع الجميع، وإن لم يستغرق بيع منه بقدر الارش.

وفى الباقي وجهان

(أحدهما)

أنه مرهون لانه إنما حكم ببطلانه لحق المجني عليه، وقد زال.

 

(والثانى)

أنه لا يكون مرهونا لانا حكمنا ببطلان الرهن من أصله فلا يصير مرهونا من غير عقد، وإن قلنا إنه صحيح فإن استغرق الارش قيمته بيع الجميع وان لم يستغرق بيع منه بقدر الارش ويكون الباقي مرهونا، فإن اختار السيد أن يفديه على هذا القول فبكم يفديه؟ فيه قولان

(أحدهما)

يفديه بأقل الامرين

من قيمته أو أرش الجناية

(والثانى)

يفديه بأرش الجناية بالغا ما بلغ أو يسلم المبيع فان قلنا إن القول قول المرتهن لم يقبل قوله من غير يمين، لانه لو رجع قبل رجوعه فحلف فإذا ثبت أنه غير جان فهل يغرم الراهن أرش الجناية؟ ففيه قولان بناء على القولين فيمن أقر بدار لزيد ثم أقر بها لعمرو.

أحدهما يغرم لانه منع بالرهن حق المجني عليه.

والثانى لا يغرم لانه إن كان كاذبا فلا حق عليه،

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 264)

________________________________________

وإن كان صادقا وجب تسليم العبد، فإن قلنا انه لا يغرم فرجع إليه تعلق الارش برقبته كما لو أقر على رجل أنه أعتق عبده ثم ملك العبد فإنه يتق عليه.

وان قلنا يغرم فكم يغرم؟ فِيهِ طَرِيقَانِ.

مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْ قَالَ فِيهِ قولان كالقسم قبله.

ومنهم من قال يغرم أقل الامرين قولا واحدا، لان القول الثاني انما يجئ في الموضع الذى يمكن بيعه فيمتنع.

وههنا لا يمكن بيعه فصار كجناية أم الولد، وان نكل المرتهن عن اليمين فعل من ترد اليمين؟ فيه طريقان

(أحدهما)

ترد على الراهن وان نكل، فهل ترد على المجني عليه.

فيه قولان كما قلنا في غرماء الميت.

ومن أصحابنا من قال نرد اليمين على المجني عليه أولا، فإن نكل فهل ترد على الراهن.

على قولين لان المجني عليه يثبت الحق لنفسه وغرماء الميت يثبتون الحق للميت.

(الشرح) الاحكام: في هذا الفصل وان كان المثل فيها بالعبد، وكان المثل لا يقتضيه ولا يسوغه عصرنا، لما قام عليه الاجماع البشرى من تحرير الرقاب الآدمية، وكان هذا من مقاصد الشريعة السمحة، وأهدافها وغاياتها، على ما سنبينه ان شاء الله تعالى في أبواب العتق، فإنه يمكن أن ينطبق الحكم على نحو شئ آخر يمتلك ويرتهن ويقع عليه الخلاف احتمالا، فنقول وبالله التوفيق: إذا كان لرجلين على رجل مائتا دينار، ولكل واحد منهما مائة وله سيارة،

فادعى عليه كل واحد منهما أنه رهن عنده السيارة وأقبضه اياها ولا بينة لهما، فان كذبهما حلف لكل واحد منهما يمينا، لان الاصل عدم الرهن، سواء كانت السيارة في أيديهما أو في يده لان اليد لا ترجح بها في العقد، وان صدق أحدهما وكذب الآخر حكم بالرهن للمصدق، وسواء كانت السيارة في يد المصدق أو المكذب، وهل يحلف الراهن للمكذب، فيه قولان بناء على من أقر بدار لزيد ثم أقر بها لعمرو، هل يغرم لعمرو قيمتها.

فيه قولان، فان قلنا يغرم حلف ها هنا لجواز أن يخلف اليمين فيقر للمكذب فيثبت له القيمة.

فان قلنا لا يغرم لم يحلف، لانه لو أقر له بعد الاقرار الاول لم يحكم له بشئ فلا فائدة في تحليفه، وان أقر لهما بالرهن والتسليم فادعى كل واحد منهما أنه هو

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 265)

________________________________________

السابق بالرهن والتسليم رجع إلى الراهن.

فإن قال لا أعلم السابق منكما بذلك فان صدقاه أنه لا يعلم ولا بينة لهما ففيه وجهان

(أحدهما)

وهو المنصوص أن الرهن ينفسخ لانهما قد استويا في ذلك، والبيان من جهته قد تعذر، فحكم بانفساخ العقدين كما تقول في المرأة إذا زوجها وليان لها من رجلين، وتعذر معرفة السابق منهما، والثانى يقسم بينهما لانه يمكن قسمته بينهما، ويمكن أن يكون رهن عند كل واحد منهما نصفه.

وإن كذباه وقال بل نعلم السابق من العقدين والتسليم فيه فالقول قول الراهن مع يمينه لان الاصل عدم العلم، قال الشيخ أبو حامد: فيحلف لكل منهما يمينا أنه لا يعلم أنه السابق، فإذا أحلف لهما كانت على وجهين سبق ذكرهما، حيث قلنا: المنصوص أنه ينفسخ العقدان.

والوجه الثاني يقسم بينهما وإن نكل عن اليمين - أي خاف منها وامتنع من أدائها - عرضنا اليمين عليهما فان حلف كل واحد منهما أن الراهن يعلم أنه السابق.

قال ابن الصباغ: كانت على

الوجهين الاولين.

المنصوص أن الرهنين ينفسخان.

والثانى يقسم بينهما.

وان حلف أحدهما ونكل الآخر حكم بالرهن للحالف دون الآخر وإن اعترف الراهن أنه يعلم السابق منهما، وقال هذا هو السابق - لم يخل اما أن يكون الرهن في يد الراهن أو في يد أجنبي، أو في يد المقر له بالسبق حكم بالرهن للمقر له لانه اجتمع له اليد والاقرار، وهل يحلف الراهن للآخر.

فيه قولان.

وحكاهما الشيخ ابو حامد وجهين، المنصوص أنه لا يحلف له لانه ربما خاف من اليمين وأقر للثاني لم ينزع الرهن، فنؤخذ منه القيمة فيكون رهنا مكانه.

فإذا قلنا لا يمين عليه فلا كلام، وان قلنا عليه اليمين نظرت، فان حلف للثاني انصرف، وان أقر للثاني أنه رهنه أولا وأقبضه وخاف من اليمين رفضنا هذا الاقرار في حق المقر له أولا بانتزاع الرهن منه، ولكن يؤخذ من المقر قيمة الرهن وتجعل رهنا عند المقر له الثاني، لانه حال بينه وبينه باقراره المتقدم قال في البيان: وان نكل عن اليمين ردت على الثاني، وان لم يحلف قلنا له اذهب فلا حق لك، وان حلف، فان قلنا ان يمين المدعى مع نكول المدعى عليه كالبينة انتزع الرهن من الاول وسلم إلى الثاني

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 266)

________________________________________

قال الشيخ أبو حامد وابن الصباغ: إلا أن أصحابنا لم يفرعوا على هذا القول وهذا يدل على ضعفه قال العمرانى: وإن قلنا إن يمين المدعى مع نكول المدعى على كالاقرار، فذهب أبو إسحاق في المهذب في هذا ثلاثة أوجه (أحدها) ولم يذكر في التعليق والشامل غيره، أن الرهن لا ينزع من يد الاول، ويلزم المقر أن يدفع قيمته إلى المقر له الثاني ليكون رهنا عنده لانه حال بينه وبينه باقراره الاول.

 

(والثانى)

يجعل بينهما لانهما استويا في الاقرار، ويجوز أن يكون مرهونا عنده منها (والثالث) ينفسخ الرهنان لانه أقر لهما، وجهل السابق منهما، وان كان الرهن في يد الذى لم يقر له، فقد حصل لاحدهما الاقرار وللآخر اليد، وفيه قولان

(أحدهما)

أن صاحب اليد أولى، فيكون القول قوله مع يمينه أنه السابق كما لو قال " بعت هذا العبد من أحدهما " وكان في يد أحدهما فالقول قوله مع يمينه

(والثانى)

أن القول قول الراهن أن الآخر هو السابق، لانه إذا اعترف أن السابق هو الآخر فهو يقر أنه لم يرهن من بيده شيئا، ومن بيده يدعى ذلك، كما لو ادعى عليه أنه رهنه فإذا قلنا بهذا فهل يحلف الراهن لمن بيده؟ على القولين فيمن أقر لزيد بدار ثم أقر بها لعمرو على ما سبق، وان كان الرهن في يد المرتهنين فقد اجتمع لاحدهما اليد والاقرار في النصف، فيكون أحق به، وهل يحلف للآخر عليه، على القولين وأما النصف الذى في يد الآخر فهل اليد أقوى أم الاقرار، على القولين الاولين، فان قلنا ان اليد أقوى حلف من هو بيده عليه وكان رهنا بينهما، وهل يحلف لمن يقر له على النصف الذى بيد المقر له، على القولين فان قلنا الاقرار أولى انتزع الرهن فجعل رهنا للمقر له.

وهل يحلف للآخر على جميعه، على القولين فيمن أقر بدار لزيد، ثم أقر بها لعمرو، والمنصوص أنه لا يحلف.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 267)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

وإن أعتق الراهن العبد المرهون ثم اختلفا فقال الراهن أعتقته باذنك، وأنكر المرتهن الاذن فالقول قوله لان الاصل عدم الاذن، فإن نكل

عن اليمين حلف الراهن وان نكل الراهن فهل ترد على العبد؟ فيه طريقان.

(احدهما) أنه على قولين بناء على رد اليمين على غرماء الميت.

قال في الجديد لا ترد، لانه غير المتراهنين فلا ترد عليه اليمين، وقال في القديم: ترد لانه يثبت لنفسه حقا باليمين، ومن أصحابنا من قال: ترد اليمين على العبد قولا واحدا لان العبد يثبت باليمين حقا لنفسه وهو العتق خلاف غرماء الميت.

 

(فصل)

وإن كان المرهون جارية فادعى الراهن أنه وطئها بإذن المرتهن، فأتت بولد لمدة الحمل وصدقه المرتهن، ثبت نسب الولد وصارت الجارية أم ولد وان اختلفا في الاذن أو في الولد أو في مدة الحمل فأنكر المرتهن شيئا من ذلك فالقول قوله، لان الاصل في هذه الاشياء العدم.

 

(فصل)

فان كان عليه ألف برهن وألف بغير رهن فدفع إليه ألفا ثم اختلفا نظرت، فان اختلفا في اللفظ فادعى المرتهن أنه قال هي عن الالف التى لا رهن بها.

وقال الراهن بل قلت هي عن الالف التى بها الرهن، فالقول قول الراهن لانه منه ينتقل إلى المرتهن.

فكان القول قوله في صفة النقل.

وان اختلفا في النية فقال الراهن نويت أنها عن الالف التى بها الرهن.

وقال المرتهن بل نويت أنها عن الالف التى لا رهن بها فالقول قول الراهن لما ذكرناه في اللفظ، ولانه أعرف بنيته، وإن دفع إليه الالف من غير لفظ ولا نية ففيه وجهان.

قال أبو إسحاق يصرفه إلى ما شاء منهما، كما لو طلق إحدى المرأتين.

وقال أبو على بن أبى هريرة يجعل بينهما نصفين لانهما استويا في الوجوب فصرف القضاء اليهما.

 

(فصل)

وإن أبرأ المرتهن الراهن عن الالف ثم اختلفا نظرت.

فان اختلفا في اللفظ فادعى الراهن أنه قال أبرأتك عن الالف التى بها الرهن.

وقال المرتهن بل قلت أبرأتك من الالف التى لا رهن بها فالقول قول المرتهن، لانه هو الذى يبرئ، فكان القول في صفة الابراء قوله، فان اختلفا في النية فقال الراهن:

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 268)

________________________________________

نويت الابراء عن الالف التى بها الرهن، وقال المرتهن نويت الابراء عن الالف التى لا رهن بها، فالقول قول المرتهن، لما ذكرناه في اللفظ، ولانه أعرف بنيته فإن أطلق صرفه إلى ما شاء منهما في قول أبى إسحاق، وجعل بينهما في قول أبى على بن أبى هريرة.

 

(فصل)

وان ادعى المرتهن هلاك الرهن فالقول قوله مع يمينه، لانه أمين، فكان القول قوله في الهلاك كالمودع، وإن ادعى الرد لم يقبل قوله، لانه قبض العين لمنفعة نفسه فلم يقبل قوله في الرد كالمستأجر.

 

(فصل)

وان كان الرهن على يد عدل قد وكل في بيعه فاختلفا في النقد الذى يبيع به باعه بِنَقْدِ الْبَلَدِ، فَإِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ نَقْدَانِ متساويان باع بما هو أنفع للراهن لانه ينفع الراهن ولا يضر المرتهن، فوجب به البيع، فإن كانا في النفع واحدا فان كان أحدهما من جنس الدين باع به، لانه أقرب إلى المقصود، وهو قضاء الدين، فان لم يكن واحد منهما من جنس الدين باع بأيهما شاء، لانه لا مزية لاحدهما على الآخر ثم يصرف الثمن في جنس الدين.

(الشرح) الاحكام: أظهر ما يدخل في هذا الفصل أنه إذا كاتب عبدا ثم أقر أنه كان جنى قبل ذلك لم يقبل إقراره بذلك لان المكاتب بمنزلة من زال ملكه عنه لان أرش الجناية لا يرجع عليه، وان كاتبه ثم أقر أنه أعتقه أو باعه قبل ذلك.

قال الشيخ أبو حامد: عتق في الحال وسقط المال عنه لان اقراره بذلك ابراء منه له من مال الكتابة وكلام المصنف في سائر الفصل ظاهر.

والفصول الاخرى بعضها ظاهر المعنى، والآخر مر في الباب أحكامه وتفصيله فلا حاجة بنا للاطالة في اعادته وبالله التوفيق.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 269)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله تعالى:

 

‌باب التفليس

 

إذا كان على رجل دين، فان كان مؤجلا لم يجز مطالبته، لانا لو جوزنا مطالبته سقطت فائدة التأجيل، فان أراد سفرا قبل محل الدين، لم يكن للغريم منعه، ومن أصحابنا من قال ان كان السفر مخوفا كان له منعه، لانه لا يأمن أن يموت فيضيع دينه، والصحيح هو الاول، لانه لا حق له عليه قبل محل الدين، وجواز أن يموت لا يمنع من التصرف في نفسه قبل المحل، كما يجوز في الحضر أن يهرب ثم لا يملك حبسه لجواز الهرب، وان قال أقم لى كفيلا بالمال، لم يلزمه، لانه لم يحل عليه الدين فلم يملك المطالبة بالكفيل، كما لو لم يرد السفر، وان كان الدين حالا نظرت، فان كان معسرا لم يجز مطالبته لقوله تعالى " وان كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " ولا يملك ملازمته لان كل دين لا يملك المطالبة به لم يملك الملازمة عليه كالدين المؤجل، فان كان يحسن صنعة فطلب الغريم أن يؤجر نفسه ليكسب ما يعطيه لم يجبر على ذلك لانه اجبار على التكسب فلم يجز كالاجبار على التجارة، وان كان موسرا جازت مطالبته.

لقوله تعالى " وان كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ".

فدل على أنه إذا لم يكن ذا عسرة لم يجب انظاره، فان لم يقضه ألزمه الحاكم، فان امتنع، فان كان له مال ظاهر باعه عليه لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ " ألا ان الاسيفع أسيفع جهينه رضى من دينه أن يقال سبق الحاج فادان معرضا فأصبح وقد رين به، فمن له دين فليحضر، فانا بايعو ماله وقاسموه بين غرمائه " وان كان له مال كتمه حبسه وعزره حتى يظهره، فان ادعى الاعسار نظرت، فان لم يعرف له قبل ذلك مال فالقول قوله مع يمينه لان الاصل عدم المال، فان عرف له المال لم يقبل قوله، لانه معسر الا ببينة، لان الاصل بقاء

المال، فان قال غريمي يعلم أنى معسر، أو أن مالى هلك فحلفوه حلف، لان ما يدعيه محتمل، فان أراد أن يقيم البينة على هلاك المال قبل فيه شهادة عدلين.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 270)

________________________________________

فان أراد أن يقيم البينة على الاعسار لم يقبل الا بشهاة عدلين من أهل الخبرة والمعرفة بحاله، لان الهلاك يدركه كل أحد والاعسار لا يعلمه الا من يخبر باطنه، فان أقام البينة على الاعسار وادعى الغريم أن له مالا باطنا فطلب اليمين عليه، ففيه قولان

(أحدهما)

لا يحلف، لانه أقام البينة على ما ادعاه فلا يحلف، كما لو ادعى ملكا وأقام عليه البينة.

 

(والثانى)

يحلف لان المال الباطن يجوز خفاؤه على الشاهدين، فجاز عرض اليمين فيه عند الطلب، كما لو اقام عليه البينة بالدين وادعى أنه أبرأه منه، وان وجد في يده مال فادعى أنه لغيره نظرت، فان كذبه المقر له بيع في الدين لان الظاهر أنه له، وان صدقه سلم إليه.

فان قال الغريم أحلفوه لى أنه صادق في اقراره ففيه وجهان

(أحدهما)

يحلف لانه يحتمل أن يكون كاذبا في اقراره

(والثانى)

لا يحلف وهو الصحيح، لان اليمين تعرض ليخاف فيرجع عن الاقرار، ولو رجع عن الاقرار لم يقبل رجوعه فلا معنى لعرض اليمين.

(الشرح) خبر عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الموطأ والدارقطني وابن أبى شيبة والبيهقي وعبد الرزاق بألفاظ سنوردها أما لغات الفصل فان الفلس مأخوذ من الفلوس وهو أخس مال الرجل، لان أقل صنوف النقود هو الفلس وهو عند اخواننا أهل العراق والشام يساوى مليما عند أهل مصر والسودان والهللة عند اخواننا أهل الحجاز ونجد، والبقشة عند اخواننا أهل اليمن، وقد دخل لفظ الفلس في لغات أهل أوربا بلهجتهم،

فقالوا البنس والبيزا.

قال في المصباح: وبعضهم يقول أفلس الرجل أي صار ذا فلوس بعد أن كان ذا دراهم فهو مفلس، والجمع مفاليس، وحقيقته الانتقال من حالة اليسر إلى حالة العسر، وفلسه القاضى تفليسا نادى عليه وشهره بين الناس بأنه صار مفلسا والفلس الذى يتعامل به جمعه في القلة أفلس وفى الكثرة فلوس.

ومن هنا كان المفلس هو الذى يملك مالا تافها، وقد ورد في الحديث هو

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 271)

________________________________________

الذى لا مال له، فقد أخرج مسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال " أتدرون من المفلس.

قالوا يا رسول المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال ليس ذلك المفلس.

ولكن المفلس من يأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال.

ويأتى وقد ظلم هذا ولطم هذا وأخذ من عرض هذا، فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته فان بقى عليه شئ أخذ من سيئاتهم فرد عليه ثم صك له صك إلى النار " فقولهم ذلك اخبار عن حقيقة المفلس والرسول صلى الله عليه وسلم لم يرد نفى الحقيقة.

بل أراد أن فلس الآخرة أشد وأعظم بحيث يصير مفلس الدنيا بالنسبة إليه كالغنى وذلك نحو قوله صلى الله عليه وسلم " ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد الذى يغلب نفسه عند الغضب " وقوله صلى الله عليه وسلم " ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس " وقوله " ليس السابق من سبق بعيره.

وانما السابق من غفر له " وقول الشاعر: ليس من مات فاستراح بميت

* انما الميت ميت الاحياء وسموه مفلسا لان ماله مستحق.

وفى اصطلاح الفقهاء: من ديته أكثر من ماله وخرجه أكثر من دخله الصرف في جهة دينه فكأنه معدوم.

وقوله الاسيفع تصغير أسفع والانثى

سفعاء.

والسفعة سواد مشرب بحمرة الاحكام: إذا كان على الرجل دين فلا يخلو اما أن يكون حالا أو مؤجلا.

فان كان حالا فان كان معسرا لم تجز مطالبته لقوله تعالى " فنظرة إلى ميسرة " ولا يجوز لغريمه ملازمته وبه قال مالك.

وقال أبو حنيفة ليس للغريم مطالبته ولكن له ملازمته فيسير معه حيث سار ويجلس معه حيث جلس الا أنه لا يمنعه من الاكتساب.

وإذا رجع إلى داره فان أذن لغريمه بالدخول معه دخل معه وان لم يأذن له بالدخول كان للغريم منعه من الدخول دليلنا قوله تعالى " وان كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " فأمر بانظار المعسر فمن قال انه يلازمه خالف ظاهر الآية.

وروى أن رجلا ابتاع ثمرة فأصب بها فقال النبي صلى الله عليه وسلم تصدقوا عليه فتصدقوا عليه فلم يف بما عليه.

ثم قال تصدقوا عليه فتصدقوا عليه فلم يف بما عليه.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم لغرمائه " خذوا ما وجدتم

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 272)

________________________________________

ما لكم غيره " وهذا نص، ولان كل من لا مطالبة له لم يجز ملازمته، كما لو كان الدين مؤجلا، فإن كان الذى عليه الدين يحسن صنعة لم يجبر على الاكتساب بها ليحصل ما يقضى به دينه.

وهذا من أعظم مقاصد الشريعة الغراء في أن الحرية الشخصية أثمن من كل شئ فلا يعدلها مال ولا دين، ولا يقيدها غريم ولا سلطان، بل ان اكتسب وحصل معه مال يفضل عن نفقته ونفقة من تلزمه نفقته قضى به الدين.

وبه قال مالك وأبو حنيفة وعامة أهل العلم ما دام معسرا وقال أحمد وإسحاق بن راهويه يجبر على الاكتساب لقضاء الدين، وبه قال عمر بن العزيز وعبيد الله بن الحسن العنبري وسوار القاضى دليلنا حديث الرجل الذى ابتاع الثمرة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم غرماءه أن يأخذوا

ما معه وقال " خذوا ما وجدتم ما لكم غيره " ولم يأمره بالاكتساب لهم، ولان هذا إجبار على الاكتساب فلم يجب ذلك، كما لا يجبر على قبول الوصية، وكذلك لو تزوج امرأة بمهر كبير لم يجبر على طلاقهما قبل الدخول ليرجع إليه نصفه، فإن كان موسرا جازت مطالبته لقوله تعالى " وان كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " فأوجب إنظار المعسر، فدل على أن الموسر لا يجب إنظاره، فان لم يقضه أمره الحاكم بالقضاء، فان لم يفعل - فان كان له مال ظاهر - باع الحاكم عليه ماله وقضى الغريم، وان قضى الحاكم الغريم شيئا من مال من عليه الدين جاز، وبه قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ.

وَقَالَ أَبُو حنيفة لا يجوز أن يبع ماله عليه ولكن يحبسه حتى يقضى الدين بنفسه وان كان الدين مؤجلا لم يجز مطالبته به قبل حلول الاجل، لان ذلك يسقط فائدة التأجيل، فإذا أراد أن يسافر قبل حلول الدين سفرا يزيد على الاجل نظرت فان كان لغير الجهاد لم يكن للغريم منعه ولا مطالبته بأن يقيم له كفيلا يدينه ولا أن يعطيه رهنا.

قال الشافعي رضى الله عنه: ويقال له حقك حيث وضعته، يعنى أنك رضيت حال العقد أن يكون مالك عليه بلا رهن ولا ضمين، وحكى أصحابنا عن مالك رحمه الله أنه قال: له مطالبته بالكفيل أو الرهن

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 273)

________________________________________

دليلنا أنه ليس له مطالبته بالحق فلم يكن له مطالبته بالكفيل والرهن، كما لو لم يرد السفر.

وإن كان السفر للجهاد ففيه وجهان، من أصحابنا من قال له منعه إلى أن يقيم له كفيلا أو يعطيه رهنا بدينه، لان الشافعي رحمه الله قال: ولا يجاهد إلا بإذن أهل الدين، ولم يفرق بين الحال والمؤجل، ولان المجاهد يعرض نفسه للقتل

طلبا للشهادة، فلم يكن بد من إقامة الكفيل أو الرهن، ليستوفى صاحب الدين دينه منه.

فإذا حل الدين وكان له مال ظاهر باع الحاكم عليه ماله وقضى الدين.

دليلنا ما روى أن عمر رضى الله عنه صعد المنبر وقال: ألا إن الاسيفع أسيفع جهينة رضى من دينه، فادان معرضا فأصبح وقد رين به، فمن كان له دين فليحضر فانا بايعوا ماله.

وروى: رضى من دينه وأمانته أن يقال سابق الحاج، وروى سبق الحاج فادان معرضا فأصبح قد رين به، فمن كان له عليه دين فليحضر غدا فانا بايعوا ماله وقاسموه بين غرمائه.

وروى: فمن كان له دين فليعد بالغداة فلنقسم ماله بينهم بالحصص.

وان هذا بمجمع من الصحابة رضى الله عنهم ولم ينكر عليه أحد، فدل على أنه إجماع قوله " فادان معرضا " أي أنه يتعرض الناس فيستدين ممن أمكنه ويشترى به الابل الجياد، ويروح في الحاج فيسبق الحاج.

وقوله " فأصبح قد رين به " يقال رين بالرجل إذا وقع فيما لا يستطيع الخروج منه ولا قبل له به، ويقال إنما عليك وعلاك قد ران بك وران عليك.

قال الله تعالى " كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون " قال الحسن: هو الذنب على الذنب حتى يسود القلب.

وإن امتنع من عليه الدين من القضاء وكتم ماله عزره الحاكم وحبسه إلى أن يظهر ماله، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لئ الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته " رواه الشيخان وأبو داود والنسائي والبيهقي والحاكم وابن حبان وصححه عن عمرو بن الشريد عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

قَالَ وكيع: عرضه شكايته، وعقوبته حبسه.

(قلت) لم يرد أن يقذفه أو يطعن في نسبه، إنما يوصف بالظلم والعدوان.

وقوله " لى الواجد " اللى المطل.

يقال لويته ألويه ليا

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 274)

________________________________________

وأما إذا لم يكن له مال وقال: أنا معسر وكذبه الغريم نظرت، فإن حصل بمعاوضة كالديون التجارية وهى تختلف في عصرنا هذا عن الديون المدنية، وهى في عرف الفقهاء أعنى ديون المعاوضة مثل البيع والسلم والقرض فتشمل الديون المدنية والتجارية، أما غير المعاوضة فهى الديون الجنائية ومهر الزوجة، أقول إذا كان الدين من الصنف الاول، وأنه قد صرف له قبل ذلك لم تقبل دعواه أنه معسر، لانه قد ثبت ملكه للمال، والاصل بقاؤه، فلا نقبل قوله في الاقرار، بل يحبسه الحاكم - وهو ما يعمل به في المحاكم والوضعية من الحكم بالسجن على المتفالس، الذى يأخذ أموال الناس وبضائعهم ويدعى الافلاس فيسقط اعتباره ويسجن إلى خمس سنين - فان قال: غريمي يعلم أنى معسر أو أن مالى هلك.

فان صدقه الغريم على ذلك خلى من الحبس.

وإن كذبه حلف الغريم أنه ما يعلم أنه معسر أو ما يعلم أن ماله هلك وحبس من عليه الدين، فان أراد أن يقيم البينة على الاعسار لم تقبل إلا من شهادة شاهدين من أهل الخبرة والتحقيق واستقصاء أوجه الدخل والخرج كمحاسبين أمينين وهذا هو نصهم " من أهل الخبرة الباطنة " فان كانت البينة من أهل الخبرة الباطنة سمعت.

وقال مالك رضى الله عنه: لا تسمع لانها شهادة على النفى فلم تقبل.

دليلنا حديث قبيصة بن المخارق الهلالي عند مُسْلِمٍ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " يا قبيصة بن مخارق لا تحل المسألة إلا لثلاثة، رَجُلٌ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يؤديها ثم يمسك، ورجل أصابته فاقة وحاجة حتى شهد أو تكلم ثلاثة من ذوى الحجى من قومه أن به حاجة، فحلت له المسألة حتى يصيب سدادا من عيش أو قواما " وما ذكر من أنها شهادة نفى غير صحيح، لانها وان كانت تتضمن النفى فهى تثبت حالا تظهر ويقف عليها الشاهد كما لو شهد أن لا وارث له غير هذا.

وان أراد أن يقيم البينة على تلف ماله، قبلت شهادة عدلين سواء كانا من أهل الخبرة أم لا، لان التلف أمر يدركه كل واحد من خلطائه أو المباشرين له أو من كانوا من المال عن كثب، كأن كانوا عمالا عنده أو عند جيرانه أو مالك

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 275)

________________________________________

العين التى يشغلها في عمله أو متجره، أو كان من عملائه والمترددين عليه أو نحوهم ممن تربطهم بالاطلاع على التلف أسباب.

فإن طلب الغريم يمينه مع ذلك لم يحلف لان في ذلك تكذيبا للشهود، وقدحا في البينة.

إذا ثبت هذا: فإن البينة في كلتا الحالتين تسمع في الحال ويخلى سبيله من الحبس.

وقال أبو حنيفة تسمع في الحال ويحبس من عليه الدين شهرين، وروى ثلاثة أشهر، وروى أربعة أشهر.

وقال الطحاوي " يحبس شهرين " والمقصود من حبسه أن يغلب على ظن الحاكم أنه لو كان له مال لاظهره، وهذا ليس بصحيح لان كل بينة جاز سماعها بعد مدة جاز سماعها حالا كسائر البينات.

وكم عدد البينة التى تقبل في الاعسار؟ قال أصحابنا البغداديون: تقبل فيه شهادة ذكرين عدلين كشهادة التلف مع زيادة الخبرة بباطن حال المفلس، وهو قول أصحاب أحمد.

وقال المسعودي لا تقبل أقل من ثلاثة رجال ويحلف معهم ولعله يحتج بخبر قبيصة بن المخارق الهلالي في عددهم.

فإن أقام البينة على الاعسار فقال الغريم: له مال باطن لا تعلم به البينة، وطلب يمينه على ذلك، ففيه قولان

(أحدهما)

لا يجب عليه أن يحلف وهو قول أبى حنيفة، لان فيه تكذيبا للشهود

(والثانى)

يجب عليه أن يحلف فإن لم يحلف حبس.

وقال الخرقى من أصحاب أحمد: ومن وجب عليه حق فذكر أنه معسر به حبس إلى أن يأتي ببينة تشهد بعسرته.

وقال ابن المنذر: اكثر من نحفظ عنه من علماء الامصار وقضاتهم يرون الحبس في الدين، منهم مالك والشافعي وأبو عبيد والنعمان وسوار وعبيد الله بن الحسن، ولم يذكر الشيخ أبو حامد من أصحابنا في التعليق غير أنه يجب عليه أن يحلف، فان لم يحلف حبس، لانه يجوز أن يكون له مال باطن خفى على البينة، وقد يكون لرجل مال لا يعلم به أقرب الناس إليه، وقد يكون لاحد الزوجين مال ولا يعلم به الآخر.

وإن ثبت عليه الدين في غير معاوضة مثل جنايته على غيره أو إتلافه عليه ماله

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 276)

________________________________________

ولم يعلم له قبل ذلك مال.

وادعى أنه معسر.

فالقول قوله مع يمينه أنه معسر، لان الاصل الفقر حتى يعلم اليسار.

وفى الحديث الشريف " إن ابن آدم خلق ليس عليه شئ الا قشرتاه، ثم يرزقه الله ".

فإذا حلف ثم ظهر له غريم آخر.

قال الصيمري: لم يحلف له ألبتة لانه قد ثبت اعساره باليمين الاولى، وان كان في يده مال فقال هو لزيد وديعة أو مضاربة فان كان المقر له غالبا حلف من عليه الدين وسقطت عنه المطالبة، لان الاصل عدم العسر، وما ذكره الصيمري ممكن جدا.

وان كان المقر له حاضرا رجع إليه، فان كذبه قسم المال بين الغرماء، وان صدقه حكم للمقر له، فان طلب يمين المقر أنه صادق في اقراره فهل يجب احلافه فيه وجهان.

أحدهما: لا يجب احلافه لانه لو رجع عن اقراره لم يقبل فلا معنى لا حلافه والثانى: أنه يجب احلافه، فان لم يحلف حبس لجواز أن يكون واطأ المقر له على ذلك، فان طلب الغريم يمين المقر له أن المال له.

قال ابن الصباغ: فعندي

أنه يحلف لانه لو أكذب المقر ثبت المال للغرماء، فإذا صدقه حلف.

إذا ثبت هذا، فكل من حكمنا باعساره بالبينة، فانه لا يحبس، وكل من لم يحكم باعساره يحبس ولا غاية للحبس عندنا، بل يحبس حتى ينكشف ثلاثة أيام أو اربعة أيام فإذا ثبت اعساره خلى، ولا تمنع المسألة عنه.

وقال أبو حنيفة في الاصول: يحبس أربعة أشهر.

وقال في موضع ثلاثة أشهر وقال في موضع ثلاثين يوما.

وقال أصحابه: ليس هذا على سبيل التحديد، وانما هو على قدر حال المفلس، فان كان ممن لا يعلم بحاله الا بحبس أربعة أشهر حبس قدر ذلك، وكذلك إذا كان لا يعلم بحاله الا بحبس ثلاثة أشهر حبس قدر ذلك دليلنا: أنه لا سبيل إلى العلم بحاله من طريق القطع، وانما يعلم بحاله من طريق الظاهر، وذلك يعلم بحبس ثلاثة أيام أو أربعة، وما أشبه ذلك، وإذا حبسه الغريم فليس له حبسه عن النوم والاكل.

وفى نفقته بالحبس وجهان، حكاهما الصيمري في الايضاح المذهب انها في مال

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 277)

________________________________________

نفسه، والثانى: أنها على الغريم، فان كان المحبوس ذا صنعة - قال الصيمري: قد قيل: يمكن منها لانه يقضى بما يحصل منها دينه.

وقيل: يمنع منها إذا علم أن ذلك يراخى أمره ولا معصية عليه بترك الجمعة والجماعة، ان كان معسرا.

وقيل يلزمه استئذان الغريم عند ذلك حتى يمنعه، فيسقط عنه الحضور.

(فرع)

إذا مرض في الحبس ولم يجد من يخدمه فيه أخرج، وان وجد من يخدمه ويقوم على تمريضه وعلاجه في الحبس، فهل يجب اخراجه؟ فيه وجهان حكاهما الصيدلانى، وان جن في الحبس أخرج، وإذا حبس بطلب جماعة من الغرماء لم يكن لواحد منهم أن يخرجه حتى يجتمعوا على اخراجه وان حبس بطلب غريم، ثم حضر غريم آخر فطلب أن يخرجه ليدعى عليه أحضر، فإذا ثبت له

عليه حق وطلب أن يحبس له حبس، ولا يجوز اخراجه الا باجتماعهما، وان ثبت اعساره أخرجه الحاكم من غير اذن الغريم.

قال الصيدلانى: وإذا لم يكن للمعسر مال فهل له أن يحلف أنه لا حق عليه؟ فيه وجهان

(أحدهما)

له أن يحلف وينوى أن ليس عليه اليوم حق يلزمه الخروج إليه منه

(والثانى)

ليس له أن يحلف، لان الحاكم إذا كان عادلا لا يحبسه الا بعد الكشف عن حاله اه.

وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

 

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:

(فصل)

وان ركبته الديون ورفعه الغرماء إلى الحاكم، وسألوه أن يحجر عليه نظر الحاكم في ماله، فان كان له مال يفى بالديون لم يحجر عليه لانه لا حاجة به إلى الحجر، بل يأمره بقضاء الدين على ما بيناه، فان كان ماله لا يفى بالديون حجر عليه وباع ماله عليه لما روى عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال " كان معاذ ابن جبل من أفضل شباب قومه.

ولم يكن يمسك شيئا فلم يزل يدان حتى أغرق ماله في الدين.

فكلم النبي صلى الله عليه وسلم غرماءه.

فلو ترك أحد من أجل أحد لتركوا معاذا من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فباع لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ماله حتى قام معاذ بغير شئ " وروى كعب بن مالك " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حجر على معاذ وباع عليه ماله " وان كان ماله يفى

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 278)

________________________________________

بالديون إلا أنه ظهرت عليه أمارة التفليس بأن زاد خرجه على دخله ففيه وجهان

(أحدهما)

لا يحجر عليه لانه ملئ بالدين فلا يحجر عليه، كما لو لم يظهر فيه أمارة الفلس

(والثانى)

يحجر عليه لانه إذا لم يحجر عليه أتى الخرج على ماله فذهب ودخل الضرر على الغرماء.

(الشرح) حديث عبد الرحمن بن كعب بن مالك روى متصلا، أخرجه

الدارقطني والبيهقي والحاكم وصححه من طريق كعب بن مالك أبى عبد الرحمن.

أما مرسل عبد الرحمن الوارد في الفصل فقد أخرجه أبو داود وعبد الرزاق قال عبد الحق المرسل أصح.

وقال ابن الطلاع في الاحكام هو حديث ثابت، وقد أخرج الحديث الطبراني ويشهد له ما عند مسلم وغيره من حديث أبى سعيد الخدرى قال " أصيب رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم " أما قوله " ملئ " أي غنى كثير المال، ولكنه كثير المال الذى لغيره فهو ملئ بالدين الاحكام: إذا ثبتت الديون على رجل إما بالبينة أو باعترافه أو بأيمان المدعى عند نكوله، وسأل الغرماء الحاكم أن يحجر عليه، نظر الحاكم في ماله، فإن كان يفى بما عليه من الدين لم يحجر عليه، بل يأمره بقضاء الدين.

فان امتنع باع عليه الحاكم ماله.

وقضى أصحاب الديون خلافا لابي حنيفة، وقد سبقت هذه المسألة في الفصل الذى مضى.

وهل تقوم الاعيان التى هي عليه بأثمانها؟ وجهان حكاهما ابن الصباغ.

 

(أحدهما)

لا يقومها لان لاربابها الرجوع فيها فلا يحتسب أثمانها عليه فلا يقومها مع باقى ماله

(والثانى)

يقومها لان أصحابها بالخيار أن يرجعوا فيها، أو لا يرجعوا فيها.

والوجه الاول يتيح للغريم أن يأخذ عين ماله، وهو مذهب أحمد رضى الله عنه مستدلا بقوله صلى الله عليه وسلم " من أدرك متاعه بعينه عند إنسان قد أفلس فهو أحق به " رواه الشيخان عن أبى هريرة قال الامام أحمد رضى الله عنه: لو أن حاكما حكم أنه أسوة الغرماء - أي

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 279)

________________________________________

سوى بين الغرماء في عين المال أو في ثمنه بعد بيعه - ثم رفع إلى رجل يرى العمل بالحديث، جاز له نقض حكمه.

(قلت) جملة القول في هذا أن المفلس متى حجر عليه فوجد بعض غرمائه سلعته التى باعه إياها بعينها بالشروط التى يذكرها ملك فسخ البيع وأخذ سلعه.

وروى ذلك عن عثمان وعلى وأبى هريرة.

وبه قال عروة ومالك والاوزاعي والشافعي والعنبري وإسحاق وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وابن شبرمة وأبو حنيفة: هو أسوة الغرماء وإن قوم ماله فوجدوه لا يفى بديونه لم يحجر الحاكم عليه قبل سؤال الغرماء ذلك لانه لا ولاية له عليه في ذلك، وإن سأل الغرماء أو بعضهم الحجر عليه بعد ذلك حجر عليه، وباع عليه ماله، وبه قال مالك ومحمد وأبو يوسف.

وقال أبو حنيفة لا يحجر عليه ولا يبيع عليه ماله، بل يحبسه حتى يقضى ما عليه.

قال العمرانى في البيان: دليلنا ما روى أن معاذ بن جبل رضى الله عنه ركبه دين على عهد رسول الله فكلم غرماؤه رسول الله صلى الله عليه وسلم فحجر عليه وباع عليه ماله حتى قام معاذ بغير شئ.

وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلَعَ ماله لهم - يعنى لغرمائه - وهذا يحتمل تأويلين

(أحدهما)

أن ماله لم يف بالدين فحجر عليه، فيكون معنى قوله " خلع " أي حجر عليه

(والثانى)

أن معنى قوله خلع ماله لهم، أي باع ماله لهم وروى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رجلا أصيب في ثمار ابتاعها، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " تصدقوا عليه " فلم يف بما عليه، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " خذوا ماله ليس لكم إلا ذلك " رواه الجماعة إلا البخاري.

ولم يَرُدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: خذوا ماله، انهبوا ماله، وإنما أراد صلى الله عليه وسلم خذوه بالحصص، وأبو حنيفة يقول: ليس لهم أن يأخذوه إلا أن يعطيهم إياه، وهذا يخالف الخبر الصحيح

وإن كان ماله يفى بدينه إلا أن أمارات الافلاس بادية، فإن كان ماله بإزاء دينه ولا وجه لنفقته إلا مما بيده.

أو كان له وجه كسب إلا أنه قدر نفقته أكثر

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 280)

________________________________________

مما يجعل له بالكسب، فهل للحاكم أن يحجر عليه إذا سأله الغرماء ذلك؟ حكى المصنف في ذلك قولين، وحكاهما الشيخ أبو حامد وابن الصباغ وجهين

(أحدهما)

لا يجوز الحجر عليه بل يأمره الحاكم بقضاء الدين على ما بيناه، لان الحجر انما يكون على المفلس وهذا ليس بمفلس، لانه ملئ بالدين.

 

(والثانى)

يحجر عليه، لان الظاهر من حاله أن ماله يعجز عن الوفاء بديونه والحجر يجوز بالظاهر، ألا ترى أن السفيه يجوز الحجر عليه، لان الظاهر من حاله التبذير والاسراف، وإن كان يجوز أن لا يبذر قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

والمستحب أن يشهد على الحجر ليعلم الناس حاله فلا يعاملوه إلا على بصيرة، فإذا حجر عليه تعلقت ديون الغرماء بماله ومنع من التصرف فيه، فان افترض أو اشترى في ذمته شيئا صح لانه لا ضرر على الغرماء فيما يثبت في ذمته ومن باعه أو أقرضه بعد الحجر لم يشارك الغرماء في ماله، لانه ان علم بالحجر فقد دخل على بصيرة، وان ديون الغرماء متعلقة بماله، وان لم يعلم فقد فرط حين دخل في معاملته على غير بصيرة فلزمه الصبر إلى أن يفك عنه الحجر، فان تصرف في المال بالبيع والهبة والعتق ففيه قولان

(أحدهما)

أنه صحيح موقوف لانه حجر ثبت لحق الغرماء فلم يمنع صحة التصرف في المال، كالحجر على المريض

(والثانى)

لا يصح وهو الصحيح لانه حجر ثبت بالحاكم فمنع من التصرف في المال كالحجر على السفيه، ويخالف حجر المريض لان الورثة لا تتعلق حقوقهم

بماله الا بعد الموت، وهنها حقوق الغرماء تعلقت بماله في الحال فلم يصح تصرفه فيه كالمرهون، فان قلنا يصح تصرفه وقف، فان وفى ماله بالدين نفذ تصرفه، وإن لم يف فسخ، لانا جوزنا تصرفه رجاء أن تزيد قيمة المال أو يفتح عليه بما يقضى به الدين، فإذا عجز فسخ كما تقول في هبة المريض قال أصحابنا: وعلى هذا ينقض من تصرفه الاضعف فالاضعف فأضعفها الهبة

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 281)

________________________________________

لانه لا عوض فيه ثم البيع لانه يلحقه الفسخ ثم العتق، لانه أقوى التصرفات ويحتمل عندي أنه يفسخ الآخر فالآخر، كما قلنا في تبرعات المريض إذا عجز عنها الثلث.

(الشرح) وإذا حجر الحاكم فيستحب أن يشهد على الحجر، ويعمل على نشر نبأ الحجر بوسائل الاعلام المناسبة كالنشر في الصحف اليومية، أو الاعلان بنشرة في ديوان الشرطة، أو على حائط المكان الذى يقيم فيه المحجور عليه.

وهى الوسائل المستحدثة للاعلام في عصرنا هذا حيث كان يقوم في الماضي مناد من قبل الحاكم ينادى في الاسواق " ألا ان الحاكم قد حجر على فلان ابن فلان لانه إذا لم يعلم الناس اغتروا به فعاملوه فيؤدى ذلك إلى الاضرار به وبهم، فإذا عاملوه بعد اعلامهم بحاله كانوا قد عاملوه - وهم على بينة من أمره وعلى بصيرة من أمر أنفسهم - ولان هذا الاعلام تسجيل واشهار لحكم صدر من الحاكم يأخذ صورة النفاذ، فإذا تقلد أمر القضاء حاكم آخر كان حكم سلفه معروفا له، توفرت له أسباب العلنية التى تحول بينه وبين الغموض في أمر المحجور عليه، فيباشر تنفيذ الحكم الذى صدر من سلفه ولا يحتاج إلى ابتداء الحجر من جديد.

فإذا صدر حكم القاضى بالحجر على المفلس تعلقت ديون الغرماء بماله ومنع من التصرف في هذا المال.

وقال أبو حنيفة: لا تتعلق الديون بماله، ولا يمنع من

التصرف، بل يحبسه الحاكم حتى يوفى ما عليه من الدين دليلنا أن معاذ بن جبل ركبته الديون عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم يزل يدان حتى غرق ماله كله في الدين، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فكلمه ليكلم غرماؤه، فباع لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ماله حتى قام معاذ بغير شئ " رواه سعيد في سننه عن عبد الرحمن بن كعب.

إذا عرف هذا فإن المفلس إذا تصرف في ماله بعد الحجر عليه نظرت، فإن تصرف في ذمته، فان اقترض أو اشترى شيئا بثمن في ذمته، أو أسلم إليه في شئ صح ذلك، لان الحجر عليه في أعيان ماله، وهذا يعدل الحجز القضائى أو الاداري في عصرنا هذا على موجودات المدين وممتلكاته، ولا يؤثر ذلك في صحة

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 282)

________________________________________

معاملاته وعقوده وقروضه وبيعه وسلمه، لانه لم يحجر عليه في ذمته، لانه لا ضرر على الغرماء فيما ثبت عليه بذمته.

ومن عامله بعد ذلك فباعه أو أقرضه لم يشارك الغرماء في ماله، لانه إن علم بالحجر فقد دخل على بصيرة، وإن لم يعلم به فقد فرط في ترك التحرى.

وهل تقسم الاعيان التى اشتراها بعد الحجر عليه بثمن في ذمته بين الغرماء الاولين أو يكون بائعوها أحق بها؟ فيه وجهان سنذكرهما إن شاء الله وإن تصرف المفلس في أعيان ماله بأن باع أو وهب أو أقرض أو أعتق فهل يصح تصرفه بها؟ فيه قولان

(أحدهما)

أن تصرفه موقوف، فان كان فيما بقى من ماله وفاء بدينه نفذ تصرفه، وإن لم يف بدينه لم ينفذ تصرفه، وهو أضعف القولين على المذهب، لان من صح ابتياعه في ذمته صح بيعه لاعيان ماله كغير المفلس، ولانه حجر عليه لحق الغير فكان تصرفه موقوفا كالحجر على المريض، وفيه احتراز من

تصرف المحجور عليه للسفه والقول الثاني: أن تصرفه باطل، وهو قول ابن أبى ليلى والثوري ومالك رضى الله عنهم، وهو اختيار المزني وهو الصحيح، لانه حجر ثبت بالحاكم فلم يصح تصرفه كالسفيه، ولان كل من تعلق بماله حق الغير وجب أن يكون ممنوعا من التصرف فيه كالرهن لا يصح تصرف الراهن به وإذا قلنا إن تصرفه باطل في أعيان ماله، رد جميع ما باع ووهب وأعتق، وقسم ماله بين الغرماء، فان وفى ماله بدينه بأن زادت قيمته أو أبرئ من بعض دينه، وفصل ما كان تصرف فيه عن الدين لم نحكم بصحة تصرفه الاول، لانه وقع باطلا.

فعل هذا إن باع عينا من أعيان ماله من غريمه بدينه الذى له عليه فهل يصح فيه وجهان حكاهما في العدة.

(الاول) قال صاحب التلخيص " يصح " لان الحجر عليه للدين، فبيعه بذلك الدين يوجب سقوطه

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 283)

________________________________________

(والثانى)

لا يصح.

وهو قول الشيخ أبى زيد، لان الحجر على المفلس ليس بمقصور على هذا الغريم، لانه ربما ظهر له غريم آخر وان قلنا ان تصرفه صحيح موقوف قسم ماله، فان وفى ماله بدينه غير الذى تصرف فيه نفذ تصرفه، وان لم يف ماله إلا أن ينقض جميع ما تصرف فيه نقض جميعه، وان لم يف بدينه الا بعض الاعيان التى تصرف فيها نقض منها شئ بعد شئ، وما الذى ينقض أولا؟ فيه وجهان قال أبو حامد وعامة أصحابنا: ينقض فالاضعف، وان كان متقدما في التصرف.

فعلى هذا ينقض الهبة أولا، لانها أضعف، لانه لا عوض فيها، ثم البيع بعدها لانه يلحقه الفسخ قال ابن الصباغ: ثم العتق ثم الوقف، قال العمرانى في البيان: والذى يقتضى القياس عندي على هذا ان الوقف ينقض أولا قبل العتق، لان العتق أقوى من الوقف، بدليل أنه يسرى إلى ملك الغير والوقف لا يسرى إلى ملك الغير.

الوجه الثاني.

وهو قول المصنف أنه ينقض الآخر فالآخر من تصرفه، عتقا كان أو هبة أو غيرهما، كما قلنا في تبرعات المريض المنجزة إذا عجز عنها الثلث فانه ينقض الآخر فالآخر.

قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

قال الشافعي رحمه الله: ولو باع بشرط الخيار ثم أفلس فله اجازة البيع ورده، فمن أصحابنا من حمل هذا على ظاهره.

وقال: له أن يفعل ما يشاء، لان الحجر انما يؤثر في عقد مستأنف، وهذا عقد سبق الحجر فلم يؤثر الحجر فيه وقال أبو إسحاق: ان كان الحظ في الرد لم يجز، وان كان في الاجازة لم يرد، لان الحجر يقتضى طلب الحظ، فإذا طرأ في بيع الخيار أوجب طلب الحظ، كما لو باع بشرط الخيار ثم جن، فإن الولى لا يفعل الا ما فيه الحظ من الرد والاجازة.

ومن أصحابنا من قال " ان قلنا ان المبيع انتقل بنفس العقد لم يجب الرد، وان كان الحظ في الرد لان الملك قد انتقل فلا يكلف رده، وحمل قول الشافعي رحمه الله

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 284)

________________________________________

على هذا القول.

وان قلنا ان المبيع لم ينتقل أو موقوف لزمه الرد ان كان الحظ في الرد، لان المبيع على ملكه فلا يفعل إلا ما فيه الحظ (الشرح) قال الشافعي رحمه الله: ولو تبايعا بالخيار ثلاثا، ففلسا أو أحدهما فلكل واحد منهما إجازة البيع ورده دون الغرماء، لانه ليس بمستحدث: قلت

وهذا كما قال: إذا تبايع رجلان وبينهما خيار الثلاث أو خيار المجلس، ثم حجر عليهما أو على أحدهما وحكم عليهما بالافلاس.

وقد اختلف اصحابنا في هذه المسألة على طرق، فمنهم من حملها على ظاهرها وقال لكل واحد منهما أن يفسخ البيع وله أن يجيزه سواء كان الحظ فيما فعله من ذلك أو في غيره، لان الحجر إنما يمنع تصرفه في المستقبل لا فيما مضى، ولان المفلس لا يجبر على الاكتساب، فلو قلنا: يلزمه أن يفعل ما فيه الحظ لالزمناه الاكتساب.

وقال أبو إسحاق إن كان الحظ في الفسخ لزمه أنه يفسخ، وان أجازه لم تصح إجازته، وإن كان الحظ (أو الفائدة) في الاجازة لزمه أن يجيز، وان لم يصح الفسخ، لان الحجر يقتضى طلب الحظ، فلم يفعل الا ما فيه الحظ، كما لو باع بشرط الخيار ثم جن، فإن الولى لا يفعل الا ما فيه الحظ.

وتأول كلام الشافعي على هذا الذى بينا.

ومنهم من قال.

يبنى ذلك على وقت انتقال الملك إلى المشترى، وصورتها إذا باع بشرط الخيار وأفلس البائع، فإن قلنا ان الملك انتقل إلى المشترى بنفس العقد، فللبائع أن يجيز البيع، وان كان الحظ في الفسخ فله أن يفسخ.

وان كان الحظ في الاجازة وان قلنا ان البيع لا ينتقل الا بشرطين أو قلنا أنه موقوف فليس له ان يفعل الا ما فيه الحظ على القولين.

قال ابن الصباغ.

والطريقة الاولى أشد عند أصحابنا، لان التصرف من المحجور عليه لا ينفذ، سواء كان الحظ فيه أو لم يكن، وذكر الشيخ أبو حامد في التعليق طريقة رابعة، وقال الصحيح عندي أنه لا يملك فسخ العقد ولا اجازته بعد الحجر عليه بكل حال، لانه عندنا ينقطع تصرفه بالحجر عليه بدلالة أنه إذا

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 285)

________________________________________

باع شيئا ثم حجر عليه قبل قبض الثمن لم يكن له قبض، اللهم الا أن يكون الامام امر من يقوم بأمره وينظر في مصالحه فرأى الحظ له في الفسخ فانه يفعل اه.

وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

 

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى

.

 

(فصل)

وإن وهب هبة تقتضي الثواب وقلنا: إن الثواب مقدر بما يرضى به الواهب، ثم أفلس، فله أن يرضى بما شاء، لانا لو ألزمناه أن يطلب الفضل لالزمناه أن يكتسب، والمفلس لا يكلف الاكتساب.

(الشرح) الاحكام.

إذا وهب لغيره قبل الحجر هبة تقتضي الثواب، ثم حجر على الواهب.

وقلنا ان الثواب مقدر بما يرضى به الواهب فله أن يرضى بالقليل والكثير، لانا لو ألزمناه طلب الفضل لالزمناه الاكتساب وذلك لا يلزمه.

قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

وان أقر بدين لزمه قبل الحجر لزم الاقرار في حقه، وهل يلزم في حق الغرماء؟ فيه قولان.

(احدهما) لا يلزم، لانه متهم، لانه ربما واطأ المقر له لياخذ ما أقر به ويرد عليه

(والثانى)

أنه يلزمه وهو الصحيح، لانه حق يستند ثبوته إلى ما قبل الحجر فلزم في حق الغرماء كما لو ثبت بالبينة، وان ادعى عليه رجل مالا وأنكر، ولم يحلف، وحلف المدعى.

فان قلنا ان يمين المدعى مع نكول المدعى عليه كالبينة شارك الغرماء في المال، وان قلنا: كالاقرار فعلى القولين في الاقرار، وان أقر لرجل بعين لزمه الاقرار في حقه، وهل يلزم في حق الغرماء؟ فيه قولان،

(أحدهما)

لا يلزم

(والثانى)

يلزم، وتسلم العين إلى المقر له، ووجه القولين ما ذكرناه في الاقرار بالدين.

(الشرح) الاحكام: إذا أقر المحجور عليه بدين لزمه قبل الحجر، وصادقه

المقر له، وكذبه الغرماء، تعلق الدين بذمته قولا واحدا، وهل يقبل إقراره في حق الغرماء؟ ليشاركهم المقر له؟ فيه قولان.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 286)

________________________________________

أحدهما: أنه لا يقبل في حقهم ولا يشاركهم، لانه مال تعلق به حق الغير فلم يقبل إقرار من عليه الحق في ذلك المال كالراهن إذا أقر بدين لم يبطل به حق المرتهن، ولانه لا يؤمن أن يواطئ المفلس من يقر له بالدين ليشاركه الغرماء، ثم يسلمه إلى المفلس.

الثاني: ان اقراره مقبول في حق الغرماء، فشاركهم المقر له، وهو الصحيح لانه حق ثبت لسبب منسوب إلى ما قبل الحجر فوجب أن يشارك صاحب الحق بحقه الغرماء، كما لو ثبت حقه بالبينة، ولان المريض لو أقر لرجل بدين لزمه في حال الصحة لشارك من أقر له في حال المرض، كذلك هذا المفلس لو أقر بدين قبل الحجر لشارك الغرماء.

وكذلك إذا أقر بدين بعد الحجر وأضافه إلى ما قبل الحجر يكون كما لو أقر به قبل الحجر، وكذلك إذا أقر بدين بعد الحجر.

وان كان في يد المفلس عين وقال: هذه العين عارية عندي لفلان، أو غصبتها منه أو أودعنيها، فهل يقبل اقراره في حق الغرماء على القولين

(أحدهما)

لا يقبل فإن لم يف مال المفلس بدينه الا ببيع تلك العين بيعت، ووزع ثمنها على الغرماء وكان هذا الثمن دينا على المفلس في ذمته.

(والقول الثاني) وهو الصحيح: أنه يقبل اقراره فيها على الغرماء، وتسلم العين إلى المقر له، قال الشيخ أبو حامد: وقد شنع الشافعي رحمه الله على القول الاول وقال: من قال بهذا أدى إلى ان القصار (أي الحائك أو الخياط) إذا أفلس وعنده ثياب لقوم فأقر أن هذا الثوب لفلان، وهذا لفلان فلا يقبل منه،

وكذلك الصباغ والصائغ إذا أقر بمتاع لاقوام بأعيانهم أن لا تقبل، وهذا لا سبيل إليه، وكذلك لو قال عندي عبد آبق ولم يقبل قوله، فبيع العبد رجع بعهدته على المفلس فيكون قد رجع عليه بعهده عند اقراره أنه أبق وباعه بهذا الشرط وهذا لا سبيل إليه لانه ابطال لاصول الشرع، فلذلك قلنا نقبل اقراره اه.

(فرع)

وإن ادعى رجل على المفلس بدين في ذمته أو عين في يده فجحده، فان أقام المدعى بينه شارك الغرماء بالدين وأخذ العين، وإن لم يقم بينة فالقول قول المفلس مع يمينه، فان حلف له انصرف المدعى وإن نكل المفلس عن اليمين

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 287)

________________________________________

فحلف المدعى، فهل يشارك الغرماء في الدين، ويأخذ العين؟ فيه طريقان، قال الشيخان أبو حامد والمصنف رحمهما الله تعالى: إن قلنا إن يمين المدعى مع نكول المدعى عليه كالبينة شارك الغرماء بالدين وأخذ العين، وإن قلنا إنه كالاقرار كان على القولين الاولين في إقرار المفلس وقال ابن الصباغ: يشارك الغرماء قولا واحدا، كما لو ثبت ذلك بالبينة.

وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:

(فصل)

وان جنى على رجل جناية توجب المال وجب قضاء الارش من المال، لانه حق لزمه بغير رضى من له الحق فوجب قضاؤه من المال، وان جنى عليه جناية توجب المال تعلق حق الغرماء بالارش كما يتعلق بسائر أمواله.

 

(فصل)

وان ادعى على رجل مالا وله شاهد فان حلف استحق وتعلق به حق الغرماء وإن لم يحلف فهل تحلف الغرماء أم لا؟ قال في التفليس لا يحلفون وقال في غرماء الميت: إذا لم يحلف الوارث مع الشاهد ففيه قولان.

أحدهما يحلفون.

والثانى لا يحلفون.

فمن أصحابنا من نقل أحد القولين من غرماء الميت

إلى غرماء المفلس، فجعل فيهما قولين.

أحدهما يحلفون لان المال إذا ثبت استحقوه.

والثانى لا يحلفون لانهم يحلفون لاثبات المال لغيرهم وذلك لا يجوز ومن أصحابنا من قال لا تحلف غرماء المفلس.

وفى غرماء الميت قولان: لان الميت لم يمتنع من اليمين فحلف غرماؤه، والمفلس امتنع من اليمين فلم تحلف غرماؤه، ولان غرماء الميت أيسوا من يمين الميت فحلفوا، وغرماء المفلس لم ييأسوا من يمين المفلس فلم يحلفوا، وان حجر عليه وعليه دين مؤجل فهل يحل فيه قولان، أحدهما يحل لان الدين تعلق بالمال فحل الدين المؤجل كما لو مات.

والثانى لا يحل وهو الصحيح لانه يملك التصرف في الذمة فلم يحل عليه الدين.

كما لو لم يحجر عليه (الشرح) الاحكام: إذا جنى المحجور عليه على غيره أو أتلف عليه مالا شارك المجني عليه والمتلف عليه الغرماء لان ذلك ثبت بغير رضا من له الحق.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 288)

________________________________________

وان جنى أحد على الفلس جناية خطأ تعلق حق الغرماء بالارش، لان الارش مال له، فيتعلق به حق الغرماء كسائر أمواله.

وإن جنى عليه أحد جناية عمد توجب القصاص فالمفلس بالخيار بين أن يقتص وبين أن يعفو وليس للغرماء أن يطالبوه بالعفو على مال، لان ذلك اكتساب للمال، وقد سبق أن قلنا إنه لا يلزمه ذلك، ولانا لو ألزمناه ذلك لصار ذلك ذريعة للجناية عليه مرة بعد أخرى، فلم يلزمه.

فان عفا في مقابل مال تعلق به حق الغرماء، وان عفا مطلقا - فان قلنا إن موجب العمد القود لا غير لم يجب المال، وان قلنا ان موجبه أحد الامرين ثبت المال وتعلق به حق الغرماء، وان عفا على غير مال - فان قلنا ان موجب العمد القود لا غير صح عفوه ولم يجب المال، وان قلنا ان موجبه أحد الامرين فقد ذكر في التعليق والشامل أن المال ثبت: ويتعلق به حق

الغرماء، ولا يصح عفوه وإذا ادعى المفلس على غيره بدين وأنكره المدعى عليه، فأقام المفلس شاهدا فان حلف معه استحق ما ادعاه قسم على الغرماء لانه ملك له، وان لم يحلف فهل يحلف الغرماء.

قال الشافعي في المختصر: لا يحلف الغرماء.

وقال صاحب الشامل إذا مات وخاف ورثة وعليه دين وله دين على آخر له به شاهد ولم يحلف الورثة، فهل يحلف الغرماء؟ على قولين، فمن أصحابنا من قال المسألتان على قولين.

ومنهم من قال لا يحلف غرماء المفلس قولا واحدا، وفى غرماء الميت قولان، والفرق بينهما أن المفلس يرجى أن يخاف فلم يحلف غرماؤه، والميت لا يرجى أن يحلف فحلف غرماؤه، والصحيح أنهما على قولين

(أحدهما)

يحلفون لان حقوقهم تتعلق بما ثبت للمفلس فكان لهم أن يحلفوا كالورثة، ولان الانسان قد يحلف ليثبت ما لا لغيره، كما نقول في الوكيل إذا أحلفه العاقد له فان الوكيل يحلف وثبت المال للموكل، كذلك هذا مثله.

(الثاني) لا يحلفون، وهو الصحيح، لانهم يثبتون بأيمانهم ملكا لغيرهم، تتعلق به حقوقهم بعد ثبوته، وهذا لا يجوز.

كما لا تحلف الزوجة لاثبات مال زوجها، وان كان إذا ثبت تعلقت به نفقتها فأشبهت الورثة لانهم يثبتون ملكا

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 289)

________________________________________

لانفسهم بأيمانهم.

وأما الوكيل فإنما حلف لان اليمين متعلقة بالعقد، فلما كان هو العاقد توجهت اليمين عليه.

وإن ادعى المفلس على غيره بد؟ ن أو عين ولا بينة له، فالقول قول المدعى عليه مع يمينه، فإن حلف فلا كلام، وان نكل المدعى عليه عن اليمين ردت على المفلس، فان حلف ثبت المال، وقسم على الغرماء، وان لم يحلف المفلس، فهل يحلف الغرماء؟

قال ابن الصباغ: هما على قولين كاليمين مع الشاهد، وإن حلفوا فان المال الذى ثبت بأيمانهم يقسم بينهم على قدر ديونهم (فرع)

إذا كان على رجل دين مؤجل فليس لغرمائه أن يسألوا الحاكم أن يحجر عليه لهذه الديون، وإن كان ماله أولا من ديونهم، لانه لا حق لهم قبل حلول الاجل.

وإن كان عليه دين حال ودين مؤجل، فرفع أصحاب الديون الحالة أمره إلى الحاكم، فنظر إلى ما عليه من الديون، والى ما معه من المال، فوجد ماله لا في بالديون الحالة، فحجر عليه بناء على مسألتهم، فهل تحل عليه الديون المؤجلة؟ فيه قولان

(أحدهما)

تحل، وبه قال مالك، لان ما يتعلق بالمال بالحجر، أسقط الحجر الآجل كالموت، يحل الدين الآجل (الثاني) لا يحل، وهو اختيار المزني، وهو الاصح، لانه دين مؤجل على حى، فلم يحل قبل حلول أجله، كما لو لم يحجر عليه، ويفارق الميت، لان ذمته انعدمت بموته، وهذا له ذمة صحيحة.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 290)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

وان لم يكن له كسب ترك له ما يحتاج إليه للنفقة إلى أن يفك الحجر عنه، ويرجع إلى الكسب لقوله صلى الله عليه وسلم: ابدا بنفسك ثم بمن تعول فقدم حق نفسه على حق العيال، وهو دين، فدل على أنه يقدم على كل دين، ويكون الطعام على ما جرت به عادته، وبترك له ما يحتاج إليه من الكسوة من غير إسراف ولا إجحاف، لان الحاجة إلى الكسوة كالحاجة إلى القوت، فان

كان له من تلزمه نفقته من زوجة أو قريب ترك لهم ما يحتاجون إليه من النفقة والكسوة بالمعروف، لانهم يجرون مجراه في النفقة والكسوة، ولا تترك له دار ولا خادم، لانه يمكنه أن يكترى دارا يسكنها وخادما يخدمه، وان كان له كسب جعلت نفقته في كسبه لانه لا فائدة في إخراج ماله في نفقته، وهو يكتسب ما ينفق (الشرح) حديث " ابدا بنفسك ثم بمن تعول " رواه الطبراني عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

أما الاحكام: فإذا حجر الحاكم على المفلس ومنعه من التصرف في ماله فمن أين تكون نفقته إلى أن يبيع ماله ويقسمه على الغرماء، ينظر فيه، فان كان له كسب كانت نفقته من كسبه، وان لم يكن له كسب، فإن على الحاكم أن يدفع إليه نفقته من ماله لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ للرجل الذى جاءه بالدينار " ابدأ بنفسك ثم بمن تعول " فأمره أن يبدأ بنفقته على من يعول، ومعلوم أن فيمن يعول من تجب نفقته، وتكون دينا عليه، وهى الزوجة.

فعلم أن نفقته مقدمة على الدين، ويكون طعامه على ما جرت به عادته ويدفع إليه نفقته كل يوم، وآخرها اليوم الذى يقسم فيه الحاكم ماله، فيدفع إليه نفقته ذلك اليوم، لان النفقة تجب في أوله، ويترك له ما يحتاج إليه من الكسوة لانه لا بد له أن ينصرف، فلو قلنا: انه لا يكتسى لامتنع الناس من معاملته، هكذا قال صاحب البيان عن نصه في الام ويترك له من الكسوة ما يكفيه على ما جرت به عادته، أو ما تدعو إليه ضرورة الزمن أن كان صيفا أو شتاء.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 291)

________________________________________

قال الشافعي رضى الله عنه: يكفيه قميص وسراويل ورداءان، ان كان ممن يرتدى وحذاءين لرجله هذا إذا كان صيفا، وان كان في الشتاء زيد على القميص جبة محشوة، وخف بدل النعل، وان كان من عادته أن يتطيلس دفع إليه

الطيلسان، وأما جنس ثيابه فمعتبر بحاله، وان كان من عادته لبس الشرب والديبقى ترك له ذلك، وان كانت عادته أن يلبس غليظ الثياب ترك له ذلك.

وقال الشافعي رضى الله عنه: ان كان له ثياب غوال بيعت.

قال أصحابنا: وأراد إذا كان من عوام الناس وله ثياب غالية جرت العادة أن يلبسها ذوو الاقدار بيعت، ويشترى له ثياب جرت العادة أن يلبسها مثله، ويصرف الباقي من ثمنها إلى الغرماء.

(فرع)

وان كان المفلس من تلزمه نفقته كالزوجة والوالدين والمولودين ترك لهم ما يحتاجون إليه نفقة وكسوة كما قلنا عن المفلس، لانهم يجرون مجرى نفسه، لان الاقارب يعتقون عليه إذا ملكهم كما يعتق نفسه إذا ملكها، ونفقة الزوجة آكدا من نفقة الاقارب لانها تجب بحكم المعارضة.

(فرع)

فإن مات المفلس كانت مؤنه تجهيزه وكفنه من ماله، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قدمت عليه جنازة ليصلى عليها فقال: هل على صاحبكم دين، فقالوا: نعم، فقال صلوا على صاحبكم.

ولا محالة أنه كان قد كفن، فعلم أن الذى كفن به مقدم على حقوق الغرماء، لانه لم يتعرض له، وان مات من تلزمه - فان كانت زوجة - فهل يجب كفنها ومؤنة تجهيزها عليه، أو في مالها، فيه وجهان سبق ذكرهما في الجنائز للامام النووي رضوان الله عليه ونفعنا بعلمه آمين.

وان كان من الوالدين أو المولودين وجب مؤنة تجهيزه وكفنه على المفلس، ويقدم ذلك على الغرماء كما قلنا في نفس المفلس وكم القدر الذى يجب في الكفن من ثوب أو ثوبين أو ثلاثة.

 

قال المصنف رحمه الله تعالى

 

ما يستر العورة لا غير (فرع)

إذا كان للمفلس دار يسكنها أو سيارة يركبها بيعتا عليه، وصرف ثمنها للغرماء، لانه يمكنه أن يستأجر دارا يسكنها، ويركب المرافق العامة من

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 292)

________________________________________

وسائل المواصلات التى ننبث في كل فج، وتصل إلى حيث يشاء راكبها، وقد جرت عادة الناس بذلك، وذلك بخلاف الثياب، فان العادة لم تجر باكترائها، ولذا لا تباع الا في صورة خاصة مضى بيانها وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

 

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى

(فصل)

وإذا أراد الحاكم بيع ماله فالمستحب أن يحضره لانه أعرف بثمن ماله، فإن لم يكن من يتطوع بالنداء استؤجر من ينادى عليه من سهم المصالح، لان ذلك من المصالح فهو كأجرة الكيال والوزان في الاسواق، فان لم يكن سهم المصالح اكترى من مال المفلس، لانه يحتاج إليه لايفاء ما عليه، فكان عليه، ويقدم على سائر الديون، لان في ذلك مصلحة له، ويباع كل شئ في سوقه، لان أهل السوق أعرف بقيمة المناع، ومن يطلب السلعة في السوق أكثر، ويبدأ بما يسرع إليه الفساد، لانه إذا أخر ذلك هلك، وفى ذلك اضرار، وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا ضَرَرَ وَلَا ضرار، ثم بالحيوان لانه يحتاج إلى علف ويخاف عليه التلف ويتأنى بالعقار لانه إذا تانى به كثر من يطلبه، ولا يتأنى به أكثر من ثلاثة ايام، لان فيما زاد اضرارا بالغرماء في تأخير حقهم.

فإن كان في المال رهن أو عبد تعلق الارش برقبته بيع في حق المرتهن والمجني عليه، لان حقهما يختص بالعين فقدم، وان بيع له متاع وقبض ثمنه فهلك الثمن واستحق المبيع، رجع المشترى بالعهدة في مال المفلس، وهل يقدم على سائر الغرماء؟ روى المزني أنه يقدم، وروى الربيع أنه أسوة الغرماء، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: فِيهِ قَوْلَانِ.

 

(أَحَدُهُمَا)

يقدم، لان في تقديمه مصلحة فانه متى لم يقدم تجنب الناس شراء ماله خوفا من الاستحقاق فإذا قدم رغبوا في شراء ماله.

 

(والثانى)

أنه أسوة الغرماء لان هذا دين تعلق بذمته بغير رضى من له الحق فضرب به مع الغرماء كأرش الجناية ومنهم من قال ان لم يفك الحجر عنه قدم لان فيه مصلحة له، وان فك الحجر عنه كان كسائر الغرماء، وحمل رواية الربيع على هذا.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 293)

________________________________________

(الشرح) حديث " لا ضرر ولا ضرار " مضى تخريجه.

أما الاحكام: فإنه يستحب أن يشهد المفلس مجلس بيع المال أو الرهن لاجل أولا: لانه يعرف قيمة أمواله وأثمانها عليه التى اشتراها بها.

ثانيا: ليحصى ثمنه ويضبطه.

ثالثا: لانه إذا حضر احتاط اكثر من غيره لحرصه على أن تباع بأكبر قيمة ممكنه.

رابعا.

لان ذلك أطيب لنفسه كذلك يستحب أن يحضر الغرماء لاجل: (اولا) لانه ربما كان منهم من يشترى شيئا من مال المفلس.

(ثانيا) كثرة المبتاعين، فيكون ذلك أوفر للثمن.

(ثالثا) معرفة كل منهم لعين ماله، فربما باع الحاكم سهوا عين ماله فيستدركه (رابعا) لانه أطيب لنفوسهم، فإن باع الحاكم ماله بغير حضور المفلس أو الغرماء صح البيع، لان المفلس لا تصرف له، والغرماء لا ملك لهم.

(فرع)

إذا اراد الحاكم بيع مال المفلس فلا بد من دلال وهو من ينادى على المتاع فيمن يريد، ويستحب أن يقول الحاكم للمفلس والغرماء: ارتضوا برجل ينادى على بيع المتاع، لانهم اعرف بمن يصلح لذلك الامر، ولان في ذلك تطييبا لانفسهم، فان لم يستأذنهم الحاكم في ذلك، ونصب مناديا من قبله جاز لان المفلس قد انقطع تصرفه، والغرماء لا ملك لهم.

قال الشافعي رضى الله عنه.

ولا يقبل الا ثقة - وفى بعض نسخ المزني -

ولا يقبل الا من ثقة، فمن قبل - ولا نقبل إلا ثقة - معناه إذا نصب المفلس والغرماء من ينادى على ثمن المتاع لم يقبله الحاكم الا أن يكون ثقة.

والفرق بين هذا وبين الرهن إذا اتفق المتراهنان على وضع الرهن على يد من ليس بثقة، لم يعترض الحاكم عليهما، لان الحق في الرهن للمتراهنين لا يتعداهما: وههنا النظر للحاكم لانه ربما ظهر غريم آخر، وأما من قبل ولا يقبل الا من ثقة فمعناه إذا نودى على مال المفلس فزاد في ثمنه انسان فانه لا يقبل الزيادة الا من ثقة مخافة أن يزيد فيترك فتفسد.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 294)

________________________________________

فإن تطوع الدلال بالنداء من غير أجرة لم يستأجر الحاكم من ينادى لانه لا حاجة إلى ذلك، وإن لم يوجد من يتطوع بذلك استؤجر بأقل ما يوجد، فإن كان في بيت المال فضل أعطى الاجير أجره منه، لان في ذلك مصلحة، فهو كأجرة الكيال والوزان في الاسواق وإن لم يكن في بيت المال فضل استوفى من مال المفلس كذلك، لان العمل له قال أبو على الكيال في الافصاح: فأما أجرة النفاذ فعلى الغريم لا على المفلس فإن اختار المفلس رجلا ينادى على المناع واختار الغرماء غيره، قدم الحاكم الثقة منهما، فان تساويا في التوثيق قدم المتطوع منهما لانه أوفر مؤنة، فان كانا متطوعين ضم أحدهما إلى الآخر، وإن كانا يجعل قدم أعرفهما وأوثقهما، ويرى أصحاب أحمد أن نفقة النفاذ على الملفس، وفى قول آخر عندهم تدفع من بيت المال، وعندنا على القولين في أن يعطى من الغرماء أو من بيت المال، كما سبق بيانه.

(فرع)

ويباع كل شئ من الامتعة في سوقه، فتباع الكتب في سوق الوراقين والبز في سوق البزازين، والطعام في سوق الطعام، وهذا إذا كان في البلد أسواق متخصصة بتوفر أربابها على نوع معين من السلع كسوق العطارين وسوق العقادين

وغيرها من الاسواق النوعية، وذلك لتفادي ألا يتناول شراءها من لا يعرف قيمتها فيبخسها، كل ذلك إذا أمن عند نقلها عدم التلف أو ضياع شئ منها، فإذا كان مكانها صالحا لبيعها بيعت حيث هي.

أما العقار وغيره من الاعيان الثابتة فانه يمكن أن يكتفى بالنشر في صحيفة يومية، ولا ينادى الدلال في جلسة البيع كالامتعة، وإنما يومئ إيماء بالثمن الذى يعرض من المبتاعين، وذلك أعز للعقار وأدعى إلى حفظ حق المفلس.

ويباع ما هو معرض للتلف أولا، كالرطب والهريس ونحوهما، ثم الحيوان لانه معرض للتلف إذا لم يجد من يقوم على مئونة حفظه وغذائه، ثم الثياب والاقمشة.

وهكذا بالترتيب قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَإِنْ كَانَ بقرب ذلك البلد قوم يشترون العقار في ملك المفلس أنفذ إليهم وأعلمهم بذلك ليحضروا فيشتروا فيتوفر الثمن على المفلس

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 295)

________________________________________

(فرع)

ويباع مال المفلس بنقد البلد، وان كان من غير جنس حق الغرماء بأن كانت الديون عليه بالدينار العراقى أو الجنيه الاسترليني أو الليرة السورية وكان المفلس في العراق بيع عليه بالدينار، ولو كان الدين بالليرة أو بالجنية، لان ذلك أيسر وأوفر، فان كان حق الغرماء من نقد البلد دفعه إليهم، وإن كان من غير نقد البلد، فان كان حقهم ثبت من غير جهة السلم دفع إليهم عوضه إن رضوا بذلك، وان لم يرضوا اشترى لهم من جنس حقوقهم، فان كان حقهم ثبت من جهة السلم لم يجز أخذ العوض عن ذلك، وإنما يشترى لهم حقهم (فرع)

إذا كان في مال المفلس رهن بدأ ببيعه لان حق المرتهن يختص بالعين وحقوق الغرماء لا تختص بالعين، ولانه ربما زاد ثمن الرهن على حق المرتهن، فتفرق الزيادة على الغرماء، وربما نقص ثمنه عن حق المرتهن فاختلط

مع الغرماء بما بقى له، فاحتيج إلى بيعه لذلك (فرع)

فان باع شيئا من مال المفلس، فان كان دينه لواحد فانه يدفع كلما باع شيئا وقبضه إلى الغريم لانه لا حاجة به إلى التأخير.

وان كان الدين لجماعة نظرت فان بيع جميع ماله دفعة واحدة قبض ثمنه ووزعه على الغرماء بالحصص على قدر ديونهم.

وان لم يمكن بيع ماله إلا بشئ بعد شئ نظرت فيما يباع به أولا فان كان ثمنه كثيرا يمكن قسمته على الغرماء قسم بينهم لانه لا حاجة به إلى التأخير.

وان كان قليلا يتعذر قسمته.

أو يكون القسم منه يراد.

أخرت قسمته على الغرماء.

فان وجد الحاكم ثقة مليئا - أي غنيا … فقد قال الشافعي رضى الله عنه: أقرضه إياه حالا.

فإذا تكامل بيع المال أخذه من الذى أقرضه إياه وقسمه بين الغرماء، ويكون ذلك أولى من إبداعه.

لان القرض مضمون على المقبوض.

والوديعة أمانة يخاف تلفها.

فان لم يجد ثقة مليئا يقرضه اياه أودعه عند ثقة.

فان قيل: فلم قال الشافعي رضى الله عنه: يقرضه حالا.

والقرض عنده لا يكون إلا حالا؟ فقال أكثر أصحابنا: وصف القرض بذلك لانه شرط.

وقصد بذلك الرد على مالك رضى الله عنه حيث قال: يصح القرض مؤجل،

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 296)

________________________________________

وقال العمرانى.

وقال بعض أصحابنا: أراد حالا بغير تشديد يعنى يقرضه في الحال، وهذا ليس بشئ فإن قبل فقد قال الشافعي رضى الله عنه لا يجوز إقراض مال اليتيم إلا في حال الضرورة وهو أن يكون في بحر ومعه مال اليتيم ويخاف عليه الغرق أو يخاف عليه النهب أو الحريق، ولا يقرضه في غير ذلك وإنما يودعه.

فما الفرق بينه وبين المفلس؟ قلنا الفرق بينهما أن مال الصبى معد لمصلحة يظهر من شراء

عقار أو تجارة، وقرضه يتعذر معه المبادرة إلى ذلك.

ومال المفلس معد للغرماء خاصة فافترقا.

(فرع)

وإذا باع الحاكم مال المفلس وانصرم البيع بالتفرق وانقضاء الخيار ثم جاء إلى الحاكم وراد في الثمن.

قال العمرانى: استحب للحاكم أن يسأل المشترى الاقالة ليطلب الفضل، فان أقاله المشترى باع الحاكم من الطالب بالزيادة وإن لم يفعل لم يجبر على ذلك، لان البيع قد لزم (فرع)

وان نصب الحاكم أمينا لبيع مال المفلس وقبض ثمنه فباع شيئا من مال المفلس وقبض ثمنه ثم تلف في يده من غير تفريط، تلف من ضمان المفلس لان العدل أمين له.

ورواية عمرو بن خلدة عن أبى هريرة في المفلس أتوه به التى سبق لنا الاستدلال بها أخرجها الشافعي وأبو داود وابن ماجه والحاكم وصححه وفى اسناده أبو المعتمر.

قال الطحاوي مجهول وان باع العدل شيئا من مال المفلس وقبض ثمنه ثم اتى رجل ادعى على المشترى أن العين التى اشتراها ملكه وأقام بينة على ذلك، اخذها من يد المشترى فإن كان الثمن باقيا في يد العدل، رجع به إلى المشترى، وان كان المال قد تلف في يد العدل من غير تفريط رجع المشترى بالعهدة في مال المفلس، ووافقنا أبو حنيفة في هذا، وخالفنا في العدل إذا تلف الرهن في يده.

وفى الوكيل والوصى إذا تلف المال في أيديهم بغير تفريط أن الضمان يجب عليهم، فنقيس تلك المسائل على هذه ونقول: لانه باع مال الغير فإذا تلف في يده من غير تفريط لم يضمن قياسا على أمين الحاكم في مال المفلس.

وهل يقدم المشترى على سائر الغرماء أو يكون أسوتهم؟

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 297)

________________________________________

نقل المزني أنه يقدم عليهم، ونقل الربيع أنه يكون أسوة لهم، واختلف

أصحابنا فيه على طريقين.

فمنهم من قال في المسألة قولان

(أحدهما)

أنه يقدم عليهم لان في ذلك مصلحة لمال المفالس، لان المشترين إذا علموا أنهم يقدمون بالثمن إذا استحق ما اشتروه رغبوا في الشراء فيكثر المشترون وتزيد الاثمان، وإذا علموا أنهم لا يقدمون تجنبوا الشراء خوفا من الاستحقاق.

فتقل الاثمان (الثاني) لا يقدم، بل يكون أسوة الغرماء، لانه تعلق بذمة المفلس بغير اختيار من له الحق، فكان أسوة الغرماء، كما لو جنى على رجل ومنهم من قال هي على حالين، فالموضوع الذى قال يكون أسوتهم أراد به إذا كان بعد القسمة في حجر ثان مثل أن يقسم المال بين الغرماء، ثم استحق شئ من أعيان ماله.

ثم حجر عليه ثانيا، فإن المشترى يكون أسوة الغرماء، لان حقه ثبت في ذمته قبل الحجر كسائر الغرماء.

هكذا ذكر الشيخ أبو حامد هذا التفصيل على هذا الطريق.

قال العمرانى.

وأما صاحب المهذب فقال ان لم ينفك عنه الحجر قدم، لان فيه مصلحة له، وان فك عنه الحجر كان كسائر الغرماء، ولم يذكر الحجر الثاني اه.

وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى

.

 

(فصل)

وان كان في الغرماء من باع منه شيئا قبل الافلاس ولم يأخذ من ثمنه شيئا، ووجد عين ماله على صفته، ولم يتعلق به حق غيره فهو بالخيار بين أن يترك وضرب مع الغرماء بالثمن، وبين أن يفسخ البيع ويرجع في عين ماله، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " من باع سلعة ثم أفلس صاحبها فوجدها بعينها فهو أحق بها من الغرماء " وهل يفتقر الفسخ إلى اذن الحاكم، فيه وجهان.

قال أبو إسحاق: لا يفسخ الا باذن الحاكم، لانه مختلف فيه فلم يصح بغير الحاكم كفسخ النكاح بالاعسار بالنفقة.

وقال أبو القاسم

الداركى: لا يفتقر إلى الحاكم، لانه فسخ ثبت بنص السنة فلم يفتقر إلى الحاكم كفسخ النكاح بالعتق تحت العبد فان حكم حاكم بالمنع من الفسخ فقد قال أبو سعيد

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 298)

________________________________________

الاصطخرى: ينقض حكمه، لانه حكم مخالف لنص السنة، ويحتمل ألا ينقض لانه مختلف فيه فلم ينقض وهل يكون الفسخ على الفور أو على التراخي فيه وجهان

(أحدهما)

أنه على التراخي لانه خيار لا يسقط إلى بدل، فكان على التراخي كخيار الرجوع في الهبة.

 

(والثانى)

أنه على الفور لانه خيار ثبت لنقص في العوض فكان على الفور كخيار الرد بالعيب، وهل يصح الفسخ بالوطئ في الجارية؟ فيه وجهان.

أحدهما: يصح كما يصح الفسخ بالوطئ في خيار الشرط.

والثانى: انه لا يصح لانه ملك مستقر فلا يجوز رفعه بالوطئ، وان قال الغرماء نحن نعطيك الثمن ولا نفسخ لم يسقط حقه من الفسخ، لانه ثبت له حق الفسخ فلم يسقط ببدل العوض كالمشترى إذا وجد بالسلعة عيبا وبذل له البائع الارش.

(الشرح) الحديث رواه الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " من أدرك متاعه بعينه عند انسان قد أفلس فهو أحق به " أما الاحكام، إذا كان في الغرماء من باع من المفلس قبل الافلاس ولم يقبض الثمن ووجد عين ماله على صفته خاليا من حق غيره، فالبائع بالخيار بين أن يضرب عن الغرماء في الثمن، وبين أن يرجع في غير ماله، وبه قال عثمان وعلى وأبو هريرة رضى الله عنهم، ومن التابعين عروة بن الزبير ثم مالك والاوزاعي والشافعي ومحمد بن الحسين العنبري واسحاق وأبو ثور وابن المنذر وأحمد، وخالفنا الحسن والنخعي وابن شبرمة وأبو حنيفة فقالوا " هو اسوة الغرماء " دليلنا ما روى عمرو بن خلدة الزرقى قاضى المدينة قال: أتينا أبا هريرة رضى

الله عنه في صاحب لنا أفلس فقال: هذا الذى قضى قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَيُّمَا رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه ".

وفى رواية أبى بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام رضى الله عنهم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وسلم قال " أيما رجل باع متاعا على رجل فأفلس المبتاع ثم وجد البائع متاعه بعينه، فصاحب المتاع أحق به من دون الغرماء " وقد أخرجه أحمد عن الحسن بن سمرة بلفظ " من وجد متاعه عند

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 299)

________________________________________

مفلس بعينه فهو أحق به " ورواه الستة عن أبى هريرة بلفظ " من أدرك ماله بعينه عند رجل أفلس أو إنسان قد أفلس فهو أحق به من غيره " وعند مسلم والنسائي عن أبى هريرة بلفظ " إذا وجد عنده المتاع، ولم يفرقه أنه لصاحبه الذى باعه " وحديث أبى هريرة عند أحمد بلفظ " أيما رجل أفلس فوجد رجل عنده ماله، ولم يكن اقتضى من ماله شيئا فهو له " وروى مالك في الموطأ وأبو داود، الاول بطريق الارسال والثانى بطريق الاسناد والمرسل اصح عن أبى بكر بن عبد الرحمن ابن الحارث بن هشام بلفظ " أيما رجل باع متاعا فأفلس الذى ابتاعه ولم يقبض الذى باعه من ثمنه شيئا، فوجد متاعه بعينه، فهو أحق به، وإن مات المشترى فصاحب المتاع أسوة الغرماء ".

قلت: ولان عقد البيع يلحقه الفسخ بالاقالة فجاز فيه الفسخ لتعذر العوض أو القيمة أو الثمن، كالمسلم فيه إذا تعذر، ولانه إذا شرط في البيع رهنا، فعجز عن تسليمه استحق الفسخ، وهو وثيقة بالثمن، فالعجز عن تسليم الثمن بنفسه أولى.

ويفارق المبيع الرهن، فإن امساك الرهن إمساك مجرد على سبيل الوثيقة وليس ببدل، والثمن ههنا بدل عن العين، فان تعذر استيفاؤه رجع إلى المبدل.

فان قيل: إنهم تساووا - أعنى الغرماء جميعا من وجد عين ماله ومن لم يجد -

في سبب الاستحقاق، قلنا: لكن اختلفوا في الشرط، فان بقاء العين شرط لملك الفسخ، وهو موجود في حق من وجد متاعه دون من لم يجده.

إذا ثبت هذا: فان البائع بالخيار، إن شاء رجع في السلعة، وإن شاء لم يرجع وكان أسوة الغرماء، وسواء كانت السلعة مساوية لثمنها أو أقل أو أكثر، لان الاعسار سبب جواز الفسخ، فلا يوجبه كالعيب والخيار ولا يفتقر الفسخ إلى حكم حاكم، لانه فسخ ثبت بالنص فلم يفتقر إلى حكم حاكم، كفسخ النكاح لعتق الامة، وهل خيار الرجوع على الفور أو على التراخي؟ على وجهين بناء على خيار الرد بالعيب، وفى ذلك روايتان: (إحداهما) هو على التراخي، لانه حق رجوع يسقط إلى عوض، فكان على التراخي كالرجوع في الهبة.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 300)

________________________________________

(والثانى)

هو على الفور، لانه خيار يثبت في البيع لنقص في العوض، فكان على الفور كالرد بالعيب، ولان جواز تأخيرة يفضى إلى الضرر بالغرماء، لافضائه إلى تأخير حقوقهم، فأشبه خيار الاخذ بالشفعة، وأخد القاضى من الحنابلة بهذا الوجه.

وحكى ابن قدامة الوجهين كهما عندنا.

(فرع)

وان اشترى رجل سلعة بثمن في ذمته وكانت قيمة السلعة مثل الثمن أو أكثر، ولا يملك المشترى غير هذه السلعة ولا دين عليه غير هذا الثمن، فهل يجعل هذا المشترى مفلسا، فيكون للبائع الرجوع إلى عين ماله، فيه وجهان حكاهما في الافصاح أبو على الكيال.

أحدهما: يكون مفلسا، فيكون البائع بالخيار بين الرجوع في عين ماله.

والثانى: لا يكون مفلسا، ولكن تباع السلعة ويعطى منها حقه والباقى للمشترى (فرع)

وان كان ماله يفى بدينه ولكن ظهرت فيه أمارة الفلس - وقلنا:

يجوز الحجر عليه، فحجر عليه - فهل يجوز لمن باع منه شيئا ولم يقبض ثمنه، ووجد عين ماله أن يرجع إلى عين ماله، فيه وجهان حكاهما الشيخ أبو حامد.

 

(أحدهما)

له أن يرجع إلى عين ماله لقوله صلى الله عليه وسلم " أيما رجل باع متاعا على رجل ثم أفلس المبتاع الحديث " وهذا قد أفلس، لانه محجور عليه بحق الغرماء فجاز لمن وجد عين ماله الرجوع إليه، كما لو كان ماله أقل من دينه.

 

(والثانى)

ليس له الرجوع إلى عين ماله، لانا إنما نجعل للبائع الرجوع إلى عين المال في المواطن التى لا يتمكنون فيها من الوصول إلى كمال حقوقهم، وهذا يتمكن من أخذ جميع حقه فلم يمكن له الرجوع إلى عين ماله.

(فرع)

وهل يصح فسخ البائع من غير إذن الحاكم، فيه وجهان.

الاول قاله المصنف: لا يصح إلا بإذن الحاكم، لانه فسخ مختلف فيه فلم يصح إلا بالحاكم كفسخ النكاح بالاعسار بالنفقة.

والثانى: قاله صاحب البيان: يصح بغير اذن الحاكم، لانه فسخ ثبت بنص السنة فهو كفسخ نكاح المعتقة تحت عبد.

فان حكم حاكم بالمنع ففيه وجهان.

أحدهما: يصح حكمه.

لانه مختلف فيه والثانى: لا يصح لانه حكم مخالف لنص السنة.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 301)

________________________________________

وهل يشترط أن يكون الفسخ على الفور، أو يجوز على التراخي فيه وجهان

(أحدهما)

يجوز على التراخي، لانه خيار لا يسقط إلى بدل فجاز على التراخي، كرجوع الاب فيما وهب لابنه، وفيه احتراز من الرد بالعيب، لانه قد يسقط إلى بدل وهو الارش

(والثانى)

يشترط أن يكون على الفور، لانه خيار لنقص في العوض، فكان على الفور كالرد بالعيب، وفيه احتراز من رجوع الاب في هبته لابنه.

(فرع)

إذا رهن البائع المبيع في يد المفلس عند ثبوت الرجوع له فهل يجعل رهنه فسخا للبيع.

فيه وجهان حكاهما ابن الصباغ في الرهن وحكاية وطئ البائع الجارية المبيعة جعلوا في فسخ البيع وجهين

(أحدهما)

يكون فسخا كوطئ البائع مبيعته في مدة الخيار

(والثانى)

لا يكون فسخا.

لان ملك المشترى مستقر فلا يرفع الا بالقول.

(فرع)

إذا بذل الغرماء للبائع جميع ماله على أن لا يرجع بالعين المبيعة لم يجبر على ذلك.

وجاز له الرجوع إلى عين ماله.

وقال مالك رضى الله عنه لا يجوز له الرجوع إلى عين ماله.

وقال أحمد وأصحابه كقولنا.

دليلنا: الحديث، ولم يفرق بين ما إذا عرض الثمن أو لم يعرض ولانه تبرع بالحق غير من عليه الحق فلم يلزم من ثبت له الفسخ اسقاط حقه من الفسخ.

كالزوج إذا عسر بالنفقة فجاء أجنبي فبذل لها النفقة ليترك الفسخ، فانه لا يلزمها ذلك وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:

(فصل)

وإن كان قد باعه بعد الافلاس، ففيه وجهان.

أحدهما: أن له أن يفسخ، لانه باعه قبل وقت الفسخ، فلم يسقط حقه من الفسخ كما لو تزوجت إمرأة بفقير ثم أعسر بالنفقة.

والثانى: أنه ليس له أن يفسخ لانه باعه مع العلم بخراب ذمته، فسقط خياره، كما لو اشترى سلعة مع العلم بعيبها.

(الشرح) الاحكام: إذا اشترى عينا بعد أن حجر عليه بثمن في ذمته فقد

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 302)

________________________________________

ذكرنا أن شراءه صحيح، وهل ثبت للبائع الرجوع إلى عين ماله؟ فيه وجهان.

أحدهما: لا يثبت له الرجوع إلى عين ماله، لانه باعه مع العلم بخراب ذمته، فلم يثبت له الفسخ، كما لو اشترى سلعة معيبة مع العلم بعيبها.

والثانى: يثبت له

الفسخ كما لو تزوجت امرأة بفقير مع العلم بحاله، فان لها أن تفسخ النكاح إذا عسر بالنفقة.

قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

وان وجد المبيع وقد قبض من الثمن بعضه، رجع بحصة ما بقى من الثمن لانه إذا رجع بالجميع إذا لم يقبض جميع الثمن رجع في بعضه إذا لم يقبض بعض الثمن، وان كان المبيع عبدين متساويى القيمة وباعهما بمائة، وقبض من الثمن خمسين، ثم مات أحد العبدين، وأفلس المشترى، فالمنصوص في التفليس أنه يأخذ الباقي بما بقى من الثمن، ونص في الصداق: إذا أصدقها عبدين فتلف أحدهما ثم طلقها قبل الدخول، على قولين.

أحدهما: أنه بأخذ الموجود بنصف الصداق مثل قوله في التفليس.

والثانى أنه يأخذ نصف الموجود ونصف قيمة التالف، فمن أصحابنا من نقل هذا القول إلى البيع، وقال: فيه قولان

(أحدهما)

أنه يأخذ نصف الموجود ويضرب مع الغرماء بنصف ثمن التالف، وهو اختيار المزني رحمه الله، لان البائع قبض الخمسين من ثمنهما، وما قبض من ثمنه لا يرجع به

(والثانى)

أنه يأخذ الموجود بما بقى، لان ما أخذ جميعه لدفع الضرر إذا كان باقيا أخد الباقي إذا هلك بعضه كالشقص في الشفعة ومن أصحابنا من قال يأخذ البائع الموجود بما بقى من الثمن قولا واحدا، وفى الصداق قولان، والفرق بينهما أن البائع إذا رجع بنصف الموجود ونصف بدل التالف لم يصل إلى كمال حقه لان غريمه مفلس، والزوج إذا رجع بنصف الموجود ونصف قيمة التالف وصل إلى جميع حقه، لان الزوجة موسرة فلم يجز له الرجوع بجميع الموجود بنصف المهر

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 303)

________________________________________

(الشرح) الاحكام: إذا باع من رجل عينا بمائة أو عينين بمائة، فقبض البائع من الثمن خمسين والعين المبيعة باقية أو العينان باقيتان، سواء كانت قيمتهما مختلفة أو متساوية، فهل للبائع أن يرجع من المبيع بقدر ما بقى من الثمن؟ حكى ابن الصباغ فيه قولين.

قال في القديم سقط حق البائع من الرجوع إلى الغير ويضرب مع الغرماء بالثمن.

وحكى الشيخ أبو حامد أن هذا هو مذهب مالك ولم يحكه عن القديم.

وقال ابن الصباغ: مذهب مالك إذا قبض شيئا من الثمن والعين باقية كان بالخيار بين أن يرد ما قبض من الثمن ويرجع في العين المبيعة، وبين أن لا يرجع في العين ويضارب مع الغرماء فيما بقى.

ووجه القول القديم حديث أبى بكر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام الذى أنينا على مختلف طرقه وألفاظه فيما سبق من فصول هذا الباب ولان في رجوعه في بعض العين تبعيضا للصفقة على المشترى وإضطرارا به، فلم يكن ذلك للبائع.

وقال في الجديد: يثبت له الرجوع بخصم ما بقى من الثمن - وهو الصحيح - لانه سبب يرجع به العاقد إلى جميع العين فجاز ان يرجع به إلى بعضها كالفرقة قبل الدخول، وذلك أن الزوج يرجع تارة بجميع الصداق، وهو ما إذا ارتدت أو وجد أحدهما بالآخر عيبا، وتارة بالنصف، وهو ما إذا طلقها قال في البيان: والخبر عن أبى بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام مرسل، لان أبا بكر ليس بصحابى، وان صح فمعنى قوله " فهو أسوة الغرماء " إذا رضى بذلك.

وإن باعه عينين متساويى القيمة بمائة، فقبض البائع من الثمن خمسين وتلف أحد العينين وأفلس المشترى، فإن اختار البائع أن يضرب مع الغرماء بالثمن الذى بقى له فلا كلام، وان اختار الرجوع إلى عين ماله على الجديد فبكم يرجع؟

قال الشافعي يرجع هنا في العين الباقية بما بقى من الثمن.

وقال في الصداق " إذا أصدقها عبدين فتلف أحدهما وطلقها قبل الدخول أنها على قولين

(أحدهما)

تأخذ نصف الموجود ونصف قيمة التالف

(والثانى)

أنه بالخيار بين أن يأخذ نصف الموجود ونصف قيمة التالف.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 304)

________________________________________

وبين أن يترك الموجود ويأخذ نصف قيمتها، وقال في الزكاة: إذا أصدقها خمسا من الابل فحال عليها الحول فباعت منها بقدر شاة وأخرجتها ثم طلقها قبل الدخول كان له أن يأخذ بعيرين ونصفا، فحصل في الصداق ثلاثة أقوال (أحدها) يأخذ نصف الصداق من الباقي.

وهذا موافق لما قاله في المفلس.

 

(والثانى)

يأخذ نصف الموجود ونصف قيمة التالف (والثالث) أنه بالخيار بين أن يأخذ الموجود بنصف الصداق وبين أن يترك الموجود ويأخذ نصف قيمتها.

واختلف أصحابنا في مسألة المفلس، فمنهم من قال في المفلس أيضا قولان:

(أحدهما)

يأخذ الباقي من العينين بما بقى له من الثمن، ويكون النصف الذى أخذ حصة التالف، لانه إنما جاز للبائع أخذ جميع المبيع، إذا وجده كله جاز له أخذ بعضه إذا تعذر جميعه، كما قلنا في الشفيع

(والثانى)

يأخذ نصف الموجود بنصف ما بقى له، ويضرب مع الغرماء بنصفه، لانه إذا باع شيئين متساويى القيمة بمائة فقد باع كل واحد منهما بخمسين فإذا قبض خمسين من مائة فقد قبض من ثمنهما مجتمعين، بدليل أنهما لو كانا قائمين لرجع في نصفهما، فإذا تلف أحدهما رجع في نصف الباقي بنصف ما بقى.

وضرب مع الغرماء بحصة ما تلف من الذى لم يقبضه، قال هذا القائل: ولا يجئ ها هنا القول الثالث في الصداق، وهو أن يترك الموجود ويأخذ نصف قيمتها.

لان ذمة الزوجة عليه وذمة المفلس خربة، فلا يمكن ترك الشئ كله والرجوع

إلى القيمة، لانه لا يصل إليها.

ومن أصحابنا مَنْ حَمَلَ الْمَسْأَلَتَيْنِ عَلَى ظَاهِرِهِمَا فَقَالَ فِي الصداق ثلاثة أقوال، وفى المفلس يأخذ البائع العين الباقية بما بقى له من الثمن قولا واحدا، والفرق بينهما أنا إذا قلنا في الصداق: يأخذ الزوج نصف الموجود ونصف قيمة التالف فلا ضرر عليه لانه يصل إلى حقه لان ذمة الزوجة مليئة، وفى المفلس لو قلنا: يأخذ البائع نصف الباقي بنصف ما بقى له، ويضرب مع الغرماء بنصف ما بقى له لم يأمن ألا يصل إلى الكمال من حقه، لان ذمة المفلس خربة

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 305)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

وإن وجد البائع عين ماله وهو رهن لم يرجع به، لان حق المرتهن سابق لحقه فلم يملك إسقاطه بحقه، فإن أمكن أن يقضى حق المرتهن ببيع بعضه، بيع منه بقدر حقه ويرجع البائع بالباقي، لان المنع كان لحق المرتهن وقد زال.

(الشرح) إذا وجد البائع عين ماله مرهونة عند آخر لم يكن له أن يرجع فيها لان المشترى قد عقد على ما اشتراه عقدا منع نفسه من التصرف فيه، فلم يمكن لبائعه الرجوع فيه، كما لو باعها المشترى أو وهبها إذا ثبت هذا فإن حق المرتهن مقدم على حق البائع لانه أسبق، فإن كان الدين المرهون به مثل قيمة العين أو أكثر بيعت العين في حق المرتهن ولا كلام، وإن كان الدين المرهون به أقل من قيمة الرهن بيع من الرهن بقدر دين المرتهن وكان للبائع ان يرجع في الباقي منها، لانه لا حق لاحد فيما بقى منها، وإن لم يمكن بيع بعض الرهن بحق المرتهن إلا ببيع جميع الرهن، فبيع جميع الرهن وقضى حق المرتهن من ثمن الرهن، وبقى من الثمن بعضه، فالذي يقتضى المذهب أن البائع لا يكون أحق بالباقي من الثمن، بل يصرف ذلك إلى جميع الغرماء، لان حقه

يختص بالعين دون ثمنها

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

وإن كان المبيع شقصا تثبت فيه الشفعة ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) أن الشفيع أحق، لان حقه سابق، فإنه يثبت بالعقد، وحق البائع ثبت بالحجر، فقدم حق الشفيع

(والثانى)

أن البائع أحق، لانه إذا أخذ الشفيع الشقص زال الضرر عنه وحده، وإذا أخذه البائع زال الضرر عنهما، لان البائع يرجع إلى عين ماله، والشفيع يتخلص من ضرر المشترى فيزول الضرر عنهما.

(والثالث) أنه يدفع الشقص إلى الشفيع ويؤخذ منه ثمنه، ويدفع إلى البائع لان في ذلك جمعا بين الحقين، وإذا أمكن الجمع بين الحقين لم يجز إسقاط أحدهما

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 306)

________________________________________

(الشرح) قوله " شقصا " الشقص الطائفة من الشئ، والجمع أشقاص مثل حمل وأحمال، وهو مأخوذ من المشقص، سهم فيه نصل عريض أو أن هذا مأخوذ منه.

أما الاحكام فإنه إذا اشترى رجل شقصا من دار أو أرض فثبت فيه الشقصة فأفلس المشترى وحجر عليه قبل أن يأخذ الشفيع، فهل البائع أحق بالشقص أم الشفيع؟ فيه ثلاثة أوجه.

(أحدها) أن الشفيع أحق ويكون الثمن بين الغرماء، لان حق الشفيع أسبق لان حقه يثبت بالبيع، وحق البائع يثبت بالحجر، فقدم السابق

(والثانى)

أن البائع أحق بالشقص لانه إذا رجع في الشقص زال الضرر عنه وعن الشفيع، لان عاد كما كان قبل البيع، ولم يتجدد شركة غيره قال الشيخ أبو حامد: وهذا مدخول، لان من باع شقصا وثبتت فيه الشفعة

ثم استقاله البائع فأقاله قبل أن يأخذ الشفيع، فإن البائع عاد للشفيع شريكا كما كان، ومع دلك له الاخذ بالشفعة (والثالث) أن الشفيع أولى بالشقص، ويؤخذ منه الثمن ويسلم إلى البائع دون سائر الغرماء، لان في ذلك جمعا بين الحقين، وازالة للضرر عنهما

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

وان كان المبيع صيدا والبائع محرم، لم يرجع فيه، لانه تمليك صيد فلم يجز مع الاحرام كشراء الصيد (الشرح) الاحكام: إذا باع صيدا ثم أحرم وأفلس المشترى لم يكن للبائع أن يرجع في الصيد كما لا يجوز أن يبتاعه، وقد مضى لسلفنا النووي رضى الله عنه ذلك في الصيد فليراجع.

قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

وان وجد عين ماله ودينه مؤجل، وقلنا ان الدين المؤجل لا يحل وديون الغرماء حالة، فالمنصوص أنه يباع المبيع في الديون الحالة لانها حقوق

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 307)

________________________________________

حالة فقدمت على الدين المؤجل ومن أصحابنا من قال لا يباع، بل يوقف إلى أن يحل فيختار البائع الفسخ أو الترك، وإليه أشار في الاملاء، لان بالحجر تتعلق الديون بماله فصار المبيع كالمرهون في حقه بدين مؤجل فلا يباع في الديون الحالة (الشرح) الاحكام: إذا اشترى رجل أعيانا بأثمان مؤجلة فحجر على المشترى بديون حالة عليه، وكانت الاعيان التى اشتراها بالمؤجل باقية في يده لم يتعلق به حق غيره.

فإن قلنا إن الدين المؤجل لا يحل بالحجر، فما الحكم في الاعيان التى اشتراها بالاثمان المؤجلة.

فيه وجهان

(أحدهما)

وهو المنصوص ولم يقل الشيخ أبو حامد غيره أنها تباع وتفرق

اثمانها على أصحاب الديون لانها حقوق حالة فقدمت على الديون المؤجلة، وتبقى الديون في ذمته إلى الاجل، فإذا أيسر طالبوه، وإلا كانت في ذمته إلى أن يوسر (الثاني) حكاه المصنف أنها لا تباع، بل توقف إلى أن تحل الديون المؤجلة فيخير بائعوها بين فسخ البيع فيها أو الترك، قال واليه أشار في الاملاء، لان بالحجر تعلقت الديون بماله، فصار المبيع كالمرهون في حقه بدين مؤجل، فلم يبع في الديون الحالة.

وأما إذا قلنا: إن الديون المؤجلة يحل بالحجر فما الحكم في الاعيان المشتراة بها.

فيه وجه حكاه صاحب الفروع، وهو قول أبى إسحاق أن تلك الاعيان لا تباع في حق أصحاب الديون المعجلة ولا تسلم إلى بائعها أيضا، بل توقف

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

وإن وجد المبيع وقد باعه المشترى ورجع إليه، ففيه وجهان.

 

(أحدهما)

أن له أن يرجع فيه، لانه وجد عين ماله خاليا من حق غيره، فأشبه إذا لم يبعه

(والثانى)

لا يرجع، لان هذا الملك لم ينتقل إليه منه فلم يملك فسخه.

(الشرح) الاحكام: إذا اشترى عينا بثمن في ذمته فباعها من غيره أو وهبها له وأقبضها ثم أفلس المشترى لم يكن للبائع إلا الضرب مع الغرماء لانها خارجة عن ملك المشترى، فهو كما لو تلفت، وان رجعت إلى ملك المشترى بإرث أو هبة أو وصية فأفلس.

فهل يرجع البائع بها فيه وجهان

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 308)

________________________________________

أحدهما: لا يرجع لان هذا الملك انتقل إليه من غير البائع.

والثانى: للبائع أن يرجع فيها، لانه وجد عين ماله خاليا عن حق غيره، فهو كما لو لم يخرج عن ملك المشترى، فإذا قلنا: بهذا الوجه، وكان المشترى قد اشتراها ممن هي في يده بثمن في ذمته، فأفلس بالثمنين وحجر عليه، فأى البائعين أحق بالعين؟ فيه ثلاثة

أوجه، حكاها المسعودي.

(أحدها) البائع الاول أحق بها، لان حقه أسبق.

 

(والثانى)

البائع الثاني أحق بها، لانه أقرب.

(والثالث) أنهما سواء لانهما متساويان في سبب الاستحقاق.

 

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

وان وجد المبيع ناقصا نظرت، فإن كان نقصان جزء ينقسم عليه الثمن كعبدين، تلف أحدهما أو نخلة مثمرة تلفت ثمرتها، فالبائع بالخيار بين أن يضرب مع الغرماء بالثمن وبين أن يفسخ البيع فيما بقى بحصته من الثمن، ويضرب مع الغرماء بثمن ما تلف، لان البائع يستحق المبيع في يد المفلس بالثمن كما يستحق المشترى المبيع في يد البائع بالثمن، ثم المشترى إذا وجد أحد العينين في يد البائع والآخر هالكا كان بالخيار بين أن يترك الباقي ويطالب بجميع الثمن، وبين أن يأخذ الموجود بثمنه ويطالب بثمن التالف، فكذلك البائع، وإن كان المبيع نخلا مع ثمرة مؤبرة فهلكت الثمرة، قوم النخل مع الثمرة، ثم يقوم بلا ثمرة، ويرجع بما بينهما من الثمن، وتعتبر القيمة أقل ما كانت من حين العقد إلى حين القبض.

فان كانت قيمته وقت العقد أقل قوم وقت العقد، لان الزيادة حدثت في ملك المشترى فلا تقوم عليه، وان كانت في وقت القبض أقل قوم في وقت القبض، لان ما نقص لم يقبضه المشترى، فلم يضمنه، فان كان نقصان جزء لا ينقسم عليه الثمن كذهاب يد، وتأليف دار، نظرت، فان لم يجب لها أرش بأن أتلفها المشترى أو ذهبت بآفة سماوية، فالبائع بالخيار بين أن يأخذه بالثمن وبين أن يتركه، ويضرب بالثمن مع الغرماء كما نقول فيمن اشترى عبدا فذهبت

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 309)

________________________________________

يده أو دارا فذهب تأليفها في يد البائع، فان المشترى بالخيار بين أن يأخذه بالثمن، وبين أن يتركه ويرجع بالثمن فإن وجب لها أرش بأن أتلفها أجنبي فالبائع بالخيار بين أن يترك ويضرب مع الغرماء بالثمن وبين أن يأخذ ويضرب بما نقص من الثمن لان الارش في مقابلة جزء كان البائع يسحقه فاستحق ما يقابله، كما نقول فيمن اشترى عبدا فقطع الأجنبي يده: انه بالخيار بين أن يتركه ويرجع بالثمن، وبين أن يأخذه ويطالب الجاني بالارش، غير أن المشترى يرجع على الجاني بقيمة اليد، لانها تلفت في ملكه فوجب له البدل، والبائع يرجع بحصة اليد من الثمن لانها تلفت في ملك المفلس فوجب الارش له، فيرجع البائع عليه بالحصة من الثمن، لان المبيع مضمون على المفلس بالثمن، فان كان المبيع نخلا عليه طلع غير مؤبر فهلكت الثمرة ثم أفلس بالثمن فرجع البائع في النخل ففيه وجهان

(أحدهما)

يأخذها بجميع الثمن لان الثمرة تابعة للاصل في البيع فلم يقابلها قسط من الثمن

(والثانى)

يأخذها بقسطها من الثمن ويضرب بحصة الثمرة مع الغرماء.

لان الثمرة يجوز إفرادها بالبيع فصارت مع النخل بمنزلة العينين.

(الشرح) الاحكام: والذى ذكرناه في الفصل الذى قبل هذا إذا وجد البائع العين المبيعة بحالها لم تنقص ولم تزد، فأما إذا وجدها ناقصة فلا يخلو إما أن يكون نقصان جزء ينقسم عليه الثمن، ويصح إفراده بالبيع أو نقصان جزء لا ينقسم عليه الثمن، ولا يصح إفراده بالبيع.

فان كان نقصان جزء ينقسم عليه الثمن بأن باعه شيئين بثمن فقبضهما المشترى فتلف أحدهما وأفلس قبل أن يقبض البائع الثمن.

أو كان ثوبا فتلف بعضه أو نخلة مثمرة مؤبرة فتلف الثمرة قبل أن يقبض البائع الثمن فالبائع بالخيار بين أن يترك ما بقى من المبيع.

ويضرب بجميع الثمن مع الغرماء وبين أن يرجع فيما بقى

من المبيع بحصته من الثمن.

ويضرب مع الغرماء بحصة ما تلف من المبيع من الثمن.

سواء تلف بآفة سماوية أو بفعل المشترى.

أو بفعل أجنبي فالحكم واحد في رجوع البائع.

وإنما كان كذلك لان البائع يستحق المبيع في يد المفلس بالثمن كما يستحق المشترى المبيع في يد البائع بالثمن.

ثم المشترى إذا وجد بعض المبيع في يد البائع كان له أن يأخذه بحصته من الثمن.

فكذلك هذا مثله.

فان كان المبيع

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 310)

________________________________________

ثوبين أو دابتين وتلف أحدهما، وأراد بسط الثمن عليهما قوم كل واحد منهما بانفراده، وقسم الثمن المسمى على قيمتهما، فما قابل التالف ضرب به مع الغرماء وما قابل الباقي رجع في الباقي منهما لما قابله، وان باعه نخلة عليها ثمرة مؤبرة، واشترط المشترى دخول الثمرة في البيع ثم أتلف المشترى الثمرة، أو أتلفت وأفلس، واختار البائع الرجوع في النخله، فإنه يرجع فيها بحصتها من الثمن، ويضرب مع الغرماء بما يقابل الثمرة من الثمن.

وحكى المحاملى عن بعض أصحابنا أن يرجع في النخلة بحصتها من الثمن، وقال العمرانى في البيان: قال صاحب المهذب: فيكفيه ذلك أن يقوم النخلة مع الثمرة ثم يقوم النخله من غير ثمرة، ويرجع بما بينهما من الثمن.

وأما الشيخ أبو حامد وابن الصباغ قالا: تقوم النخله مفردة.

فإن قيل قيمتها تسعون، ثم يقوم الثمرة مفردة، فان قيل قيمتها عشرة، علمنا أن قيمة الثمرة العشرة فيعلم أن الذى يقابل الثمرة عشر الثمن المسمى، فيضرب به مع الغرماء ويأخذ بتسعة أعشار الثمن اه.

قال الشافعي رضى الله عنه: وتقوم يوم قبضها.

قال أصحابنا: وليس هذا على اطلاقه، وإنما يقوم بأقل الامرين من يوم العقد، لان الزيادة حدثت في ملك المفلس، فلا يكون للبائع فيها حق، فان كانت القيمة يوم القبض أقل قوم

يوم القبض، لان ما نقص في يد البائع كان مضمونا عليه، فلا يرجع البائع على المفلس بما نقص في يده، وان اشترى منه نخلة عليها طلع غير مؤبر.

فإن الطلع يدخل في البيع، فان أتلف المشترى الثمرة أو تلفت في يده وأفلس واختار البائع الرجوع في النخلة، فهل يضرب مع الغرماء بحصة الثمرة من الثمن لانها ثمرة يجوز إفرادها بالعقد، فرجع بحصتها من الثمن، كما لو كانت مؤبرة.

فعلى هذا كيفية التقسيط على ما مضى في المؤبرة.

والثانى، لا يضرب بحصة الثمرة مع الغرماء، بل يأخذ النخلة بجميع الثمن ويضرب به مع الغرماء، لان الطلع غير المؤبر يجرى مجرى جزء من أجزاء النخلة بدليل أنها تدخل في العقد بالاطلاق، فصارت كالسعف، ولو أفلس وقد تلف شئ من السعف لم يضرب بحصتها من الثمن، فكذلك هذا مثله واصل هذا، هل الطاع قبل التأبير مما يتميز

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 311)

________________________________________

أو غير متميز، فيه وجهان، هكذا ذكر الشيخ أبو حامد.

وإن كان النقصان مما لا ينقسم عليه الثمن بأن كان المبيع ثوبا صحيحا فوجده البائع محروقا أو دارا ذهب تأليفها في يد المشترى فصارت غير مألوفة لما طرأ عليها من تصدع أو وحشة فإن اختار البائع أن يضرب مع الغرماء بالثمن فلا كلام.

وإن اختار أن يرجع بعين ماله نظرت.

فإن لم يجب في مقابلة ما ذهب أرش بأن ذهب ذلك بآفة سماوية.

أو بفعل المشترى.

فان البائع يرجع في البيع ناقصا بجميع الثمن - كما قلنا فيمن اشترى دابة فذهبت علينها بآفة سماوية في يد البائع - فان المشترى إذا اختار إجازة البيع.

أخذه بجميع الثمن.

وإن وجب للنقصان أرش، فان ذهب ذلك بفعل أجنبي فان البائع يرجع في البيع لحصتها من الثمن.

ويضرب مع الغرماء بحصة ما تلف من المبيعة من الثمن، ويرجع المشترى على الأجنبي بالارش.

وإنما كان كذلك لان الارش الذى يأخذه المشترى من الأجنبي بدل عن الجزء الفائت من المبيع، ولو كان ذلك الجزء موجودا لرجع به البائع، فإذا كان معدوما رجع بما قابله من الثمن.

فان قيل: هلا قلتم: إن البائع يأخذ ذلك الارش؟ قلنا: لا نقول ذلك، لان البائع لا يستحق الارش، وإنما استحق ما قابل ذلك الجزء من الثمن، كما أن الأجنبي لو أتلف جميع المبيع لم يرجع البائع لما وجب على الجاني من القيمة، أو بما يرجع بالثمن، وبيان ما يرجع به ان يقال: كم قيمة هذه العين قبل الجناية عليها؟ فان قيل: مائة، قيل: فكم قيمتها بعد الجنايه عليها.

فان قيل: تسعون علمنا أن النقص عشر القيمة، فيضرب البائع مع الغرماء بعشر القيمة.

وأما المفلس فيرجع على الجاني بالارش.

فان كان المبيع من غير الرقيق رجع بما نقص من قيمته بالجناية.

وإن كان من الرقيق - وهو اليوم غير قائم في زماننا هذا - نظر إلى ما أتلفه منه.

فان كان مضمونا من الحر بالدية كان مضمونا من الرقيق بالقيمة.

وإن كان مضمونا من الحر بالحكومه كان مضمونا من الرقيق بما نقص من القيمه ويكون ذلك للغرماء سواء أكثر مما رجع به البائع أو أقل.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 312)

________________________________________

(فرع)

وإن وجد البائع المبيع وقد أجره المشترى، ولم تنقضي مدة الاجارة واختار البائع الرجوع في العين، كان له ذلك، واستوفى المستأجر مدة الاجارة ولا يأخذ البائع الاجارة ولا شيئا منها، لان المبتاع ملك ذلك بالعقد، فصار ذلك كالعيب، وهكذا إن كان المبيع مكاتبا للمبتاع لم يكن للبائع الرجوع فيه، لانه عقد لازم من جهة المشترى، فان عجز العبد نفسه عن الوفاء كان للبائع أن يرجع فيه كما إذا رهن المبتاع العين المبيعة ثم زال حق المرتهن عنها والله أعلم.

قال المصنف رحمه الله:

 

(فصل)

وإن وجد المبيع زائدا نظرت، فإن كانت زيادة غير متميزة.

كالسمن والكبر.

واختار البائع الفسخ.

رجع في المبيع مع الزيادة.

لانها زيادة لا تتميز فتبعت الاصل في الرد.

كما قلنا في الرد بالعيب.

وان كان المبيع حبا فصار زرعا أو زرعا فصار حبا.

أو بيضا فصار فرخا ففيه وجهان.

 

(أحدهما)

لا يرجع به لان الفرخ غير البيض، والزرع غير الحب

(والثانى)

يرجع وهو المنصوص.

لان الفرخ والزرع عين المبيع.

وإنما تغيرت صفته فهو كالودى إذا صار نخلا.

والجدى إذا صار شاة.

وإن كانت الزيادة متميزة نظرت.

فإن كانت ظاهرة كالطلع المؤبر وما أشبهه من الثمار.

رجع فيه دون الزيادة.

لانه نماء ظاهر متميز حدث في ملك المشترى فلم يتبع الاصل في الرد.

كما قلنا في الرد بالعيب.

فان اتفق المفلس والغرماء على قطعها قطع.

وان اتفقوا على تركها إلى الجداد ترك لانه ملك أحدهما وحق الآخر وإن دعا أحدهما إلى قطعها والآخر إلى تركها وجب القطع.

لان من دعا إلى القطع تعجل.

فلا يؤخر بغير رضاه.

وإن كانت الزيادة غير ظاهرة كطلع غير مؤبر وما أشبهه من الثمار.

ففيه قولان، روى الربيع أنه يرجع في النخل دون الطلع، لان الثمرة ليست عين ماله فلم يرجع بها، وروى المزني أنه يرجع لانه يتبع الاصل في البيع فتبعه في الفسخ كالسمن والكبر، فإذا قلنا بهذا فأفلس وهو غير مؤبر فلم يرجع حتى أبر لم يرجع في الثمرة لانها أبرت وهى في ملك المفلس فان اختلف البائع والمفلس فقال البائع: رجعت فيه قبل التأبير

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 313)

________________________________________

فالثمرة لى.

وقال المفلس: رجعت بعد التأبير فالثمرة لى، فالقول قول المفلس مع يمينه لان الاصل بقاء الثمرة على ملكه فإن لم يحلف المفلس فهل يحلف الغرماء فيه قولان، وقد مضى دليلهما، فإن كذبوه فحلف واستحق وأراد أن يفرقه على

الغرماء ففيه وجهان.

 

(أحدهما)

أنه لا يلزمهم قبوله لانهم أقروا أنه أخذ بغير حق

(والثانى)

يلزمهم قبوله أو الابراء من الدين، وعليه نص في المكاتب إذا حمل إلى المولى نجما فقال المولى هو حرام، أنه يلزمه أن يأخذه أو يبرئه منه، فإن صدقه بعضهم وكذبه البعض فقد قال الشافعي رحمه الله: يفرق ذلك فيمن صدقه دون من كذبه.

فمن أصحابنا من قال لا يجوز أن يفرقه إلا على من صدقه، لانه لا حاجة به إلى دفع إلى من يكذبه وقال أبو إسحاق: إذا اختار المفلس أن يفرق على الجميع جاز، كما يجوز إذا كذبوه.

وحمل قول الشافعي رحمه الله إذا اختار أن يفرق فيمن صدقه.

وإن قال البائع رجعت قبل التأبير فالثمرة لى فصدقه المفلس وكذبه الغرماء ففيه قولان.

 

(أحدهما)

يقبل قول المفلس لانه غير متهم

(والثانى)

لا يقبل لانه تعلق به حق الغرماء فلم يقبل اقراره فيه.

فإذا قلنا بهذا فهل يحلف الغرماء؟ فيه طريقان من أصحابنا من قال: هي على القولين كما قلنا في القسم قبله، ومنهم من قال يحلفون قولا واحدا، لان اليمين ههنا توجهت عليهم ابتداء، وفى القسم قبله توجهت اليمين على المفلس، فلما نكل نقلت إليهم.

(الشرح) قوله " كالودى " بفتح الواو وكسر الدال بعدها ياء مشددة صغار الفسيل الواحدة ودية.

أما الاحكام فإنه إذا وجد البائع عين ماله زائدة نظرت، فان كانت الزيادة غير متميزة كالسمن والكبر وما أشبههما، واختار البائع الرجوع في العين رجع فيها مع زيادتها، لانها زيادة لا تتميز، فتبعت الاصل في الرجوع بها كالرد بالعيب.

فإن باعه نخلا عليها طلع مؤبر، واشترط المشترى دخول الثمرة في البيع

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 314)

________________________________________

فأدركت الثمرة في يد المشترى وحدها وجففها ثم أفلس والجميع في حوزته لم يتعلق به حق غيره، فإن للبائع أن يرجع في النخل والثمرة، وإن كان مجففا، لان هذه زيادة غير متميزة فهى كسمن البهيمة، وإن باعه نخلا عليها طلع غير مؤبر فأبرها المشترى ثم أفلس، فهل للبائع الرجوع فيها.

قال المسعودي: فيه قولان بناء على أن الثمرة هل تعلم قبل التأبير.

وفيه قولان: قال في البيان: وتشبه أن يكون على طريقه أصحابنا البغداديين على وجهين، بناء على أن الثمرة قبل التأبير إما متميزة أو غير متميزة وإن باعه أرضا وفيها بذر مودع فيها واشترط دخول البذر في البيع، فهل يصح بيع البذر.

قال الشيخ أبو حامد: فيه قولان، وغيره من أصحابنا قال: فيه وجهان.

وقد مضى ذلك في البيوع مفصلا.

فإذا قلنا يصح البيع في البذر فأفلس المشترى، فإن كان قبل أن يخرج البذر عن الارض رجع البائع في الارض وفى البذر ولا كلام، وإن أفلس بعد أن صار البذر زرعا فانه يرجع في الارض، وهل يرجع في الزرع أو يضرب بحصة البذر من الثمن مع الغرماء.

فيه وجهان من أصحابنا من قال: يرجع في الارض وحدها ويضرب مع الغرماء بثمن البذر، لان البائع إنما يرجع لعين ماله إذا كانت باقية بحالها، وهذا الزرع خلقه الله تعالى ولم يكن موجودا حال البيع

(والثانى)

يرجع في الزرع مع الارض، وهو المنصوص في الام، لان هذا الزرع عين البذر، وإنما حوله الله تعالى من حالة إلى حالة، فرجع به كالودى إذا صار نخلا.

وإن اشترى منه أرضا فيها زرع أخضر واشترط دخول الزرع في البيع صح البيع قولا واحدا، فان أفلس المشترى بعدما استحصد الزرع واشتد حبه.

أو كان قد حصده فعلا وذاره ونقاه فهل للبائع أن يرجع في الارض مع هذا الزرع قال عامة فقهائنا فيه وجهان كالتى قبلها.

وقال الشيخ أبو حامد: إن قلنا بالمنصوص في التى قبلها فالبائع ههنا أن يرجع

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 315)

________________________________________

فيهما، وإن قلنا بالوجه الثاني لبعض أصحابنا فيها فههنا وجهان

(أحدهما)

لا يرجع (الثاني) يرجع لانه تميز ماله وانما تغير صفتها فزادت.

قالوا وهكذا لو تغير الزرع من خضرة إلى صفرة.

هكذا في الروضة والحاوى والبيان وإذا باعه أرضا فيها نواء مدفونة، واشترط دخول النوى في البيع، فيه وجهان، المذهب أنه يدخل، فإن أفلس المشترى وقد صار النوى نخلا فهل يرجع البائع فيها مع النخل؟ فيه وجهان كالبذر إذا صار زرعا، وان اشترى منه بيضا فحضنه تحت دجاجة حتى صار فرخا ثم أفلس المشترى، فهل يرجع البائع في الفراخ فيه وجهان كالبذر إذا صار زرعا، وتعليلهما على ما سبق ذكره، والله أعلم (فرع)

وإذا كانت الزيادة متميزة كاللبن وولد البهيمة رجع البائع في عين المبيعة دون الزيادة، لانها زيادة متميزة فلم تتبع الاصل في الرد - كما قلنا في الرد بالعيب - فان كان المبيع أرضا فارغه فزرعها المشترى، أو نخلا لا ثمر عليها فأثمرت في يد المشترى أو أبرت ثم أفلس المشترى، واختار البائع الرجوع في عين ماله فإنه يرجع في الارض دون الزرع، وفى النخل دون الثمرة لانها زيادة متميزة حدثت في يد المشترى فلم يكن للبائع فيها حق إذا ثبت هذا فليس للبائع أن يطالب المشترى والغرماء بحصاد الزرع ولا بجداد الثمرة قبل وقته، لان المشترى زرع في أرضه فليس بظالم، والثمرة

أطلعت في ملكه، فهو كما لو باع أرضا وفيها زرع أو نخلة وعليها طلع، فانه لا يجبر على قطعه قبل أوانه ولا يجب للبائع أجرة الارض، ولا النخل إلى أوان الجداد والحصاد، كما لا يجب ذلك للمشترى على البائع إذا اشترى أرضا فيها زرع أو نخلا عليها طلع، ثم ينظر في المفلس والغرماء، فان اتفق على قطع الثمرة والزرع قبل أو ان قطعهما جاز، لان الحق لهم، وان اتفقوا على تركه إلى وقت الحصاد والجداد جاز وان دعا بعضهم إلى القطع قبل أوانه، ودعا البعض إلى تركه ففيه وجهان، أحدهما، وبه قال عامة أصحابنا وهو المذهب: أنه يجاب قول من دعا إلى القطع.

لان الغرماء ان كانوا هم الطالبون القطع أجيبوا، لانهم يقولون: حقوقنا معجلة

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 316)

________________________________________

فلا يجب علينا التأخير، وإن كان المفلس هو الطالب للقطع.

أجيب لانه يستفيد بذلك إبراء ذمته، ولان في التبقية غررا، لانه قد يتلف، فأجيب من دعا إلى القطع.

والوجه الثاني وهو قول أبى إسحاق: إنه يفعل ما فيه الحظ من القطع أو التبقية، قال ابن الصباغ، وهذا لا بأس به لانه قد يكون من الثمرة والزرع ماله قيمة تافهة أو ما لا قيمة له، والظاهر سلامته.

اه (فرع)

إذا باعه نخلا لا ثمرة عليها فأطلعت في يد المشترى وأفلس قبل التأبير فهل للبائع أن يرجع في الثمرة مع النخل؟ فيه قولان

(أحدهما)

رواه المزني أنه يرجع في الثمرة مع النخل، لانه لو باعه نخلة عليها طلع غير مؤبرة تبعت الثمرة النخلة في المبيع.

فتبعتها أيضا في الفسخ، كالثمن في الجارية

(والثانى)

رواه الربيع أنه لا يرجع في الثمرة لانه يصح إفرادها في البيع فلم تتبع النخلة في الفسخ كالطلع المؤبر، ويفارق البيع أنه زال ملكه عن النخلة

باختياره، وههنا زال بغير اختياره قال أصحابنا " كل موضع زال ملك المالك عن أصل النخلة وعليها طلع غير مؤبر باختيار المالك، وكان زوال ملكه عنها بعوض، فإن الثمرة تتبع الاصل، وذلك كالبيع والصلح والاجرة في الاجارة والصداق وما أشبه ذلك.

وكل موضع زال ملكه عن أصل النخلة بغير اختياره.

فهل تتبع الثمرة الاصل؟ فيه قولان وذلك مثل مسألتنا هذه في المفلس.

ومثل أن يشترى نخلة لا ثمر عليها بثمن معين فتطلع النخلة في يد المشترى ثم يجد البائع بالثمن عيبا فرده قبل التأبير، فهل يرجع في الثمرة مع النخلة؟ على قولين وكذلك إذا اشترى شقصا في أرض فيها نخل فأطلعت النخل في يد المشترى ثم علم الشفيع قبل التأبير فشفع، فهل يأخذ الثمرة مع النخل.

على هذين القولين وكذلك كل موضع زال ملكه عن الاصل إلى غيره باختياره بغير عوض.

فهل يتبع المطلع الذى ليس بمؤبر الاصل.

فيه قولان أيضا.

وذلك مثل أن يهب الرجل لغيره نخلة عليها طلع غير مؤبر.

وكذلك إذا زال ملكه عن الاصل بغير عوض بغير اختياره أيضا مثل أن يهب الاب لابنه نخلة فأطلعت في يد الابن.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 317)

________________________________________

ورجع الاب فيها قبل التأبير فهل يتبع الثمرة الاصل.

فيه قولان إذا ثبت ما ذكرناه فإذا باعه نخلة لا ثمرة عليها فأطلعت في يد المشترى وأفلس قبل أن تؤبر الثمرة فرجع البائع في عين ماله، فإن قلنا ان الثمرة لا تتبع النخلة في الفسخ كانت الثمرة للمفلس.

فان اتفق المفلس والغرماء على تبقيتها إلى أوان جدادها كان لهم ذلك.

وليس لبائع النخلة أن يطالبهم بقطعها قبل ذلك.

وان اتفقوا على قطعها جاز.

وان دعا بعضهم إلى قطعها.

وبعضهم إلى تبقيتها ففيه وجهان.

قال عامة أصحابنا يجاب من دعا إلى قطعها.

وقال المصنف يفعل ما فيه الاحظ وقد مضى دليل الوجهين.

وان قلنا ان الثمرة تكون للبائع للنخل فلم يرجع البائع حتى أبرت النخل كانت الثمرة للمفلس والغرماء قولا واحدا.

لانها قد صارت متميزا.

فالحكم في قطعها وتبقيتها على ما مضى فان قال بائع النخل قد كنت رجعت فيها قبل التأبير.

فان صدقه المفلس والغرماء على ذلك أو كذبوه وأقام على ذلك بينة حكم له بالثمرة وان كذبه المفلس والغرماء ولا بينة فالقول قول المفلس مع يمينه.

لان الاصل عدم الرجوع، فإذا حلف المفلس كانت الثمرة ملكا له وقسمت على الغرماء.

وان نكل عن اليمين فهل يحلف الغرماء.

فيه قولان مضى بيانهما فإذا قلنا يحلفون فحلفوا قسمت الثمرة بينهم.

وان نكلوا أو قلنا لا يحلفون عرضت اليمين على البائع فان حلف ثبت ملك الطلع له.

وان نكل قال ابن الصباغ سقط حقه وكانت الثمرة للمفلس وقسمت بين الغرماء وأن صدق الغرماء البائع وكذبوا المفلس نظرت في الغرماء فان كان فيهم عدلان فشهدا للبائع أنه رجع قبل التأبير قبلت شهادتهما له.

وحكم بالثمرة للبائع لانهما لا يجران إلى أنفسهما نفعا بهذه الشهادة ولا يدفعان عنهما ضررا.

وكذلك ان كان فيهم عدل واحد حلف مع البائع حكم له بالثمرة.

هكذا في الروضة والتحفة والحاوى من كتب المذهب.

وان كانوا فساقا أو لم تقبل شهادتهم للبائع لسبب من الاسباب المانعة فالقول قول المفلس مع يمينه

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 318)

________________________________________

قال العمرانى: والذى يقتضيه المذهب أنه يحلف: ما يعلم أن البائع رجع فيها قبل التأبير، وكذلك الغرماء إذا حلفوا، لانه يحلف على نفى فعل الغير

فإذا حلف المفلس ملك الثمرة: فان لم يختر دفع الثمرة إلى الغرماء ولا بيعها لهم لم يجبر على ذلك، ولا لهم أن يطالبوه بذلك لانهم يقرون أنها ملك للبائع دون المفلس، ولكن يصرف إليهم سائر أمواله، ويفك عنه الحجر، ويتصرف في الثمرة كيف شاء اه.

فان اختار المفلس دفع الثمرة إلى الغرماء، فهل يجبر الغرماء على قبولها، فيه وجهان.

أحدهما وهو المذهب، ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره: أنهم يجبرون فيقال لهم: إما أن تقبلوها أو تبرئوه من قدرها من دينكم كما قال الشافعي في المكاتب إذا حمل إلى سيده مالا عن كتابته.

وقال للسيد: هو حرام، أنه يلزمه أن يأخذه أو يبرئه من قدره من ماله عليه.

والثانى: لا يلزمهم ذلك، لانهم يقرون المفلس لا يملك ذلك، ويفارق سيد المكاتب، لانه يريد الاضطرار بالعبد ورد إلى الرق، فلم يقبل منه ولا ضرر على المفلس في ذلك فإذا قلنا بالاول، وقال الغرماء: نحن لا نأخذ الثمرة ولكنا نفك الحجر عنه ونبريه من حقوقنا، فهل للمفلس الامتناع؟ فيه وجهان حكاهما المسعودي، فان اختار الغرماء أن يبرء والمفلس من قدر الثمرة من الدين، فأبروه من ذلك فلا كلام، وإن لم يختاروا أن يبروه، فان كان دينهم من جنس الثمرة وجب عليهم أخذها، وكذلك إذا لم يكن دينهم من جنس الثمرة، واختاروا أخذ الثمرة عن دينهم، فان كان دينهم من غير السلم جاز، وبرئت ذمة المفلس من ذلك فإذا أخذوا ذلك لم يملكوه، ولكن لزمهم رد ذلك إلى البائع، لانهم قد أقروا أنها ملكه وإنما لم نقبل إقرارهم لحق المفلس.

فإذا زال حقه لزمهم حكم اقرارهم الاول كما لو شهد رجلان على رجل أنه أعتق عبده فلم نقبل شهادتهما عليه، ثم انتقل العبد اليهما أو إلى أحدهما بارث أو بيع، فانه يعتق عليهما باقرار السابق، وان

كانت حقوقهم من غير جنس الثمرة، فانه لا يلزمهم قبول الثمرة بعينها، ولكن تباع الثمرة ويدفع الثمن.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 319)

________________________________________

قال ابن الصباغ: ولا حق للبائع في الثمن.

وإن صدق بعض الغرماء البائع وكذبه بعضهم مع المفلس - فإن كان فيما صدق البائع عدلان فشهدا له أو عدل وحلف مع شاهده - حكم للبائع بالثمرة ولا كلام، وإن لم يكن فيهم من يقبل شهادته له، فإن القول قول المفلس مع يمينه لما ذكرناه فإذا حلف ملك الثمرة، فان أراد أن تقسم الثمرة على من صدقه دون من كذبه جاز، وان اختار قسمتها على الجميع فقد قال الشافعي رضى الله عنه: يدفعها إلى الذين صدقوه دون الذين كذبوه.

واختلف أصحابنا فيها على وجهين، فقال أبو إسحاق: هي كالاول، وان للمفلس أن يفرق ذلك على الجميع أو بين من يكذبه عما يخصه من الثمرة من الدين لما ذكرناه في التى قبلها وما ذكره الشافعي رضى الله عنه فمعناه إذا رضى أن يفرقه فيمن صدقه دون من كذبه.

ومنهم من قال: لا يجبر من كذبه على قبض شئ من الثمرة ولا الابراء عن شئ من دينه، وجها واحدا بخلاف الاولى لانه مع تكذيب جماعتهم له، به حاجة إلى قضاء دينه، فأجبروا على أخذه.

وفى مسألتنا يمكنه دفعه إلى المصدقين له دون المكذبين له فإذا قلنا بالاول لزم المصدقين للبائع أن يدفعوا ما خصهم من الثمرة إليه، ولا يلزم المكذبين له، والذى يقتضى المذهب، أن البائع لو سأل من كذبه من الغرماء أن يحلف له أنه ما يعلم أنه رجع قبل التأبير لزم المكذب أن يحلف، لانه لو خاف من اليمين فأقر لزمه اقراره.

هذا إذا كان المفلس مكذبا للبائع، فأما إذا كان المفلس مصدقا للبائع أنه رجع قبل التأبير، وقال الغرماء: بل رجع بعد التأبير، فهل يقبل اقرار المفلس؟ فيه قولان كالقولين فيه إذا قال: هذا العين غصبتها من فلان، أو ابتعتها منه بثمن في ذمتي، فهل يقبل في العين؟ قولان.

فإذا قلنا: يقبل كانت الثمرة للبائع ولا كلام، وإذا قلنا: لا يقبل فقد قال الشافعي رضى الله عنه: يحلف الغرماء للبائع أنه ما رجع قبل الابار.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 320)

________________________________________

فمن أصحابنا من قال: فيها قولان، كما إذا ادعى المفلس مالا، وأقام شاهدا ولم يحلف معه، فهل يحلف غرماؤه، فيه قولان، وما ذكر الشافعي ههنا فهو أحدهما، ومنهم من قال: يحلفون ههنا قولا واحدا، وهناك على قولين، لان هناك توجهت اليمين على غيرهم، ثم نقلت إليهم، وههنا توجهت عليهم ابتداء، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:

(فصل)

وان كان المبيع جارية فحبلت في ملك المشترى نظرت، فان أفلس بعد الوضع رجع في الجارية دون الولد، كما قلنا في الرد بالعيب، ولا يجوز التفريق بين الام والولد.

فاما أن يزن البائع قيمة الولد فيأخذه مع الام أو تباع الام والولد فيأخذ البائع ثمن الام.

ويأخذ المفلس ثمن الولد.

ومن أصحابنا من قال: اما أن يزن قيمة الولد فيأخذه مع الام.

واما أن يسقط حقه من الرجوع.

والمذهب الاول.

لانه وجد عين ماله خاليا عن حق غيره فثبت له الرجوع.

وان أفلس قبل الوضع، فان قلنا: لا حكم للحمل رجع فيهما، لانه كالسمن.

وان قلنا ان الحمل له حكم رجع في الام دون الحمل لانه كالحمل المنفصل.

فان باعها وهى حبلى ثم أفلس المشترى نظرت، فان أفلس قبل

الوضع رجع فيهما.

وان أفلس بعد الوضع - فان قلنا للحمل حكم - رجع فيهما لانهما كعينين باعهما.

وان قلنا لا حكم للحمل.

رجع في الام دون الحمل.

لانه نماء تميز من ملك المشترى.

فلم يرجع فيه البائع، ولا يفرق بين الام والولد على ما ذكرناه.

(الشرح) الاحكام: إذا باع من رجل بهيمة حائلا، فحملت في يد المشترى ثم أفلس المشترى بعد أن ولدت فللبائع أن يرجع في البهيمة لانها عين ماله.

ولا حق له في ولدها لانه نماء متميز.

وحكم الجارية حكم البهيمة الا أنه لا يجوز التفريق بين الجارية وولدها إذا كان صغيرا.

فان قال بائع الجارية أنا أدفع قيمة الولد وأملكه مع الام كان له ذلك وينبنى

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 321)

________________________________________

على عدم التفريق بين الجارية وولدها من التقسيط بين الغرماء أقوال للشيخ أبى حامد وابن الصباغ وأبى إسحاق الشيرازي والعمراني لا مجال لذكرها، ففى كلام المصنف الكفاية في مثل هذا.

وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:

(فصل)

وإن كان المبيع طعاما فطحنه المشترى، أو ثوبا فقصره ثم أفلس نظرت فإن لم تزد قيمته بذلك واختار البائع الرجوع رجع فيه، ولا يكون المشترى شريكا له بقدر عمله، لان عمله قد استهلك ولم يظهر له أثر، وإن زادت قيمته بأن كانت قيمته عشرة فصارت قيمته خمسة عشر ففيه قولان

(أحدهما)

أن البائع يرجع فيه ولا يكون المشترى شريكا له بقدر ما عمل فيه وهو قول المزني، لانه لم يضف إلى المبيع عينا، وإنما فرق بالطحن أجزاء مجتمعة، وفى القصارة أظهر بياضا كان؟ منا في الثوب فلم يصر شريكا للبائع في العين، كما لو كان المبيع جوزا فكسره، ولانه زيادة لا تتميز فلم يتعلق بها

حق المفلس، كما لو كان المبيع غلاما فعله أو حيوانا فسمنه

(والثانى)

أن المشترى يكون شريكا للبائع بقدر ما زاد بالعمل، ويكون حكم العمل حكم العين - وهو الصحيح - لانها زيادة حصلت بفعله فصار بها شريكا كما لو كان المبيع ثوبا فصبغه، ولان القصار يملك حبس العين لقبض الاجرة كما يملك البائع حبس المبيع لقبض الثمن، فدل على أن العمل كالعين بخلاف كسر الجوز وتعليم الغلام وتسمين الحيوان، فان الاجير في هذه الاشياء لا يملك حبس العين لقبض الاجرة، فعلى هذا يباع الثوب فيصرف ثلث الثمن إلى الغرماء والثلثان إلى البائع.

وان كان قد استأجر المشترى من قصر الثوب وطحن الطعام ولم يدفع إليه الاجرة دفع الاجرة إلى الاجير من ثمن الثوب: لان الزيادة حصلت بفعله فقضى حقه من بدله

(فصل)

وإن اشترى من رجل ثوبا بعشرة ومن آخر صبغا بخمسة، فصبغ به الثوب ثم أفلس نظرت فان لم تزد ولم تنقص بأن صار قيمة الثوب خمسة

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 322)

________________________________________

عشر، فقد وجد كل واحد من البائعين عين ماله، فإن اختار الرجوع صار الثوب بينهما، لصاحب الثوب الثلثان ولصاحب الصبغ الثلث.

وان نقص فصار قيمة الثوب إثنى عشر فقد وجد بائع الثوب عين ماله، ووجد بائع الصبغ بعض ماله، لان النقص دخل عليه بهلاك بعضه، فان اختار الرجوع كان لبائع الثوب عشرة ولبائع الصبغ درهمان.

ويضرب بما هلك من ماله، وهو ثلاثة مع الغرماء وإن زاد فصار يساوى الثوب عشرين درهما بنينا على القولين في أن زيادة القيمة بالغين أم لا، فان قلنا انها ليست كالعين حصلت الزيادة في مالهما فيقسط بينهما على الثلث والثلثين، لصاحب الثوب الثلثان ولصاحب الصبغ الثلث، وإن قلنا انها كالعين كانت الزيادة للمفلس فيكون شريكا للبائعين بالربع

(الشرح) إذا اشترى حنطة من رجل أو ثوبا خاما أو غزلا، فطحن الحنطة أو خاط الثوب أو قصره، أو نسج الغزل ثم أفلس، فللبائع أن يرجع في الدقيق والثوب المقصور أو المخيط والغزل المنسوج بلا خلاف على المذهب لانه وجد عين ماله خاليا عن حق غيره، فان لم تزد قيمة الثوب والحنطة بذلك فلا شئ للمفلس لان العمل قد استهلك، فان كان المفلس قد عمل ذلك بنفسه سقط عمله وان استأجر من عمل ذلك ولم يدفع الاجرة لم يكن للاجير أن يشارك بائع الثوب بشئ، وانما يضرب مع باقى الغرماء فيما عدا الثوب من مال المفلس لان عمله لم يظهر له قيمة، وهكذا الحكم إذا نقصت قيمة الثوب والحنطة بذلك واختار البائع الرجوع فلا شئ عليه لاجل النقصان، لان المفلس نقص من ماله بيده فإذا اختار الرجوع لم يكن له شئ لاجل النقصان، كما لو وجد الحيوان مريضا، ولا شئ للمفلس ولا يشارك الاجير بائع الثوب بشئ، لان عمله قد استهلك ولكن يضرب مع الغرماء بأجرته وأما إذا زادت قيمة الثوب أو الحنطة بذلك ففيه قولان:

(أحدهما)

يرجع البائع بالثوب أو الدقيق ولا يشاركه المفلس بشئ، وهو اختيار المزني، لان المشتر؟ لم يضف إلى المبيع عينا، وانما فرق بالطحن أجزاء مجتمعة وأزال بالقصارة، ونسج الثوب فلم يشارك البائع، كما لو اشترى حيوانا

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 323)

________________________________________

مهزولا فسمن في يده

(والثانى)

أن هذه الاثار تجرى مجرى الاعيان، فيشارك المفلس البائع بقدر الزيادة - وهو الصحيح - لان الشافعي رضى الله عنه قال " وبه أقول إنها زيادة من فعل المشترى حصلت في المبيع فكان له أن يشاركه، كما لو صبغ الثوب " ولان الطحن والقصارة أجريت مجرى الاعيان، بدليل أن للطحان والقصار والخياط والنساج أن يمسك هذه الاعيان المعمول فيها إلى أن

يستوفى الاجرة، فأجريت مجرى الاعيان فيما ذكرناه.

إذا ثبت هذا فان قلنا بالقول الاول فاختار البائع الرجوع في عين ماله رجع فيها بزيادتها، فان كان المفلس قد استأجر من عمل ذلك ولم يستوف الاجير أجرته لم يكن للاجير أن يشارك بائع العين بشئ بل يضرب مع الغرماء بقدر أجرته، وإن قلنا بما اختاره الشافعي من أنها آثار تجرى مجرى الاعيان، فان كان المفلس تولى العمل بنفسه أو استعان بمن عمل ذلك بغير أجرة، أو استأجر من عمل ذلك وقد وفى الاجير أجرته فانه يشارك البائع بقدر ما زادت العين بالعمل مثل أن كان الثوب يساوى قبل القصارة (١ عشرة فصار مقصورا يساوى خمسة عشر، فللمفلس في الثوب خمسة قال ابن الصباغ: فان اختار بائع الثوب أن يدفع الخمسة أجبر المفلس والغرماء على قبولها، كما إذا غرس المشترى في الارض المبيعة أو ابتاعها فلبائع الارض أن يدفع قيمة الغراس والبناء ويتملكه مع الارض.

وإن لم يختر بائع الثوب أن يدفع ذلك بيع الثوب، وكان ثلثا الثمن للبائع، والثلث للمفلس، وان كان المفلس قد استأجر من عمل ذلك ولم يدفع إليه شيئا من الاجرة تعلق حق الاجير بالزيادة، لانا قد جعلناها كالعين، فان كانت الزيادة قدر أجرته بأن كانت أجرته خمسة دراهم اختص الاجير بالزيادة وشارك البائع

________________________________________

(١) يبدو أن الثياب كانت تباع على عصر الشافعي رضى الله عنه مخيطة ولكى تتناسب مع كل قامة وقوام كانت تكون طويلة ويشتريها من يريد ارتداءها ثم يذهب بها إلى القصار فيهندمها بالتقصير على حسب قامته، ومن ثم كانت القصارة صناعة رائجة كالخياطة والنساجة.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 324)

________________________________________

بها، وان كانت الزيادة أكثر من أجرته بأن كانت الزيادة عشرة في حين أن أجرته

خمسة كانت الزيادة على مقدار الاجرة من حق المفلس تصرف إلى باقى الغرماء.

وإن كانت الزيادة أقل من الاجرة بأن كانت قيمة الثوب قبل القصارة عشرة، فصارت قيمته مقصورا ثلاثة عشر وأجرة القصار خمسة، فان القصار يشارك بائع الثوب بثلاثة دراهم ويضرب مع الغرماء بدرهمين (فرع)

وإن اشترى غلاما فعله صنعة مباحة، أو علمه القران، ثم أفلس المشترى وقد زادت قيمة الغلام بذلك، فاختلف أصحابنا في ذلك على قولين كالقصار، لانه يجوز الاستئجار على ذلك، وخالف الشيخ أبو حامد وعامة والاصحاب.

وكذلك السمن في البهيمة، لانه كان نتيجة علفها، وهو أمر محتم لبقائها، وسمنها مرجعه بعد ذلك إلى الله تعالى.

قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

وإن كان المبيع أرضا فبناها أو غرسها، فان أنفق المفلس والغرماء على قلع البناء والغراس ثبت للبائع الرجوع في الارض، لانه وجد عين ماله خاليا عن حق غيره، فجاز له الرجوع، فان رجع فيها ثم قلعوا البناء والغراس لزم المفلس تسوية الارض وأرش نقص ان حدث بها من القلع، لانه نقص حصل لتخليص ماله، ويقدم ذلك على سائر الديون، لانه يجب لاصلاح ماله فقدم كعلف البهائم وأجرة النقال.

وان امتنعوا من القلع لم يجبروا لقوله صلى الله عليه وسلم " ليس لعرق ظالم حق " وهذا غرس وبناء بحق، فان قال البائع: أنا أعطى قيمة الغراس والبناء وآخذه مع الارض، أو أفلع وأضمن أرش النقص، ثبت له الرجوع لانه يرجع في عين ماله من غير إضرار.

وان امتنع المفلس والغرماء من القلع، وامتنع البائع من بذل العوض وأرش النقص، فقد روى المزني فيه قولين

(أحدهما)

أنه يرجع

(والثانى)

أنه

لا يرجع، فمن أصحابنا من قال: ان كانت قيمة الغراس والبناء أقل من قيمة

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 325)

________________________________________

الارض فله أن يرجع لان الغراس والبناء تابع، فلم يمنع الرجوع، وإن كانت قيمة الغراس والبناء أكثر من قيمة الارض لم يرجع لان الارض صارت كالتبع للغراس والبناء، وحمل القولين على هذين الحالين.

وذهب المزني وأبو العباس وأبو إسحاق إلى أنها على قولين

(أحدهما)

يرجع لانه وجد عين ماله مشغولا بملك المفلس، فثبت له الرجوع، كما لو كان المبيع ثوبا فصبغه المفلس بصبغ من عنده

(والثانى)

لا يرجع لانه إذا رجع في الارض بقى الغراس والبناء من غير طريق ومن غير شرب، فيدخل الضرر على المفلس، والضرر لا يزال بالضرر.

فان قلنا إنه يرجع وامتنع البائع من بذل العوض وأرش النقص، وامتنع المفلس والغرماء من القلع، فهل يجبر البائع على البيع، فيه قولان

(أحدهما)

يجبر لان الحاجة تدعو إلى البيع لقضاء الدين، فوجب أن يباع كما يباع الصبغ مع الثوب، وإن لم يكن الصبغ له ويباع ولد المرهونة مع الرهن، وان لم يدخل في الرهن

(والثانى)

لا يجبر لانه يمكن إفراد كل واحد منهما بالبيع، ولا يجبر على بيعها مع الغراس والبناء.

(الشرح) حديث " ليس لعرق ظالم حق " أخرجه أبو داود والدارقطني والشافعي عن عروة بن الزبير عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا، وأخرجه أحمد والترمذي وحسنه وأعله بالارسال والنسائي وأبو داود من طريق سعيد بن زيد.

ورجح الدارقطني إرساله أيضا.

وقد اختلف مع ترجيح الارسال من هو الصحابي الذى روى من طريقه؟ فقيل جابر، وقيل عائشة، وقيل عبد الله بن عمر ورجح ابن حجر العسقلاني الاول، وقد اختلف فيه على هشام بن عروة اختلافا

كثيرا.

ورواه أبو داود الطيالسي من حديث عائشة وفى إسناده زمعه وهو ضعيف.

ورواه ابن أبى شيبة وإسحاق بن راهويه في مسنديهما من حديث كثير ابن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده، وعلقه البخاري.

ولفظ حديث سعيد بن زيد قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم " من أحيا أرضا ميتة فهى له.

وليس لعرق ظالم حق "

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 326)

________________________________________

وفى حديث رواه جعفر الصادق رضى الله عنه عن أبيه عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أنه كانت له عضد من نخل في حائط رجل من الانصار، قال ومع الرجل أهله، قال: وكان سمرة يدخل إلى نخله فيتأذى به الرجل، ويشق عليه، فطلب إليه أن يناقله فأبى، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذلك له، فطلب إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعه فأبى، فطلب إليه يناقله فأبى، قال فهبه لى، ولك كذا أمرا رغبه فيه، فأبى.

فقال: أنت مضار فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للانصاري اذهب فاقلع نخله " وفى سماع محمد الباقر أبى جعفر من سمرة نظر، والله تعالى أعلم.

أما الاحكام: فإنه إذا ابتاع أرضا من رجل بثمن في ذمته فغرسها من عنده أو بنى فيها بناء بأدوات من عنده، ثم أفلس قبل دفع الثمن، فأراد البائع الرجوع في أرضه، فان اتفق المفلس، والغرماء على قلع الغراس والبناء من الارض جاز لهم ذلك.

لان الحق لهم، ولبايع الارض أن يرجع فيها، لانها عين ماله، لم يتعلق بها حق غيره، فإذا رجع البايع فيها ثم قلعوا البناء والغراس لزمهم تسوية الارض، وأرش ما نقص إن حصل بها بسبب القلع، لان ذلك حدث لتخليص ملكهم، وهو كما لو دخل فصيل إلى دار رجل ولم يخرج إلا بنقض الباب.

فلرب الفصيل نقض الباب وإخراج فصيله.

وعليه إصلاح الباب، ويكون ذلك مقدما

على حق سائر الغرماء.

فان قيل: أليس قد قلتم: ان البائع إذا وجد عين ماله ناقصة فرجع فيها، فانه لا شئ له.

قلنا: الفرق بينهما أن النقص حصل في ملك المشترى، فلم يضمنه الا فيما يتقسط عليه الثمن، وههنا حدث النقص بعد رجوع البايع في أرضه، والنقص حصل لتخليص ملكهم فضمنوه، وان لم يرض المفلس والغرماء بقلع الغراس والبناء لم يكن لبايع الارض اجبارهم على ذلك للحديث " ليس لعرق ظالم حق " وهذا ليس ظالما لانه غرس أو بنى في ملكه.

فإذا ثبت هذا: فانهم لا يجبرون، فان بذل البايع قيمة الغراس والبناء ليملكه مع الارض، أو قال: أنا أقلع ذلك وأضمن أرش ما دخل بالقلع من النقص

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 327)

________________________________________

أجبر المفلس والغرماء على ذلك، وكان لبائع الارض الرجوع فيها: لان الضرر يزول عن الجميع بذلك.

وان قال بايع الارض: أرجع فيها وأقر الغراس والبناء وأخذ أجرة الارض قال المسعودي كان له ذلك وان امتنع المفلس والغرماء من القلع وامتنع بائع الارض من بذل قيمة الغراس والبناء وأرش ما حصل بالقلع فهل له أن يرجع في أرضه؟ قال الشافعي رضى الله عنه في موضع: له أن يرجع فيها.

وقال في موضع: يسقط حقه من الرجوع فيها.

واختلف أصحابنا فيها فمنهم من قال فيها قولان.

 

(أحدهما)

للبايع أن يرجع في أرضه، وان لم يبذل قيمة الغراس والبناء لقوله صلى الله عليه وسلم " صاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه ولم يفرق " ولان أكثر ما فيه أنه وجده مشغولا بملك غيره، وذلك لا يسقط حقه من الرجوع كما لو باع ثوبا فصبغه المشترى بصبغ من عنده

(والثانى)

ليس له الرجوع في أرضه، لان الارض قد صارت مشغولة بملك

غيره فسقط حقه من الرجوع فيها كما لو اشترى من رجل مسامير وسمر بها بابا ثم أفلس البايع فانه ليس للبائع للمسامير أن يرجع فيها ولان رجوع البايع في عين ماله انما جعل له لازالة الضرر عنه، فلو جوزنا له الرجوع ههنا لازلنا عنه الضرر.

وألحقناه بالمفلس والغرماء لانه لا يبقى لهما طريق إلى غراسهم وبنائهم.

ومنهم من قال: ليست على قولين.

وانما هي على حالين.

فالموضع الذى قال فيه " يرجع في أرضه ولا يدفع قيمة الغراس والبناء " محمول على ما إذا كانت قيمة الارض أكثر من قيمة الغراس والبناء.

لان الغراس والبناء تابعان للارض، والموضع الذى قال فيه " لا يرجع في الارض إذا كانت قيمة الغراس والبناء أكثر من قيمة الارض.

لان الارض تكون تابعة للغراس والبناء.

والصحيح أنها على قولين.

لان البايع لو بذل قيمة الغراس والبناء لكان له الرجوع في أرضه.

سواء كانت قيمة الارض أكثر من قيمة الغراس والبناء أو أقل.

فإذا قلنا: ليس له الرجوع في أرضه فلا كلام.

وان قلنا: له الرجوع في أرضه وان لم يدفع قيمة الغراس والبناء فرجع فيها نظرت فان اتفق الغرماء

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 328)

________________________________________

والمفلس والبائع على بيع الارض والغراس والبناء بيعا وقسم الثمن عليهما على قدر قيمتهما وكيفية ذلك أن يقال: كم قيمة الارض ذات غراس أو بناء؟ فإن قيل خمسون، قيل وكم قيمة الغراس أو البناء منفردا، فإن قيل: عشرون، كان لبائع الارض ثلاثة أخماس القيمة وللمفلس والغرماء الخمسان.

وإن امتنع البائع من بيع الارض ففيه قولان

(أحدهما)

يجبر على بيعها مع البناء والغراس، ويقسم الثمن عليهما على قدر قيمتهما على ما ذكر من التقسيط لان الحاجة تدعو إلى البيع لقضاء الدين فبيع الجميع كما لو كان المبيع ثوبا فصبغه المفلس بصبغ من عنده، فرجع بائع الثوب فيه، وامتنع من دفع قيمة الصبغ،

فإن الثوب يباع مع الصبغ، وكذلك إذا كان المبيع جارية فولدت في يد المشترى ورجع بائع الجارية فيها فإنها تباع مع الولد، وكذلك إذا كانت مرهونة فولدت في يد المرتهن فإنه يباع معها.

(القول الثاني) لا يجبر على بيع أرضه، وهو المشهور، لانه يمكن إفراد الغراس والبناء بالبيع، فلم يجبر البايع على بيع أرضه.

قالوا في البيان والروضة والحاوى: بخلاف الصبغ، فانه لا يمكن إفراده بالبيع، وكذلك ولد الجارية انما وجب بيعه لانه لا يجوز التفريق بينها وبين ولدها الصغير.

وحكى الشيخ أبو حامد أن من أصحابنا من قال: تؤاجر الارض والغراس ثم يكون ما قابل الارض من الاجرة لبايعها وما قابل الشجر للمفلس والغرماء قال الشيخ أبو حامد: وهذا خطأ لان إجارة الشجر لا يجوز، ولهذا لو غصب شجرة وأقامت في يده لم تجب عليه أجرتها.

قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

وإن كان المبيع أرضا فزرعها المشترى ثم أفلس، واختار البايع الرجوع في الارض جاز له، لانه وجد عين ماله مشغولا بما ينقل، فجاز له الرجوع فيه، كما لو كان المبيع دارا وفيها متاع للمشترى، فان رجع في الارض نظرت في الزرع، فان استحصد وجب نقله، وإن لم يستحصد جاز تركه إلى أوان

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 329)

________________________________________

الحصاد من غير أجرة، لانه زرعه في ملكه، فإذا زال الملك جاز ترك الزرع إلى أوان الحصاد من غير أجرة، كما لو زرع أرضه ثم باع الارض، (الشرح) كلام المصنف في هذا الفصل مضى بيانه في الفصل قبله وهو بمجرده واضح ويزاد عليه من الاحكام ما هو منه فنقول: إذا اشترى من رجل أرضا بثمن في ذمته، ومن آخر غراسا في ذمته، فغرسه في الارض ثم أفلس قبل

تسليم الثمنين، فلكل واحد من البائعين الرجوع في عين ماله، فإذا رجعا نظرت، فان أراد صاحب الغراس قلع غراسه كان له ذلك، ولم يكن لبايع الارض منعه منه، فإذا قلعه كان تسوية الارض، وأرش النقص إن حصل بها، لان ذلك حصل لتخليص ملكه.

وأن أراد صاحب الارض قلع الغراس، ويضمن أرش النقص أو بذل قيمة الغراس ليتملكه مع الارض، كان له ذلك، لانه متصل بملكه فكان له إسقاط حقه منه بدفع قيمته، وإن أراد صاحب الارض قلع الغراس من غير ضمنا فهل يجبر بايع الغراس على ذلك، فيه وجهان.

 

(أحدهما)

ليس له ذلك، لانه ليس بعرق ظالم، ولانه لو كان باقيا على ملك المفلس لم يكن لصاحب الارض أن يطالب بقلعه من غير ضمان، فكذلك من انتقل إليه منه.

 

(والثانى)

له ذلك لانه إنما يباع منه الغراس مقلوعا.

فكان عليه أن يأخذه مقطوعا، ويفارق المفلس لانه غرسه في ملكه، فثبت حقه في ذلك.

قال ابن الصباغ: إذا اشترى من رجل حبا فزرعه في أرضه، ومن آخر ماء فسقاه به فنبت وأفلس، فانهما يضربان مع الغرماء بثمن الماء والحب، ولا يرجعان بالزرع لان عين مالهما غير موجودة فيه، فهو كما لو اشترى طعاما فأطعمه عبده حتى كبر فانه لا حق له في العبد، ولان نصيب الماء غير معلوم لاحد من الخلق.

قال العمرانى: قلت.

وقد مضى في البذر وجه آخر أنه يرجع فيهما فتحتمل أن يكون لابن الصباغ أختيار أحدهما اه.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 330)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

وإن كان المبيع من ذوات الامثال كالحبوب والادهان فخلطه بجنسه نظرت، فان خلطه بمثله كان للبائع أن يرجع، لان عين ماله موجود من جهة الحكم ويملك أخذه بالقسمة فان رجع واتفقا على القسمة قسم ودفع إليه مثل مكيلته، فان طلب البائع البيع فهل يجبر المفلس؟ فيه وجهان

(أحدهما)

لا يجبر لانه تمكن القسمة فلا يجبر على البيع كالمال بين الشريكين.

 

(والثانى)

يجبر لانه إذا بيع وصل البائع إلى بدل ماله بعينه، وإذا قسم لم يصل إلى جميع ماله ولا إلى بدله، وان خلطه بأردأ منه فله أن يرجع لان عين ماله موجودة من طريق الحكم فملك أخذه بالقسمة، وكيف يرجع، فيه وجهان.

قال أبو إسحاق: يباع الزيتان ويقسم ثمنه بينهما على قدر قيمتهما، لانه ان أخذ مثل زيته بالكيل كان ذلك أنقص من حقه، وان أخذ أكثر من زيته كان ربا فوجب البيع.

 

(والثانى)

وهو المنصوص أنه يأخذ مثل زيته بالكيل لانه وجد عين ماله ناقصا فرجع فيه مع النقص، كما لو كان عين ماله ثوبا فحدث به عيب عند المشترى فان خلطه بأجود منه ففيه قولان

(أحدهما)

يرجع وهو قول المزني لانه وجد عين ماله مختلطا بمالا يتميز عنه، فأشبه إذا خلطه بمثله أو كان ثوبا فصبغه.

 

(والثانى)

أنه لا يرجع لان عين ماله غير موجود حقيقة لانه اختاط بمالا يمكن تمييزه منه حقيقة ولا حكما، لانه لا يمكن المطالبة بمثل مكيلته منه، ويخالف إذا خلطه بمثله، لانه تمكن المطالبة بمثل مكليته، ويخالف الثوب إذا صبغه لان الثوب موجود وانما تغير لونه.

فان قلنا انه يرجع فكيف يرجع؟ فيه قولان

(أحدهما)

يباع الزيتان ويقسم ثمنه بينهما على قدر قيمتهما لانه لا يمكن أن يأخذ مثل زيته بالكيل لانه يأخذ أكثر من حقه، ولا يمكن أن يأخذ أقل من دينه بالكيل لانه ربا فوجب البيع.

 

(والثانى)

يرجع من الزيت بقيمة مكيلته.

فيكون قد أخذ بعض حقه وترك بعضه باختياره.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 331)

________________________________________

(الشرح) الاحكام: إذا ابتاع شيئا من ذوات الامثال فخلطه بجنسه ولم يتميز ففيه ثلاث مسائل: (المسألة الاولى) أن يخلطه بأجود، مثل أن يشترى كيلو من زيت بذر القطن يساوى عشرة قروش فخلطه بكيلو من زيت الزيتون يساوى أربعين قرشا وأفلس المشترى قبل دفع الثمن، فهل للبائع أن يرجع في عين ماله؟ فيه قولان.

أحدهما له أن يرجع وهو اختيار المزني لانه ليس فيه أكثر من أنه وجد عين ماله مختلطا بمال المفلس وذلك لا يمنع الرجوع، كما لو اشترى ثوبا فصبغه بصبغ من عنده، فإن لبائع الثوب أن يرجع فيه والثانى: ليس له أن يرجع في عين ماله، قال الشافعي رضى الله عنه: وهذا أصح وبه أقول.

لانه لا يجوز له أن يرجع بمثل مكيله لان ذلك أكثر قيمة من عين ماله، ولا بقيمة صاعه لان ذلك أنقص من حقه.

فإذا قلنا بهذا ضرب مع الغرماء بالثمن، وإذا قلنا بالاول فيكف يرجع؟ فيه قولان حكاهما المصنف وابن الصباغ.

وأما الشيخ أبو حامد فحكاهما وجهين.

أحدهما وهو قول المصنف واختيار ابن الصباغ: يباع الزيتان وتؤخذ قيمة أربعة أخماس الزيت وهو الاربعون قرشا، لانا لو قلنا له الرجوع في أربعة أخماس الزيت لكان ربا.

 

(والثانى)

وهو اختيار الشيخ أبى حامد، وهو المنصوص في الام أنه يرجع في أربعة أخماس الزيت لانه ليس ببيع، وانما وضع ذلك عن وزن زيته وتقويمه المسألة الثانية: أن يخلطه بمثله، مثل أن يشترى كيلو من زيت يساوى عشرة

قروش كزيت بذر القطن فخلطه بكيلو من زيت البقل يساوى عشرة قروش.

وأفلس المشترى قبل دفع الثمن فللبائع أن يرجع في عين ماله لانها موجودة من جهة الحكم، فان طلب البائع قسمة الزيت أجبر المفلس والغرماء على القسمة، كما لو ورث جماعة زيتا وطلب واحد منهم قسمته فانه يقسم ويجبر الممتنع، وان طلب البائع بيع الزيت وقسمته فانه يقسم ويجبر الممتنع.

وان طلب البائع بيع الزيت وقسم ثمنه فهل يجبر المفلس على ذلك؟ فيه وجهان

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 332)

________________________________________

أحدهما: لا يجبر على البيع، لان البائع يمكنه الوصول إلى حقه من جهة القسمة فلم يكن له المطالبة بالبيع، كما لو ورث جماعة زيتا وطلب واحد منهم البيع فان شركاءه لا يجبرون على البيع والثانى: يجبر المفلس على البيع لان بالقسمة لا يصل إلى عين ماله، وربما كان له غرض في أن لا يأكل من زيت المشترى.

المسألة الثالثة: إذا خلطه بأردأ من زيته بأن اشترى كيلو من زيت الزيتون يساوى أربعين قرشا فخلطه بكيلو من زيت السمسم يساوى عشرين قرشا ثم أفلس فللبائع أن يرجع في عين ماله قولا واحدا، لان عين ماله موجودة بطريق الحكم، فان رضى البائع بأخذ كيلو منه أجير المفلس على ذلك لانه أنقص من حقه، وان لم يرض البائع بذلك ففيه ثلاثة أوجه حكاها الشيخ أبو حامد.

 

(أحدهما)

ليس له إلا قدر وزنه، لانه وجد عين ماله ناقصا، فإذا اختار الرجوع فيه لم يكن له غيره، كما لو كان المبيع ثوبا فلبسه المشترى ونقص

(والثانى)

وهو قول المصنف.

ولم يذكر ابن الصباغ غيره ان الزيتان يباعان ويدفع إلى البائع قيمة الكيلو الخاص به، وهو أربعون قرشا كما قال في المسألة الاولى، لانه ان أخذ بمثل كيل زيته كان أنقص من حقه، وإن أخذ أكثر من

مكيلة زيته كان ربا.

(والثالث) حكاه ابن المرزبان: أن له أن يأخذ منه كيلا وثلث كيل بقيمة كيل من زيته، كما قال الشافعي في المسألة الاولى والاول أصح وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:

(فصل)

وإن أسلم إلى رجل في شئ وأفلس المسلم إليه وحجر عليه، فان كان رأس المال باقيا فله ان يفسخ العقد، ويرجع إلى عين ماله لانه وجد عين ماله خاليا من حق غيره فرجع إليه كالمبيع، وإن كان رأس المال تالفا ضرب مع الغرماء بقدر المسلم فيه، فان لم يكن في ماله الجنس المسلم فيه اشترى ودفع إليه لان أخذ العوض عن المسلم فيه لا يجوز وقال أبو إسحاق: إذا أفلس المسلم إليه فللمسلم أن يفسخ العقد ويضرب مع

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 333)

________________________________________

الغرماء رأس المال لانه يتعذر تسليم المسلم فيه فثبت الفسخ كما لو أسلم في الرطب فانقطع، والمذهب أنه لا يثبت الفسخ لانه غير واجد لعين ماله فلم يملك الفسخ بالافلاس كما لو باعه عينا فأفلس المشترى بالثمن والعين تالفة ويخالف إذا أسلم وانقطع الرطب لان الفسخ هناك لتعذر المعقود عليه قبل التسليم وههنا الفسخ بالافلاس والفسخ بالافلاس إنما يكون لمن وجد عين ماله وهذا غير واجد لعين ماله فلم يملك الفسخ.

(الشرح) الاحكام: إذا أسلم رجل إلى غيره في شئ على صفة، ثم أفلس المسلم قبل أن يأخذ المسلم فيه، فإن أراد المسلم أن يأخذ المسلم فيه بدون الصفة التى اسلم فيها لم يجز من غير رضا الغرماء لان حقوقهم تعلقت بماله، وإن رضى المفلس والغرما بذلك جاز، لان الحق لهم ولا يخرج عنهم.

فان قيل: ما الفرق بين هذا وبين المكاتب إذا أذن له سيده في أن يبرئه عن

الدين أنه لا يصح إبراؤه في أحد القولين؟ قلنا: الفرق بينهما على هذا القول أن المفلس كامل الملك إلا أنه منع من التصرف في ماله لتعلق حق الغير بماله، فإذا أذن له ذلك الغير في التصرف بماله صح تصرفه كالمرتهن إذا أذن الراهن، وليس كذلك المكاتب، فان المنع لنقصان ملكه، فإذا أذن له سيده لم يتكامل ملكه بذلك، فان كان المفلس هو المسلم إليه فحجر عليه قبل أن يقبض المسلم المسلم فيه، فان كان المسلم فيه موجودا في مال المسلم إليه أخذ من ماله منه، وان كان معدوما اشترى له بما يخصه من ماله من جنس المسلم فيه، لان أخذ العوض عن المسلم فيه لا يجوز.

قال أبو إسحاق: المسلم بالخيار بين أن يقيم بالعقد ويضرب مع الغرماء بقدر المسلم فيه، وبين أن يفسخ العقد، فيضرب مع الغرماء برأس مال السلم كما قال الشافعي رضى الله عنه، والمنصوص أنه لا يملك فسخ العقد، بل يضرب مع الغرماء بقدر المسلم فيه، كما أن البائع إذا وجد المبيع تالفا ليس له أن يفسخ البيع ويضرب بقيمة العين المبيعة، ويفارق إذا انقطع المسلم فيه، لان له غرضا في الفسخ، وهو أنه يرجع برأس ماله في الحال - وعليه مشقة في التأخير - إلى وجود المسلم فيه.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 334)

________________________________________

إذا ثبت هذا فضرب مع الغرماء بقيمة المسلم فيه وعزل ما يخصه ليشترى له المسلم فيه، فإن أسلم في مائة إردب ذرة وكانت قيمتها مائتي جنيه عند القسمة، فعزل له ذلك، فرخص السعر حتى صارت المائة إردب قبل الابتياع تساوى مائة جنيه، اشترى له مائة إردب وقسمت المائة جنيه على باقى الغرماء، إن بقى لهم من دينهم شئ، أو ردت على المفلس ان استوفى أصحاب الديون حقوقهم.

وإن غلا الطعام عند الابتياع فصارت المائة تساوى ثلاثمائة جنيه اشترى

بالمائتين المعزولة بقدرها ذرة.

قال الشيخ أبو حامد: ويكون الباقي في ذمة المسلم إليه.

وقال ابن الصباغ: يرجع على الغرماء بما يخصهم من ذلك، لانه بان أن حقه في المسلم فيه دون القيمة.

والله أعلم قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

وإن أكترى أرضا فأفلس المكترى بالاجرة، فإن كان قبل استيفاء شئ من المنافع فله أن يفسخ لان المنافع في الاجارة كالاعيان المبيعة في البيع.

ثم إذا افلس المشترى والعين باقية ثبت له الفسخ، فكذلك إذا أفلس المكترى والمنافع باقية وجب أن يثبت له الفسخ، وان أفلس وقد استوفى بعض المنافع وبقى البعض ضرب مع الغرماء بحصة ما مضى، وفسخ فيما بقى كما لو ابتاع عبدين وتلف عنده أحدهما ثم أفلس فإنه يضرب بثمن ما تلف مع الغرماء ويفسخ البيع فيما بقى، فإن فسخ وفى الارض زرع لم يستحصد نظرت، فان اتفق الغرماء والمفلس على تبقيته بأجرة إلى وقت الحصاد لزم المكرى قبوله لانه زرع بحق وقد بذل له الاجرة لما بقى فلزمه قبولها، وان لم يبذل له الاجرة جاز له المطالبة بقطعه، لان التبقية إلى الحصاد لدفع الضرر عن المفلس والغرماء، والضرر لا يزال بالضرر، وفى تبقيته من غير عوض اضرار بالمكرى وان دعا بعضهم إلى القطع وبعضهم إلى التبقية نظرت فان كان الزرع لا قيمة له في الحال كالطعام في أول ما يخرج من الارض لم يقطع، لانه إذا قطع لم يكن له قيمة، وإذا ترك صار له قيمة، فقدم قول من دعا إلى الترك، وان كان له قيمة كالقصيل الذى يقطع ففيه وجهان:

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 335)

________________________________________

(أحدهما)

يقدم قول من دعا إلى القطع لان من دعا إلى القطع تعجل حقه فلم يؤخر

(والثانى)

وهو قول أبى اسحاق أنه يفعل ما هو أحظ، والاول أظهر.

(الشرح) قوله القصيل، فعيل من القصل وبابه ضرب، وقصل الدابة علفها قصيلا، وبابه ضرب، والقصل بفتحتين في الطعام مثل الزوان، والقصالة بالضم ما يعزل من البر إذا نقى ثم يداس الثانية أما الاحكام فانه إذا اكترى منه ارضا بأجرة في ذمته فأفلس المكترى بالاجرة قبل دفعها، فان كان بعد استيفاء مدة الاجارة ضرب المكرى بالاجرة مع الغرماء، وان كان قبل أن يمضى شئ من مدة الاجارة فالمكرى بالخيار بين أن يضرب مع الغرماء بالاجرة فيقر العقد، وبين أن يفسخ عقد الايجار ويرجع إلى منفعة أرضه، لان المنفعة كالعين المبيعة فجاز له الرجوع إليها وان كان بعد مضى شئ من مدة الاجارة فالمكرى بالخيار بين أن ينفذ العقد ويضرب مع الغرماء بالاجرة، وبين أن يفسخ عقد الاجارة فيما بقى من المدة، ويضرب مع الغرماء بالاجرة لما مضى، كما تقول فيمن باع عبدين بثمن فتلف أحدهما في يد المشترى وبقى الآخر إذا ثبت هذا فان اختار فسخ عقد الاجارة وفى الارض زرع، فان كان قد استحصد - أعنى تهيأ للحصد - فله أن يطالب المفلس والغرماء بحصاده وتفريغ الارض، وان كان الزرع لم يستحصد - فان اتفق المفلس والغرماء على قطعه جاز، سواء كانت قيمة أو لم تكن، ولا يعترض عليهم الحاكم لان الحق لهم وان اتفق على تركه وبذلوا للمكرى أجرة مثل الارض إلى الحصاد لزمه قبول ذلك ولم يكن له مطالبتهم بقلعه، لانه " ليس بعرق ظالم " وان امتنع المفلس والغرماء من بذل الاجرة كان للمكترى مطالبتهم بفعله أعنى بحصده، لانا قد جوزنا له الرجوع إلى عين ماله، وعين ماله هو المنفعة فلا يجوز تفويتها عليه بغير عوض، بخلاف ما لو باع أرضا وزرعها المشترى وأفلس، ثم رجع بائع الارض فيها فانه يلزمه تبقية الزرع إلى الحصاد بغير

أجرة، لان المعقود عليه في البيع هو العين، والمنفعة تابعة، لا يقابلها عوض،

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 336)

________________________________________

وإنما دخل المشترى في العقد على أن يكون بغير عوض، وفى الاجارة المعقود عليه هو المنفعة، فلا يجوز استيفاؤها بغير عوض.

وإن اختلف المفلس والغرماء، فقال بعضهم: يقلع، وقال بعضهم يبقى إلى الحصاد - فإن كان الزرع لا قيمة له، كالزرع أول خروجه، قدم قول من دعا إلى التبقية، لان من دعا إلى القلع دعا إلى الاتلاف فلا يجاب إلى ذلك، وان كان الزرع ذا قيمة كالقصيل ففيه وجهان.

قال أبو إسحاق: يفعل ما فيه الاحظ، لان الحجر يقتضى طلب الحظ.

وقال أكثر أصحابنا: يجاب قول من دعا إلى القلع، وقد مضى دليلها، فان قيل: فما الفرق بين هذا وبين من ابتاع أرضا وغرسها ثم أفلس المبتاع، وأخذ البائع عين ماله وهو الارض، وصار الغراس للمفلس والغرماء، فقال بعضهم نقلع، وقال بعضهم يبقى أنه يقدم قول من قال: يبقى، قلنا.

الفرق بينهما على هذا الوجه أن من دعا إلى قلع الغراس يريد الاضرار بغيره، لان بيع الغراس في الارض أكثر لثمنه، فلم يجب قول من دعا إلى قلعه، وليس كذلك في الزرع، فإن من دعا إلى القلع فيه منفعة من غير ضرر، لان الزرع إذا بقى قد يسلم وقد لا يسلم.

إذا ثبت هذا: فإن اتفقوا على تبقية الزرع إلى الحصاد واحتاج إلى زرع ومؤنة فإن اتفق الغرماء والمفلس على أن ينفقوا عليه من مال المفلس الذى لم يقسم ففيه وجهان

(أحدهما)

لا ينفق منه أحد، لان حصول هذا الزرع مظنون.

فلا ينبغى أن يتلف عليه مال موجود، والثانى وهو المذهب أن ينفق منه لان ذلك من مصلحة المال، ويقصد به تنمية المال في العادة.

وإن دعا الغرماء المفلس إلى أن ينفق عليه وأبى المفلس ذلك لم يجبر عليه لانه لا يجب عليه تنمية المال للغرماء، فإن تطوع الغرماء أو بعضهم بالانفاق عليه من غير اذن المفلس والحاكم لم يرجعوا بما أنفقوا عليه لانهم متطوعون به، وان أنفق بعضهم بإذن الحاكم أو المفلس على أن يرجع على المفلس بما أنفق جاز ذلك وكان له دينا في ذمة المفلس، لا يشارك به الغرماء، لانه وجب عليه بعد الحجر.

وان أنفق

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 337)

________________________________________

عليه بعض الغرماء بإذن باقى الغرماء على أن يرجع عليهم، رجع عليهم بما أنفق من مالهم.

(فَرْعٌ)

قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْأُمِّ: ولو اكترى ظهر لتحمل له طعاما إلى بلد من البلدان فحمله وأفلس المكترى قبل دفع الاجرة ضرب المكرى مع الغرماء بالاجرة، فإن أفلس قبل أن يصل إلى البلد نظرت، فان كان الموضع الذى بلغ إليه آمنا كان له فسخ الاجارة فيما بقى من المسافة، ويضع الطعام عند الحاكم.

قال ابن الصباغ: وإن وضعه على يد عدل بغير إذن الحاكم ففيه وجهان، كالمودع إذا أراد السفر فأودع الوديعة بغير إذن الحاكم فهل تضمن؟ فيه قولان والصحيح وجهان، وان كان الموضع مخوفا لزمه حمل الطعام إلى الموضع الذى أكراه ليحمله أو إلى موضع دونه يأمن عليه، لانه استحق منفعته بحق الاجارة قبل الحجر.

وإن اكترى منه ظهرا في ذمته فأفلس المكرى، فان المكترى يضرب مع الغرماء بقيمة المنفعة إن كان لم يستوف شيئا منها أو بقيمة ما بقى منها إن استوفى بعضها، لان حقه متعلق بذمته، كما لو باعه عينا في ذمته، فان كان ما يخصه من مال المفلس لا يبلغ ما اكترى به، وكانت الاجرة باقية.

فللمكترى أن يفسخ الاجارة ويرجع إلى عين ماله إن كان لم يستوف شيئا من المنفعة أو إلى بعضها ان

استوفى شيئا من المنفعة، لان الاجرة كالعين المبيعة وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:

(فصل)

إذا قسم مال المفلس بين الغرماء ففى حجره وجهان

(أحدهما)

يزول الحجر لان المعنى الذى لاجله حجر عليه حفظ المال على الغرماء وقد زال ذلك فزال الحجر كالمجنون إذا أفاق

(والثانى)

لا يزول الا بالحاكم لانه حجر ثبت بالحاكم فلم يزل الا بالحاكم كالحجر على المبذر.

(الشرح) الاحكام: إذا قسم مال المفلس بين غرمائه ففى حجره وجهان

(أحدهما)

يزول عنه من غير حكم الحاكم لان الحجر كان لاجل المال، وقد زال

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 338)

________________________________________

المال فزال الحجر بزواله، كما أن المجنون محجور عليه بالجنون، فإذا زال الجنون زال الحجر

(والثانى)

لا يزول الحجر الا بحكم الحاكم، لانه حجر ثبت بحكم الحاكم فلم يزل الا بحكمه كالحجر على السفيه.

قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

ومن مات وعليه ديون تعلقت الديون بماله كما تتعلق بالحجر في حياته فان كان عليه دين مؤجل حل الدين بالموت لما روى ابْنِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إذَا مَاتَ الرجل وله دين إلى أجل وعليه دين إلى أجل فالذي عليه حال والذى له إلى أجله ولان الاجل جعل رفقا بمن عليه الدين والرفق بعد الموت أن يقضى دينه وتبرأ ذمته، والدليل عليه ما رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال نفس المؤمن مرتهنة في قبره بدينه إلى أن يقضى عنه.

(الشرح) الحديثان اللذان رواهما ابن عمر رضى الله عنهما وأبو هريرة رضى الله عنه تكلم فيهما شيخنا النووي في كتاب الجنائز من المجموع وأطال ووفى.

أما الاحكام: فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي بَابِ حلول دين الميت

والدين عليه من الام: وإذا مات الرجل وله على الناس ديون إلى أجل، فهى إلى أجلها، لا تحل بموته، ولو كانت الديون على الميت إلى أجل فلم أعلم مخالفا حفظت عنه ممن لقيت بأنها حالة يتحاص فيها الغرماء، فان فضل فضل كان لاهل الميراث ووصايا ان كانت له، قال: ويشبه - والله أعلم - أن يكون من حجة من قال هذا القول مع تنابعهم عليه، أن يقولوا لما كان غرماء الميت أحق بماله في حياته منه، كانوا أحق بماله بعد وفاته من ورثته، فلو تركنا ديونهم إلى حلولها كما يدعها في الحياة كنا منعنا الميت أن تبرأ ذمته، ومنعنا الوارث أن يأخذ الفضل عن دين غريم أبيه، ولعل من حجتهم أن يقولوا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال " نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه دينه " أخبرنا ابراهيم بن سعد عن أبيه عن عمر بن أبى سلمة عن أبيه عن أبى هريرة (رض) قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم " نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه دينه ".

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 339)

________________________________________

قال الشافعي رضى الله عنه: فلما كان كفنه من رأس ماله دون غرمائه ونفسه معلقة بدينه وكان المال ملكا له، أشبه أن يجعل قضاء دينه، لان نفسه معلقة بدينه، ولم يجز أن يكون مال الميت زائلا عنه، فلا يصير إلى غرمائه، ولا إلى ورثته، وذلك أنه لا يجوز أن يأخذه ورثته دون غرمائه، ولو وقف إلى قضاء دينه علق روحه بدينه، وكان ماله معرضا أن يهلك، فلا يؤدى عن ذمته ولا يكون لورثته فلم يكن فيه منزلة أولى من أن يحل دينه ثم يعطى ما بقى ورثته اه " ونعود إلى كلام المصنف رحمه الله تعالى فنقول وبالله التوفيق والعون: من مات وعليه ديون تعلقت بماله، وبهذا قال عثمان وعلى وأبو هريرة رضى الله عنهم، وقال مالك وأبو حنيفة لا يتعلق بماله دليلنا حديث ابن عمر في الفصل ولانه لا وجه لبقاء تأجيله لانه لا يخلو اما

أن يبقى في ذمة الميت أو في ذمة الورثة أو متعلقا بأعيان المال فبطل أن يبقى في ذمة الميت لان ذمته خربت بموته وبطل أن يبقى في ذمة الورثة لان صاحب الدين لم يرض بذممهم.

ولانه لو تعلق بذممهم - إذا كان للميت مال تعلق بذممهم - وان لم يكن للميت مال.

وبطل أن يقال: يبقى مؤجلا متعلقا بأعيان ماله.

لان ذلك اضرار لصاحب الدين.

لان أعيان المال ربما تلفت.

واضرار بالميت لان ذمته لا تبرأ حتى يقضى عنه.

لحديث أبى هريرة المسوق في الفصل وفى كلام الشافعي.

فإذا بطلت هذه الاقيسة لم يبق الا القول بحلوله قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

فان تصرف الوارث في التركة قبل مضى الدين ففيه وجهان:

(أحدهما)

لا يصح لانه مال تعلق به دين فلا يصح التصرف فيه من غير رضى من له الحق كالمرهون

(والثانى)

يصح لانه حق تعلق بالمال من غير رضا المالك فلم يمنع التصرف كمال المريض.

وان قلنا انه يصح فان قضى الوارث الدين نفذ تصرفه وان لم يقض فسخنا.

وان باع عبدا ومات وتصرف الوارث في التركة ثم وجد المشترى بالعبد

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 340)

________________________________________

عيبا فرده.

أو وقع في بئر كان حفرها بهيمة ففى تصرف الورثة وجهان.

 

(أحدهما)

أنه يصح لانهم تصرفوا في ملك لهم لا يتعلق به حق أحد

(والثانى)

يبطل لانا تبينا انهم تصرفوا والدين متعلق بالتركة، فان كان في غرماء الميت من باع شيئا ووجد عين ماله.

فان لم تف التركة بالدين فهو بالخيار بين أن يضرب مع الغرماء بالثمن وبين أن يفسخ ويرجع في عين ماله لما روى عن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ في رجل أفلس: هذا الذى قضى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أيما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحق

بمتاعه إذا وجده بعينه " فان كانت التركة تفى بالدين ففيه وجهان " أحدهما " وهو قول أبى سعيد الاصطخرى رحمه الله أن له أن يرجع في عين ماله لحديث أبى هريرة

(والثانى)

لا يجوز أن يرجع في عين ماله.

وهو المذهب.

لان المال يفى بالدين فلم يجز الرجوع في المبيع كالحى الملئ.

وحديث أبى هريرة قد روى فيه ابو بكر النيسابوري: وان خلف وفاء فهو أسوة الغرماء (الشرح) الاحكام: فإذا تصرف الوارث بالتركة أو ببعضها قبل قضاء الدين فهل يصح تصرفه؟ فيه وجهان " أحدهما " لا يصح سواء بقى من التركة ما يفى من الدين أو لم يبق.

لان مال الميت تعلق به ما عليه من الدين فلم يصح تصرف الوارث فيه.

كالراهن إذا تصرف في الرهن قبل قضاء الدين " والثانى " يصح تصرفه لانه حق تعلق بالمال بعد رضاء المالك فلم يمنع صحة التصرف كتصرف المريض في ماله.

فإذا قلنا بهذا فان قضى الدين نفذ تصرفه.

وان لم يقض الدين لم ينفذ تصرفه.

لانا انما صححنا التصرف تصحيحا موقوفا على قضاء الدين كما صححنا من تصرف تصرفا موقوفا.

فإن باع عبدا ثم مات البائع.

أو وجد المشترى بالعبد الذى اشتراه عيبا فرده.

فان كان الثمن باقيا بعينه استرجعه.

وان كان تالفا رجع المشترى بالثمن في تركة الميت فان الوارث قد تصرف بالتركة قبل ذلك.

أو كان حفر الرجل بئرا في طريق المسلمين ومات وتصرف وارثه بتركته ثم وقع في تلك البئر بهيمة أو انسان

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 341)

________________________________________

وجب ضمان ذلك في تركة الميت.

وهل يصح تصرف الوارث قبل ذلك؟ إن قلنا في المسألة قبلها إنه يصح تصرفه فههنا أولى.

وإن قلنا هناك لا يصح، ففى هذه وجهان " أحدهما " يصح تصرفه لانه تصرف في مال له لم يتعلق به حق أحد.

" والثانى " لا يصح، لانا بينا أنه تصرف والدين معلق بالتركة (فرع)

إذا كان في غرماء الميت من باع منه عينا، ووجد عين ماله، ولم يقبض ثمنها، فإن كانت التركة لا تفى بالدين فللبائع أن يرجع في عين ماله.

وقال مالك وأبو حنيفة لا يرجع فيها.

بل يضرب مع الغرماء بدينه دليلنا ما روى عمرو بن خلدة الزرقى.

وقد مضى تخريجنا له قال: أتينا أبا هريرة رضى الله عنه في صاحب لنا أفلس فقال " هذا الذى قضى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أيما رجل مات أو أفلس، فصاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه " وهذا نص في موضع الخلاف، وإن كان ماله بقى بالدين ففيه وجهان قال أبو سعيد الاصطخرى: للبائع أن يرجع بعين ماله لحديث أبى هريرة رضى الله عنه، فإنه لم يفرق والثانى: ليس له أن يرجع بعين ماله.

وهو المذهب، لان ماله يفى بدينه، فلم يكن للبائع الرجوع بعين ماله كما لو كان حيا.

وأما الخبر فمحمول عليه إذا مات مفلسا مع أنه قد روى أبو بكر النيسابوري بإسناده عن أبى هريرة: وإن خلف وفاء فهو اسوة الغرماء.

فيكون حجة لنا

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

إذا قسم مال المفلس أو مال الميت بين الغرماء ثم ظهر غريم آخر رجع على الغرماء وشاركهم فيما أخذوه على قدر دينه، لانا إنما قسمنا بينهم بحكم الظاهر إنه لا غريم له غيرهم، فإذا بان بخلاف ذلك وجب نقض القسمة كالحاكم إذا حكم بحكم ثم وجد النص بخلافه.

وان أكرى رجل داره سنة وقبض الاجرة وتصرف فيها ثم أفلس وقسم ماله بين الغرماء ثم انهدمت الدار في أثناء المدة فإن المكترى يرجع على المفلس بأجرة ما بقى، وهل يشارك الغرماء فيما اقتسموا به أم لا.

فيه وجهان

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 342)

________________________________________

(أحدهما)

لا يشاركهم لانه دين وجب بعد القسمة فلم يشارك به الغرماء فيما اقتسموا، كما لو استقرض مالا بعد القسمة.

 

(والثانى)

يشاركهم لانه دين وجب بسبب قبل الحجر فشارك به الغرماء، كما لو انهدمت الدار قبل القسمة، ويخالف القرض لان دينه لا يستند ثبوته إلى ما قبل الحجر وهذا استند إلى ما قبل الحجر، ولان المقرض لا يشارك الغرماء في المال قبل القسمة والمكترى يشاركهم في المال قبل القسمة فشاركهم بعد القسمة (الشرح) الاحكام: إذا قسم مال المفلس أو مال الميت بين غرمائه ثم ظهر له غريم آخر كان مستحقا دينه قبل الحجر، رجع الغريم على سائر الغرماء بما يخصه.

وقال مالك رضى الله عنه: يرجع غريم الميت ولا يرجع غريم المفلس.

دليلنا: أن الحاكم إنما فرق في غرمائه، وعنده أنه لا غريم له سواهم، فإذا ظهر له غيرهم نقض الحكم، كالحاكم بحكم ثم وجد النص بخلافه، ولانه لما كان لغريم الميت أن يرجع على الباقين كان لغريم المفلس مثله (فرع)

وإن فك الحجر عن المفلس وبقى عليه دين فادعى غرماؤه أنه قد استفاد مالا بعد الحجر، سأله الحاكم عن ذلك، فإن أنكر ولا بينة لهم فالقول قوله مع يمينه، لان الاصل بقاء العسرة، فان ثبت له مال إما بالبينة أو باقراره وطلب الغرماء الحجر عليه، نظر الحاكم فيه وفيما عليه من الدين، فان كان بقى بالدين لم يحجر عليه بل يأمره بقضاء الدين، وإن كان أقل حجر عليه وقسم ماله بين الغرماء، وان تجدد عليه دين بعد الحجر الاول ثم ظهر له مال، فان بان أن المال كان موجودا قبل الحجر الاول قال الجوينى: اختص به الغرماء الاولون دون الآخرين، لان المال كان موجودا تحت الحجر الاول.

وان اكتسب هذا المال بعد فك الحجر الاول اشترك به الغرماء الاولون والآخرون على قدر

ديونهم.

وقال مالك: يختص به الغرماء الآخرون دليلنا: أن حقوقهم متساوية في الثبوت في الذمة بحال الحجر فأشبه غرماء الحجر الاول.

(فرع)

وان أكرى داره من رجل مدة ثم أفلس المكرى قبل انقضاء الاجل

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 343)

________________________________________

فإن المكترى أحق بالمنفعة دون الغرماء لانه قد ملك المنفعة بعقد الاجارة قبل الحجر فكان أحق بها، كما لو باع شيئا من ماله ثم أفلس، فإن أراد المكترى فسخ الاجارة لم يكن له ذلك، لان الفسخ إنما يكون في الموضع الذى يدخل عليه ضرر ولا يصل إلى كمال حقه.

وههنا يصل إلى كمال حقه.

فلم يكن له الفسخ فان انهدمت الدار قبل انقضاء مدة الاجارة انفسخت فيما بقى من المدة: فان كانت الاجرة قد قبضت.

فان كانت باقية رجع منها بما يخص ما بقى من المدة، وإن كانت تالفة تعلق ذلك بذمة المفلس، ثم ينظر فيه، فان كان ذلك بعد القسمة ففيه وجهان:

(أحدهما)

لا يشاركهم، لان حق المكترى كان متعلقا بالمنفعة، فلما تلفت العين المكتراة عاد حقه إلى ذمة المفلس بعد القسمة فلم يشارك الغرماء، كما لو أستدان بعد الحجر.

 

(والثانى)

يشاركهم، وهو الصحيح، لان سبب وجوبه كان قبل الحجر فشاركهم، كما لو انهدمت الدار قبل القسمة.

ويخالف إذا استدان بعد الحجر.

فأن ذلك لم يستند إلى سبب قبل الحجر فلذلك لم يشاركهم، والله أعلم

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 344)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله تعالى:

 

‌باب الحجر

 

إذا ملك الصبى أو المجنون مالا حجر عليه في ماله، والدليل عليه قَوْله تَعَالَى (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) فدل على أنه لا يسلم إليه المال قبل البلوغ والرشد.

(الشرح) الحجر في اللغة المنع والتضييق.

ومنه سمى الحرام حجرا.

قال الله تعالى " ويقولون حجرا محجورا " أي حراما محرما، ويسمى العقل حجرا.

قال تعالى " هل في ذلك قسم لذى حجر " سمى حجرا لمنعه صاحبه من ارتكاب القبائح، وما يضر العاقبة، وسمى حجر البيت حجرا لانه يمنع من الطواف به.

وفى الشريعة منع الانسان من التصرف في ماله والمحجور عليهم ثمانية، ثلاثة حجر عليهم لحق أنفسهم وخمسة حجر عليهم لحق غيرهم، فالذين حجر عليهم لحق أنفسهم: فالصبي والمجنون والسفيه.

والمحجور عليهم لحق غيرهم فهم المفلس يحجر عليه لحق الغرماء، والمريض لحق الورثة، والعبد القن.

والمكاتب - بفتح التاء لحق المكاتب بكسرها - والمرتد لحق المسلمين.

والاصل في ثبوت الحجر على الصبى قَوْله تَعَالَى " وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ، ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا " والابتلاء الاختبار.

قال تعالى " هو الذى خلقكم ليبلوكم أيكم أحسن عملا " أي ليختبركم واليتيم من مات أبوه وهو دون البلوغ.

قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا يُتْمَ بَعْدَ الحلم " وقوله تعالى " إذا بلغوا النكاح " أراد به البلوغ، فعبر عنه به، وقوله تعالى " آنستم منهم رشدا " أي علمتم منهم رشدا، فوضع الايناس موضع العلم، كما وضع الايناس موضع الرؤية في قوله تعالى " آنس من جانب الطور نارا " أي رأى

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 345)

________________________________________

روى أنها نزلت في ثابت بن رفاعة وفى عمه.

لما توفى رفاعة وترك ابنه صغيرا أتى عم ثابت إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ان ابى أخى يتيم في حجري فما يحل لى منه ماله؟ ومتى أدفع إليه ماله؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية قال الشافعي رضى الله عنه: فلما علق الله تعالى دفع المال إلى اليتيم بالبلوغ، وإيناس الرشد، علم أنه قبل البلوغ ممنوع من ماله محجور عليه فيه.

والدليل على ثبوت الحجر على السفيه والصبى والمجنون قوله تعالى " فإن كان الذى عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل " والسفيه يجمع المبذر لماله والمحجور عليه لصغر، والضعيف يجمع الشيخ الكبير الفاني والصغير المجنون.

فأخبر الله تعالى بأن هؤلاء ينوب عنهم أولياؤهم فيما لهم وعليهم فدل على ثبوت الحجر عليهم.

واختلفوا في الحجر على غير العليم الفاقه بأحكام الحلال والحرام، فرجح بعضهم وجوب الحجر عليه قال القرطبى في جامع الاحكام: وأما الجاهل بالاحكام وان كان غير محجور عليه لتنميته لماله وعدم تدبيره فلا يدفع إليه المال لجهله بفاسد البياعات وصحيحها وما يحل وما يحرم منها، وكذلك الذمي مثله في الجهل بالبياعات ولما يخاف من معاملته بالربا وغيره والله أعلم.

اه قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

وينظر في ماله الاب ثم الجد لانها ولاية في حق الصغير فقدم الاب والجد فيها على غيرهما كولاية النكاح، فإن لم يكن أب ولا جد نظر فيه الوصي لانه نائب عن الاب والجد فقدم على غيره، وان لم يكن وصى نظر السلطان لان الولاية من جهة القرابة قد سقطت فثبتت للسلطان كولاية النكاح

وقال أبو سعيد الاصطخرى: فان لم يكن أب ولا جد نظرت الام لانها أحد الابوين فثبت لها الولاية في المال كالاب، والمذهب أنه لا ولاية لها لانها ولاية ثبتت بالشرع فلم تثبت للام كولاية النكاح.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 346)

________________________________________

(الشرح) الاحكام: إذا ملك الصبى مالا، فإن الذى ينظر في ماله أبوه إن كان عدلا، فإن لم يوجد الاب أو كان ممن لا يصلح للنظر، كان النظر إلى الجد أب الاب إذا كان عدلا، لانه ولاية في حق الصغير فقدم الاب والجد فيها على غيرهما كولاية النكاح، فإن مات الاب وأوصى إلى رجل بالنظر في مال ابنه وهناك جد يصلح للنظر، فيه وجهان، المذهب أنه لا تصح الوصية إليه، بل النظر إلى الجد.

والثانى: حكاه في الابانة، وبه قال أبو حنيفة: أن النظر إلى الوصي لانه قائم مقام الاب، وليس بشئ، لان الجد يستحق الولاية بالشرع، فكان أحق من الوصي، فان لم يكن أب ولا جد، نظر الوصي من قبلهما، فان لم يستحق الولاية بالشرع فكان أحق من الوصي، فان لم يكن أب ولا جد نظر الوصي من قبلهما.

فان لم يكونا ولا وصيهما فهل تستحق الام النظر؟ فيه وجهان، قال أبو سعيد الاصطخرى: تستحق النظر في مال ولدها، لانها أحد الابوين، وقال أحمد بن حنبل: إن عمر أوصى إلى حفصة.

والثانى: وهو المذهب: أنه لا وصية لها، بل النظر إلى السلطان، وروى عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ أَنَّهُ قَالَ في رجل أوصى إلى إمرأته قال: لا تكون المرأة وصيا، فان فعل حولت إلى رجل من قومه اه.

(قلت) ولانها ولاية بالشرع فلم تستحقها الام كولاية النكاح، ولان قرابة الام لا تتضمن تعصيبا، فلم تتمضن ولاية كقرابة الخال، فإذا قلنا بقول أحمد

والاصطخري، فهل يستحق أبوها وأمها الولاية عند عدمها.

فيه وجهان حكاهما الصيمري وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:

(فصل)

ولا يتصرف الناظر في ماله إلا على النظر والاحتياط ولا يتصرف إلا فيما فيه حظ واغتباط، فأما مالا حظ فيه كالعتق والهبة والمحاباة فلا يملكه، لقوله تعالى " ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتى هي أحسن " وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا ضَرَرَ وَلَا ضرار، وفى هذه التصرفات إضرار بالصبى فوجب أن لا يملكه،

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 347)

________________________________________

ويجوز أن يتجر في ماله.

لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: من ولى يتيما وله مال فليتجر له بماله ولا يتركه حتى تأكله الصدقة.

(الشرح) حديث " من ولى يتيما له مال فليتجر له، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة " رواه عبد الرزاق وابن جرير عنه بسند صحيح، وسبق للامام النووي استقصاء رواياته في كتاب الزكاة.

أما الاحكام: فلا يجوز للناظر في مال الصبى أن يعتق منه، ولا أن يكاتب، ولا يهب، ولا يحابى في البيع لقوله تعالى " ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتى هي أحسن " وليس في شئ من هذه الاشياء " أحسن ".

(فرع)

قال الشافعي رضى الله عنه: وأحب أن يتجر الوصي بأموال من يلى عليه ولا ضمان، وجملة ذلك أنه يجور للناظر في مال الصبى أن يتجر في ماله، سواء كان الناظر أبا أو جدا أو وصيا أو أمينا من قبل الحاكم لما روى عبد الله ابن عمرو إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: من ولى يتيما له مال فليتجر له، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة ".

(قلت) ولان ذلك أحظ للمولى عليه لتكون نفقته من الربح.

هكذا قال عامة أصحابنا إلا الصيمري، فانه قال.

لا يتجر له في هذا الزمان لفساده وجور السلطان على التجار، بل يشترى له الارض، أو ما فيه منفعة، فان اتجر له لم يتجر له إلا في طريق مأمون، ولا يتجر له في البحر لانه مخوف، فان قيل فقد روى أن عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها أبضعت أموال بنى محمد بن أبى بكر رضى الله عنهم (قلنا) يحتمل أن يكون ذلك في موضع مأمون قريب من الساحل أو يحتمل أنها فعلت ذلك وجعلت ضمانه على نفسها إن هلك، قال الصميرى: ولا يبيع له إلا بالحال، أو بالدين على ملئ ثقة، اه.

والله أعلم.

قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

ويبتاع له العقار لانه يبقى وينتفع بغلته ولا يبتاعه إلا من مأمون لانه إذا لم يكن مأمونا لم يأمن أن يبيع مالا يملكه ولا يبتاعه في موضع قد أشرف

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 348)

________________________________________

على الخراب أو يخاف عليه الهلاك، لان في ذلك تغريرا بالمال ويبنى له العقار ويبنيه بالآجر والطين ولا يبنيه باللبن والجص، لان الآجر يبقى واللبن يهلك والجص يجحف به والطين لا ثمن له والجص يتناثر ويذهب ثمنه والطين لا يتناثر وان تناثر فلا ثمن له، ولان الآجر لا يتخلص من الجص إذا أراد نقضه ويتلف عليه ويتخلص من الطين فلا يتلف عليه ولا يبيع له العقار إلا في موضعين.

 

(أحدهما)

أن تدعو إليه ضرورة بأن يفتقر إلى النفقة وليس له مال غيره ولم يجد من يقرضه.

 

(والثانى)

أن يكون له في بيعه غبطة وهو أن يطلب منه بأكثر من ثمنه فيباع له ويشترى ببعض الثمن مثله، لان البيع في هذين الحالين فيه حظ وفيما سواهما لا حظ فيه فلم يجز.

وإن باع العقار وسأل الحاكم أن يسجل له نظر، فإن باعه الاب أو الجد سجل له، لانهما لا يتهمان في حق الولد، وإن كان غيرهما لم يسجل حتى يقيم بينة على الضرورة أو الغبطة لانه تلحقه التهمه فلم يسجل له من غير بينة فان بلغ الصبى وادعى أنه باع من غير ضرورة ولا غبطة فان كان الولى أبا أو جدا فالقول قوله وإن كان غيرهما لم يقبل إلا ببينة لما ذكرناه من الفرق فان بيع في شركته شقص، فإن كان الحظ في أخذه بالشفعة لم يترك، وإن كان الحظ في الترك لم يأخذ، لانا بينا أن تصرفه على النظر والاحتياط، فلا يفعل إلا ما يقتضى النظر والاحتياط فان ترك الشفعة والحظ في تركها ثم بلغ الصبى وأراد أن يأخذ، فالمنصوص أنه لا يملك ذلك، لان ما فعل الولى مما فيه نظر لا يملك الصبى نقضه، كما لو أخذ والحظ في الاخذ فبلغ وأراد أن يرد.

ومن أصحابنا من قال: له أن يأخذ، لانه يملك بعد البلوغ التصرف فيما فيه حظ، وفيما لا حظ فيه، وقد بلغ فجاز أن يأخذ، وإن لم يكن فيه حظ وهذا خطأ، لان له أن يتصرف فيما لا حظ فيه إذا كان باقيا، وهذا قد سقط بعفو الولى فسقط فيه اختياره، فإن بلغ وادعى أنه ترك الشفعة من غير غبطه فالحكم فيه كالحكم في بيع العقار وقد بيناه.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 349)

________________________________________

(الشرح) الاحكام: يجوز أن يبتاع له العقار لانه أقل غررا، لانه ينتفع بغلته مع بقاء أصله.

قال ابو على في الافصاح: ولا يشتريه إلا من ثقة أمين يؤمن جحوده في الثمن وحيلته في إفساد البيع لاتباعه في موضع قد أشرف على الهلاك بزيادة ما أوقعته بين طائفتين، فإن ذلك تغرير بماله.

ويجوز أن يبنى له العقار إذا احتاج إليه إلا أن يكون الشراء أحظ له فيشترى

له ذلك.

وإذا احتاج إلى البناء: قال الشافعي رضى الله عنه: يبنى له بالآجر والطين، ولا يبنى له باللبن والحصى، لان اللبن يهلك، والآجر يبقى والحصى يلزق فربما احتيج إلى نقض شئ من الآجر فلا يتخلص من الحصى، ولان الحصى يجحف به، والطين لا يجحف به.

قال في البيان تعليقا على قول الشافعي " وهنا في البلاد التى يعز فيها وجود الحجارة، فإن كان في بلد يوجد فيه الحجارة كانت أولى من الآجر، لانها أكثر بقاء، وأقل مؤنة ".

قلت: فإذا كان الناظر في مال الصبى عدلا ذا مهارة.

ورأى أن يبنى بالخرسانة المسلحة، وكان في ذلك ما يعود على الصغير بفائدة مع حفظ ماله لاسيما في زماننا هذا الذى يكون للتعمير والبناء صيانة ونماء، كان له ذلك، بل كان ذلك هو الافضل، والله تعالى أعلم.

(فرع)

وان ملك الصبى عقارا لم يبع عليه الا في موضعين أحدهما أن يكون له في بيعه غبطة كأن يكون له شركة مع غيره، أو مجاورة لغيره فيبذل الغير فيه بذلك أكثر من قيمته، ويوجد له مثل بأقل مما باع به فيجوز له بيع العقار عليه لذلك، وكذلك إذا كان له عقار قد أشرف على الهلاك بالغرق أو بالخراب، فيجوز له بيعه عليه، لان النظر له في ذلك البيع، فإذا باع الاب أو الجد عليه عقارا فرفع ذلك إلى الحاكم وسأله امضاءه وتسجيله عليه أمضاه وسجله له، لان الظاهر من حالهما أنه لا يبيعان الا ماله فيه حظ.

وهل يحتاج الحاكم إلى ثبوت عدالتهما عنده؟ قال ابن الصباغ: سمعت القاضى أبا الطيب يقول: فيه وجهان

(أحدهما)

لا يحتاج إلى ذلك، بل يكتفى بالعدالة الظاهرة، كما قلنا في شهود النكاح.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 350)

________________________________________

(والثانى)

يحتاج إلى الثبوت لولايتهما عنده كما يحتاج إلى ثبوت عدالة الشهود

عنده.

وأما إذا دفع الوصي أو أمين الحاكم البيع إليه وسأل التسجيل عليه وأمضاه ففيه وجهان

(أحدهما)

وهو المشهور أنه لا يمضى ذلك حتى تقوم عنده البينة على الحظ أو الغبطة له، لان غير الاب والجد يلحقه التهمة فلم يقبل قوله من غير بينة بخلاف الاب والجد

(والثانى)

ذكر القاضى أبو الطيب في المجرد أنه يقبل قولهما من غير بينة، كالاب والجد.

قال ابن الصباغ: وهذا له عندي وجه لانه إذا جاز لهما التجارة في ماله فيبيعان ويشتريان، ولا يعترض الحاكم عليهما جاز أيضا في العقار، فإن بلغ الصبى وادعى أن الاب أو الجد باع عليه عقاره من غير غبطة ولا حاجة، فإن أقام بينة على ما ادعاه حكم له به، وإن لم تقم بينة فالقول قول الاب أو الجد مع يمينه.

وإن باع غير الاب والجد عليه كالوصي وأمين الحاكم، فلما بلغ ادعى أنه باع عليه من غير بينة، لان التهمة تلحقه، وبهذا لا يجوز له أن يشترى مال الولى عليه من نفسه فلم يقبل قوله من غير بينة، بخلاف الاب والجد (فرع)

وإن بيع شقص في شركة الصبى، فإن كان للصبى حظ في الاخذ بأن كان له مال يريد أن يشترى له به عقارا، أخذ له بالشفعة، وإن كان الحظ له بالترك بأن كان لا مال له يريد أن يشترى له به، أو كان ذلك في موضع قد أشرف على الهلاك، أو بيع بأكثر من قيمته لم يأخذ له بالشفعة، فإن أخذ له الولى في موضع يرى له الحظ في الاخذ، فبلغ الصبى وأراد أن يرد ما أخذ له الولى لم يملك ذلك، لان ما فعله الولى مما فيه الحظ لا يملك الصبى بعد بلوغه رده، وإن ترك الولى الاخذ له في موضع رأى الحظ له في الترك فأراد الصبى بعد بلوغه أن يأخذه ففيه وجهان: من أصحابنا من قال له ذلك، لانه بعد بلوغه يملك التصرف فيما فيه حظ

وفيما لا حظ له، والمنصوص أنه ليس له ذلك، لان الولى قد اختار الترك بحسن نظره، فلم يكن له نقض ذلك، كما لو أخذ له - والحظ في الاخذ -

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 351)

________________________________________

فإنه لا يملك الصبى بعد البلوغ الرد، فإن ادعى بعد البلوغ أن الولى أخذ - والحظ في الترك - أو الترك والحظ في الاخذ، فان أقام بينة على ذلك حكم له به وإن لم يقم بينة فان كان الولى أبا أو جدا.

فالقول قولهما مع يمينهما، وإن كان غيرهما من الاولياء لم يقبل قوله من غير بينة، كما ذكرنا من الفرق قبل هذا والله تعالى أعلم.

قال على بن عبد الكافي السبكى في فتاويه: ومن مصالح الصبى أن الولى يصونه عن أكل ما فيه شبهة وعن أن يخلط ماله به، ويحرص على إطعامه الحلال المحض وعلى أن يكون ماله كله منه، وهى مصلحة أخروية ودنيوية، أما أخرويه فظاهر لانه وإن لم يكن مكلفا لكن الجسد النابت من الحلال الطيب أزكى عند الله وأعلى درجة في الآخرة من غيره.

وأما دنيويه، فان الجسد الناشئ على الحلال ينشأ على خير، فيحصل له مصالح الدنيا والآخرة.

وقد يكون بتركه اجتناب الشبهات يبارك الله له في القليل الحلال فيكفيه ويرزقه من حيث لا يحتسب، فهذه المصالح محققة، والفائدة الدنيوية التى يكتسبها بالمعاملة دنيوية محضة، فتعارضت مصلحتان أخروية ودنيوية، ورعاية الآخرة أولى من رعاية الدنيا، فكان الاحوط والاصلح لليتيم ترك هذه المعاملة، فقد يقال يكون المستحب تركها، وقد يزاد فيقال يجب تركها لقوله تعالى " ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتى هي أحسن " فالاحسن في الدنيا والآخرة حلال قطعا، وغير الاحسن فيهما يمنع قطعا، والاحسن في الآخرة دون الدنيا إذا راعينا مصلحة الآخرة وقدمناها على الدنيا صار أحسن من الآخرة فهو أحسن مطلقا، فان

تيسر متجر ابتغى فعله، وإلا فلا يكلف الله نفسا الا وسعها، ويأكل ماله خير من أن يأكله غيره، والله أعلم اه

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

ولا يبيع ماله بنسيئة من غير غبطة، فان كانت السلعة تساوى مائة نقدا ومائة وعشرين نسيئة فباعها بمائة نسيئة فالبيع باطل لانه باع بدون الثمن، وان باعها بمائة وعشرين نسيئة من غير رهن لم يصح البيع لانه غرر بالمال، فان

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 352)

________________________________________

باع بمائة نقدا وعشرين مؤجلا وأخذ بالعشرين رهنا جاز لانه لو باعها بمائة نقدا جاز فلان يجوز وقد زاده عشرين أولى، وان باعها بمائة وعشرين نسيئة وأخذ بها رهنا ففيه وجهان

(أحدهما)

لا يجوز لانه أخرج ماله من غير عوض.

 

(والثانى)

يجوز، وهو ظاهر النص.

وقول أبى اسحاق لانه باع بربح واستوثق بالرهن فجاز

(فصل)

ولا يكاتب عبده ولو كان بأضعاف القيمة لانه يأخذ العوض من كسبه وهو مال له فيصير كالعتق من غير عوض (الشرح) الاحكام: ينبغى أن لا يبيع ماله بنسيئة من غير غبطة أي راحة نفس، فان كانت له سلعة يريد بيعها، وهى تساوى مائة نقدا، أو مائة وعشرين نسيئة، فان باعها بمائة نسيئة لم يصح بيعها، سواء أخذ بها رهنا أو لم يأخذ، لان ذلك دون ثمن المثل، فان باعها بمائة نقدا وعشرين نسيئة وأخذ بالعشرين رهنا جاز، لانه قد زاد خيرا ووثيقة وان باعها بمائة وعشرين نسيئة ولم يأخذ بها رهنا لم يجز، لانه غرر بما له.

وان باعها بمائة وعشرين نسيئة وأخذ بالجميع رهنا ففيه وجهان

(أحدهما)

لا يجوز، لان في ذلك تغريرا بالمال وقد يتلف الرهن

 

(والثانى)

يصح.

وهو قول أبى اسحاق وأكثر أصحابنا، لانه مأمور بالتجارة وطلب الربح ولا يمكنه الا ذلك، فعلى هذا يشترط أن يكون المشترى ثقة مليئا لانه ان لم يكن ثقة ربما رهن مالا يملكه.

وإذا لم يكن مليئا فربما تلف الرهن فلا يمكن استيفاء الحق منه ويشترط أن يكون الرهن يفى بالدين أو أكثر لانه ربما أفلس أو تلف ما في يده، فإذا لم يمكن استيفاء الحق من الرهن كان وجود الرهن كعدمه وهل يشترط الاشهاد مع ذلك؟ فيه وجهان حكاهما الصيمري (فرع)

قال الصيمري: ولا يجوز أن يشترى له متاعا بالدين ويرهن من ماله لان الدين مضمون والرهن أمانة، فان فعل كان ضامنا.

والله أعلم

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 353)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

ولا يسافر بماله من غير ضرورة لان فيه تغريرا بالمال، ويروى أن المسافر وماله على قلت، أي على هلاك.

وفيه قول الشاعر: بغاث الطير أكثرها فراخا

* وأم الباز مقلات نزور

(فصل)

فان دعت إليه ضرورة بأن خاف عليه الهلاك في الحضر لحريق أو نهب جاز أن يسافر به لان السفر ههنا أحوط (الشرح) قوله " قلت " إذا قلتها بفتح القاف وسكون اللام كانت النقر في الجبل، وإذا قلتها بفتح القاف وكسر اللام كانت الهلاك.

والمقلتة المهلكة، والمقلات الناقة التى تضع واحدا ثم لا تحمل، والبيت للعباس بن مرداس.

وآخذ على المصنف رحمه الله تعالى استشهاده بهذا البيت في المعنى الذى أراده، فإن معناه أن بغاث الطير، وهو طائر دون الرخمه بطئ الطيران، وهو طير لا يصيد ولا يرغب أحد في صيده لحقارة شأنه.

ومنه المثل " استنسر البغاث " فيمن يلبس غير

لباسه متظاهرا بالشجاعة وهو جبان، وعليه قول من قال: إن البغاث بأرضنا يستنسر.

أي إن الضعيف يصير بأرضنا قويا تكثر فراخه في حين أن أم الصقر مقلات نزور.

وقوله " نزور " أي قليلة الفراخ جدا، والمقابلة والمشاكلة بين بغاث الطير في كثرة فراخها، وبين أم الصقر وهى قليلة الفراخ واضحة، وليس فيها معنى أن المقلات هي المهلكة.

أما الاحكام: فانه لا يجوز أن يسافر بماله من غير ضرورة، لان في ذلك تغريرا بالمال وتعريضا له للهلاك، وقد روى أن المسافر وماله على قلت أي هلاك فان دعت إليه ضرورة بأن خاف من نهب أو غرق أو حريق جاز أن يسافر به إلى حيث يأمن عليه، لان ذلك أمر تسوغه الضرورة وتدعو إليه.

وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:

(فصل)

ولا يودع ماله ولا يقرضه من غير حاجة، لانه يخرجه من يده فلم يجز، فان خاف نهب أو حريق أو غرق، أو أراد سفرا وخاف عليه

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 354)

________________________________________

جاز له الايداع والاقراض، فان قدر على الايداع دون الاقراض أودع، ولا يودع إلا ثقة، وان قدر على الاقراض دون الايداع أقرضه، ولا يقرضه إلا ثقة مليئا، لان غير الثقة يجحد، وغير الملئ لا يمكن أخذ البدل منه، فان أقرض ورأى أخذ الرهن عليه أخذ، وان رأى ترك الرهن لم يأخذ وإن قدر على الايداع والاقراض فالاقراض أولى، لان القرض مضمون بالبدل والوديعة غير مضمونة فكان القرض أحوط، فان ترك الاقراض وأودع ففيه وجهان

(أحدهما)

يجوز لانه يجوز كل واحد منهما، فإذا قدر عليهما تخير بينهما

(والثانى)

لا يجوز لقوله تعالى (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتى هي أحسن)

والاقراض ههنا أحسن فلم يجز تركه، ويجوز أن يقترض له إذا دعت إليه الحاجة ويرهن ماله عليه لان في ذلك مصلحة له فجاز (الشرح) إذا خاف على ماله من نهب أو غرق أو حريق ولم يقدر الولى على المسافرة به، أو أراد الولى السفر إلى موضع لا يمكنه نقل المال إليه، أو يحتاج في نقله إلى مؤنة مجحفة جاز أن يودعه أو يقرضه في هذه الاحوال، فان قدر على الايداع دون الاقراض أودعه ثقة، وان قدر على الاقراض دون الايداع أقرضه ثقة مليئا وأشهد عليه، لان غير الثقة يجحد وغير الملئ لا يمكن أخذ المال منه أو بدله إذا تلف، فان رأى أن المصلحة والحظ في أخذ الرهن أخذه، وان رأى أن " التى هي أحسن " في ترك الرهن تركه ولم يأخذه بأن يكون الموضع مخوفا وكان الولى ممن يرى سقوط الحق يتلف الرهن، لانه لا حظ له في أخذ الرهن مع ذلك.

وان قدر على الاقراض ففيه وجهان

(أحدهما)

يجوز لان كل واحد منهما يجوز فيميز بينهما

(والثانى)

لا يجوز، لان الاقراض أحظ له، فإذا نزل الاحظ ضمن.

(فرع)

فأما الاقراض له فيجوز إذا دعته إلى ذلك حاجة للنفقه عليه والكسوة أو النفقة على عقارة المنهدم إذا كان له مال غائب فتوقع قدومه أو ثمرة ينتظرها يفى بذلك، وان لم يكن له شئ ينتظر فلا حظ له في الاقراض، بل يبيع عليه شيئا من أصوله ويصرف في نفقته.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 355)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

وينفق عليه بالمعروف من غير إسراف ولا إقتار، لقوله تعالى " والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما " وإن رأى أن يخلط ماله بماله في النفقة جاز لقوله تعالى " ويسئلونك عن اليتامى قل اصلاح لهم خير

وان تخالطوهم فاخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح " فان بلغ الصبى واختلفا في النفقة فان كان الولى هو الاب أو الجد فالقول قوله وان كان غيرهما ففيه وجهان

(أحدهما)

يقبل، لان في اقامة البينة على النفقة مشقة فقبل قوله

(والثانى)

لا يقبل قوله كما لا يقبل في دعوى الضرر والغبطة في بيع العقار.

(الشرح) ينبغى أن ينفق عليه ويكسوه من غير إسراف ولا إقتار لقوله تعالى " والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا، وكان بين ذلك قواما " وان كان الصبى مكتسبا - قال أبو إسحاق المروزى: أجبره الولى على اكتساب لنفقته، وحفظ عليه ماله، لان ذلك أحظ له.

(فرع)

فإذا رأى الولى أن الحظ للمولى عليه بخلط مع نفقته مع نفقته، بأن كان إذا خلط دقيقه بدقيقه كان أرفق به في المؤنة وأكثر له في الخبز، جاز له الخلط، لما روى أنه لما نزل قوله تَعَالَى " إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إنما يأكلون في بطونهم نارا، وسيصلون سعيرا " تجنب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم اليتامى وأفردوهم عنهم، فنزل قوله تعالى " وإن تخالطوهم فإخوانكم، والله يعلم المفسد من المصلح، ولو شاء الله لاعنتكم " أي لضيق عليكم، لان العنت الضيق وإن كانت الفائدة والمصلحة في إفراده لم تجز الخلطة لقوله تعالى " ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتى هي أحسن ".

(فرع)

فإن بلغ الصبى واختلف هو والولى في قدر نفقته، فإن كان الولى أبا أو جدا، فان ادعى أنه أنفق عليه زيادة على المنفعة بالمعروف لزمهما ضمان تلك الزيادة، لانه مفرط، وان ادعيا النفقه بالمعروف فالقول قولهما مع أيمانهما لانهما غير متهمين.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 356)

________________________________________

وإن كان الولى غيرهما كالوصي وأمين الحاكم، وادعيا النفقة بالمعروف، فهل

يقبل قولهما من غير بينة؟ فيه وجهان.

أحدهما: لا يقبل قولهما من غير بينة، كما لا يقبل ذلك منهما في دعوى بيع العقار.

والثانى: يقبل قولهما مع أيمانهما.

قال ابن الصباغ: وهو الاصح لان إقامة البينة على ذلك تتعذر بخلاف البيع فإنه لا يتعذر عليه إقامة البينة عليه (قلت) ويجب على الولى إذا كان في البلد نظام يسود فيه التوثيق والتسجيل، وكان من السهل على الولى أن يحمل للنفقات والابتياعات للصبى فواتير ومستندات صادرة من جهات الشراء (قلت) يجب عليه أن يتبع ابتياعاته وثائقها الدالة عليها حتى لا يختلط ماله بمال الصبى ولا ينسى شيئا يكون قد انفقه عليه أو يترك لذاكرته أمر استحضار ما اشتراه له فيضرب في عمايات الجزاف، فيقرب مال اليتيم بغير التى هي أحسن.

وقوله تعالى " الا بالتى هي أحسن " تفضى - ولا شك - إلى اتباع النظام على أحسن صوره، وأدق وسائله وأضبط أسبابه، ومن ثم تكون الاية نصا في الاخذ بنظام الوثاثق المكتوبة، لانها هي الاحسن.

والله أعلم.

قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

وان أراد أن يبيع ماله بماله، فإن كان أبا أو جدا جاز ذلك، لانهما لا يتهمان في ذلك لكمال شفقتهما، وان كان غيرهما لن يجز لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لا يشترى الوصي من مال اليتيم ولانه متهم في طلب الحظ له في بيع ماله من نفسه فلم يجعل ذلك إليه.

(الشرح) حديث " لا يشترى الوصي من مال اليتيم " لفظه في سنن الدارمي من قول مكحول: حدثنا محمد بن المبارك ثنا يحيى بن حمزة عن ابن وهب عن مكحول قال: أمر الوصي جائز في كل شئ الا في الابتياع، وإذا باع بيعا لم يقبل قال الدارمي: وهو رأى يحيى بن حمزة.

أما الاحكام: فانه يجوز للاب والجد أن يبيعا مالهما من الصبى ويشتريا ماله لانفسهما إذا رأيا الحظ في ذلك، لانهما لا يتهما في ذلك.

قال الصيمري فيحتاج

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 357)

________________________________________

أن يقول: قد اشتريت هذا لنفسي من ابني بكذا، وبعت ذلك عليه، فيجمع بين لفظ البيع والشراء، قال: وغلط بعض أصحابنا وقال: تكفيه النية في ذلك من غير قول، لانه لا يخاطب نفسه.

قال العمرانى: وليس بشئ، لانا قد أقمناه مقام المشترى في لفظ الشراء، ومقام البائع في لفظ البيع، ولو احتاج إلى قرض فأقرضه أبواه أو جده وأخذ من ماله رهنا، قال الصيمري: فيه وجهان، الاصح: أنه يجوز إلا أن يكون أقرضه متطوعا ثم أحب أن يأخذ بعد ذلك منه رهنا، فلا يكون له.

وأما غير الاب والجد من الاولياء، كالوصي وأمين الحاكم (الحارس) فلا يجوز أن يبيع ماله من الصبى، ويتولى هو وحده طرفي العقد، ولا يجوز أن يشترى ماله بنفسه وقد استدل المصنف بخبر " لا يشترى الوصي من مال اليتيم " ولان غير الاب والجد يتهم في ذلك فلم يجز.

قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

وإن أراد أن يأكل من ماله نظرت، فان كان غنيا لم يجز، لقوله تعالى " ومن كان غنيا فليستعفف، وان كان فقيرا جاز أن يأكل، لقوله تعالى " ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف " وهل يضمن البدل؟ فيه قولان.

 

(أحدهما)

لا يضمن، لانه أجيز له الاكل بحق الولاية فلم يضمنه.

كالرزق الذى بأكله الامام من أموال المسلمين

(والثانى)

أنه يضمن، لانه مال لغيره أجيز له أكله للحاجة، فوجب ضمانه كمن اضطر إلى مال غيره.

(الشرح) عن عائشة رضى الله عنها قوله تعالى " ومن كان غنيا فليستعفف

ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف " أنها نزلت في ولى اليتيم إذا كان فقيرا أنه يأكل منه مكان قيامه عليه بالمعروف وفى لفظ " أنزلت في والى اليتيم الذى يقوم عليه ويصلح ماله إن فقيرا أكل منه بالمعروف " متفق عليه.

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: انى فقير ليس لى شئ، ولى يتيم فقال: كل من مال يتيمك غير مسرف

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 358)

________________________________________

ولا مباذر ولا متأثل " رواه البخاري ومسلم وأحمد في مسنده والنسائي وأبو داود وسكت عنه أبو داود.

وقال ابن حجر في الفتح: إسناده قوى واختلف الجمهور في الاكل بالمعروف ما هو؟ فقال قوم هو القرض إذا احتاج ويقضى إذا أيسر، قاله عمر بن الخطاب وابن عباس وعبيدة وابن جبير والشعبى ومجاهد وأبو العالية، وهو قول الاوزاعي.

ولا يتسلف أكثر من حاجته قال عمر رضى الله عنه: ألا إنى أنزلت نفسي من مال الله منزلة الولى من مال اليتيم، إن استغنيت استعففت، وان افتقرت أكلت بالمعروف.

فإذا أيسرت قضيت.

روى عبد الله بن المبارك عن عاصم الاحول عن أبى العالية " ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف " قال قرضا، ثم تلا قوله تعالى " فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم " وقول ثان: روى عن ابراهيم وعطاء والحسن البصري والنخعي وقتادة لا قضاء على الوصي الفقير فيما يأكل.

لان ذلك حق النظر.

قال القرطبى وعليه الفقهاء.

قال الحسن هو طعمة من الله له وذلك أنه يأكل ما يسد جوعه ويكسى عورته، ولا يلبس الرفيع من الكتان ولا الحلل، وقال زيد بن أسلم: ان الرخصة في هذه الآية منسوخة بقوله تَعَالَى " إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إنما يأكلون في بطونهم نارا "

وذهب أبو يوسف إلى أنها منسوخة بقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) وهذا ليس بتجارة، وبقول أبى يوسف قال من قبله مجاهد، ومن بعده الكيا الطبري.

وعليه إذا أراد الولى أن يأكل من مال الصبى أو المولى عليه، فان كان الولى غنيا لم يجز له أن يأكل منه، وان كان فقيرا وقد انقطع عن أي عمل إلا على مال المولى عليه، وليس له مورد للكسب لنفسه، فقد قال الشافعي رضى الله عنه: فله أن يأخذ من ماله أقل الامرين من كفايته.

أو أجرة عمله.

لقوله تعالى (وابتلوا اليتامى) إلى قوله تعالى (ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا، ومن كان غنيا فليستعفف، ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف)

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 359)

________________________________________

فمعنى قوله تعالى: بدارا أن يكبروا.

أي لا تأكلوا أموال اليتامى مبادرة لئلا يكبروا فيأخذوها.

ولانه يستحق ذلك بالعمل والحاجة.

هكذا ذكر عامة أصحابنا وذكر المصنف أنه إذا كان فقيرا جاز له أن يأكل - من غير تفصيل - ولعله أراد بإطلاقه ما ذكر غيره.

وهل يضمن الولى ما أكله بالبدل؟ قال العمرانى في البيان، فيه وجهان.

أحدهما يجب عليه ضمانه في ذمته، والثانى لا يجب لان الله أباح له الاكل ولم يوجب الضمان.

ولان ذلك استحقه بعمله في ماله فلم يلزمه رد بدله كالمستأجر.

والله أعلم قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

ولا يفك الحجر عن الصبى حتى يبلغ ويؤنس منه الرشد، لقوله تعالى (حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ، فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) فأما البلوغ فإنه يحصل بخمسة أشياء، ثلاثة يشترك فيها الرجل والمرأة، وهى الانزال والسن والانبات.

وإثنان تختص بهما المرأة، وهما الحيض والحبل

فأما الانزال فهو إنزال المنى، فمتى أنزل صار بالغا، والدليل عليه قوله تَعَالَى (وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا) فأمرهم بالاستئذان بعد الاحتلام، فدل على أنه بلوغ.

وروى عطية القرظى قال: عرضنا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زمن قريظة، فمن كان محتلما أو نبتت عانته قتل، فلو لم يكن بالغا لما قتل.

وأما السن فهو أن يستكمل خمس عشرة سنة.

والدليل عليه ما روى ابن عمر رضى الله عنه قال " عرضت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أحد وأنا ابن أربع عشر سنة فلم يجزني ولم يرنى بلغت، وعرضت عليه وأنا ابن خمس عشرة سنة فرأني بلغت فأجازنى وأما الانبات فهو الشعر الخشن الذى ينبت على العانة، وهو بلوغ في حق الكافر، والدليل عليه ما روى عطية القرظى قال " كنت فيمن حكم فيهم سعد ابن معاذ رضى الله عنه فشكوا فئ أمن الذرية أنا أم من المقاتلة؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 360)

________________________________________

صلى الله عليه وسلم انظروا فإن كان قد أنبت وإلا فلا تقتلوه، فنظروا فإذا عانتي لم تنبت، فجعلونى في الذرية ولم أقتل.

وهل هو بلوغ في نفسه؟ أو دلالة على البلوغ؟ فيه قولان

(أحدهما)

أنه بلوغ، فعلى هذا هو بلوغ في حق المسلم، لان ما كان بلوغا في حق الكافر كان بلوغا في حق المسلم كالاحتلام والسن

(والثانى)

أنه دلالة على البلوغ، فعلى هذا هل يكون دلالة في حق المسلم؟ فيه وجهان

(أحدهما)

أنه دلالة لما روى محمد بن يحيى بن حبان أن غلاما من الانصار شبب (١) بامرأة في شعره، فرفع إلى عمر رضى الله عنه فلم يجده أنبت.

فقال لو أنبت الشعر لحددتك.

 

(والثانى)

أنه ليس بدلالة في حق المسلم وهو ظاهر النص، لان المسلمين يمكن الرجوع إلى أخبارهم، فلم يجعل ذلك دلالة في حقهم، والكفار لا يمكن الرجوع إلى أخبارهم، فجعل ذلك دلالة في حقهم، ولان الكافر لا يستفيد بالبلوغ إلا وجوب الحرية، ووجوب القتل، فلا يتهم في مداواة العانة بما ينبت الشعر، والمسلم يستفيد بالبلوغ التصرف والكمال بالاحكام فلا يؤمن أن يداوى العانة بما ينبت الشعر، فلم يجعل ذلك دلالة في حقه فأما الحيض فهو بلوغ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَسْمَاءِ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا " ان المرأة إذا بلغت المحيض لا يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا " وأشار إلى الوجه والكف، فعلق وجوب الستر بالمحيض وذلك تكليف، فدل على أنه بلوغ يتعلق به التكليف.

وأما الحبل فهو دليل على البلوغ، فإذا حبلت حكمنا بأنها بالغ، لان الحبل لا يكون إلا بإنزال الماء، فدل على البلوغ، فإذا كانت المرأة لها زوج فولدت حكمنا بأنها بالغ من قبل

________________________________________

(١) شبب بامرأة في شعره، التشبيب النسيب، يقال هو يشبب بها أي يذكرها في شعره.

واشتقاق التشبيب من وجهين

(أحدهما)

من الشبيبة وأصلها الارتفاع عن حال الطفولية.

والآخر أن يكون من الجلاء، يقال شب وجه الجارية إذا جلاه وأبدى ما يخفى من محاسنه

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 361)

________________________________________

الوضع بستة أشهر، لان ذلك أقل مدة الوضع، وان كانت مطلقة وأتت بولد يلحق الزوج، حكمنا بأنها بالغ من قبل الطلاق وإن كان خنثى فخرج المنى من ذكره أو الدم من فرجه لم يحكم بالبلوغ، لجواز أن يكون ذلك من العضو الزائد، فإن خرج المنى من الذكر، والدم من الفرج فقد بلغ، لانه إن كان رجلا فقد أمنى، وإن كان امرأة فقد حاضت.

(الشرح) قوله تعالى (حتى إذا بلغوا النكاح) أي الحلم، لقوله تعالى (وإذا بلغ الاطفال منكم الحلم) وحال النكاح والبلوغ يكون بخمسه أشياء.

ثلاثة يشترك فيها الرجال والنساء، واثنان يختصان بالنساء، وهما الحيض والحبل.

فأما الحيض والحبل فلم يختلف العلماء في أنه بلوغ.

وأن الفرائض والاحكام تجب بهما.

واختلفوا في الثلاث، فأما الانبات والسن فقال الاوزاعي والشافعي وابن حنبل: خمس عشرة سنة بلوغ لمن لم يحتلم، وهو قول ابن وهب وأصبغ وعبد الملك بن الماجشون وعمر بن عبد العزيز وجماعة من أهل المدينة.

واختاره ابن العربي في أحكام القرآن، وتجب الحدود والفرائض عندهم على من بلغ هذه السن.

واحتجوا بحديث ابن عمر الذى أخرجه البخاري ومسلم وأحمد وأصحاب السنن الاربعة إذ عرض يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجيز، ولم يجز يوم أحد، لانه كان ابن أربع عشرة سنة.

قال أبو عمر بن البر: هذا فيمن عرف مولده.

وأما من جهل مولده وعدم سنه أو جحده فالعمل فيه بما روى نافع عن أسلم عن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى أمراء الاجناد " ألا تضربوا الجزية إلا على من جرت عليه المواسى.

وقال عثمان رضى الله عنه في غلام سرق " انظروا ان كان قد اخضر مبرزه فاقطعوه " وقال عطية القرظى " عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى قريظة فكل من أنبت منهم قتله بحكم سعد بن معاذ، ومن لم ينبت منهم استحياه، فكنت فيمن لم ينبت فتركني " رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والترمذي وصححه،

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 362)

________________________________________

وقال مالك مرة: بلوغه يغلظ صوته وتنشق أرنبته، وعن أبى حنيفة رواية

أخرى تسع عشرة وهى الاشهر، وقال في الجارية: بلوغها لسبع عشرة سنة وعليها النظر.

وقال داود الظاهرى: لا يبلغ بالسن ما لم يحتلم، ولو بلغ أربعين سنة، فأما الانبات فمنهم من قال: يستدل به على البلوغ، روى عن ابن القاسم وسالم، وقاله مالك مرة، والشافعي في أحد قوليه، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور.

وقيل: هو بلوغ إلا أن يحكم به في الكفار فيقتل من أنبت، ويجعل من لم ينبت في الذرارى، قاله الشافعي في القول الاخر لحديث عطية القرظى، ولا اعتبار في الخضرة والزغب، وإنما يترتب الحكم على الشعر.

وقال مالك: العمل عندي على حديث عمر بن الخطاب لو جرت عليه المواسى لحددته، قال أصبغ.

قال لى ابن القاسم: وأحب إلى أن لا يقام عليه الحد إلا باجتماع الانبات والبلوغ.

قال ابن العربي: إذا لم يكن حديث ابن عمر دليلا في السن فكل عدد يذكرونه من السنين فانه دعوى، والسن التى أجازها رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى من سن لم يعتبرها، ولا قام في الشرع دليل عليها، وكذلك اعتبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الانبات في بنى قريظة، فمن عذيري ممن ترك أمرين اعتبرهما النبي صلى الله عليه وسلم فيتأوله، ويعتبر ما لم يعتبره النبي صلى الله عليه وسلم لفظا، ولا جعل الله له في الشريعة نظرا على ان ابن العربي تبعا لامير المؤمنين عمر بن عبد العزيز تأول حديث ابن عمر في الانفال، وأن موجبه الفرق بين من يطيق القتال ويسهم له وهو ابن خمس عشرة سنة ومن لا يطيقه، فلا يسهم له فيجعل في العيال، وهو الذى فهمه عمر بن عبد العزيز من الحديث والله تعالى أعلم.

قال العمرانى في البيان: فأما الانزال فمتى خرج منه المنى وهو الماء الابيض الدافق الذى يخلق منه الولد في الجماع أو في النوم أو اليقظة فهو بلوغ لقوله تَعَالَى " وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا " فلما أمر الاطفال بالاستئذان إذا

احتلموا دل على أنهم قد بلغوا لانهم قبل ذلك لم يكونوا يستأذنون.

وَرُوِيَ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " رفع القلم عن ثلاثه، عن النائم حتى

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 363)

________________________________________

يستيقظ، وعن المبتلى حتى يبرأ، وعن الصبى حتى يحتلم " رواه أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه والحاكم عن على وعمر رضى الله عنهما.

وهل يكون الاحتلام بلوغا من الصبية، فيه وجهان

(أحدهما)

لا يكون بلوغا لقوله صلى الله عليه وسلم " وعن الصبى حتى يحتلم " فخص الصبى بالاحتلام،

(والثانى)

وهو طريقة أصحابنا البغداديين أنه بلوغ، كما روت أم سلمة أم المؤمنين رضى الله عنها قالت، سَأَلَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل فقالت عائشة رضى الله عنها فضحت النساء، أو يكون ذلك؟ فقال صلى الله عليه وسلم.

فبم يشبهها ولدها؟ وفى رواية " فبم الشبه " ثم قال صلى الله عليها وسلم " إذا رأت ذلك فلتغتسل " رواه الجماعة فأمرها بالاغتسال، فثبت أنها مكلفة، وأما السن فهو أن يستكمل الرجل والمرأة خمس عشرة سنة.

وحكى المسعودي وجها لبعض أصحابنا أن البلوغ يحصل بالطعن في أول سنة الخمس عشرة، والاول أصح، وبه قال أبو يوسف ومحمد بن الحسن رحمهما الله، وقال أبو حنيفة لا يبلغ الغلام إلا بتسع عشرة سنة وهى رواية محمد رضى الله عنه وفى رواية الحسن اللؤلؤي عنه إذا بلغ ثمانى عشرة سنة.

أما الجارية فتبلغ إذا بلغت تسع عشرة سنة.

وقال مالك كقول داود.

ليس للبلوغ حد في السن.

دليلنا حديث ابن عمر رضى الله عنهما.

عرضت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عام أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فردني وعرضت عليه عام الخندق وأنا ابن

خمس عشرة سنة فأجازنى في المقاتلة.

ولا يجاز في المقاتلة إلا بالغ، فدل على ما قلناه، وَرَوَى أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال.

إذا استكمل الغلام خمس عشرة سنة كتب ماله وما عليه، وأخذت منه الحدود، رواه البيهقى، قال في التلخيص وسنده ضعيف وأما الانبات فهو انبات الشعر القوى الذى يحتاج إلى الموسى، لا الزغب الاصغر حول العانة وحول الفرج، ولا يختلف المذهب أنه إذا ثبت ذلك للكافر حكم ببلوغه، وهل هو بلوغ فيه، أو لا دلالة له على البلوغ، فيه قولان.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 364)

________________________________________

(أحدهما)

أنه بلوغ في نفسه، لان ما حكم به بالبلوغ كان بلوغا بنفسه كالاحتلام

(والثانى)

أنه ليس ببلوغ في نفسه، وإنما دلالة على البلوغ، لان العادة جرت أنه لا يظهر إلا في وقت البلوغ، فإذا قلنا إنه بلوغ في حق الكافر كان بلوغا في حق المسلم، لان ما كان بلوغا في حق الكافر كان كذلك في حق المسلم كالاحتلام، وإذا قلنا: إنه ليس ببلوغ في حق الكافر وإنما هو دلالة على البلوغ فهل يجعل ذلك دلالة في حق المسلم، منهم من قال: فيه وجهان، ومنهم من قال فيه قولان.

 

(أحدهما)

أنه دلالة على بلوغه، لان ما كان دلالة على البلوغ في حق الكافر كان دلالة وعلما على البلوغ في حق المسلم كالحمل.

 

(والثانى)

أنه لا يكون دلالة على البلوغ عند المسلم، لانه يمكن الرجوع إلى معرفة سن المسلم، لانه مولود بين المسلمين، ولا يمكن ذلك في سن الكافر هكذا قال صاحب البيان.

قلت وهو دليل على أن النظام عند المسلمين في عنفوان مجدهم جعلهم يؤرخون لمواليدهم في زمن كانت تسود العالم الفوضى والعشوائية حتى في تحديد سن

الذرية بين غير المسلمين فمتى يعود المسلمون إلى سابق مجدهم فيسبقوا أمم الارض بنظامهم وعلومهم وقوتهم وإيمانهم، وتلك لعمري عمد المجد الذى تدين الدنيا لهم به، فاللهم بصرنا وافتح قلوبنا للايمان.

وقال أبو حنيفة: الانبات لا يكون بلوغا ولا دلالة على البلوغ في حق المسلم والكافر.

دليلنا ما روى عطية السوفى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حكم سعد بن معاذ رضى الله عنه في بنى قريظة فحكم بسبي ذراريهم ونسائهم، وقسم أموالهم.

وقتل من جرت عليه الموسى.

فأمر أن يكشف عن مؤتزريهم فمن أنبت منهم فهو من المقاتلة، ومن لم ينبت فهو من الذرارى: فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعه أرقعة.

قال الصيمري: وكيف يعرف الانبات، قيل: يدفع إليهم شمع أو طين رطب

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 365)

________________________________________

يلزقونه الموضع، وقيل يلمس ذلك من فوق ثوب ناعم.

وقيل يكشف حالا بعد حال وهو الصحيح، لان سعدا رضى الله عنه أمر بكشف بنى قريظة.

وأما خضرة الشارب، ونزول العارضين، ونبات اللحية، وخشونة الحلق، وقوة الكلام، وانفراج مقدم الانف، ونهود الثدى فليس شئ من ذلك بلوغا لانه قد يتقدم على البلوغ وقد يتأخر عنه.

وأما الحيض فهو بلوغ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صلاة امرأة تحيض إلا بخمار، فجعلها مكلفة بوجود الحيض، فدل على أنه بلوغ، وأما الحمل فإنه ليس ببلوغ في نفسه، وإنما هو دلالة على البلوغ، فإذا حملت المرأة علمنا أنه قد خرج منها المنى لقوله تعالى " خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب " فإذا وضعت المرأة الحمل حكمنا بأنها بلغت قبل الوضع بستة اشهر، إن كانت

ذات زوج، لان ذلك قدر مدة الحمل عندنا، وإن كانت مطلقة فأتت بولد يلحق الزوج حكمنا أنها كانت بالغة قبل الطلاق.

وأما الغلام الذى شبب في شعره فهو عمر بن أبى ربيعة وكانت له جولات في الغزل على عهد عمر ومن بعده.

(فرع)

وأما الخنثى المشكل فإذا استكمل خمس عشرة سنة أو نبت له الشعر الخشن على عانته حكم ببلوغه، لانه يستوى في ذلك الرجل والمرأة، فان حمل زال إشكاله، وبان أنه إمرأة، وحكم بأنه بالغ قبل الوضع، وان خرج المنى منه من أحد الفرجين لم يحكم ببلوغه لجواز أن يكون خرج منه من الفرج الزائد، وان خرج منه الدم من فرج النساء لم يحكم ببلوغه لجواز أن يكون رجلا.

وهذا عضو زائد، وان خرج منه المنى من الفرجين حكم ببلوغه.

لان خروج المنى من فروج الرجال والنساء بلوغ.

قال الشافعي رضى الله عنه: وان حاض وأمنى لم يبلغ واختلف أصحابنا فيه فقال الصيمري: إذا حاض من فرج النساء وأمنى من فرج الرجال لم يحكم ببلوغه.

وقال الشيخ أبو حامد وعامة أصحابنا يحكم ببلوغه، لانه ان كان رجلا فقد احتلم.

وان كانت امرأة فقد حاضت، وما ذكره

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 366)

________________________________________

الشافعي رضى الله عنه فله تأويلان

(أحدهما)

أنه أراد أمنى وحاض من فرج واحد

(والثانى)

أراد حاض وأمنى.

فان قيل: هلا جعلتم خروج المنى منه من أحد الفرجين، دليلا على بلوغه؟ كما جعلتم خروج البول دليلا على ذكوريته وأنوثيته، فالجواب أن البول لا يخرج الا من الفرج المعتاد، والمنى قد يخرج من المعتاد وغيره.

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

فأما ايناس الرشد فهو اصلاح الدين والمال فاصلاح الدين ان لا يرتكب من المعاصي ما يسقط به العدالة واصلاح المال أن يكون حافظا لماله غير مبذر ويختبره الولى اختبار مثله من تجارة ان كان تاجرا أو تناء ان كان تانئا (١) أو اصلاح أمر البيت ان كانت امرأة.

واختلف أصحابنا في وقت الاختيار فمنهم من قال: لا يختبر في التجارة الا بعد البلوغ لان قبل البلوغ يصح تصرفه، فلا يصح اختباره، ومنهم من قال: يختبر قبل البلوغ لقوله تَعَالَى " وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ " فأمر باختبار اليتامى وهم الصغار فعلى هذا كيف يختبر فيه وجهان

(أحدهما)

أنه يسلم إليه المال فإذا ساوم وقرر الثمن عقد الولى لان عقد الصبى لا يصح

(والثانى)

أنه يتركه حتى يعقد لان هذا موضع ضرورة.

 

(فصل)

وان بلغ مبذرا (٢) استديم الحجر عليه لان الحجر عليه انما يثبت للحاجة إليه لحفظ المال والحاجة قائمة مع التبذير فوجب أن يكون الحجر باقيا، وان بلغ مصلحا للمال فاسقا في الدين استديم الحجر عليه لقوله تعالى " فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ " والفاسق لم يؤنس منه الرشد ولان حفظه للمال لا يوثق به مع الفسق لانه لا يؤمن ان يدعوه الفسق إلى التبذير فلم يفك الحجر عنه ولهذا لم تقبل شهادته، وان كان معروفا بالصدق لانا لا نأمن أن يدعوه الفسق إلى الكذب وينظر في ماله من كان ينظر في حال الصغر وهو الاب والجد

________________________________________

(١) قوله " أو تناء ان كان تانئا " التنأ الزراعة والتانئ الزارع (٢) المبذر الذى يخرج المال في غير وجهه وأصله التفريق، ومنه البذر في الزراعة لانه يفرق.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 367)

________________________________________

والوصى والحاكم لانه حجر ثبت من غير قضاء، فكان النظر إلى من ذكرنا كالحجر على الصبى والمجنون.

(الشرح) قوله " آنستم " مر بك بعض معانيه.

وقال الازهرى: تقول العرب: اذهب فاستأنس هل ترى أحدا معناه تبصر.

قال النابغة: كأن رحلى وقد زال النهار بنا

* يوم الجليل على مستأنس وحد أراد ثورا وحشيا يتبصر هل يرى قانصا فيحذره، وقيل آنست وأحسست ووجدت بمعنى واحد، وقراءة العامة " رشدا " بضم الراء وسكون الشين.

وقرأ السلمى وعيسى الثقفى وابن مسعود " رشدا " بفتح الراء والشين، وقيل رشدا مصدر رشد وبابه سما يسمو، ورشدا بفتح الشين مصدر رشد.

وبابه علم.

وكذلك الرشاد.

واختلف العلماء في تأويل " رشدا " فقال الحسن وقتادة وغيرهما صلاحا في الدين والعقل.

وقال ابن عباس والسدى والثوري صلاحا في العقل وحفظ المال قال سعيد بن جبير والشعبى: إن الرجل ليأخذ بلحبته وما بلغ رشده، فلا يدفع إلى اليتيم ماله وإن كان شيخا حتى يؤنس منه رشده.

وقال مجاهد " رشدا " يعنى في العقل خاصة، وقال الضحاك: لا يعطى اليتيم ماله وإن بلغ مائة سنة حتى يعلم منه إصلاح ماله.

وأكثر العلماء على أن الرشد لا يكون إلا بعد البلوغ، وإذا لم يرشد بعد بلوغ الحلم.

وان شاخ.

لا يزول الحجر عنه.

وهو مذهب مالك.

وقال أبو حنيفة لا يحجر على الحر البالغ إذا بلغ مبلغ الرجال، ولو كان أفسق الناس وأشدهم تبذيرا إذا كان عاقلا.

وبه قال زفر بن الهذيل.

وهو مذهب النخعي.

واحتجوا في ذلك بما رواه قتادة عن أنس أن حبان بن منقد كان يبتاع وفى عقله ضعف.

فقيل يا رسول الله احجر عليه فإنه يبتاع وفى عقله ضعف، فاستدعاه رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ " لا تبع " فقال " لا أصبر " فقال " إذا بايعت فقل: لا خلابة.

ولك الخيار ثلاثا "

قالوا: فلما سأله القوم الحجر عليه لما كان من تصرفه من الغبن ولم يفعل

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 368)

________________________________________

عليه السلام، ثبت أن الحجر لا يجوز، وهذا لا حجة لهم فيه، لانه مخصوص بذلك على أوجه ساقها شيخنا النووي في أول البيوع قال الامام الشافعي رضى الله عنه " ان كان مفسدا لماله ودينه، أو كان مفسدا لماله دون دينه حجر عليه " وإن كان مفسدا لدينه مصلحا لما له فعلى وجهين.

 

(أحدهما)

وهو اختيار أبى العباس بن سريج " يحجر عليه "

(والثانى)

لا حجر عليه، وهو اختيار أبى إسحاق المروزى، والاظهر من مذهب الشافعي، قال الثعلبي وهذا الذى ذكرناه من الحجر على السفيه قول عثمان وعلى والزبير وعائشة وابن عباس، وعبد الله بن جعفر رضوان الله عليهم ومن التابعين شريح، وبه قال الفقهاء مالك وأهل المدينة والاوزاعي وأهل الشام وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ.

قال الثعلبي: وادعى أصحابنا الاجماع في هذه المسألة.

قال صاحب البيان: وأما إيناس الرشد فهو إصلاح الدين والمال، فإصلاح الدين يكون بأن لا يرتكب من المعاصي ما ترد به شهادته، وإصلاح المال أن لا يكون مبذرا، وقال مالك وأبو حنيفة رحمهما الله تعالى: إذا بلغ الرجل مصلحا لماله دفع إليه ماله، وان كان مفسدا لدينه.

اه دليلنا قول الله تعالى (فإن آنستم منهم رشدا) قال ابن عباس: الرشد الحلم والعقل والوقار، والحلم والوقار لا يكونان إلا لمن كان مصلحا لماله ودينه، وهكذا قال الحسن البصري، ولان إفساده لدينه يمنع رشده، والثقة في حفظ ماله، كما أن الفسق يسقط عدالته، ويمنع من قبول قوله وان عرف عنه الصدق في القول إذا ثبت هذا، فبلغ غير مصلح لماله ولدينه، فإنه يستدام عليه الحجر، وان

صار شيخا.

وبه قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ.

وَقَالَ أَبُو حنيفة " إذا بلغ غير مصلح لماله لم يدفع إليه، لكن ان تصرف فيه ببيع أو عتق أو غيره نفذ تصرفه، فإذا بلغ خمسا وعشرين سنة انفك عنه الحجر ودفع إليه ماله، وان كان مفسدا لدينه وماله.

لانه قد آن له أن يصير جدا لانه قد بلغ بإثنتى عشرة سنة فيتزوج ويولد له ولد ويبلغ ولده الاثنتى عشرة سنة ويولد له.

قال وأنا أستحيى أن أمنع الجد ماله.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 369)

________________________________________

دليلنا قوله تعالى (حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) وقد بينا الرشد ما هو، وهذا لم يؤنس منه الرشد فلم يفك عنه الحجر ولم يدفع إليه ماله، كما لو كان ابن أربع وعشرين سنة.

وأما قوله إنه آن له أن يصير جدا فلا اعتبار بكونه جدا، ألا ترى ان المجنون يستدام عليه الحجر مادام مجنونا، وان كان جدا، إذا ثبت هذا فإنه ينظر في ماله من كان ينظر فيه قبل البلوغ، لانه حجر ثبت عليه من غير حاكم فكان إلى الناظر فيه قبل البلوغ، كالنظر في مال الصغير (فرع)

وأما إصلاح المال فلا يعلم إلا بالاختبار، وفى وقت الاختبار وجهان (احدهما) لا يصح إلا بعد البلوغ، لان الاختبار أن يدفع إليه المال ليبيع ويشترى فيه وينفقه.

وهذا لا يصح إلا بعد البلوغ، فأما قبل هذا فهو محجور عليه للصغير والثانى يصح لقوله تعالى (وابتلوا اليتامى الخ) وهذا يقتضى أن يكون الاختبار قبل بلوغ النكاح ولان تأخير الاختبار إلى البلوغ يؤدى إلى الحجر على رشيد، لانه قد يبلغ مصلحا لماله ودينه، فلو قلنا: إن الاختيار لا يجوز الا بعد البلوغ لاستديم الحجر على رشيد ومنع من ماله، لانه لا يدفع إليه إلا بعد الاختبار

فإذا قلنا بهذا فكيف يختبر بالبيع والشراء؟ فيه ثلاثة أوجه: (أحدها) يأمره الولى أن يساوم في السلع ويقدر الثمن، وليس العقد، لان عقد الصبى لا يصح، ولكن يعقد الولى، ومنهم من قال يشترى الولى سلعة ويدعها بيد البائع ويواطؤه على بيعها من الصبى، فإن اشتراها منه بثمنها عرف رشده.

ومنهم من قال يجوز عقد الصبى لانه موضع ضرورة.

وأما كيفية الاختبار فان كان من أولاد التجار واصحاب المهن الذين يخرجون إلى السوق، فاختباره أن يدفع إليه شئ من ماله ليبيع ويشترى في السوق، أو تترك له مناسبة يباشر فيها مهنة أبيه مستقلا تحت نظر الولى واشرافه، فان كان ضابطا جازما في البيع والشراء والحرفة دل على رشده، وان عيى عما لا يتغابن الناس بمثله فهو غير رشيد.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 370)

________________________________________

وان كان من أولاد الحكام وأبناء الذين يصانون عن الاسواق قال الشيخ أبو حامد: فاختبارهم أصعب من الاول، واختبار الواحد منهم أن يدفع إليه شئ من المال ويجعل إليه نفقة الاسرة مدة شهر مثلا أو ما أشبه ذلك، لشراء متطلبات الدار واحتياجاتها، فان كان ضابطا حافظا يحسن انفاق ذلك علم رشده، وان كان غير ضابط لم يعلم رشده، أو كما قال.

قال الصيدلانى: وولد البناء يختبر بالدراعة.

هذا إذا كان المختبر غلاما، فان كان امرأة قال الشيخ أبو حامد وابن الصباغ: لا تختبر بالبيع والشراء، لان العادة جرت أنها لا تباشر ذلك، وانما تختبر في البيت بأن يدفع إليها شئ من المال ويتولى نساء ثقات الاشراف على فعلها، وتؤمر بانفاق ذلك في الخبز والملح واللحم والخضر والوقود واصلاح أدوات المطبخ وصيانة أثاث البيت، وما إلى ذلك، أو كما قال.

قال الصيمري: ان كانت متبذلة تعامل الخباز والصباغ اختبرت بالبيع والشراء.

وقال الصيمري: ولا يعلم رشده حتى يتكرر ذلك منه التكرر الذى يؤمن أن يكون ذلك اتفاقا (مصادفة) قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: وَقَدْ رَأَيْت مَنْ الحكام من أمر باختبار من لا يوثق بحاله تلك الثقة بأن يدفع إليه القليل من ماله، فان أصلح فيه دفع إليه ما بقى، وإن أفسد فيه كان الفساد في القليل أيسر منه في الكل، ورأينا هذا وجها من الاختبار حسنا.

والله أعلم (فرع)

فيمن قامت بينة برشده ثم قامت بينة أخرى بسفهه كتب السبكى على بن عبد الكافي رحمه الله تعالى ردا على سؤال من ابنه في امرأة سفيهة تحت الحجر قامت بينة برشدها ثم حضر وصيها فأقام بينة بسفهها، فهل تسمع بينة السفه ويعاد الحجر عليها، واختلف ابنه مع غيره من الفقهاء، فقال على رحمه الله أما كون بينة السفه لا تقبل الا مفسرة فينبغي ذلك.

لان الناس مختلفون في أسباب السفه والرشد، فمن الناس من يرى صرف المال إلى الطعمة النفيسة التى لا تليق بحاله سفها، والصحيح أنه ليس بسفه، ولكن صرفها في الحرام سفه

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 371)

________________________________________

ومن الناس من يرى أن الصبى إذا بلغ وهو يفرط في إنفاق المال في وجوه الخير من الصدقات ونحوها يكون سفيها لذلك، والصحيح أنه لا يكون بذلك سفيها.

ومن الناس من يرى أن الرشد هو الصلاح في المال فقط.

وعندنا ليس كذلك، بل لابد من الصلاح في الدين والمال، وخالف فيه بعض أصحابنا وجماعة من العلماء ومن السفه ما يكون طارئا ومنه ما يكون مستداما، والشاهد قد يكون عاميا وقد يكون فقيها ويرى سفها ما ليس بسفه عند القاضى.

وكذلك الرشد.

فكيف

تقبل شهادته مطلقة.

فينبغي أن لا تقبل الشهادة بالسفه حتى يبين سببه، ولا بالرشد حتى يبين أنه مصلح لدينه وماله كما هي عادة المحاضر التى تكتب بالرشد.

وقال الماوردى: إذا أقر الراهن والمرتهن عند شاهدين أن يؤديا ما سمعاه مشروحا فلو أرادا أن لا يشرحا بل شهدا أنه رهن بألفين، فإن لم يكونا من أهل الاجتهاد لم يجز، وكذا إن كانا من أهل الاجتهاد في الاصح، لان الشاهد ناقل، والاجتهاد إلى الحاكم وقال ابن ابى الدم: الذى تلقيته من كلام المراوزة وفهمته من مدارج مباحثاتهم المذهبية أن الشاهد ليس له أن يرتب الاحكام على أسبابها، بل وظيفته نقل ما سمعه أو شاهده، فهو سفير إلى الحاكم فيما ينقله من قول سمعه أو فعل رآه، وقد اختلف أصحابنا في الشهادة بالردة، هل تقبل مطلقة أو لابد من البيان، والمختار عندي أنه لابد من البيان وفاقا للغزالي لاختلاف المذاهب في التكفير، ولجهل كثير من الناس، وإن كان الرافعى رجح قبولها مطلقة لظهور أسباب للكفر.

وهذه العلة لا يأتي مثلها في السفه والرشد فيترجح أنه لابد من البيان كالجرح، وليس الرشد كالتعديل حتى يقبل مطلقا، نعم هو مثله في الاكتفاء في الاطلاق في صلاح الدين، والاطلاق في صلاح المال لعسر التفصيل فيه.

أما إطلاق الرشد من غير بيان الدين والمال فلا يكفى، وبعد أن أوضح العلامة رحمه الله تقديم بينة الرشد على بينة السفه مقيدة بالتاريخ قال: وأما إذا قبلناها مطلقة فالذي بحثه الولد - يعنى ابنه - صحيح.

ويشهد له ما قاله الشيخ تقى الدين أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله في فتاويه في ثلاث مسائل متجاورة في

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 372)

________________________________________

أول كتاب التدليس.

إحداها فيمن علم يسار شخص في زمان متقادم هل له ان

يشهد الآن بيساره؟ وهل يسأله الحاكم عن كونه موسرا حال أداء الشهادة.

وعليه الشهادة.

كذلك أجاب رضى الله عنه - يعنى ابن الصلاح - أن له أن يشهد الآن بيساره معتمدا على الاستصحاب، الا أن يكون قد طرأ ما أوجب اعتقاده بزواله أو جعله في صورة التشكيك في بقائه وزواله، والاعتماد في هذا على الاستصحاب السالم عن طارئ فحدثه كالاعتماد على مثله في الملك ولا يشترط فيه الخبرة الباطنة كما هنالك، وما علل به ذلك من أنه لا طريق له الا الاستصحاب في الباطن لابد له من الاستصحاب موجود هنا.

قال ومما يدل من كلامهم على جريانه في نظائره قولهم في البينة الناقلة في الدين في مسألة الابنين المسلم والنصراني وفى غيرها أنها ترجح على المنفية، لانها اعتمدت على زيادة علم، والاخرى ربما اعتمدت على الاستصحاب.

وهذا تجويز منهم لذلك، والا لكان ذلك قد جاء فيها لا من قبيل الترجيح، بل يكتفى الحاكم بالشهادة أنه موسر، فإنه يتناوله الحال، فإن أحوجه إلى ذكر الحالة الراهنة فله أن يشهد لذلك معتمدا على الاستصحاب المذكور، بل لا ينبغى أن يفصح بذلك في الشهادة، فإنه لابد من الدين بما شمل الحال الحاضرة.

هكذا نقل السبكى كلام ابن الصلاح.

والله أعلم قال المسعودي: ولا يضمن الولى المال الذى يدفعه إليه للاختبار، لان ذلك موضع حاجة إليه اه (فرع)

إذا بلغت المرأة مرتبة من الادراك والنصون تجعلها مصلحة لمالها ودينها فك عنها الحجر ودفع إليها مالها، سواء تزوجت أو لم تتزوج، ثم يكون لها التصرف في جميع مالها بغير اذن زوجها.

وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

وقال مالك رضى الله عنه: لا يفك عنها الحجر حتى تتزوج ويدخل بها، وإذا

تزوجت لم يجز لها أن تتصرف بأكثر من ثلث مالها بغير معارضة الا باذن زوجها دليلنا ما رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه خطب في العيد فلما فرغ من خطبته أتى النساء فوعظهن وقال " تصدقن ولو من حليكن، فتصدقن بحليهن "

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 373)

________________________________________

رواه الشيخان.

فلو كان لا ينفذ تصرفهن بغير اذن أزواجهن لما أمرهن النبي صلى الله عليه وسلم بالصدقة، ولا محالة أنه كان فيهن من لها زوج ومن لا زوج لها ولو أنها حرة بالغه رشيدة فليس تمنع من مالها كما لو تزوجت قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

وان بلغ مصلحا للدين والمال فك عنه الحجر لقوله تعالى (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) وهل يفتقر فك الحجر إلى الحاكم.

فيه وجهان.

 

(أحدهما)

لا يفتقر إلى الحاكم، لانه حجر ثبت من غير حكم فزال من غير حكم كالحجر على المجنون.

 

(والثانى)

أنه يفتقر إلى الحاكم لانه يحتاج إلى نظر واختبار، فافتقر إلى الحاكم كفك الحجر عن السفيه (الشرح) الاحكام: وإذا بلغ مصلحا لماله ودينه فك عنه الحجر، وهل يفتقر فكه إلى الحاكم.

فيه وجهان

(أحدهما)

لا يفتقر إلى الحاكم، لانه حجر لم يفتقر ثبوته إلى الحاكم فلم يفتقر فكه إلى الحاكم كالحجر على المجنون، وفيه احتراز من حجر السفيه.

 

(والثانى)

لا ينفك الا بحكم الحاكم، لانه يفتقر إلى نظر واجتهاد فافتقر إلى الحاكم كالحجر على السفيه.

هذا هو المشهور وقال الصيمري: ان كان الناظر في ماله هو الاب أو الجد لم يفتقر إلى الحاكم

وان كان الناظر فيه أمين الحاكم (الحارس) لم ينفك الا بالحاكم وان كان الناظر فيه هو الحاكم ففيه وجهان

(أحدهما)

لا يفتقر فكه إلى الحاكم، كما لو كان الناظر فيه الاب والجد.

 

(والثانى)

يفتقر إلى الحاكم، كما لو كان الناظر فيه أمين الحاكم

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 374)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

وإن فك عنه الحجر، ثم صار مبذرا حجر عليه، لما روى أن عبد الله بن جعفر رضى الله عنه ابتاع أرضا سبخة بستين ألفا فقال عثمان ما يسرنى أن تكون لى بنعلى معا، فبلغ ذلك عليا كرم الله وجهه، وعزم أن يسأل عثمان أن يحجر عليه، فجاء عبد الله بن جعفر إلى الزبير، وذكر أن عليا يريد أن يسال عثمان رضى الله عنهما أن يحجر عليه، فقال الزبير: أنا شريكك فجاء على إلى عثمان رضى الله عنهما وسأله أن يحجر عليه، فقال: كيف أحجر على من شريكه الزبير فدل على جواز الحجر ولان كل معنى اقتضى الحجر إذا قارن البلوغ اقتضى الحجر إذا طرأ بعد البلوغ، كالجنون.

فإن فك عنه الحجر ثم صار فاسقا ففيه وجهان.

قال أبو العباس: يعاد عليه الحجر، لانه معنى يقتضى الحجر، عند البلوغ، فاقتضى الحجر بعده كالتبذير.

وقال أبو إسحاق: لا يعاد عليه الحجر، لان الحجر للفسق لخوف التبذير، وتبذير الفاسق ليس بيقين، فلا يزال به ما تيقنا من حفظه للمال، ولا يعاد عليه الحجر بالتبذير إلا بالحاكم، لان عليا كرم الله وجهه أتى عثمان رضى الله عنه وسأله أن حجر على عبد الله بن جعفر، ولان العلم بالتبذير يحتاج إلى نظر، فإن الغبن قد يكون تبذيرا، وقد يكون غير تبذير، ولان الحجر للتبذير مختلف فيه فلا يجوز إلا بالحاكم، فإذا حجر عليه لم ينظر في ماله إلا الحاكم، لانه حجر

ثبت بالحاكم فصار هو الناظر كالحجر على المفلس.

ويستحب أن يشهر على الحجر ليعلم الناس بحاله وأن من عامله ضيع ماله، فان أقرضه رجل مالا أو باع منه متاعا لم يملكه، لانه محجور عليه لعدم الرشد، فلم يملك بالبيع والقرض كالصبى والمجنون، فإن كانت العين باقية ردت.

وان كانت تالفة لم يجب ضمانها.

لان المالك ان علم بحاله فقد دخل على بصيرة وأن ماله ضائع وان لم يعلم فقد فرط حين ترك الاستظهار، ودخل في معاملته على غير معرفة.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 375)

________________________________________

وان غصب مالا وأتلفه وجب عليه ضمانه، لان حجر العبد والصبى آكد من حجره، ثم حجر العبد والصبى لا يمنع من وجوب ضمان المتلف، فلان لا يمنع حجر المبذر أولى، فإن أودعه مالا فأتلفه، ففيه وجهان.

 

(أحدهما)

أنه لا يجب ضمانه، لانه فرط في التسليم إليه.

 

(والثانى)

يجب ضمانه، لانه لم يرض بالاتلاف.

فان أقر بمال لم يقبل اقراره لانه حجر عليه لحظه فلا يصح اقراره بالمال كالصبى، ولانا لو قلنا يصح اقراره توصل بالاقرار إلى ابطال معنى الحجر، ومالا يلزمه بالاقرار والابتياع لا يلزمه إذا فك عنه الحجر، لانا أسقطنا حكم الاقرار والابتياع لحفظ المال، فلو قلنا: انه يلزمه إذا فك عنه الحجر لم يؤثر الحجر في حفظ المال، وان طلق امرأته صح الطلاق، لان الحجر لحفظ المال، والطلاق لا يضيع المال، بل يتوفر المال عليه وان خالع جاز، لانه إذا صح الطلاق بغير مال فلان يصح بالمال أولى.

ولا يجوز للمرأة أن تدفع إليه المال فان دفعته لم يصح القبض ولم تبرأ المرأة منه، فان تلف كان ذلك من ضمانها، وان تزوج من غير اذن الولى فالنكاح باطل لانه يجب به المال فإذا صححنا من غير اذن الولى تزوج من غير حاجة، فيؤدى إلى اتلاف المال، فان تزوج باذنه صح، لان الولى لا يأذن الا في موضع الحاجة،

فلا يؤدى إلى اتلاف ماله، فان باع باذنه ففيه وجهان.

 

(أحدهما)

يصح، لانه عقد معاوضة فملكه بالاذن كالنكاح.

 

(والثانى)

لا يصح، لان القصد منه المال، وهو محجور عليه في المال، فان حلف انعقدت يمينه، فإذا حنث كفر بالصوم، لانه مكلف ممنوع من التصرف بالمال، فصحت يمينه، وكفر بالصوم كالعبد، وان أحرم بالحج صح احرامه لانه من أهل العبادات، فان كان فرضا لم يمنع من اتمامه، ويجب الانفاق عليه إلى أن يفرغ منه لانه مال يحتاج إليه لاداء الفرض فوجب.

وان كان تطوعا - فان كان ما يحتاج إليه في الحج لا يزيد على نفقته - لزمه اتمامه، وان كان يزيد على نفقته - فان كان له كسب إذا أضيف إلى النفقة أمكنه الحج.

لزمه اتمامه، وان لم يمكنه حلله الولى من الاحرام، ويصير كالمحصر

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 376)

________________________________________

ويتحلل بالصوم دون الهدى، لانه محجور عليه في المال، فتحلل بالصوم دون الهدى كالعبد، وإن أقر بنسب ثبت النسب، لانه حق ليس بمال فقبل إقراره به كالحد وينفق على الولد من بيت المال، لان المقر محجور عليه في المال، فلا ينفق عليه من المال كالعبد.

وإن وجب له القصاص فله أن يقتص ويعفو.

لان القصد منه التشفي ودرك الغيظ، فان عفا على مال وجب المال، وإن عفا مطلقا أو عفا على غير مال - فان قلنا: إن القتل يوجب أحد الامرين من القصاص أو الدية وجبت الدية، ولم يصح عفوه عنها.

وان قلنا: إنه لا يوجب غير القصاص سقط ولم يجب المال.

(الشرح) قصة عبد الله بن جعفر رواها الشافعي في مسنده عن محمد بن الحسن عن أبى يوسف القاضى عن هشام بن عروة عن أبيه، وأخرجها أيضا البيهقى وقال: يقال ان أبا يوسف تفرد به، وليس كذلك، ثم أخرجها من طريق

الزهري المدنى القاضى عن هشام نحوه، ورواها أبو عبيدة في كتاب الاموال عن عفان بن مسلم عن حماد بن زيد عن هشام بن حسان عن ابن سيرين قال: قال عثمان لعلى رضى الله عنه ألا تأخذ على يد ابن أخيك - يعنى عبد الله بن جعفر - وتحجر عليه، اشترى سبخة - أي أرضا لا تنبت - بستين ألف درهم ما يسرنى أنها لى ببغلى، وقد ساق القصة البيهقى فقال: اشترى عبد الله بن جعفر أرضا سبخة فبلغ ذلك عليا رضى الله عنه فعزم على أن يسأل عثمان الحجر عليه فجاء عبد الله بن جعفر إلى الزبير فذكر ذلك له، فقال الزبير: أنا شريكك، فلما سأل على عثمان الحجر على عبد الله بن جعفر قال: كيف أحجر على من شريكه الزبير وفى رواية للبيهقي أن الثمن ستمائة ألف.

وقال الرافعى: الثمن ثلاثون ألفا.

قال الحافظ: لعله من غلط النساخ، والصواب بستين ألفا اه.

(قلت) وقد ورد التصحيف أيضا في قول عثمان رضى الله عنه: ما يسرنى أن تكون لى ببغلى، فوردت ببغلى.

ووردت بنعلى.

وروى القصة ابن حزم في المحلى فقال: بستين ألفا.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 377)

________________________________________

أما الاحكام فقد استدل بهذه الواقعة من أجاز الحجر على من كان سيئ التصرف، وبه قال على وعثمان وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن جعفر وشريح وعطاء والشافعي ومالك وأبو يوسف ومحمد.

قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: والجمهور على جواز الحجر على الكبير وخالف أبو حنيفة وبعض الظاهرية، ووافق أبو يوسف ومحمد.

قال الطحاوي ولم أر عن أحد من الصحابة منع الحجر على الكبير، ولا عن التابعين إلا عن إبراهيم وابن سيرين

وحكى صاحب البحر عن العترة أنه لا يجوز مطلقا، وعن أبى حنيفة أنه لا يجوز أن يسلم إليه ماله إلا بعد خمس وعشرين سنة ولا يعاد عليه الحجر إذا أسلم إليه ماله بعد خمس وعشرين، سواء أفسد دينه وماله أو أحدهما.

قال العمرانى في البيان: إذا بلغ الصبى مصلحا لماله ودينه ففك عنه الحجر ودفع إليه ماله ثم صار مفسدا لدينه وماله.

أو لماله، فانه يعاد الحجر عليه بلا خلاف على المذهب.

فأما إفساد الدين فمعروف، وأما إفساد المال، قال الشيخ أبو حامد: فيكون بأحد أمرين: إما بأن ينفقه في المعاصي.

مثل الزنا وشرب الخمر وغير ذلك.

والثانى أن ينفقه فيما لا مصلحة له فيه ولا غرض، مثل أن يشترى ما يساوى درهما بمائة درهم.

فأما إذا أكل الطيبات ولبس الناعم من الثياب، وأنفق على الفقهاء والفقراء فهذا ليس فيه إفساد للمال اه وأما إذا عاد مفسدا لدينه وهو مصلح لماله فهل يعاد الحجر عليه؟ فيه وجهان قال أبو العباس يعاد عليه الحجر لقوله تعالى (فان كان الذى عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل) فأثبت الولاية على السفيه وهذا سفيه.

ولانه معنى لو قارن البلوغ لمنع فك الحجر عنه، فإذا طرأ بعد فك الحجر عنه، اقتضى ذلك إعادة الحجر عليه كالتبذير وقال أبو إسحاق المروزى: لا يعاد عليه الحجر لان الحجر يراد لحفظ ماله فإذا كان مصلحا لماله لم يعد عليه الحجر، ويخالف إذا قارن إفساد الدين البلوغ لان الحجر إذا ثبت لم يزل عنه إلا بأمر قوى، فكذلك إذا فك عنه الحجر لم يعد عليه الا بأمر قوى.

هذا مذهبنا، وأنه إذا عاد مفسدا لماله ودينه عاد عليه

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 378)

________________________________________

الحجر، وبه قال عثمان وعلى والزبير وابن الزبير وعبد الله بن جعفر وعائشة أم المؤمنين وشريح ومالك وأبو يوسف ومحمد، وقد مضى خلاف أبى حنيفة لهم جميعا

دليلنا ما مضى في قوله تعالى (فان كان الذى عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل) قال الشافعي رضى الله عنه: والسفيه هو المفسد لماله ودينه، والضعيف هو الصبى والشيخ الفاني، والذى لا يستطيع أن يمل المجنون والسفيه اسم ذم يتناول المبذر، فأما قوله تعالى (سيقول السفهاء من الناس) الاية.

فأراد اليهود.

وقيل أراد المنافقين.

وقيل أراد اليهود والنصارى.

وقوله تعالى (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) الاية.

قيل أراد به النساء، وهو قول مجاهد وهذا القول لا يصح، انما تقول العرب للنساء سفائه أو سفيهات، لانه الاكثر في جمع فعلية، وروى عن عمر رضى الله عنه: من لم يتفقه فلا يتجر في سوقنا، قال القرطبى فكذلك قوله تعالى (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) يعنى الجهال بالاحكام، وقوله تعالى " أموالكم " أي أموالهم، كقوله تعالى " لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل " أي أموال بعضكم.

ويدل على ما ذكرناه أن حبان بن منقذ أصابه في عقله ضعف، فأتى أهله إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه أن يحجر عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لا تبع، فقال انى لا أصبر، فقال صلى الله عليه وسلم: من بايعته فقل: لا خلابة ولك الخيار ثلاثا " فلو كان الحجر لا يجوز على البالغ لانكر رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ سؤالهم، وانما لم يجبهم إلى الحجر لانه يحتمل أن يكون الذى يغبن به مما يتغابن الناس بمثله.

ويدل على ما ذكرناه اجماع الصحابة في قصة عبد الله بن جعفر حين قال عثمان رضى الله عنه: كيف أحجر على من شريكه الزبير، وانما قال هذا لان الزبير ابن العوام رضى الله عنه كان معروفا ببصره في التجارة، فدل على أن الحجر

جائز عندهم بالاجماع.

وروى أن عائشة رضى الله عنها كانت تنفق نفقة كثيرة، فقال ابن الزبير

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 379)

________________________________________

لتنتهين عائشة أو لاحجرن عليها.

فبلغها ذلك فحلفت أن لا تكلمه " فأتاها ابن الزبير واعتذر إليها فكفرت عن يمينها وكلمته، فلم ينكر عليه أحد.

ويقول: إن عائشة رضى الله عنها بالغة رشيدة، فكيف يحجر عليها؟ ولان كل معنى لو قارن البلوغ منع من تسليم المال إليه فإذا طرأ بعد البلوغ اقتضى إعادة الحجر عليه كالمجنون (فرع)

بعض الناس يكون شحيحا على نفسه جدا مع يساره وامتلائه فهل يحجر عليه؟ فيه وجهان حكاهما الصيمري، الصحيح أنه لا يحجر عليه (فرع)

أما في حالة التبذير والاسراف إذا صار ذلك منه بعد فك الحجر عنه فانه لا يعيد الحجر عليه إلا الحاكم.

وبه قال أبو يوسف.

وقال محمد: يصير بذلك محجورا عليه، وهو قول بعض اصحابنا الخراسانيين دليلنا أن عليا رضى الله عنه سأل عثمان رضى الله عنه أن يحجر على عبد الله ابن جعفر بن أبى طالب، فدل على أنه لا يصير محجورا عليه إلا بالحاكم، ولان الحجر بالتبذير مختلف فيه فافتقر إلى الحاكم، كالطلاق بالعنة لا يثبت الا بالحاكم لموضع الاختلاف فيه، فإذا حجر عليه لم ينظر في ماله إلا الحاكم، لانه حجر ثبت بالحاكم فكان هو الناظر فيه كالحجر على المفلس ويستحب أن يشهر الحاكم على ذلك، فيشهر هذا الحجر بوسائل الاشهار العرفية حسب كل زمان ومكان، ففى القرى مثلا أو في البلاد المتبدية بكون بالمنادى أو الاعلان الملصق، وفى المدن الكبرى يكون بالنشر في الصحف المقروءة، حتى لا يغتر الناس بمعاملته (فرع)

فإذا باع أو اشترى بعد الحجر كان ذلك باطلا، فان حصل له في يد

غيره مال استرجعه الحاكم منه إن كان باقيا، أو استرجع بدله ان كان تالفا.

وان حصل في يد المحجور عليه مال لغيره ببيع أو غيره استرده الحاكم منه ورد على مالكه، وان باعه غيره شيئا أو أقرضه إياه، ثم تلف في يده أو أتلفه فانه لا يجب عليه ضمانه، سواء علم بحجره أو لم يعلم، لانه ان علم بحجره فقد دخل على بصيرة، وان لم يعلم بحاله فقد قصر وفرط حيث بايع من لا يعلم حاله، ولا يلزمه إذا فك عنه الحجر، لان الحجر عليه لحفظ ماله، فلو ألزمناه ذلك بعد الحجر لبطل معنى الحجر، وهذا في ظاهر الحكم، وهل يلزمه ضمانه فيما بينه وبين

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 380)

________________________________________

الله تعالى؟ فيه وجهان حكاهما في الافصاح

(أحدهما)

يلزمه ذلك.

وبه قال الصيدلانى والعمراني، لان الحجر لا يبيح له مال غيره

(والثانى)

لا يلزمه.

قال في الافصاح: وهو الاصح، وان غصب في يده عينا فتلفت في يده أو أتلفها في يده أو يد مالكها وجب عليه ضمانها، لان السفيه أحسن حالا من الصبى والمجنون لانه مكلف، لانه ثبت أن الصبى والمجنون إذا أتلفا على غيرهما ما لا وجب عليهما الضمان، فكذلك هذا مثله وان أودعه رجل عينا فأتلفها، فهل يجب عليه الضمان.

فيه وجهان

(أحدهما)

لا يجب عليه ضمانها لان صاحبها عرضها للاتلاف بتسليمها إليه

(والثانى)

يجب عليه الضمان لان مالكها لم يرض بإتلافها، لان غير المحجور عليه لا يلزمه ذلك فالمحجور عليه أولى.

وإن أقر لغيره بعين في يده أو دين في ذمته لم يلزمه ذلك في الحال، ولا بعد فك الحجر، لانا لو قبلنا إقراره لبطلت فائدة الحجر، والحجر يقتضى حفظ ماله.

(فرع)

وان طلق السفيه أو خالع صح طلاقه وخلعه، الا أن المرأة لا تسلم

المال إليه، بل تسلم إلى وليه، فان سلمته إليه فتلف في يده أو أتلفه وجب عليها الضمان كما قلنا في البيع.

ولو أذن ولى السفيه المرأة بتسليم المال إلى السفيه فسلمته إليه فهل تبرأ.

فيه وجهان

(أحدهما)

تبرأ كما لو سلمت المرأة المال إلى العبد باذن سيده

(والثانى)

لا تبرأ لانه ليس من أهل القبض.

هذا مذهبنا وبه قال عامة أهل العلم وقال ابن أبى ليلى والنخعي وأبو يوسف: لا يصح طلاقه وخلعه دليلنا قوله تعالى " الطلاق مرتان، فامساك بمعروف أو تسريح باحسان " ولم يفرق بين السفيه وغيره، ولانه يستفيد بالطلاق، فانه ان كان قبل الدخول رجع إليه نصف المهر، وان كان بعد الدخول سقطت عنه النفقة والكسوة والمصالح.

ويحصل له ذلك بالخلع وما بذلت له (فرع)

ولا يصح نكاحه بغير اذن الولى لان النكاح يتضمن وجوب المال

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 381)

________________________________________

فلم يصح بغير إذن الولى، وإن احتاج إلى النكاح فالولى بالخيار إن شاء زوجه بنفسه وتولى العقد، وإن شاء أذن له ليعقد بنفسه، لانه عامل مكلف، وإنما حجر عليه لحفظ ماله بخلاف الصبى وإن تزوج السفيه بغير إذن الولى ودخل بها فما الذى يلزمه؟ قال المسعودي فيه ثلاثة أقوال (أحدها) لا يلزمه شئ كما لو اشترى شيئا يغير إذن وليه وأتلفه

(والثانى)

يلزمه مهر المثل، كما لو جنى على غيره (والثالث) يلزمه أقل شئ يستباح به البضع لان البضع لا يستباح بالاباحة.

وأما البغداديون من أصحابنا فقالوا: هي على وجهين

(أحدهما)

لا يلزمه شئ

(والثانى)

يلزمه مهر المثل.

(فرع)

وإن أذن الولى في البيع والشراء فباع أو اشترى فهل يصح.

فيه وجهان

(أحدهما)

يصح كما يصح النكاح إذا أذن له فيه

(والثانى)

لا يصح لان

البيع والشراء يختلف حكمه ساعة فساعة، لانه قد يزيد سعر السوق وينقص، فافتقر إلى عقد الولى، ولان البيع والشراء يتضمن المال لا غير.

وهو محجور عليه في المال بخلاف النكاح.

(فرع)

وإن حلف انعقدت يمينه، فإن حنث كفر بالصوم، ولا يكفر بالمال لانه محجور عليه في المال، وإن أحرم بالحج صح إحرامه لانه من أهل التكليف فإن كان فرضا لم يمنع من اتمامه وأنفق عليه من ماله ما يحتاج إليه، وان كان متطوعا - فان كان نفقته على إتمامه لا تزيد على نفقة الحضر - لم يجز تحليله، وان كانت تزيد على نفقة الحضر، فان كان له كسب وقال أنا أتمم النفقة بالكسب لم يحلل، وان لم يكن له كسب حلله الولى ويصير كالمحصر، فيتحلل بالصوم دون الهدى لانه محجور عليه في المال فأشبه المفلس في هذه الامور كلها.

وبهذا قال أصحاب أحمد رضى الله عنه (فرع)

وان أقر بنسب يلحقه في الظاهر ثبت النسب، لان ذلك لا يتضمن اتلاف المال.

وان أقر بنسب من يلزمه نفقته لم ينفق عليه من ماله بل ينفق عليه من بيت المال، وان وجب له القصاص فله أن يقبض لان الغرض منه التشفي، وان عفا عنه على مال كان الامر له.

وان عفا مطلقا أو على غير مال.

فان قلنا

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 382)

________________________________________

ان الواجب القصاص لا غير صح عفوه.

وان قلنا الواجب أحد الامرين لم يصح عفوه عن المال وان أقر بجناية العمد صح اقراره لانه غير متهم في ذلك، فان أراد المقر له العفو على المال.

قال الطبري: فان قلنا ان موجب العمد القود ثبت المال، لان الذى ثبت باقراره هو القتل والقطع دون المال.

وان قلنا ان موجبه أحد الامرين فهل يثبت.

اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: فيه قولان كالعبد إذا أقر بالسرقة فانه يقبل في القطع، وهل يقبل في المال، فيه قولان.

ومنهم من قال: له أخذ المال قولا واحدا، لان الواجب أحدهما لا بعينه، وكل واحد منهما بدل عن الآخر، وتعلقهما بسبب واحد.

وأما السرقة ففيها حكمان

(أحدهما)

القطع لله تعالى لانه حق الله تبارك وتعالى، والاخر للآدمي فجاز ثبوت أحدهما دون الاخر.

ولهذا لو شهد رجل وامرأتان على السرقة ثبت المال دون القطع، ولو شهدا على القطع لم يثبتا.

وان دبر السفيه أوصى - على ما سنفصله ان شاء الله في أحكام المدبر - فاختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال فيه قولان كالصبى، ومنهم من قال: يصح قولا واحدا قال الطبري وهو الصحيح، لان الصغير لا حكم لقوله ولا يصح شئ من اقراره بخلاف السفيه فانه يصح اقراره بالنسب (فرع)

المرتد إذا قلنا ان ملكيته باقية على ماله فانه محجور عليه، وهل يفتقر إلى حجر الحاكم، فيه قولان.

وإذا زال السفه فانه لا ينفك الحجر عنه الا بحكم الحاكم، لانه حجر ثبت بالحاكم فلم يزل من غير حكمه.

والله تعالى أعلم وهو الموفق للصواب.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 383)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله: كتاب الصلح إذا كان لرجل عند رجل عين في يده، أو دين في ذمته، جاز أن يصالح منه والدليل عليه ما رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " المسلمون على شروطهم، والصلح جائز بين المسلمين " فإن صالح عن المال على مال، فهو بيع يثبت فيه ما يثبت في البيع من الخيار، ويحرم فيه ما يحرم في البيع

من الغرر، والجهالة، والربا، ويفسد بما يفسد به البيع من الشروط الفاسدة، لانه باع ماله بمال، فكان حكمه حكم البيع فيما ذكرناه، وإن صالحه من دين على دين وتفرقا قبل القبض لم يصح، لانه بيع دين بدين تفرقا فيه قبل القبض.

فإن صالحه من دين على عين، وتفرقا قبل القبض، ففيه وجهان.

أحدهما: لا يصح، لانهما تفرقا والعوض والمعوض في ضمان واحد، فأشبه إذا تفرقا عن دين بدين.

والثانى: يصح، لانه بيع عين بدين فصار كبيع العين بالثمن في الذمه، وان صالح عن المال على منفعه فهو إجارة يثبت فيه ما يثبت في الاجارة من الخيار.

ويبطل بما تبطل به الاجارة من الجهالة.

لانه استأجر منفعة بالمال فكان حكمه فيما ذكرناه حكم الاجارة.

 

(فصل)

وإن صالح من دار على نصفها ففيه وجهان

(أحدهما)

لا يصح، لانه ابتاع ماله بماله

(والثانى)

يصح، لانه لما عقد بلفظ الصلح صار كأنه وهب النصف وأخذ النصف وإن صالحه من الدار على سكناها سنة ففيه وجهان.

 

(أحدهما)

لا يصح، لانه ابتاع داره بمنفعتها

(والثانى)

يصح، لانه لما عقد بلفظ الصلح صار كما لو أخذ الدار وأعاره سكناها سنة وإن صالحه من ألف درهم على خمسمائة ففيه وجهان

(أحدهما)

لا يصح، لانه بيع ألف بخمسمائة

(والثانى)

أنه يصح لانه لما عقد بلفظ الصلح جعل كأنه قال أبرأتك من خمسمائة وأعطني خمسمائة.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 384)

________________________________________

(الشرح) حديث أبى هريرة أخرجه أبو داود والحاكم من طريق كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عن أبى هريرة.

قال الحاكم: على شرطهما وصححه ابن حبان، ورواه الترمذي وحسنه بزيادة " المسلمون على شروطهم إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما " عن عمرو بن عوف وقال الترمذي: هذا حديث حسن

صحيح.

ورواه أبو داود وابن ماجه والترمذي أيضا عن عمرو بن عوف بلفظ " إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما " وأخرجه الحاكم وابن حبان في إسناده عند هؤلاء جميعا كثير ابن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه وهو ضعيف جدا قال فيه الشافعي وأبو داود هو ركن من أركان الكذب، وقال النسائي: ليس بثقة.

وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: لَهُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جده نسخة موضوعة، وتركه أحمد، وقد نوقش الترمذي في تصحيحه لهذا الحديث.

قال الذهبي: فروى من حديثه " الصلح جائز بين المسلمين " وصححه فلهذا لا يعتمد العلماء على تصحيحه.

وقال ابن كثير في ارشاده: قد نوقش أبو عيسى الترمذي في تصحيحه هذا الحديث وما شاكله اه.

وقد اعتذر له الحافظ ابن حجر العسقلاني فقال في بلوغ المرام: وكأنه اعتبره بكثرة طرقه، وقد صححه ابن حبان من طريق أبى هريرة، وقال في الفتح: وكأنه اعتبره بكثرة طرقه، وذلك لانه رواه أبو داود والحاكم من طريق كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عن أبى هريرة اه.

وأخرجه أيضا الحاكم من طريق أنس، وأخرجه أيضا من حديث عائشة، وكذلك الدارقطني.

وأخرجه أحمد من حديث سليمان بن بلال عن العلاء عن أبيه عن أبى هريرة وأخرجه ابن أبى شيبة عن عطاء مرسلا وأخرجه البيهقى موقوفا على عمر كتبه إلى أبى موسى الاشعري، وقد صرح الحافظ ابن حجر بأن إسناد حديث أنس وإسناد حديث عائشة واهيان، وضعف ابن حزم حديث أبى هريرة الذى ساقه المصنف، وكذلك ضعفه عبد الحق.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 385)

________________________________________

وقد روى من طريق عبد الله بن الحسين المصيصى وهو ثقة، وكثير بن زيد المذكور، قال أبو زرعة صدوق، ووثقه ابن معين، والوليد بن رباح صدوق أيضا، ولا يخفى أن الاحاديث المذكورة، والطرق يشهد بعضها لبعض.

قال الشوكاني: فأقل أحوالها أن يكون المتن الذى اجتمعت عليه حسنا.

أما لغات الفصل: فالصلح هو التوفيق، ومنه صلح الحديبية، والصلاح هو الخير والصواب وصالح للامر أي له أهلية القيام به.

وفى الدين أقسام: صلح المسلم مع الكافر.

والصلح بين الزوجين.

والصلح بين الفئتين الباغية والعادلة.

والصلح بين المقاضين.

والصلح في الجراح كالعفو على المال.

والصلح لقطع الخصومة إذا وقعت المزاحمة إما في الاملاك أو في المشتركات وهذا الصلح الاخير هو الذى يتكلم فيه أصحابنا من أهل الفروع، أما الاحكام: فإن الاصل في جواز الصلح الكتاب والسنة والاجماع.

أما الكتاب فقوله تعالى " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما الاية " فأمر الله تعالى بالصلح بين المؤمنين.

وقوله تعالى " وان إمرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا، والصلح خير " وقوله تعالى " وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ان يريدا اصلاحا يوفق الله بينهما " فدلت هذه الايات على جواز الصلح.

أما السنة فقد روى البخاري وأحمد والترمذي وصححه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " من كانت عنده مظلمة لاخيه من عرضه أو شئ فليتحلل منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم ان كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته.

وان لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه " لفظ البخاري هكذا أما الاخران فقالا فيه " مظلمة من مال أو عرض " وحديث أبى هريرة الذى ساقة المصنف وأحاديث أخرى تأتى في فصول الصلح

الاتية ان شاء الله تعالى.

وأما الاجماع فإن الامة أجمعت على جوازه.

إذا ثبت هذا: فإن الصلح فرع على غيره، وهو ينقسم على خمسة أقسام:

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 386)

________________________________________

قسم هو فرع على البيع، وهو أن يدعى عليه عينا في يده فيقر له بها فيصالحه من ذلك على عين أو دين، فهذا حكمه حكم ما لو اشترى منه عينا بعين أخرى أو بدين، فيعتبر فيه ما يعتبر في البيع من الربا.

ويبطل بما يبطل فيه البيع من الغرر وثبت فيه ما ثبت في البيع من الخيار، لان ذلك مع تلفظ الصلح وإن ادعى عليه دينا في ذمته فأقر له به ثم صالحه منه على ذمته وتفرقا قبل القبض لم يصح الصلح، كما لا يصح في بيع الدين بالدين، وإن صالحه منه على عين وقبض العين قبل التفرق صح الصلح - إذا كان الدين مما يصح أخذ العوض عنه وإن افترقا عن المجلس قبل فبض العين فهل يصح؟ فيه وجهان

(أحدهما)

لا يصح لانهما افترقا والعوض في ضمان واحد فلم يصح، كما لو صالحه من دين على دين وتفرقا قبل القبض

(والثانى)

يصح كما يصح في بيع العين بالدين القسم الثاني: صلح هو فرع على الاجارة، وهو أن يدعى عليه عينا في يده أو دينا في ذمته فيقر له به، ثم يصالحه من ذلك على سكنى داره شهرا، أو استعمال سيارته مدة معلومة: ويملك المقر ما ادعى عليه به، ويملك المقر له منفعة الدار والسيارة، كما لو استأجر منه ذلك، ويشترط فيه ما يشترط في الاجارة على ما يأتي بيانه فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الْقِسْمُ الثالث: صلح هو فرع على الابراء والحطيطة.

وهو أن يدعى عليه ألفا في ذمته فيقر له بها فيصالحه على بعضها.

قال الشيخ أبو حامد: فهذا ينقسم

قسمين

(أحدهما)

أن يقول الذى عليه الحق لمن له الحق: أدفع اليك خمسمائة بشرط أن تسقط عنى الخمسمائة الاخرى، أو يقول صاحب الحق: ادفع إلى خمسمائة على أن أسقط عنك الخمسمائة الاخرى.

فهذا لا يجوز، فإذا فعلا ذلك كان باطلا، وكان لصاحب الالف المقر له أن يطالب بالخمسمائة الاخرى، لانه دفع إليه بعض حقه وشرطه شرطا لا يلزمه، فسقط الشرط، ووجب الالف بالاقرار

(والثانى)

أن يقول أدفع اليك خمسمائة وأبرئني من خمسمائة، أو يقول الذى له الحق: ادفع إلى خمسمائة فقد أبرأتك من الخمسمائة الاخرى، فإن هذا

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 387)

________________________________________

يجوز، إذ لم يدخل فيه حرف الشرط.

وهو قوله عى أن تبرئني، أو بشرط أن تبرئني، لانه كان له حق فأخذ بعضه وأبرأ من البعض.

اه وقد قال المصنف: وإن صالحه من ألف على خمسمائة ففيه وجهان.

 

(أحدهما)

لا يصح كما لو باع ألفا بخمسمائة

(والثانى)

يصح لانه لما عقد بلفظ الصلح صار كأنه قال أبرأتك من خمسمائة وأعطني خمسمائة.

وقال المسعودي: إذا ادعى عليه ألف درهم حالة فأقر له بها ثم صالحه على خمسمائة مؤجلة صح الصلح ولا يلزم الاجل.

وان ادعى عليه ألف درهم مؤجلة فأقر له بها ثم صالحا عنها على خمسمائة حالة لم يصح، لانه جعل الخمسمائة التى تركها عوضا للحلول.

وذلك لا يجوز أخذ العوض عليه.

وإن ادعى عليه ألف درهم صحاحا فأقر له بها ثم صالحه على خمسمائة مكسرة قال المسعودي: صح الصلح، ولا يلزمه أخذ المكسرة، بل يجب له خمسمائة صحاح، لان الصحة صفة فلا يصح الابراء منها.

اه القسم الرابع: صلح هو فرع على الهبة، وهو أن يدعى عليه دارا فيقر بها.

فقال المقر: أدفع اليك نصفها ووهبتك النصف الاخر صحت الهبة، لانها مجردة

غير معلقة على شرط، وان كان بلفظ الصلح بأن قال المقر للمقر له: صالحني من هذه الدار بنصفها فذكر المصنف أنها على وجهين

(أحدهما)

لا يصح، لانه باع ماله بماله

(والثانى)

ولم يذكر ابن الصباغ غيره أنه يصح، لانه لما عقد بلفظ الصلح صار كما لو قال: ادفع إلى نصفها ووهبتك النصف الثاني القسم الخامس: صلح هو فرع على العارية بأن يدعى عليه دارا في يده فأقر له بها، ثم قال المقر له للمقر: صالحني عن هذه الدار بسكناها سنة، فقال المقر صالحتك، صح الصلح، ويكون كأن المقر له أعار المقر أن يسكنها سنة.

قال المسعودي " وللمقر له أن يرجع في عاريته " وذكر المصنف أنها على وجهين.

 

(أحدهما)

هذا

(والثانى)

لا يصح لانه ابتاع داره بمنفعتها (فرع)

قال الشافعي رضى الله عنه " فإن صالح الرجل أخاه من مورثه، فإن عرفا ما صالحه عليه بشئ يجوز في البيع جاز.

وهذا كما قال إذا ورث اثنان

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 388)

________________________________________

من ابنهما أو أخيهما مالا فصالح أحدهما الآخر عن نصيبه، فإن هذا فرع للبيع، فإذا شاهد التركة وعرف العوض صح الصلح كما لو اشتراه بلفظ الشراء (فرع)

وإن صالحه عن الدارهم على دنانير أو على الدنانير على دارهم، فإن ذلك صرف، ويشترط فيه قبض العوض في المجلس كما قلنا في الصرف.

(فرع)

إذا أتلف عليه ثوبا أو حيوانا قيمته دينار فأقر له به، ثم صالحه من ذلك على أكثر منه، لم يصح الصلح دليلنا أن الواجب في ذمته قيمة المتلف فلم يصح الصلح على أكثر منه، كما لو غصب منه دينارا ثم صالحه على أكثر منه، وإن صالحه عن قيمة الحيوان بعوض وجعله مؤجلا لم يتأجل العوض ولم يصح الصلح.

وقال أبو حنيفة يصح دليلنا أن الواجب هو دين حال في ذمته، فإذا كان العوض عنه مؤجلا كان

بيع الدين بالدين.

وذلك لا يجوز وإن ادعى عليه مالا مجهولا فأقر له به وصالحه عليه بعوض لم يصح الصلح.

وقال أبو حنيفة " يصح " دليلنا: أن ذلك معاوضة، ولهذا ثبت بالشقص فيه الشفعة، فلم يصح في المجهول كالبيع، قال الشافعي رضى الله عنه " إذا ادعى على رجل شيئا مجملا فأقر له به ثم صالحه منه على شئ صح الصلح " قال الشيخ أبو حامد أراد إذا كان المعقود عليه معلوما فيما بين المتعاقدين فيصح وإن لم يسمياه، كما إذا قال بعت منك الشئ الذى أعرفه أنا وأنت بكذا، فقال ابتعت فإنه يصح والله تعالى أعلم وقد أجمل الخرقى من الحنابلة الصلح الجائز عندهم بقوله والصلح الذى يجوز هو أن يكون للمدعى حق لا يعلمه المدعى عليه فيصطلحان على بعضه، فإن كان يعلم ما عليه فجحده فالصلح باطل.

اه، وبهذا قال مالك وأبو حنيفة والثوري أن الصلح على الانكار صحيح، ولكن الشافعي قال لا يصح لانه عاوض على ما لم يثبت له، فلم تصح المعاوضة كما لو باع مال غيره، ولانه عقد معاوضة خلا عن العوض في أحد جانبيه، فبطل كالصلح على حد القذف

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 389)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

وإن ادعى عليه عينا في يده أو دينا في ذمته فأنكر المدعى عليه فصالحه منه على عوض لم يصح الصلح، لان المدعى اعتاض عما لا يملكه فصار كمن باع مال غيره.

والمدعى عليه عاوض على ملكه، فصار كمن ابتاع مال نفسه من وكيله.

فان جاء أجنبي إلى المدعى وصدقه على ما ادعاه وقال صالحني منه على مال لم

يخل إما أن يكون المدعى عينا أو دينا، فان كان دينا نظرت فإن صالحه عن المدعى عليه صح الصلح، لانه إن كان قد وكله المدعى عليه فقد قضى دينه بإذنه، وان لم يوكله فقد قضى دينه بغير إذنه.

وذلك يجوز فان صالحه عن نفسه وقال: صالحني عن هذا الدين ليكون لى في ذمة المدعى عليه، ففيه وجهان بناء على الوجهين في بيع الدين من غير من عليه

(أحدهما)

لا يصح، لانه لا يقدر على تسليم ما في ذمة المدعى عليه

(والثانى)

يصح كما لو اشترى وديعة في يد غيره، وان كان المدعى عينا، فان صالحه عن المدعى عليه وقال: قد أقر لك في الباطن ووكلني في مصالحتك، فصدقه المدعى صح الصلح، لان الاعتبار بالمتعاقدين وقد اتفقا على ما يجوز العقد عليه فجاز.

ثم ينظر فيه فان كان قد أذن له في الصلح ملك المدعى عليه العين لانه ابتاعه له وكيله، وان لم يكن أذن له في الصلح لم يملك المدعى عليه العين لانه ابتاع له عينا بغير اذنه فلم يملكه.

ومن أصحابنا من قال يملكه ويصير هذا الصلح استنقاذا لماله، كما قال الشافعي رحمه الله في رجل في يده دار فجعلها مسجدا، ثم ادعاها رجل فأنكر فاستنقذه الجيران من المدعى بغير اذن المدعى عليه أنه يجوز ذلك.

وان صالحه لنفسه فقال أنا أعلم أنه لك فصالحني فأنا أقدر على أخذه، صح الصلح لانه بمنزلة بيع المغصوب ممن يقدر على أخذه، فان أخذه استقر الصلح، وإن لم يقدر على أخذه فهو بالخيار بين أن يفسخ ويرجع إلى ما دفع وبين أن يصبر إلى أن يقدر، كمن ابتاع عبدا فأبق قبل القبض.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 390)

________________________________________

(الشرح) الاحكام: إذا ادعى عليه عينا في يده أو دينا في ذمته فأنكره

المدعى عليه ثم صالحه على عين أو دين في ذمته لم يصح الصلح بلا خلاف على المذهب، لانه ابتاع ملكه، وإن ادعى عليه ألف درهم في ذمته، فأنكره، ثم صالحه على خمسمائة منها وقلنا: يصح صلح الحطيطه فهل يصح هذا الصلح؟ فيه وجهان حكاهما في الابانة.

 

(أحدهما)

لا يصح، لانه صلح على الانكار فلم يصح، كما لو ادعى عليه عينا فأنكره

(والثانى)

يصح، والفرق بينهما أن في صلح المعاوضة يحتاج إلى ثبوت العوضين برضى المتعاقدين وليس العين المدعى بها ثابتة للمدعى حتى يأخذ عليها عوضا، وههنا هو إبراء فلا يحتاج إلى رضاء صاحبه، هذا مذهبنا، وأن الصلح على الانكار لا يصح.

وقال ابن أبى ليلى: إن أنكره لم يصح الصلح، وإن سكت صح الصلح.

دليلنا: قوله تعالى " لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل " والصلح على الانكار من أكل المال بالباطل، لان من ادعى على غيره دارا في يده فأنكر ذلك المدعى عليه ثم صالحه عنها بعوض فقد ابتاع ماله بماله، وهذا لا يجوز، وَرُوِيَ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لبلال بن الحارث " يا بلال اعلم أن الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما ".

وهذا المدعى لا يخلو إما أن يكون كاذبا أو صادقا، فان كان كاذبا فهذا الصلح الذى يصالح به يحل له ما هو حرام عليه، وإن كان صادقا فانه يستحق جميع ما يدعيه، فإذا أخذ بعضه بالصلح فالصلح حرم عليه الباقي الذى كان حلالا له، فوجب أن لا يجوز، هكذا ذكر الشيخ أبو حامد، ولان البيع لا يجوز مع الانكار وهو أن يدعى عينا في يد غيره فينكره فيبيعها من غيره، فان البيع لا يصح، فكذلك الصلح.

إذا ثبت هذا: فادعى على رجل ألفا في ذمته فأنكره عنها، ثم ان المدعى

أبرأه منها صحت البراءة، وهل يشترط في صحة البراءة القبول؟ على وجهين يأتي ذكرهما فيما بعد ان شاء الله تعالى.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 391)

________________________________________

وانما صحت البراءة على الانكار لانها ليست بمعاوضه، والذى جعل المالكية والحنفية والحنابلة يجيزن الصلح مع الانكار.

ولا يفرقون بين الابراء والشرط قاعدتهم في أن الصلح يبيح لكل واحد منهما ما كان محرما عليه قبله، كالصلح بمعنى الهبة، فانه يحل للموهوب له ما كان حراما عليه، والاسقاط يحل له ترك أداء ما كان واجبا عليه، وقالوا: ان هذا لا يدخل في حديث " الا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا " لان الصلح الفاسد لا يحل الحرام وانما معناه ما يتوصل به إلى تناول المحرم مع بقائه على تحريمه، كما لو صالحه على استرقاق حر، أو احلال بضع محرم، أو صالحه بخمر أو خنزير، وليس ما نحن فيه كذلك.

قلت: فان ادعى عليه ألفا في ذمته فأنكره عنها ثم صالحه على بعضها وقبض ذلك وأبرأه عن الحق الذى عليه.

قال الشافعي رضى الله عنه: فالصلح باطل والابراء لا يلزم، فأما الصلح فيبطل لانه صلح على انكار وعلى المصالح رد ما أخذه، وأما البراءة فلا تلزمه لانه انما ابرأه براءة قبض، واستيفاء وهو أن يسلم له ما أحذه، فإذا لم يسلم له ذلك لم تلزمه البراءة.

هذا إذا لم يعلم المدعى بفساد الصلح، وأما إذا علم بفساد الصلح فأبرأ صحت براءته وهذا كما تقول في رجل اشترى عبدا شراء فاسدا.

فقال البائع للمشترى اعتق هذا العبد، ولم يعلم البائع بفساد البيع فأعتقه - قال الشيخ أبو حامد: لم يصح العتق، لان البائع لم يأمره باعتاقه عن نفسه، وانما أمره أن يعتقه يظن أنه قد ملكه بالشراء، وان علم البائع بفساد البيع فأمر المشترى باعتاقه فأعتقه صح العتق، وان عليه ألفا في ذمته فأقر له بها فصالحه عنها صلح حطيطة، وأبرأه

على خمسمائة فان قبض منها خمسمائة، وأبرأه عن الباقي ثم خرجت الخمسمائة التى قبض مستحقة - قال الشيخ أبو حامد: فانه يرجع عليه بخمسمائة التى أخذها والابراء صحيح، لانه لم يبرئه ليسلم له ما قبض بل أبرأه عن حق هو مقر له به والابراء صادف حقه المقر به فنفذ ذلك وليس يتعلق بسلامة ما قبضه وعدم سلامته (فرع)

وإذا ادعى عينا فصالحه منها على عوض ثم اختلفا فقال المدعى: انما صالحت منها على الانكار فالصلح باطل، ولى الرجوع إلى أصل الخصومة.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 392)

________________________________________

وقال المدعى عليه لا، بل كنت أقررت لك بها ثم أنكرت ثم صالحت منها.

قال الشيخ أبو حامد: فالقول قول المدعى لان الاصل هو الصلح على الانكار الذى قد عرف إلى أن تقوم البينة بإقراره لها قبل ذلك.

(فرع)

وإن ادعى رجل على رجل حقا فأنكر فجاء أجنبي إلى المدعى وقال أنت صادق في دعواك فصالحني عليه - فلا يخلو إما أن يكون المدعى دينا أو عينا، فإن كان المدعى دينا نظرت، فإن صالحه عن المدعى عليه صح الصلح لانه إن كان أذن له في ذلك فهو وكيله والتوكيل في الصلح جائز، وإن لم يكون وكيله ولم يوكله المدعى عليه، فقد قضى عن غيره دينا، ويجوز للانسان أن يقضى عن غيره دينا بغير إذنه، فإذا أخذ المدعى المال ملكه وانقطعت دعواه.

وهل للاجنبي أن يرجع على المدعى عليه بما دفع؟ ينظر فيه، فإن صالح عنه بإذنه ودفع بإذنه رجع عليه، وإن صالح عنه باذنه، ودفع بغير إذنه لم يرجع عليه بشئ لانه متطوع بالدفع.

وإن صالح الأجنبي ليكون الدين له، فان الشيخ أبا إسحاق (المصنف) قال: هلى يصح الصلح؟ فيه وجهان بناء على جواز بيع الدين من غير من هو عليه، وقال ابن الصباغ: لا يجوز وجها واحدا، واليه أشار الشيخ أبو حامد، لان

الوجهين في بيع الدين مع الاقرار، فأما مع الانكار فلا يصح وجها واحدا كبيع العين المغصوبة ممن لا يقدر على قبضها.

وقال أصحاب أحمد: وإن صالح عند المنكر أجنبي صح، سواء اعترف للمدعى بصحة دعواه أو لم يعترف، وسواء كان باذنه أو غير إذنه، لان عليا وأبا قتادة رضى الله عنهما قضيا عن الميت فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا وفى الموضعين - أعنى إن كان باذنه أو بغير إذنه - لم يرجع عليه بشئ، لانه أدعى عنه مالا يلزمه أداؤه، أما إذا أذن له بالاداء عنه رجع إليه، وهذا كله كقولنا في المذهب.

(قلت) وإن كان المدعى عينا، فان صالح عن المدعى عليه بأن يقول للمدعى: المدعى عليه مقر لك بها في الباطن، وقد وكلنى في مصالحتك فصالحه عنه صح الصلح، لان الاعتبار بالمتعاقدين، وقد اتفقا على ما يجوز العقد عليه فإذا صالحه

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 393)

________________________________________

ملك المدعى ما يأخذه وانقطع حقه من العين، وهل يملك المدعى عليه العين المدعى بها، ينظر فيه، فإن كان قد وكل الأجنبي ملك العين، فان كان الأجنبي قد دفع العوض من مال نفسه باذن المدعى عليه، وإن دفع بغير إذنه لم يرجع عليه كالدين، لانه متطوع، لانه إنما أذن له في العقد دون الدفع.

وإن كان المدعى عليه لم يوكل الأجنبي في الصلح فهل يملك العين؟ فيه وجهان المنصوص أنه لا يملكها.

وحكى أبو على في الافصاح أنه يملكها كما قال الشافعي رضى الله عنه إذا اشترى رجل أرضا وبناها مسجدا، وجاء رجل فادعاها، فان صدقه لزمه قيمتها، وإن كذبه فجاء رجل من جيران المسجد فصالحه صح الصلح لانه بذل مال على وجه البر.

قال العمرانى في البيان: وهذا ليس بصحيح لانه لا يجوز أن يملك غيره بغير ولاية ولا وكالة، قال: فعلى هذا يكون الصلح باطلا

في الباطن، صحيحا في الظاهر.

(قلت) وأما المسألة المذكورة في المسجد فلا تشبه هذه، لان الواجب على المدعى عليه القيمة، لانه قد وقفها، ويجوز الصلح عما في ذمة غيره بغير إذنه كما سبق أن بينا ذلك.

وإن قال الأجنبي للمدعى: المدعى عليه منكر لك ولكن صالحني عما ادعيت لتكون العين له.

فهل يصح الصلح؟ قال المسعودي: فيه وجهان.

وأما إذا قال الأجنبي: أنت صادق في دعواك، فصالحني لتكون هذه العين إلى فانى قادر على انتزاعها فيصح الصلح كما يصح أن تبتاع شيئا في يد غاصب، فان قدر الأجنبي على انتزاعها استقر الصلح، وان لم يقدر كان له الخيار في فسخ الصلح، كمن ابتاع عينا في يد غاصب ولم يقدر على انتزاعها.

إذا ثبت هذا: فان المدعى عليه قد وكل الأجنبي في أن يصالح عنه، فهل يصح هذا التوكيل وهذا الصلح فيما بينه وبين الله تعالى؟ اختلف أصحابنا فيه، فقال أبو العباس لا يجوز له الانكار لانه كاذب، الا أنه يجوز له بعد ذلك أن يوكل ليصالح عنه على ما ذكرناه، قال المصنف: لا يجوز له ذلك بل يلزمه الاقرار به لصاحبه، ولا يجوز له الوكالة لمصالحة عنه إذا غصب العين أو اشتراها من غاصب وهو يعلم ذلك.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 394)

________________________________________

فأما إذا مات أبوه أو من يرثه وخلف له هذه العين، فجاء رجل فادعاها وأنكره ولا يعلم صدقه وخاف من اليمين، وخاف ان أقربها للمدعى أن يأخذها فيجوز أن يوكل الأجنبي في الصلح على ما بيناه، لتزول عنه الشبهة.

(فرع)

إذا صالح الأجنبي عن المدعى عليه بعوض بعينه، فوجد المدعى بالعوض الذى قبضه من الأجنبي عيبا كان له الرد بالعيب، ولا يرجع ببدله عليه

ولكن ينفسخ عقد الصلح ويرجع إلى خصومة المدعى عليه، وكذلك إذا خرج العوض مستحقا، كما لو ابتاع من رجل عينا فوجد فيها عيبا فردها أو خرجت مستحقة، فانه لا يطالبه ببدلها، وان صالحه على دراهم أو دنانير في ذمته.

قال العمرانى: ثم سلم إليه دراهم أو دنانير فوجد بها عيبها فردها أو خرجت مستحقه فله أن يطالبه ببدلها كما قال النووي رضى الله عنه في البيع على ما مضى في المجموع (فرع)

وان ادعى عينا في يد رجل فأنكره المدعى عليه، فقال المدعى: أعطيك ألف درهم على أن تقر لى بها ففعل لم يكن صلحا ولا يلزم الالف، وبدله حرام، وأمده حرام، وهل يكون اقرارا؟ فيه وجهان حكاهما الطبري في العدة، قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

إذا أقر المدعى عليه بالحق ثم أنكر جاز الصلح فان أنكر فصولح ثم أقر كان الصلح باطلا، لان الاقرار المتقدم لا يبطل بالانكار الحادث فيصح الصلح إذا أنكر بعد اقراره لوجوده بعد لزوم الحق، ولم يصح الصلح إذا كان عقيب انكاره وقبل اقراره لوجوده قبل لزوم الحق.

 

(فصل)

فلو أنكر الحق فقامت عليه البينة جاز الصلح عليه للزوم الحق بالبينة كلزومه بالاقرار لفظا ويقاس عليه ما لو نكل المدعى عليه فحلف المدعى من طريق الاولى، إذ اليمين المردودة كالاقرار على أحد القولين.

(الشرح) إذا أقر المدعى عليه بالحق فقد لزم الحق فإذا أنكر جاز أن يعقدا عقد الصلح على ما مر من أمر المنكر ابتداء، فإذا عقد الصلح بينهما بعد الانكار ثم أقر بأن عاد إلى اعترافه الاول كان الصلح باطلا لان القرار تقدم على الانكار

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 395)

________________________________________

وكان الانكار حادثا، فيصح الصلح إذا أنكر بعد الاقرار لحدوث الانكار بعد لزوم الحق، ولان الصلح على الاقرار هضم للحق، ولان الحق ثبت قبل إنكاره

والصلح من بواعثه وأسبابه وقوع النزاع بالانكار (فرع)

إذا أنكر المدعى عليه ثم قامت البينة فقد لزم الحق كلزومه بالاقرار ومن ثم يجوز الصلح، ومثله لو نكل المدعى عليه عن اليمين فحلف المدعى فقد لزم الحق وثبت للمدعى.

لان اليمين المردودة كالاقرار وكالبينة، ومن ثم جاز الصلح.

وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:

(فصل)

وإن ادعى عليه مالا فأنكره، ثم قال صالحني عنه لم يكن ذلك إقرارا له بالمال، لانه يحتمل أنه أراد قطع الخصومة، فلم يجعل ذلك اقرارا، فان قال بعنى ذلك ففيه وجهان.

 

(أحدهما)

لا يجعل ذلك اقرارا.

وهو قول الشيخ أبى حامد الاسفرابنى، لان البيع والصلح واحد، فإذا لم يكن الصلح اقرارا لم يكن البيع اقرارا

(والثانى)

وهو قول شيخنا القاضى أبى الطيب أنه يجعل ذلك اقرارا لان البيع تمليك، والتمليك لا يصح الا ممن يملك (الشرح) إذا ادعى على رجل دينا في ذمته أو عينا في يده فأنكره المدعى عليه ثم قال صالحني عن ذلك بعوض لم يكن ذلك اقرارا من المدعى عليه، لان الصلح قد يراد به المعاوضة وقد يراد به قطع الخصومة والدعوى، فإذا كان الامر يحتملهما لم نجعل ذلك اقرارا.

وان قال المدعى عليه للمدعى بعنى هذه العين أو ملكني اياها، فحكى المصنف وابن الصباغ في ذلك وجهين

(أحدهما)

وهو قول الشيخ أبى حامد أنه لا يكون اقرارا لان الصلح والبيع بمعنى واحد.

فإذا لم يكن قوله صالحني اقرارا، فكذلك قوله بعنى

(والثانى)

يكون اقرارا، وهو قول القاضى أبى الطيب، ولم يذكر الشيخ أبو حامد في التعليق غيره.

وهو قول أبى حنيفة رضى الله عنه.

لان قوله بعنى

أو ملكني يتضمن الاقرار له بالملك

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 396)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

وإن أخرج جناحا إلى طريق لم يخل، اما أن يكون الطريق نافذا أو غير نافذ، فان كان الطريق نافذا نظرت فان كان الجناح لا يضر بالمارة جاز، ولم يعترض عليه.

واختلفوا في علته.

فمن أصحابنا من قال يجوز، لانه ارتفاق بما لم يتعين عليه ملك أحد من غير اضرار فجاز كالمشى في الطريق، ومنهم من قال يجوز لان الهواء تابع للقرار، فلما ملك الارتفاق بالطريق من غير اصرار ملك الارتفاق بالهواء من غير اضرار، فإن وقع الجناح أو نقضه وبادر من يحاذيه، فأخرج جناحا يمنع من اعادة الجناح الاول جاز، لان الاول ثبت له الارتفاق بالسبق إلى اخراج الجناح، فإذا زال الجناح جاز لغيره أن يرتفق، كما لو قعد في طريق واسع ثم انتقل عنه (الشرح) قوله " جناحا " فعله جنح أي مال، وبابه خضع ودخل والجوانح الاضلاع التى تحت الترائب، وجناح الطائر يده.

وقد شبه به البناء الناتئ البارز من جدار البيت معلقا في الهواء.

أما الاحكام: فانه إذا أخرج جناحا أو روشنا، وهو نافذة تشبه الشرفة (أو البلكونة) إلى شارع نافذ نظرت فان كان لا يضر بالمسلمين جاز ولم يمنع من ذلك.

وبه قال مالك والاوزاعي وأحمد واسحاق وأبو يوسف ومحمد.

وقال أبو حنيفة: له اخراجه إلى أن يمنعه المسلمون أو واحد منهم، فإذا منعه واحد من المسلمين لم يجز له اخراجه، فان أخرجه أزيل أو قلع دليلنا ما روى أن أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عنه مر بميزاب للعباس رضى الله عنه فقطر عليه فأمر بقلعه، فخرج إليه العباس رضى الله عنه

فقال له: خلعت ميزابا ركبه رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ، فقال عمر: والله لا يصعد من ينصبه الا على ظهرى، فصعد العباس على ظهره ونصبه.

فإذا ثبت هذا في الميزاب ثبت في الروشن مثله، لان الميزاب خشبة واحدة - على عهدهم أو قضيب مجوف على عهدنا - أما الروشن أو الجناح فهو بناء متكامل

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 397)

________________________________________

مركب من قطع كثيرة، فاشغاله لحيز أكبر من الميزاب لا شك فيه ولا فرق بين ولان الناس يخرجون الرواشن من لدن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يومنا هذا من غير انكار.

اللهم الا ما تحتمه قواعد النظام الذى تأخذ بأسبابه مؤسسات الاسكان والمجالس البلدية في المدن والحواضر في عصرنا هذا الذى يجعل للجناح المتعارض أو البارز من البيت تناسبا مع اتساع الشارع، فان كان الشارع عرضا أو كان ميدانا فسيحا سمح لصاحب البناء من واقع الرسم المرخص به أن يكون الجناح أو الروشن مترا ونصف المتر، وان كان الشارع ضيقا كان البروز أقل، وذلك حتى يتسنى للناس ممارسة شئونهم وانتقالاتهم بأسباب الانتقال الكهربية أو البخارية أو غيرها بدون أن تعترضهم الرواشن والشرفات فتعيق مصالحهم، فدل ذلك كله على أن الاجماع منعقد على جواز ذلك في الحدود والصفات التى يرسم بها الامام أو الحاكم، ولانه ارتفاق بما لم يتعين عليه ملك أحد من غير اضرار فجاز، كما لو مشى في الطريق قال العمرانى في البيان: إذا أخرج جناحا أو روشنا في شارع نافذ فانه لا يملك ذلك المكان وانما يكون أحق به لسبقه إليه، فان انهدم روشنه أو هدمه فبادره من يحاذيه فمد خشبة تمنعه من اعادة الاول لم يكن للاول منعه من ذلك، لان الاول كان أحق به لسبقه إليه، فإذا زال روشنه سقط حقه وكان لمن سبق إليه، كما نقول في المرور بالطريق.

ثم قال: وان أخرج من يحاذيه روشنا تحت

روشنه الاول جاز ولم يكن للاول منعه من ذلك، لانه لا ضرر عليه في ذلك فان أراد الثاني أن يخرج روشنا فوق روشن الاول قال ابن الصباغ: فان كان الثاني عاليا لا يضر بالمار فوق روشن الاول جاز، وان كان يضر بالمار فوق روشن الاول منع من ذلك، كما لو اخرج روشنا يضر بالمار في الشارع، فانه يمنع من ذك.

اه

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

فان صالحه الامام عن الجناح على شئ لم يصح الصلح لمعنيين:

(أحدهما)

أن الهواء تابع للقرار في العقد فلا يفرد بالعقد كالحمل

(والثانى)

أن

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 398)

________________________________________

ذلك حق له فلا يجوز أن يؤخذ منه عوض على حقه كالاجتياز في الطريق، وإن كان الجناح يضر بالمارة لم يجز.

وإذا أخرجه وجب نقضه، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا ضَرَرَ وَلَا ضرار " ولانه يضر بالمارة في طريقهم فلم يجز كالقعود في المضيق، وإن صالحه الامام من ذلك على شئ لم يجز لمعنيين

(أحدهما)

أن الهواء تابع للقرار فلا بالعقد

(والثانى)

أن ما منع منه للاضرار بالناس لم يجز بعوض كالقعود في المضيق والبناء في الطريق (الشرح) حديث " لا ضرر ولا ضرار " رواه أحمد في مسنده وابن ماجه عن ابن عباس رضى الله عنه، وأخرجه أيضا ابن ماجه من حديث عبادة بن الصامت رضى الله عنه، وقد مضى شرحنا له أما الاحكام: فإنه إذا صالحه الامام على هذا الجناح الذى لا يضر بعوض أو برسم من المال يؤديه لينفق من هذا ومثله على تعبيد الطرق ورصف الشوارع، وتيسير الارتفاق على المسلمين فإنه يجوز ذلك، أما إذا صالحه الامام أو أحد المسلمين على مال يؤديه بدون ذلك لم يجز أن يؤخذ عليه عوض لان الهواء تابع

للقرار، كما لا يجوز أن يؤخذ منه عوض على المرور في الطريق، إلا إذا كان يمر في طريق غير مسموح بالمرور فيه في وقت تنظيم المرور لما يؤدى هذا إلى الاضرار به أو بغيره بأن كان يركب سيارة تسير بسرعة زائدة عن الحد المعقول أو المعتاد في شوارع تزدحم بالمارة ووقع الحاكم عليه عقوبة المخالفة حتى لا يعود إلى تعريض سلامته وسلامة غيره للاضرار أو المخاطر فإن ذلك يجوز، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا ضَرَرَ وَلَا ضرار " (فرع)

وإن اراد إخراج روشن أو جناح إلى شارع نافذ يضر بالمار منه لم يجز، فان فعل ذلك أزيل للحديث الشريف، وليس له الانتفاع بالعرصة، وهى ما أمام بيته بما فيه ضرر على المسلمين، بأن يبنى فيها دكة أو يتخذ منها مجلسا له يشغل طريق المارة ويعيقهم فيؤذيهم بذلك، وكذلك ليس له الانتفاع بالهواء بما يضر به عليهم، فإن صالحه الامام أو بعض الرعية على ذلك بعوض لم يصح الصلح لانه افراد الهواء بالعقد، ولان في ذلك اضرار بالمسلمين، وليس للامام أن يفعل ما فيه الحاق الضرر بهم، هكذا قال العمرانى في البيان

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 399)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

ويرجع فيما يضر وفيما لا يضر إلى حال الطريق، فان كان الطريق لا تمر فيه القوافل، ولا تجوز فيه الفوارس، لم يجز اخراج الجناح الا بحيث يمر الماشي تحته منتصبا، لان الضرر يزول بهذا القدر، ولا يزول بما دونه، وان كان الطريق تمر فيه القوافل وتجوز فيه الفوارس، لم يجز الا عاليا بمقدار ما تمر العمارية تحته، ويمر الراكب منتصبا.

وقال أبو عبيد بن حربويه: لا يجوز حتى يكون عاليا يمر الراكب ورمحه منصوب، لانه ربما ازدحم الفرسان فيحتاج إلى نصب الرماح، ومتى لم ينصبوا

تأذى الناس بالرماح، والاول هو المذهب، لانهم يمكنهم ان يضعوا أطرافها على الاكتاف غير منصوبة فلا يتأذوا (الشرح) الاحكام: وأما كيفية الضرر، فان ذلك معتبر بالعادة في ذلك الشارع، فان كان شارعا لا تمر فيه القوافل والجيوش والركبان أو التروللى أو الترام فيشترط أن يكون الجناح عاليا بحيث يمر الماشي تحته منتصبا، فان كان الشارع تمر فيه الجيوش أو القوافل أو الركبان أو المركبات الكهربية والبخارية اشترط أن يكون الجناح أعلى بحيث يمر الركبان في السكة بدون عوائق تصطدم بسطح المركبات.

وقال أبو عبيد بن حربويه: يشترط أن يمر الفارس تحته ورمحه منصوب بيده لان الفرسان قد يزدحمون فيحتاجون إلى نصب الرماح.

قال المصنف ردا على ابن حربويه ما يفيد أن هذا ليس بصحيح لانه يمكنه ان يحط رمحه على كتفه.

ولان الرمح لا غاية لطوله.

قوله " العمارية " من وسائل الهجوم في الجيوش الاسلامية في عصر المصنف وهى أشبه بعربة تجرها الجباد مصنوعة من الخشب السميك ومصفحة بالفولاذ ينترس بها المهاجمون.

وقد ترتفع إلى حد يتسلق منها المقاتلون إلى أسوار الحصون.

والعمارة القبيلة.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 400)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

وإن أخرج جناحا إلى دار جاره من غير إذنه لم يجز.

واختلف أصحابنا في تعليله، فمنهم من قال لا يجوز لانه ارتفاق بما تعين مالكه فلم يجز بغير إذنه من غير ضرورة، كأكل ماله.

ومنهم من قال لا يجوز، لان الهواء تابع للقرار.

والجار لا يملك الارتفاق بقرار دار الجار، فلا يملك الارتفاق بهواء

داره، فإن صالحه صاحب الدار على شئ لم يجز لان الهواء تابع فلا يفرد بالعقد (الشرح) الاحكام: إذا أراد أن يخرج جناحا أو روشنا فوق دار غيره أو شارع جاره بغيره إذنه لم يجز لانه لا يملك الارتفاق بقرار أرض جاره إلا بإذنه فكذلك الارتفاق بهواء أرض جاره، فان صالحه صاحب الدار أو الشارع على ذلك بعوض لم يصح لانه لا يجوز إفراد الهواء بالعقد.

 

قال المصنف رحمه الله تعالى

(فصل)

وإن أخرج جناحا إلى درب غير نافذ نظرت فان لم يكن له في الدرب طريق لم يجز، لما ذكرناه في دار الجار، وان كان له فيه طريق ففيه وجهان

(أحدهما)

يجوز، وهو قول الشيخ أبى حامد الاسفرابنى، لان الهواء تابع للقرار، فإذا جاز أن يرتفق بالقرار بالاجتياز جاز أن يرتفق بالهواء باخراج الجناح

(والثانى)

لا يجوز، وهو قول شيخنا القاضى أبى الطيب رحمه الله لانه موضع تعين ملاكه فلم يجز اخراج الجناح إليه كدار الجار، فان صالحه عنه أهل الدرب، فان قلنا يجوز اخراج الجناح لم يجز الصلح، لما ذكرناه في الصلح على الجناح الخارج إلى الشارع، وان قلنا لا يجوز اخراجه لم يجز الصلح لما ذكرناه في الصلح على الجناح الخارج إلى دار الجار (الشرح) وان أراد أن يخرج جناحا أو روشنا إلى درب غير نافذ وله طريق في هذا الدرب، فان كان يضر بالمارة لم يجز من غير إذن أهل الدرب، كما لا يجوز اخراج جناح يضر إلى شارع نافذ الا إذا أذنوا بذلك أهل الدرب وقال القاضى أبو الطيب " لا يجوز له ذلك بغير اذنهم لانه مملوك لقوم معينين فلم يجز له اخراج الجناح إليهم بغير اذنهم " وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 401)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله:

 

(فصل)

وإن أراد أن يعمل ساباطا ويضع أطراف أجذاعه على حائط الجار المحاذي لم يجز ذلك من غير إذنه، لانه حمل على ملك الغير من غير ضرورة فلم يجز من غير إذنه كحمل المتاع على بهيمة غيره، فإن صالحه منه على شئ جاز إذا عرف مقدار الاجذاع، فإن كانت حاضرة نظر إليها، وإن لم تحضر وصفها فإن أراد أن يبنى عليها ذكر سمك البناء، وما يبنى به، فإن أطلق كان ذلك بيعا مؤبدا لمغارز الاجذاع ومواضع البناء، وإن وقت كان ذلك إجارة تنقضي بإنقضاء المدة (الشرح) وإن أراد أن يعمل ساباطا - وهو سقيفة بين حائطين تحتها طريق والجمع سوابيط وساباطات - على جدار جاره وصفته أن يكون له جدار وبحذائه جدار جاره وبينهما شارع، فيمد جذوعا من جداره إلى جدار جاره، فلا يجوز له ذلك إلا باذن جاره، لانه حمل على ملك غيره بغير إذنه، من غير ضرورة فلم يجز كما لو أراد أن يحمل على بهيمة غيره بغير إذنه.

وقولنا: من غير ضرورة احتراز من السقيف على الحائط الرابع لجاره على ما يأتي بيانه، فان صالحه على ذلك بعوض صح الصلح، ولابد أن تكون الاخشاب معلومة إما بالمشاهدة أو بالصفة، فيقول: صالحني على أن أضع هذه الاخشاب بكذا، قال الشيخ أبو حامد: وهكذا إذا قال: خذ منى مالا وأقر لى حقا في أن أضع على جدارك جذوعي هذه أو نصفها، فإذا أقر له بذلك وأخذ العوض جاز.

فان أراد أن يبنى عليها ذكر طول البناء وعرضه وما يبنى به، لان الغرض يختلف بذلك، فان أطلقا ذلك ولم يقدراه بمدة كان ذلك تبعا لمغارز الجذوع، وإن قدرا ذلك بمدة كان إجارة تنقضي بانقضاء المدة، هكذا ذكره الشيخان أبو حامد وأبو إسحاق والقاضى أبو الطيب أيضا.

وقال ابن الصباغ: لا يكون ذلك بيعا بحال، لان البيع ما يتناول الاعيان،

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 402)

________________________________________

وهذا الصلح على وضع الخشب لا يملك به الواضع شيئا من الحائط الذى يضع عليه لانه لو كان بيعا لملك جميع الحائط ولكان إذا تهدم يملك أخذ الانقاض، وهذا لا يقوله أحد، قال: فإن قيل إنما يكون بيعا لموضوع الوضع خاصة قيل: لا يصح ذلك لان موضع الوضع محمل بقية الحائط الذى لغيره وتلك منفعة استحقها وإذا بطل أن يكون تبعا كان ذلك إجارة بكل حال.

قال: فإن قيل: فكيف يكون الاجارة إلى مدة غير معلومة؟ فالجواب أن المنفعة يجوز أن يقع العقد عليها في موضع الحاجة غير مقدرة كما يقع عقد النكاح على منفعة غير مقدرة، والحاجة إلى ذلك، لان الخشب وما يشبهه مما يراد للتأبيد، ويضر به التقدير، بخلاف سائر الاجارات، ولان سائر الاعيان لو جوزنا فيها عقد الاجارة على التأبيد بطل فيها معنى الملك، وها هنا وضع الخشب على الحائط لا يمنع مالكه أن ينتفع به منفعة مقصودة، والاول أصح، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ فِي الْمُخْتَصَرِ: ولو اشترى علو بيت على أن يبنى على جدرانه ويسكن على سطحه أجزت ذلك إذا سميا منتهى البنيان، لانه ليس كالارض في احتمال ما يبنى عليها.

إذا ثبت هذا: فان أقر صاحب الحائط لصاحب الخشب أن له حق الوضع على جداره لزم ذلك في الحكم.

فان تقدمه صلح لزم ظاهرا وباطنا وان لم يتقدمه صلح لزم في الظاهر دون الباطن والله تعالى أعلم.

وقال أصحاب أحمد: لا يجوز أن يشرع إلى طريق نافذ جناحا، وهو الروش سواء كان ذلك يضر بالمارة أو لا يضر، وسواء أذن الامام أو لم يأذن، ولا يجوز الساباط من باب الاولى، ولو كان الحائط ملكه.

وقال ابن عقيل من الحنابلة.

ان لم يكن فيه ضرر جاز باذن الامام لانه نائبهم

فجرى اذنه مجرى اذن المشتركين في الدرب ليس بنافذ وهذا القول ضعيف عندهم لان الضرر لابد أن يتحقق ولو بحجب الضوء عن الطريق، أو الهواء، وليس كالجلوس أو المرور فانهما طارئان.

وقال أبو حنيفة يجوز من ذلك مالا ضرر فيه، وان عارضه رجل من المسلمين وجب قلعه.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 403)

________________________________________

وقال مالك والاوزاعي واسحاق وأبو يوسف ومحمد والشافعي رضى الله عنهم يجوز ذلك إذا لم يضر بالمارة، ولا يملك أحد منعه، لانه ارتفق بما لم يتعين ملك أحد فيه من غير مضرة، فكان جائزا كالمشئ في الطريق والجلوس فيها.

قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

ولا يجوز أن يفتح كوة، ولا يسمر مسمارا في حائط جاره الا باذنه، ولا في الحائط المشترك بينه وبين غيره الا باذنه.

لان ذلك يوهى الحائط ويضر به، فلا يجوز من غير اذن مالكه، ولا يجوز أن يبنى على حائط جاره ولا على الحائط المشترك شيئا من غير اذن مالكه ولا على السطحين المتلاصقين حاجزا من غير اذن صاحبه.

لانه حمل على ملك الغير فلم يجز من غير اذن كالحمل على بهيمته، ولا يجوز أن يجرى على سطحه ماء من غير اذنه، فان صالحه منه على عوض جاز، إذا عرف السطح الذى يجرى ماؤه لانه يختلف ويتفاوت.

(الشرح) الاحكام: لا يجوز أن يفتح كوة، ولا يدق وتدا في حائط الجار ولا في الحائط المشترك بينه وبين غيره عن غير اذن، لان ذلك يضعف الحائط، ولا يجوز أن يبنى عليه من غير اذن كما لا يجوز أن يحمل على بهيمة غيره بغير اذنه.

(فرع)

ولا يجوز أن يجرى الماء في أرض غيره ولا على سطحه بغير اذنه

هذا قوله في الجديد، وقال في القديم: إذا ساق رجل عينا أو بئرا فلزمته مؤنة ودعته الضرورة إلى اجرائه في ملك غيره ولم يكن على المجرى في ملكه ضرر بين فقد قال بعض أصحابنا يجبر عليه، فأوما إلى أنه يجبر لما روى أن الضحاك ومحمد ابن مسلمة اختلفا في خليج أراد الضحاك أن يجريه في أرض محمد بن مسلمة فامتنع فترافعا إلى أمير المؤمنين عمر رضى الله عنه فقال: والله لامرنه ولو على بطنك.

قال العمرانى.

والاول هو المشهور في المهذب للشيخ أبى اسحاق، لانه حمل على ملك غيره فلم يجز من غير اذنه، كالحمل على بهيمته قال.

وأما الخبر فيحتمل أنه كان له رسم اجراء الماء في أرضه فامتنع منه فلذلك أجبره أمير المؤمنين على ذلك

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 404)

________________________________________

(قلت) فإذا صالح رجلا على موضع قناة من أرضه يجرى فيها ماء وبينا موضعها وعرضها وطولها جاز، لان ذلك بيع موضع من أرضه، ولا حاجة إلى بيان عمقه، لانه إذا ملك الموضع كان له إلى تخومه، فله أن يترك فيه ما شاء، وإن صالحه على إجراء الماء في ساقية من أرض رب الارض مع بقاء ملكه عليها فهذا إجارة للارض فيشترط تقدير المدة لان هذا شأن الاجارة فان كانت الارض في يد رجل بإجارة جاز أن يصالح رجلا على إجراء الماء فيها في ساقية محفورة مدة لا تجاوز مدة إجارته، وإن لم تكن الساقية محفورة لم يجز أن يصالحه على ذلك، لانه لا يجوز إحداث ساقية في أرض في يده باجارة.

فأما إن كانت الارض في يده وقفا عليه فهو كالمستأجر، له أن يصالح على اجراء الماء في ساقية محفورة في مدة معلومة، وليس له أن يحفر فيها ساقية لانه لا يملكها إنما يستوفى منفعتها كالارض المستأجرة سواء وقال أصحاب أحمد: يجوز له حفر الساقية لان الارض له وله التصرف فيها كيفما شاء ما لم ينقل الملك إلى غيره، بخلاف المستأجر فانه إنما يتصرف فيها بما

أذن له فيه، فكان الموقوف عليه بمنزلة المستأجر إذا أذن له في الحفر، فان مات الموقوف عليه في أثناء المدة، فهل لمن انتقل إليه فسخ الصلح فيما بقى من المدة؟ على وجهين.

(فرع)

إذا ادعى على رجل مالا فأقر له به ثم قال صالحني فيه على أن أعطيك مسيل ماء في ملكى، قال الشافعي رضى الله عنه " فان بينا الموضع وقدر الطول والعرض صح، لان ذلك بيع لموضع من أرضه ولا يحتاجان ان يبينا عمقه لانه إذا ملك الموضع كان له النزول إلى تخومه، وهل يملك المدعى عليه هذه الساقية فيه وجهان حكاهما الصيدلانى

(أحدهما)

يملكها تبعا للارض

(والثانى)

لا يملكها فعلى هذا لا يمنع مالك الارض من بناء فوق المسيل قال ابن الصباغ وان صالحه على أن يجرى الماء في ساقية في أرض للمصالح قال في الام فان هذا اجارة يفتقر إلى تقدير المدة.

قال أصحابنا انما يصح إذا كانت الساقية محفورة، فإذا لم تكن محفورة لم يجز لانه لا يمكن المستأجر من اجراء

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 405)

________________________________________

الماء الا بالحفر، فليس له الحفر في ملك غيره، لان ذلك اجارة لساقية غير موجودة، فان حفر الساقية وصالحه جاز قال العمرانى " وان كانت الارض في يد المقر باجارة جاز له أن يصالحه على اجراء الماء في ساقية فيها محفورة مدة لا تجاوز مدة اجارته، وان لم تكن الساقية محفورة لم يجز أن يصالحه على ذلك، لانه لا يجوز له احداث ساقية في أرض في يده باجارة، وكذلك إذا كانت الارض وقفا عليه جاز أن يصالحه على إجراء الماء في ساقية في أرض في يده وان أراد أن يحفر ساقية لم يكن له ذلك لانه لا يملكها، وانما له أن يستوفى منفعتها كالارض المستأجرة، وان صالحه على اجراء الماء على سطحه جاز إذا

كان السطح الذى يجرى ماؤه فيه معلوما، لان الماء يختلف بكبر السطح وصغره وقال ابن الصباغ ولا يحتاج إلى ذكر المدة، ويكون ذلك فرعا للاجارة لان ذلك لا يستوفى به منافع السطح بخلاف الساقية فانه يستوفى منفعتها فكانت مدتها مقدرة ولانهما يختلفان أيضا فان الماء الذى يجرى في الساقية لا يحتاج إلى تقدير لانه لا يجرى فيها أكثر من ملئها، ويحتاج إلى ذكر السطح الذى يجرى منه لانه يجرى فيه القليل والكثير.

وان صالحه على أن يسقى زرعه أو ماشيته من مائه سقية أو سقيتين لم يصح، لان القدر من الماء الذى يسقى به الزرع والماشية مجهول، فان صالحه على ربع العين أو ثلثها صح كما قلنا في البيع

قال المصنف رحمه الله تعالى

(فصل)

وفى وضع الجذوع على حائط الجار والحائط بينه وبين شريكه قولان، قال في القديم " يجوز " فإذا امتنع الجار أو الشريك اجبر عليه إذا كان الجذع خفيفا لا يضر بالحائط، ولا يقدر على التسقيف الا به.

لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال " لا يمنعن أحدكم جاره أن يضع خشبه على جداره " قال أبو هريرة رضى الله عنه " انى لاراكم عنها معرضين، والله لارمينها بين أظهركم " ولانه إذا وجب بذل فضل الماء للكلا لاستغنائه عنه وحاجة غيره وجب بذل فضل

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 406)

________________________________________

الحائط لاستغنائه عنه وحاجة جاره.

وقال في الجديد: لا يجوز بغير إذن، وهو الصحيح: لقوله صلى الله عليه وسلم " لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبِ نفس منه " ولانه انتفاع بملك غيره من غير ضرورة فلا يجوز بغير اذنه كالحمل على بهيمته، والبناء في أرضه، وحديث أبى هريرة تحمله على الاستحباب.

وأما الماء فإنه غير مملوك في قول بعض أصحابنا.

والحائط مملوك، ولان الماء لا تنقطع

مادته، والحائط بخلافه.

فان كان الجذع ثقيلا يضر بالحائط لم يجز وضعه من غير اذنه قولا واحدا، لان الارتفاق بحق الغير لا يجوز مع الاضرار، ولهذا لا يجوز أن يخرج إلى الطريق جناحا يضر بالمارة.

وان كان لا حاجة به إليه لم يجبر عليه، لان الفضل انما يجب بذله عند الحاجة إليه، ولهذا يجب بذلك فضل الماء عند الحاجة إليه للكلا ولا يجب مع عدم الحاجة.

فان قلنا يجبر عليه فصالح منه على مال لم يجز، لان من وجب له حق لا يؤخذ منه عوضه، وان قلنا: لا يجبر عليه فصالح منه على مال جاز على ما بيناه في أجذاع الساباط.

 

(فصل)

وإذا وضع الخشب على حائط الجار أو الحائط المشترك، وقلنا انه يجبر في قوله القديم، أو صالح عنه على مال في قوله الجديد فرفعه جاز له أن يعيده، فان صالحه صاحب الحائط عن حقه بعوض ليسقط حقه من الوضع جاز لان ما جاز بيعه جاز ابتياعه كسائر الاموال.

(الشَّرْحُ) حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رواه البخاري ومسلم وأحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجه، وقد أخرجه أيضا ابن ماجه والبيهقي وأحمد والطبراني وعبد الرزاق من طريق ابن عباس بلفظ.

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا ضرر ولا ضرار، وللرجل أن يضع خشبة في حائط جاره، وإذا اختلفتم في الطريق فاجعلوه سبعة أذرع " وأخرجه أحمد وابن ماجه أيضا من حديث عكرمة بن سلمة بن ربيعة " أن أخوين من بنى المغيرة أعتق أحدهما أن

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 407)

________________________________________

لا يغرز خشبا في جداره، فلقيا مجمع بن يزيد الانصاري ورجالا كثيرا فقالوا: نشهد أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبا في

جداره، فقال الحالف: أي أخى قد علمت أنك مقضى لك على، وقد حلفت فاجعل اسطونا دون جدارى ففعل الآخر، فغرز في الاسطوان خشبة " وهو أيضا عند ابن ماجه والدارقطني والحاكم والبيهقي من حديث أبى سعيد، وعند البيهقى من طريق عبادة.

وعند الطبراني في الكبير وأبى نعيم من حديث ثعلبة بن مالك القرظى، وما جاء في بعض ألفاظه من جعل الطريق سبعة أذرع ثبت في الصحيحين من حديث أبى هريرة، وعكرمة بن سلمة بن ربيعة مجهول وقوله " لا يمنع " بالجزم على النهى.

وفى رواية لاحمد " لا يمنعن " وفى لفظ للبخاري بالرفع على الخبرية، وهى في معنى النهى.

وقوله " خشبة " قال القاضى عياض رويناه في مسلم وغيره من الاصول بصيغة الجمع والافراد، ثم قال: وقال عبد الغنى بن سعيد: كل الناس تقوله بالجمع الا الطحاوي، فانه قال عن روح بن الفرج.

سألت أبا زيد والحرث بن بكير ويونس بن عبد الاعلى عنه.

فقالوا كلهم خشبة بالتنوين، ورواية مجمع تشهد لمن رواه بلفظ الجمع.

ويؤيدها أيضا ما رواه البيهقى من طريق شريك عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس بلفظ " إذا سأل أحدكم جاره أن يدعم جذوعه على حائطه فلا يمنعه ".

قال القرطبى وانما اعتنى هؤلاء الائمة بتحقيق الرواية في هذا الحرف، لان أمر الخشبة الواحدة يخف على الجار المسامحة به بخلاف الاخشاب الكثيرة أما الاحكام فان هذه الاحاديث تدل على أنه لا يحل للجار أن يمنع جاره من غرز الخشب في جداره، ويجبره الحاكم إذا امتنع وبهذا قال الشافعي في القديم وأحد قولى الجديد، وأحمد واسحاق وابن حبيب من المالكية وأهل الحديث وقال الشافعي في أحد قولى الجديد والحنفية ومالك والجمهور من الفقهاء انه يشترط اذن المالك، ولا يجبر صاحب الجدار إذا امتنع، وحملوا النهى على

التنزيه جمعا بينه وبين الادلة القاضية بأنه " لا يحل مال امرئ " مسلم الا بطيبة من نفسه "

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 408)

________________________________________

وأجيب بأن هذا الحديث أخص من تلك الادلة مطلقا فيبنى العام على الخاص قال البيهقى: لم نجد في السنن الصحيحة ما يعارض هذا الحكم إلا عمومات لا يستنكر أن يخصها.

وحمل بعضهم الحديث على ما إذا تقدم استئذان الجار، كما وقع في رواية لابي داود بلفظ " إذا استأذن أحدكم أخاه " وفى رواية لاحمد " من سأله جاره " وكذا في رواية لابن حبان، فإذا تقدم الاستئذان لم يكن للجار المنع، لا إذا لم يتقدم، وبهذا يصح الجمع بين الاحاديث العامة والخاصة، والمطلقة والمقيدة والله تعالى أعلم.

والمذهب انه إذا أراد رجل أن يضع أجذاعه على حائط جاره أو حائط مشترك بينه وبين غيره بغير إذنه، فإن كان به إلى ذلك حاجة، مثل أن يكون له براح من الارض ويحيط له بالبراح ثلاثة جدر ولجاره أو شريكه جدار رابع، أو أراد صاحب الجدر الثلاثة أن يضع عليها سقفا فهل يجبر صاحب الجدار الرابع على تمكينه من ذلك، فيه قولان قال في القديم: يجبر إذا كان ما يضعه لا يضر بالحائط ضررا بينا.

وبه قال أحمد وغيره ممن مضى ذكرهم لحديث أبى هريرة الذى نكس فيه القوم رؤوسهم، فقال أبو هريرة: مالى أراكم عنها معرضين، والله لارمينها بين أظهركم، يعنى هذه السنة التى أنتم عنها معرضون.

فإذا قلنا بهذا فلم يبذل الجار له أجبره الامام أن يضع خشبه على جداره.

وقال في الجديد: لا يجبر على ذلك.

قال العمرانى: وهو الصحيح، وبه قال أبو حنيفة لحديث " لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبِ نفس منه " ولانه انتفاع

بملك غيره من غير ضرورة فلم يجز من غير إذنه، كزراعة أرضه والبناء في أرضه (قلت) قد ذهب المصنف إلى أن للخبر تأويلين

(أحدهما)

أنه محمول على الاستحباب

(والثانى)

أن معناه إذا أراد الرجل أن يضع خشبة على جدار له لاخراج روشن أو شرفة أو جناح إلى شارع نافذ فليس لجاره المحاذي له أن يمنعه من ذلك، لانه قال: لا يمنع أحدكم جاره ان يضع خشبه على جداره، والضمير يرجع إلى أقرب مذكور وهو الجار.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 409)

________________________________________

فأما إذا أراد أن يبنى على الحائط أو يضع عليه خشبا يضر به ضررا بينا أو جدار آخر يمكنه أن يسقف عليه، لم يجبر الجار قولا واحدا، فإذا قلنا بقوله في الجديد فأعاره صاحب الحائط فوضع الخشب عليه لم يكن لصاحب الحائط أن يطالبه بقلعه، لان اذنه يقتضى البقاء على التأبيد، فان قلع المستعير خشبه أو سقطت فهل له أن يعيد مثلها؟ فيه وجهان.

 

(أحدهما)

له ذلك، لانه قد استحق دوام بقائها.

 

(والثانى)

ليس له بغير اذن مالك الحائط وهو الصحيح، لان السقف إذا سقط فلا ضرر على المعير في الرجوع.

وان أراد صاحب الحائط هدم حائطه، فإن لم يكن مستهدما لم يكن له ذلك، لان المستعير قد استحق تبقية خشبه عليه، وان كان مستهدما فله ذلك، وعلى صاحب الخشب نقله، فإذا أعاد صاحب الحائط حائطه - فان بناه بمادة أخرى - لم يكن لصاحب الخشب اعادة خشبه من غير اذنه، لان هذا الحائط غير الاول.

وقال الحنابلة: يجوز اعادة وضعه بغير اذنه.

وان بناه بمادته الاولى بعينها بأن كانت عضادته خشبا فأقامه أو حجرا فرصه، فهل له أن يعيد خشبه بغير اذن على الوجهين الاولين، فان صالحه بمال ليضع أجذاعه على جداره في قوله الجديد

أو قلنا يجبر الجار على تمكينه من وضعها على القديم فصالح مالك الجدار مالك الخشب ليضع عن جداره الخشب صح الصلح، لان ما صح بيعه صح ابتياعه كسائر الاموال، والله أعلم.

قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

وان كان في ملكه شجرة فاستعلت وانتشرت أغصانها وحصلت في دار جاره جاز للجار مطالبته بازالة ما حصل في ملكه، فان لم يزله جاز للجار ازالته عن ملكه، كما لو دخل رجل إلى داره بغير اذنه، فان له أن يطالبه بالخروج، فان لم يخرج أخرجه، فان صالحه منه على مال فان كان يابسا لم يجز لانه عقد على الهواء، والهواء لا يفرد بالعقد، وان كان رطبا لم يجز لما ذكرناه ولانه صلح على مجهول، لانه يزيد في كل وقت.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 410)

________________________________________

(الشرح) الاحكام: إذا كانت له شجرة في ملكه فانتشرت أغصانها فوق ملك جاره فللجار أن يطالب مالك الشجرة بازالة ما انتشر فوق ملكه لان الهواء تابع للقرار، وليس له أن ينتفع بقرار أرض جاره بغير اذنه، فكذلك هواء أرض جاره، فان لم يزل مالك الشجرة ذلك فللجار أن يزيل ذلك عن هواء أرضه بغير اذن الحاكم كما لو دخلت بهيمة لغيره إلى أرضه فله أن يخرجها بنفسه وقال أصحاب أحمد: إذا امتنع المالك من ازالته لم يجبر لان ذلك ليس من فعله، وعلى كلا الامرين إذا امتنع من ازالته كان لصحاب الهواء ازالته مع عدم الاتلاف، فإذا أتلف شيئا ضمنه كما لو دخلت البهيمة داره فعليه اخراجها بغير اتلاف فإذا أتلفها ضمنها، فان لم يمكنه ازالتها الا بالاتلاف فلا شئ عليه لانه لا يلزمه اقرار مال غيره في ملكه.

قال العمرانى في البيان: ينظر فيه فان كان ما انتشر لينا يمكنه أن يزيل ذلك

عن ملكه من غير قطع، لواه عن ملكه، فان قطعه لزمه أرش ما نقصت الشجرة بذلك لانه متعد بالقطع، وان كان يابسا لا يمكنه ازالة ذلك عن ملكه الا بقطعه فله أن يقطع ذلك ولا ضمان عليه اه.

(قلت) فان صالحه على اقرارها بعوض معلوم، فان كان غير معتمد على حائطه لم يجز ذلك لانه افراد للهواء بالعقد ان كان يابسا، وان كان رطبا لم يجز أيضا لهذه العلة، ولانه يزيد في كل وقت بنمو الاغصان.

وقال أصحاب أحمد كابن حامد وابن عقيل وابن قدامة: يجوز ذلك رطبا كان الغصن أو يابسا، لان الجهالة في المصالح عنه لا تمنع الصحة لكونها لا تمنع التسليم بخلاف العوض فانه يفتقر إلى العلم لوجوب تسليمه، لان الحاجة داعية إلى الصلح عنه لكون ذلك يكثر في الاملاك المتجاورة في القطع اتلاف وضرر قالوا: والزيادة المتجددة يعفى عنها كالسمن الحادث في المستأجر للركوب.

(قلت) والصلح لا يجوز عندنا الا في حالة ما إذا كان الغصن يابسا معتمدا على حائط الجار كما لو صالحه على وضع خشبة على حائطه، وأما الرطب فانه يمكن ليه، ويمكن تهذيبه.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 411)

________________________________________

(فرع)

إذا كان سطح داره أعلا من سطح دار جاره لم يجبر من علا سطحه على بناء سترة.

وقال أحمد رضى الله عنه: يجبر من علا سطحه على بناء سترة، لانه إذا صعد سطحه أشرف على دار جاره، والانسان ممنوع من الانتفاع بملكه على وجه يستضر به غيره، كما لا يجوز أن يدق في ملكه ما يهتز به حائط جاره.

دليلنا: أنه حاجز بين ملكيهما فلا يجبر أحدهما على ستره كالاسفل وما ذكره فغير صحيح، لان الاعلى ليس له أن يشرف على الاسفل، وإنما يستضر الاسفل بالاشراف عليه دون انتفاعه بملكه، ويخالف الدق، لانه يضر بملك جاره،

قاله في البيان.

(فرع)

قال الشيخ أبو حامد الاسفرايينى: يجوز للانسان أن يفتح في ملكه كوة مشرفة على جاره، وعلى جسر عليه، ولا يجوز للجار منعه لانه لو أراد رفع جميع الحائط لم يمنع فكذلك إذا رفع بعضه لم يمنع اه.

(قلت) إلا إذا ترتب على ذلك إضرار بجاره وإزالة للجدار الفاصل بين المسكنين مما يترتب عليه كشف سوءات البيت أو تعريض المال للضياع أو زوال صفة الصلاحية للسكنى أجبر على إزالة ذلك فان كان كوة سدها، وإن كان جدارا أقامه، وسيأتى مزيد لذلك وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

 

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:

(فصل)

وإن كان لرجل في زقاق لا ينفذ دار، وظهرها إلى الشارع ففتح بابا من الدار إلى الشارع جاز، لان له حق الاستطراق في الشارع فجاز أن يفتح إليه بابا من الدار، وان كان باب الدار إلى الشارع وظهرها إلى الزقاق ففتح بابا من الدار إلى الزقاق نظرت، فإن فتحه ليستطرق الزقاق لم يجز لانه يجعل لنفسه حتى الاستطراق في درب مملوك لاهله لا حق له في طريق، فان قال: أفتحه ولا أجعله طريقا، بل أغلقه وأسمره، ففيه وجهان.

 

(أحدهما)

أن له ذلك، لانه إذا جاز له أن يرفع جميع حائط الدار، فلان يجوز أن يفتح فيه بابا أولى.

 

(والثانى)

لا يجوز، لان الباب دليل على الاستطراق، فمنع منه، وان فتح

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 412)

________________________________________

في الحائط كوة إلى الزقاق جاز، لانه ليس بطريق ولا دليل عليه، فان كان له داران في زقاقين غير نافذين، وظهر كل واحدة من الدارين إلى الاخرى، فأنفذ احدى الدارين إلى الاخرى ففيه وجهان.

 

(أحدهما)

لا يجوز، لانه يجعل الزقاقين نافذين، ولانه يجعل لنفسه الاستطراق من كل واحد من الزقاقين إلى الدار التى ليست فيه، ويثبت لاهل كل واحد من الزقاقين الشفعة في دور الزقاق الآخر على قول من يوجب الشفعة بالطريق

(والثانى)

يجوز، وهو اختيار شيخنا القاضى رحمه الله، لان له أن يزيل الحاجز بين الدارين، ويجعلهما دارا واحدة، ويترك البابين على حالهما، فجاز أن ينفذ احداهما إلى الاخرى.

(الشرح) الاحكام: إذا كان لرجل دار في زقاق غير نافذ وظهر الدار إلى شارع عام فأراد أن يفتح بابا في ظهر بيته إلى الشارع فإن فتحه وسد الباب الذى في الزقاق جاز له ذلك قولا واحدا، أما إذا أبقى الباب الذى في الزقاق نظرت فإذا جعله لاستطراق المارة من الشارع إلى الزقاق لم يجز له ذلك، لان الدرب مملوك لاهله لا يعبر أحد أجنبي من زقاقهم، فإذا استأذن أصحاب الزقاق وقال لهم أفتحه ولا أجعله طريقا، بل أجعل بابى ذا أقفال وترابيس لا يمر فيه الا أهل بيتى وضيفاني ففيه وجهان.

 

(أحدهما)

يجوز، لانه إذا جاز أن يهدم الحائط جاز له أن يهدم بعضه.

 

(والثانى)

لا يجوز، لان الباب ثغرة يمكن أن يستدل منها المارة على الاستطراق إلى الزقاق فمنع منه.

وقال الحنابلة: يجوز له ذلك قولا واحدا، ولانه يرتفق بما لم يتعين ملك أحد عليه وعلى القول بالجواز ان قيل: في هذا اضرار بأهل الدرب، لانه يجعله نافذا يستطرق إليه من الشارع (قلنا) لا يصير نافذا، وانما تصير داره نافذة، وليس لاحد استطراق داره، فاما ان كان باب داره إلى الشارع، وليس له باب إلى الدرب فأراد أن يفتح بابا في ظهر داره إلى الزقاق للاستطراق لم يكن له ذلك،

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 413)

________________________________________

لانه ليس له حق في الدرب الذى قد تعين ملك أربابه، ويحتمل الجواز كما ذكرنا في الوجه الذى تقدم.

(فرع)

إذا أراد أن يفتح إلى الدرب كوة أو شباكا لم يمنع منه، لانه يتصرف في ملكه، وربما أراد ذلك للهواء أو النور أو الشمس.

(فرع)

فإن كان لرجل داران وباب كل واحدة منهما إلى زقاق غير نافذ وظهر كل واحدة منهما إلى ظهر الاخرى، فإن أراد صاحب الدارين رفع الحائط بينهما وجعلهما دارا واحدة جاز، وإن أراد أن يفتح من أحدهما بابا إلى الاخرى ليدخل من كل واحدة من الدارين إلى الاخرى، ويدخل من كل واحدة من الدارين ففيه وجهان حكاهما الشيخ أبو حامد وأكثر أصحابنا أنه لا يجوز، لانه يجعل لكل واحدة من الدارين طريقا من كل واحدة من الدارين، ويجعل الدار كالدرب الواحد، ولانه يثبت الشفعة لكل واحد من الدربين لاهل الدرب الآخر في قول من يثبت الشفعة في الدار لاشتراكهما في الطريق، وهذا لا يجوز.

وقال القاضى أبو الطيب: يجوز، لانه يجوز له أن يرفع الحائط كله، فجاز له أن يفتح فيه بابا.

قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

إذا كان لداره باب في وسط درب لا ينفذ، فأراد أن ينقل الباب نظرت فإن أراد نقله إلى أول الدرب جاز له لانه يترك بعض حقه من الاستطراق وإن أراد أن ينقله إلى آخر الدرب ففيه وجهان.

 

(أحدهما)

لا يجوز، لانه يريد أن أن يجعل لنفسه حق الاستطراق في موضع لم يكن له

(والثانى)

يجوز، لان حقه ثابت في جميع الدرب، ولهذا لو أرادوا قسمته كان له حق في جميعه، فإن كان بابه في آخر الدرب وأراد أن ينقل الباب إلى وسطه، ويجعل إلى عند الباب دهليزا - إن قلنا: ان من بابه في وسط

الدرب - يجوز أن يؤخره إلى آخر الدرب، لم يجز لهذا أن يقدمه، لانه مشترك بين الجميع، فلا يجوز أن يختص به، وان قلنا: لا يجوز جاز لهذا أن يقدمه لانه يختص به.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 414)

________________________________________

(الشرح) الاحكام: إذا كان لرجلين داران في زقاق غير نافذ وباب دار أحدهما قريب من أول الدرب، ولداره فناء يمتد إلى آخر الدرب، وباب دار الآخر في وسط الدرب، فان أراد من باب داره قريب من أول الدرب أن يقدم بابه إلى أول الدرب جاز لانه يترك بعض ما كان له من استحقاق، وإن أراد أن يؤخر بابه إلى داخل الدرب الذى له فناء داره هناك ففيه وجهان

(أحدهما)

له ذلك لان فناء داره يمتد فكان له تأخير بابه إلى هناك، ولان له يدا في الدرب، فكان الجميع في يدهما

(والثانى)

ليس له ذلك وهو الصحيح، لانه يريد أن يجعل لنفسه الاستطراق في موضع لم يكن له وإن أراد من باب داره في وسط الدرب أن يقدم بابه.

قال الشيخ أبو حامد فان أراد أن يقدمه إلى الموضع الذى لا فناء لصاحبه فيه كان له ذلك وجها واحدا وإن أراد أن يقدمه إلى الموضع الذى لصاحبه هناك فناء فهل له ذلك؟ يبنى على الوجهين الاولين.

فإن قلنا ليس لمن باب داره في أول الدرب أن يؤخر بابه فلمن باب داره في وسط الدرب أن يقدم بابه وهو الصحيح.

وإن قلنا لمن باب داره في أول الدرب أن يؤخر بابه إلى وسط الدرب، فليس لمن باب داره في وسط الدرب أن يقدم بابه إلى فناء دار جاره وقال ابن الصباغ: ينبغى له أن يقدم بابه في فنائه إلى فناء صاحبه وجها واحدا لانه انما يفتح الباب في فناء نفسه، ولا حق له فيما جاوز ذلك

وقال أصحاب أحمد: إذا كان لرجلين بابان في زقاق غير نافذ أحدهما قريب من باب الزقاق والآخر في داخله، فللقريب من الباب نقل بابه إلى ما يلى باب الزقاق، لان له الاستطراق إلى بابه القديم، فقد نقص من استطراقه، ومتى أراد رد بابه إلى موضعه الاول جاز لان حقه لم يسقط، وإن أراد نقل بابه تلقاء صدر الزقاق لم يكن له ذلك.

قال ابن قدامة نص عليه أحمد اه

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

إذا كان بين رجلين حائط مشترك فانهدم، فدعا أحدهما صاحبه إلى العمارة وامتنع الآخر، ففيه قولان، قال في القديم يجبر لانه إنفاق على

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 415)

________________________________________

مشترك يزول به الضرر عنه وعن شريكه فأجبر عليه كالانفاق على العبد.

وقال في الجديد: لا يجبر لانه إنفاق على ملك لو انفرد به لم يجب، فإذا اشتركا لم يجب كزراعة الارض.

فإن قلنا بقوله القديم أجبر الحاكم الممتنع على الانفاق، فان لم يفعل وله مال باعه وأنفق عليه، فإن لم يكن له مال اقترض عليه وأنفق عليه، فإذا بنى الحائط كان بينهما كما كان.

ومن له رسم خشب أو غيره أعاده كما كان.

وإن أراد الشريك أن يبنيه لم يمنع منه، لانه يعيد رسما في ملك مشترك فلم يمنع منه، كما لو كان على الحائط رسم خشب فوقع، فإن بنى الحائط من غير إذن الحاكم نظرت فإن بناه بآلته ونقضه معا عاد الحائط بينهما كما كان برسومه وحقوقه لان الحائط عاد بعينه وليس للبانى فيه إلا أثر في تأليفه، وإن بناه بغير آلته كان الحائط للبانى، لا يجوز لشريكه أن ينتفع من غير اذنه، فإن أراد البانى نقضه كان له ذلك لانه ملكه لا حق لغيره فيه فجاز له نقضه، فان قال له الممتنع لا تنقض وأنا أعطيك نصف القيمة لم يجز له نقضه، لان على هذا القول يجبر على البناء.

فإذا بناه أحدهما وبذل له الآخر نصف القيمة وجب تبقينه وأجبر عليه، كما أجبر

على البناء.

وإن قلنا بقوله الجديد فأراد الشريك أن يبنيه لم يمنع، لانه يعيد رسما في ملك مشترك وهو عرصة الحائط فلم يمنع منه، فان بناه بآلته فهو بينهما، ولكل واحد منهما أن ينتفع به ويعيد ماله من رسم خشب.

وان بناه بآلة أخرى فالحائط له، وله أن يمنع الشريك من الانتفاع به، وان أراد نقضه كان له، لانه لا حق لغيره فيه.

فان قال له الشريك لا تنقضه وأنا أعطيك نصف القيمة لم يمنع من نقضه، لان على هذا القول لو امتنع من البناء في الابتداء لم يجبر.

فإذا بناه لم يجبر على تبقيته.

وان قال: قد كان لى عليه رسم خشب وأعطيك نصف القيمة وأعيد رسم الخشب، قلنا للبانى: اما أن تمكنه من اعادة رسمه وتأخذ نصف القيمة.

واما أن تنقضه ليبنى معك، لان القرار مشترك بينهما، فلا يجوز أن يعيد رسمه، ويسقط حق شريكه.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 416)

________________________________________

(الشرح) الاحكام: إذا كان بينهما حائط مشترك فانهدم أو هدماه، فدعا أحدهما إلى بنائه وامتنع الآخر، فهل يجبر الممتنع؟ فيه قولان.

هكذا لو كان بينهما نهر عظيم، أو بئر فاجتمع فيه الطين، فهل يجبر الممتنع من كسحها على ذلك؟ فيه قولان.

وقال أبو حنيفة: لا يجبر الممتنع على بناء الحائط، ويجبر على كسح النهر والبئر.

وقال أحمد لا يجبر على البناء لانه إذا كان الممتنع مالكه لم يجبر على البناء في ملكه المختص به، وإن كان الممتنع الآخر لم يجبر على بناء ملك غيره ولا المساعدة فيه.

وقال مالك وأبو ثور: وأحد القولين عندنا يجبر قال العمرانى في البيان: وعندنا الجميع على قولين - وهو يعنى بالجميع الحائط

والبئر والنهر في البناء وكسح الطين قال في القديم: يجبر الممتنع منهما.

وبه قال مالك رحمه الله تعالى.

واختاره ابن الصباغ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا ضَرَرَ وَلَا ضرار " فإذا لم يجبر الممتنع أضررنا بشريكه، ولانه إنفاق على ملك مشترك لازالة الضرر فأجبر الممتنع منهما، كالانفاق على الحيوان المشترك.

وقال في الجديد: لا يجبر الممتنع، لانه إنفاق على ملك لو انفرد بملكه لم يجبر عليه، فإذا كان مشاركا لغيره لم يجبر عليه، كما لو كان بينهما براح من الارض لا بناء عليه فدعا أحدهما الآخر إلى البناء فامتنع فانه لا يجبر، وعكس ذلك البهيمة والعبد المشتركين، لما لزم صاحبه الانفاق عليه عند الانفراد بملكه أجبر على الانفاق عليه إذا شارك غيره.

وأما الخبر فلا حجة فيه، لانا لو أجبرنا الشريك لاضررنا به، والضرر لا يزال بالضرر، فإذا قلنا بقوله القديم فطالب الشريك شريكه بالبناء لزمه الانفاق معه بقسط ما يملك من الحائط، فان امتنع أجبره الحاكم، فإن كان له مال أخذ الحاكم منه وأنفق عليه ما يخصه، وإن كان معسرا اقترض له الحاكم من الشريك أو من غيره.

وإن بناه الشريك بإذن الحاكم أو بإذن الممتنع كان الحائط ملكا بينهما كما كان

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 417)

________________________________________

ويرجع الذى بناه على شريكه بحصته من النفقة، وان بناه بغير اذن شريكه لا ان الحاكم لم يرجع بما أنفق، لانه متطوع بالانفاق، ثم ينظر فان بنى الحائط بآلته ومادته الاولى كان ملكا بينهما كما كان، لان المنفق انما أنفق على التأليف، وذلك أثر لا عين يملكها.

وان أراد الذى بناه نقضه لم يكن له ذلك لان الحائط ملك لهما، وان بنى له بآلة أخرى كان الحائط للذى بناه، وله أن يمنع شريكه من

الارتفاق به، فان أراد الذى بناه نقضه كان له ذلك لانه منفرد بملكه وان قال له الممتنع لا تنقض وأنا أدفع ما يخصنى من النفقة أجبر الذى بناه على التبقية، لانه لما أجبر الشريك على البناء أجبر الذى بنى على التبقية ببذل النفقة وان كان بينهما نهر أو بئر وأنفق أحدهما بغير اذن شريكه أو اذن الحاكم فانه لا يرجع بما أنفق، وليس له أن يمنع شريكه من نصيبه من الماء، لان الماء ينبع في ملكيهما، وليس له الا نقل الطين، وذلك أثر لا عين بخلاف الحائط.

وان قلنا بقوله الجديد لم يجبر الممتنع منهما.

فان أراد أحدهما بناءه لم يكن للآخر منعه من ذلك لانه يزول به الضرر عن الثاني، فان بناه بآلته كان الحائط ملكا لهما كما كان، فلو أراد الذى بناه أن ينقضه لم يكن له ذلك لان الحائط ملكهما، فهو كما لو لم ينفرد ببنائه.

وان بناه بآلة له فهو ملك الذى بناه وله أن يمنع شريكه من الارتفاق به.

فان أراد الذى بناه أن ينقضه كان له ذلك لانه ملك له ينفرد به، فان قال له الممتنع: لا تنقض وأنا أدفع اليك ما يخصنى من النفقة لم يجبر الذى بنى على التبقية لانه لما لم يجبر على البناء في الابتداء لم يجبر على التبقية في الانتهاء فإن طالب الشريك الممتنع بنقضه لم يكن له ذلك الا أن يكون له خشب فيقول له اما أن تأخذ منى ما يخصنى من النفقة وتمكنني من وضع خشبي أو تقلع حائطك لنبنيه جميعا فيكون له ذلك لانه ليس للذى بناه ابطال رسوم شريكه، هذا إذا انهدم أو هدماه من غير شرط البناء.

فأما إذا هدماه على أن يبنيه أحدهما، أو هدمه أحدهما متعديا.

قال الشافعي رضى الله عنه أجبرته على البناء واختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال هي على قولين، كما لو هدماه من غير شرط

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 418)

________________________________________

والذى نص عليه الشافعي رضى الله عنه إنما هو على القول القديم، وهو اختيار

المحاملى، لان الحائط لا يضمن بالمثل، ومنهم من قال يجبر قولا واحدا.

قال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ في الجديد، ولانه هدمه بهذا الشرط فلزمه الوفاء به.

(فرع)

وإن كان الحائط بينهما نصفين فهدماه أو انهدم ثم اصطلحا على أن يبنياه وينفقا عليه بالسوية ويكون لاحدهما ثلث الحائط وللآخر ثلثاه، ويحمل عليه كل واحد منهما ما شاء فلا يصح هذا الصلح، لان الصلح هو أن يترك بعض حقه بعوض.

وههنا قد ترك أحدهما لصاحبه سدس الحائط بغير عوض فلم يصح كما لو ادعى على رجل دارا فأقر له بها ثم صالحه المدعى منها على سكناها فلا يصح لانه ملكه الدار والمنفعة، ثم مصالحته على منفعتها ترك حق له بلا عوض كذلك ههنا مثله، ولان هذا شرط فاسد، لان كل واحد منهما شرط أن يحمل عليه ما شاء والحائط لا يحمل ما شاء فلم يصح، كما لو صالحه على أن يبنى على حائطة ما شاء فانه لا يصح لان ذلك مجهول.

وإن اصطلحا على أن يبنيا وينفق عليه أحدهما ثلث النفقة، وينفق عليه الآخر ثلثى النفقة، ويحمل على الحائط خشبا معلومة، فقد قال الشيخ أبو حامد في دراسة أولى يصح الصالح، لانه لما زاد في الانفاق ترك الآخر بعض حقه بعوض.

وقال في درسه مرة ثانية: لا يصح هذا الصلح لان النفقة التى تزيد على نفقة حقه مجهولة، والصلح على عوض مجهول لا يصح، ولانه صلح على ما ليس بموجود، لان الحائط وقت العقد معدوم اه قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

وان كان لاحدهما علو وللآخر سفل والسقف بينهما، فانهدم حيطان السفل لم يكن لصاحب السفل أن يجبر صاحب العلو على البناء قولا واحدا لان حيطان السفل لصاحب السفل فلا يجبر صاحب العلو على بنائه، وهل لصاحب

العلو إجبار صاحب السفل على البناء؟ فيه قولان.

فإن قلنا يجبر ألزمه الحاكم، فإن لم يفعل وله مال باع الحاكم عليه ماله وأنفق عليه.

وإن لم يكن له مال اقترض

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 419)

________________________________________

عليه، فإذا بنى الحائط كان الحائط ملكا لصاحب السفل لانه بنى له وتكون النفقة في ذمته ويعيد صاحب العلو غرفته عليه وتكون النفقة على الغرفة وحيطانها من ملك صاحب العلو دون صاحب السفل لانها ملكه لا حق لصاحب السفل فيه وأما السقف فهو بينهما وما ينفق عليه فهو من مالهما، فان تبرع صاحب العلو وبنى من غير اذن الحاكم لم يرجع صاحب العلو على صاحب السفل بشئ، ثم ينظر فإن كان قد بناها بآلتها كانت الحيطان لصاحب السفل لان الآلة كلها له وليس لصاحب العلو منعه من الانتفاع بها ولا يملك نقضها لانها لصاحب السفل وله أن يعيد حقه من الغرفة، وإن بناها بغير آلتها كانت الحيطان لصاحب العلو وليس لصاحب السفل أن ينتفع بها ولا أن يتد فيها وتدا ولا يفتح فيها كوة من غير إذن صاحب العلو، ولكن له أن يسكن في قرار السفل لان القرار له ولصاحب العلو أن ينقض ما بناه من الحيطان لانه لا حق لغيره فيها، فإن بذل صاحب السفل القيمه ليترك نقضها لم يلزمه قبولها، لانه لا يلزمه بناؤها قولا واحدا فلا يلزمه تبقيتها ببذل العوض.

والله أعلم (الشرح) قوله " يتد " مثل يعد ويزن، وهو الفعل المسمى عند النحاة بالمثال تحذف فاء مضارعة.

أما الاحكام: فإن كان حيطان العلو لرجل وحيطان السفل لآخر، والسقف بينهما فانهدم الجميع فليس لصاحب السفل أن يجبر صاحب العلو على البناء قولا واحدا، لان حيطان السفل لصاحب السفل فلا يجبر غيره على بنائها، وهل لصاحب العلو المطالبة بإجبار صاحب السفل على بناء السفل؟ على القولين في

الحائط، فإن قلنا بقوله القديم أجبر الحاكم صاحب السفل على البناء، وان لم يكن له مال اقترض عليه من صاحب العلو ومن غيره وبنى له سقفه، وكان ذلك دينا في ذمته إلى أن يوسر.

وهكذا إذا بنى صاحب العلو حيطان السفل باذن صاحب السفل أو باذن الحاكم جاز، وكانت حيطان السفل لصاحب السفل، ولصاحب العلو أن يرجع بما أنفقه على حيطان السفل على صاحب السفل، ثم يعيد علوه كما كان.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 420)

________________________________________

فان أراد صاحب العلو أن يبنى من غير إذن الحاكم وأذن صاحب السفل لم يمنع من ذلك لانه يستحق الحمل على حيطان السفل، ولا يرجع بما انفق عليها لانه متطوع، فان بنى السفل بآلته كان ملكا لصاحب السفل كما كان، ويرجع لصاحب العلو نقضها، ولكن يعيد علوه عليها.

وإن بناه بآلة أخرى كانت الحيطان ملكا لصاحب العلو، وليس لصاحب السفل أن يضع عليها شيئا، ولا يتد فيها وتدا، ولكن له أن يسكن في قرار السفل، لان ذلك قرار ملكه، فان أراد صاحب العلو نقض ذلك كان له ذلك لانه له أن يسكن في قرار السفل، لان ذلك قرار ملكه، فان أراد صاحب العلو نقض ذلك كان له ذلك لانه ملكه فان بذل صاحب السفل ما أنفق ولا ينقض لم يجبر صاحب العلو على التبقية لانه لم يجبر على البناء في الابتداء فلم يجبر على التبقية في الانتهاء (مسألة) قال الشافعي رضى الله عنه: ولو ادعى على رجل بيتا في يده فاصطلحا بعد الاقرار على أن يكون لاحدهما سطحه، والبناء على جدرانه بناء معلوما فجائز، واختلف أصحابنا في صورة هذه المسألة، فقال أبو العباس بن سريج وصورتها أن يدعى رجل على رجل دارا في يده علوها وسفلها فيقر له بها، ثم

اصطلحا على أن يكون السفل والعلو للمقر له.

ويبنى المقر على العلو بناء معلوما.

فيصح الصلح، ويكون ذلك فرعا للعارية وليس بصلح معاوضة، لان صلح المعاوضة إسقاط بعض حقه بعوض، وهذا ترك بعض حقه بلا عوض، لانه ملك العلو والسفل بالاقرار، ثم ترك المقر له للمقر العلو بغير عوض فيكون عارية له الرجوع فيها قبل البناء، وليس له الرجوع بعد البناء، كما قال الشافعي رضى الله عنه: إذا ادعى على رجل دارا فأقر له بها ثم صالحه منها على سكناها فلا يكون صلحا وإنما يكون عارية ومنهم من قال صورتها أن يدعى رجل على رجل سفل بيت عليه علو ويقر أن العلو للمدعى، فيقر المدعى عليه للمدعى بالسفل، ثم اصطلحا على أن يكون السفل للمدعى عليه، على أن المدعى يبنى على العلو غرفة معلومة البناء فيصح

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 421)

________________________________________

قال الشيخ أبو حامد الاسفراينى: وهذا أصح التأويلين، وقال ابن الصباغ: الاول أشبه بكلام الشافعي رحمه الله تعالى.

(مسألة ثانية) إذا ادعى رجل دارا في يد رجلين فأقر له أحدهما بنصفها، وانكر الآخر وحلف له.

فصالح المقر للمدعى عن نصف الدار على عوض وصار ذلك النصف للمقر، فهل لشريكه المنكر أن يأخذ ذلك بالشفعة؟ قال الشيخ أبو حامد: إن كان ملكا بجهتين مختلفتين، مثل أن كان أحدهما ورث ما بيده والآخر ابتاع ما بيده، فللشريك المنكر الشفعة، لان الجهتين إذا اختلفتا أمكن أن يكون نصيب أحدهما مستحقا، فيدعيه صاحبه فيعطيه ثم يملكه بالصلح فتثبت فيه الشفعة.

وإن اتفقت جهة الملك لهما بالارث مثلا أو الابتياع.

ففيه وجهان

(أحدهما)

ليس للمنكر الاخذ بالشفعة، لانه يقر بأن أخاه أقر بنصف

الدار بغير حق ولم يملكه بالصلح.

وهذا يمنعه من المطالبة بالشفعة

(والثانى)

له المطالبة بالشفعة وهو الصحيح، لانه قد حكم بنصفها للمقر له وحكم بأنه انتقل إلى المقر له بالصلح، مع أنه يحتمل أن يكون قد انتقل إليه نصيب المقر من غير أن يعلم الآخر.

وأما ترتيب ابن الصباغ فيها فقال: إن كان إنكار المنكر مطلقا، كأن أنكر ما ادعاه فله الاخذ بالشفعة.

وان قال: هذه الدار لنا ورثناها عن أبينا، فهل له الاخذ بالشفعة؟ فيه وجهان (مسألة ثالثة) قال الشافعي رضى الله عنه: إذا أقر أحد الورثة في دار في أيديهم بحق لرجل ثم صالحه منه على شئ بعينه فالصلح جائز، والوارث المقر متطوع ولا يرجع على إخوته بشئ، واختلف أصحابنا في صورتها، فمنهم من قال: صورتها أن يدعى رجل على جماعة ورثة لرجل دارا في أيديهم كان أبوهم قد غصبه إياها فأقر له أحدهم بذلك وقال صدقت في دعواك وقد وكلنى شركائي على مصالحتك بشئ معلوم، فحكم هذا في حق شركائه حكم الأجنبي إذا صالح عن المدعى عليه عينا مع الانكار، على ما مضى بيانه وقال أبو على الطبري: تأويلها أن يدعى رجل على جماعة ورثة دينا على

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 422)

________________________________________

مورثهم، وأن هذه الدار رهن عنده بالدين، فيقر له أحدهم بصحة دعواه ويصالحه عن ذلك بشئ، فحكمه حكم الأجنبي إذا صالح عن المدعى عليه بالدين مع إنكاره، قال لان الشافعي رحمه الله قال: وأقر أحد الورثة في دار في أيديهم بحق.

ولو أقر بالدار يقال: أقر بالدار، وإنما أراد رهن الدار، وأيهما كان فقد مضى حكمه.

قال الشيخ أبو حامد: والتأويل الاول أصح، وقد بين الشافعي رحمه الله

ذلك في الام.

(مسألة رابعة) قال الشافعي في الام: ولو ادعى رجل على رجل زرعا في الارض فصالحه من ذلك على دراهم فجائز، وهذا كما قال: إذا ادعى رجل على رجل زرعا في أرض فأقر له به فصالحه منع بعوض، فان كان بشرط القطع صح الصلح، وإن كانت الارض للمقر كان له تبقية الزرع، لان الزرع له، والارض له.

فان قيل هلا كان للمدعى إجباره على القطع، لان له عوضا في ذلك، وهو أنه ربما أصابته جائحة فرفعه إلى الحاكم، يرى إيجاب وضع الجوائح فيضمنه ذلك؟ قال ابن الصباغ: فالجواب أن ذلك إنما يكون إذا لم يشرط القطع.

فأما مع شرط القطع فلا يضمن البائع الجوائح، وان صالحه من غير شرط القطع، فان كانت الارض لغير المقر لم يصح الصلح، وان كانت الارض للمقر فهل يصح الصلح؟ فيه وجهان مضى ذكرهما في البيع وان كان الزرع بين رجلين، فادعى عليهما رجل به فأقر له أحدهما بنصفه وصالحه منه على عوض، فان كانت الارض لغير المقر لم يصح، سواء كان مطلقا أو بشرط القطع، لانه ان كان مطلقا فلا يصح لانه زرع أخضر فلا يصح بيعه من غير شرط القطع، وان كان شرط القطع لم يصح أيضا لان نصيبه لم يتميز عن نصيب شريكه، ولا يجبر شريكه على قلع زرعه، هكذا ذكر الشيخ أبو حامد وابن الصباغ، وقد مضى ذكر أقوالهما في البيوع وذكر القاضى أبو الطيب أن ذلك يبنى على القولين في القسمة، هل هي بيع أو اقرار حق؟ وان كانت الارض للمقر - فان قلنا من اشترى زرعا في أرضه

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 423)

________________________________________

يصح من غير شرط القطع صح الصلح ههنا، وان قلنا لا يصح أن يشترى زرعا

في أرضه الا بشرط القطع لم يصح ههنا (فرع)

قال ابن الصباغ: وان ادعى على رجل زرعا في أرضه فأقر له بنصفه ثم صالحه منه على نصفه على نصف الارض لم يجز، لان من شرط بيع الزرع قطعه.

وذلك لا يمكن في المشاع، وان صالحه منه عى جميع الارض بشرط القطع على أن يسلم إليه الارض فارغة صح، لان قطع جميع الزرع واجب نصفه بحكم الصلح والباقى لتفريغ الارض فأمكن القطع وجرى مجرى من اشترى أرضا فيها زرع وشرط تفريغ الارض فانه يجوز، كذلك ههنا وان أقر له بجميع الزرع وصالحه من نصفه على نصف الارض ليكون الزرع والارض بينهما نصفين، وشرط القطع في الجميع، فان كان الزرع زرع في الارض بغير حق جاز الصلح لان الزرع يجب قطع جميعه، وان كان الزرع زرع لحق لم يصح الصلح، لانه لا يمكن قطع الجميع وذكر الشيخ أبو حامد الاسفراينى في التعليق أن أصحابنا قالوا: إذا كان له زرع أرض غيره فصالح صاحب الزرع صاحب الارض من نصف الزرع على نصف الارض بشرط القطع جاز، لان نصف الزرع قد استحق قطعه بالشرط، والنصف الاخر قد استحق أيضا قطعه لانه يحتاج إلى تفريغ الارض ليسلها فوجب أن يجوز.

قال وهذا ضعيف.

أما النصف فقد استحق قطعه.

وأما النصف الاخر فلا يحتاج إلى قطعه.

لانه يمكن تسليم الارض وفيها زرع قال ابن الصباغ: ولان باقى الزرع ليس يمنع فلا يصح شرط قطعه في العقد، ويفارق ما ذكرناه إذا أقر بنصف الزرع وصالحه على جميع الارض، لانه بشرط تفريغ المبيع، والله أعلم وبه التوفيق ومنه العون سبحانه

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 424)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله تعالى:

 

‌كتاب الحوالة

 

تجوز الحوالة بالدين، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " مطل الغنى ظلم، فإذا أتبع أحدكم على ملئ فليتبع " (الشرح) الحول: الحيلة أو القوة أو السنة، وحال الغلام وحالت الدار أتى عليها الحول.

وحالت القوس اعوجت، وحال اللون تغير.

والحال: الطين.

والتحول التنقل والاسم الحول، ومنه قوله تعالى (لا يبغون عنها حولا) وذكر الازهرى عن الزجاج أن الحول مصدر كالصغر، وأحال الرجل أتى بالمحال، وأحال عليه بدينه، والاسم الحوالة بفتح الحاء، المحالة في قولهم: لا محالة.

أي لابد.

والملئ: الغنى الواسع الثراء، ومن هنا تكون الحوالة نقل حق من ذمة إلى ذمة من قولهم: حولت الشئ من موضع إلى موضع إذا نقله إليه.

أما حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَوَاهُ البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه باللفظ الذى ساقه المصنف، ورواه أحمد بلفظ " مطل الغنى ظلم، ومن أحيل على ملئ فليحتل " وعند ابن ماجه من حديث ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مطل الغنى ظلم وإذا أحلت على ملئ فاتبعه " وإسناده: حدثنا اسماعيل بن توبة ثنا هشيم عن يونس بن عبيد عن نافع عن ابن عمر.

واسماعيل بن توبة قال ابن أبى حاتم صدوق وبقية رجاله رجال الصحيح.

وقد أخرجه الترمذي وأحمد أيضا والحوالة لا تتم إلا بثلاثة أنفس، محيل.

وهو من يحيل بما عليه، ومحتال.

وهو من يحتال بما له من الحق، ومحال عليه، وهو من ينتقل حق المحتال إليه.

واختلفوا هل هي بيع دين بدين، ورخص فيه فاستثنى عن بيع الدين بالدين.

أو هي استيفاء.

وقيل هي عقد إرفاق مستقبل، ويشترط في صحتها رضا المحيل بلا خلاف.

والمحتال عند الاكثر، والمحال عليه عند بعض، ويشترط أيضا تماثل التقدير

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 425)

________________________________________

في الصفات وأن يكون في شئ معلوم، ومنهم من خصها بالنقدين ومنعها في الطعام لانها بيع طعام قبل أن يستوفى.

قوله " مطل الغنى " الجمهور على أنه من إضافة المصدر إلى الفاعل، والمعنى أنه يحرم على الغنى القادر أن يمطل صاحب الدين، بخلاف العاجز.

وقيل هو من إضافة المصدر إلى المفعول، أي يجب على المستدين أن يوفى صاحب الدين.

ولو كان المستحق للدين غنيا فإن مطله ظلم، فكيف إذا كان فقيرا، فإنه يكون ظلما بالاولى، ولا يخفى بعد هذا.

كما قال الحافظ بن حجر والمطل في الاصل المد.

وقال الازهرى: المدافعة قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: والمراد هنا تأخير ما استحق أداؤه بغير عذر.

قوله " وإذا أتبع " بهمز القطع وإسكان التاء المثناة الفوقية على البناء للمجهول قال الامام النووي: هذا هو المشهور في الرواية واللغة.

وقال القرطبى: أما أتبع فبضم الهمزة وسكون التاء مبنيا لما لم يسم فاعله عند الجميع.

وأما فليتبع فالاكثر على التخفيف.

وقيده بعضهم بالتشديد، والاول أجود، وتعقب الحافظ ما ادعاه من الاتفاق.

يقول الخطابى: إن أكثر المحدثين يقولونه.

يعنى اتبع بتشديد التاء والصواب التخفيف.

والمعنى إذا أحيل فليحتل كما وقع في الرواية الاخرى قوله " على ملئ " قيل هو بالهمز، وقيل بغير همز، ويدل على ذلك قول الكرماني: الملئ كالغنئ لفظا ومعنى وقال الخطابى: إنه في الاصل بالهمز.

ومن رواه بتركها فقد سهله قوله " فاتبعه " قال الحافظ بن حجر: هذا بتشديد التاء بلا خلاف

(قلت) وحديث أبى هريرة وحديث ابن عمر يدلان على أنه يجب على من أحيل بحقه على ملئ أن يحتال، والى هذا ذهب أهل الظاهر وأكثر الحنابلة وأبو ثور وابن جرير، وحمله الجمهور على الاستحباب.

قال ابن حجر: ووهم من نقل فيه الاجماع.

وقد اختلف في المطل من الغنى هل هو كبيرة أم لا؟ وقد ذهب الجمهور إلى أنه موجب للفسق، واختلفوا هل يفسق بمرة أو يشترط التكرار؟ وهل تعتبر

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 426)

________________________________________

الطلب من المستحق أم لا؟ قال في فتح الباري: وهل يتصف بالمطل من ليس القدر الذى عليه حاضرا عنده، لكنه قادر على تحصيله بالتكسب مثلا؟ قولان عندنا (أولهما) عدم الوجوب

(والثانى)

الوجوب مطلقا، وفصل أصحاب قول ثالث بين أن يكون أصل الدين بسبب يعصى به فيجب وإلا فلا.

قال الشوكاني: والظاهر الاول لان القادر على التكسب ليس بملئ، والوجوب إنما هو عليه فقط، لان تعليق الحكم بالوصف مشعر بالعلية.

قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

ولا تجوز إلا على دين يجوز بيعه، كعوض القرض، وبدل المتلف، فأما مالا يجوز بيعه كدين السلم ومال الكتابة فلا تجوز الحوالة به، لان الحوالة بيع في الحقيقة، لان المحتال يبيع ماله في ذمة المحيل بما له في ذمة المحال عليه، والمحيل يبيع ماله في ذمة المحال عليه بما عليه من الدين، فلا يجوز إلا فيما يجوز بيعه.

(الشرح) الاحكام: تجوز الحوالة بعوض القرض وبدل المتلف، لانه حق ثابت مستقر في الذمة، فجازت الحوالة به كبيعه قال الشيخ أبو حامد الاسفرايينى: وتجوز الحوالة بثمن المبيع لانه دين

مستقر.

وهل تجوز الحوالة بالثمن في مدة الخيار؟ فيه وجهان حكاهما ابن الصباغ

(أحدهما)

وهو قول القاضى أبى حامد: لا تصح الحوالة به لانه ليس بثابت.

 

(والثانى)

يصح لانه يؤول إلى اللزوم ولا تجوز الحوالة بالمبيع لانه غير مستقر، لانه قد يتلف قبل القبض فيبطل البيع فيه.

(فرع)

ولا تجوز الحوالة بدين السلم ولا عليه، لان دين السلم غير مستقر لانه يعرضه للفسخ انقطاع المسلم فيه، ولا تصح الحوالة به لانها لم تصح إلا فيما يجوز أخذ العوض عنه والسلم لا يجوز أخذ العوض عنه، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم " من أسلم في شئ فلا يصرفه إلى غيره " وأما المكاتب إذا حصلت عليه ديون لغير سيده من المعاملة، وله ديون جاز

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 427)

________________________________________

أن يحيل بعض غرمائه على بعض، وجاز لغرمائه أن يحيلوا عليه بما لهم في ذمته.

لان الحق ثابت في ذمته.

وأما ما في ذمته من مال الكتابة فلا يجوز لسيده أن يحيل به عليه، لانه غير مستقر، لان له أن يعجز نفسه متى شاء، فلا معنى للحوالة به، وإن أراد المكاتب أن يحيل سيده بمال الكتابة الذى عليه على غريم للمكاتب قال ابن الصباغ صحت الحوالة.

(قلت) وقد قال أصحاب أحمد كقولنا في كل ما ذكرنا وفى الدين على المكاتب وله حكمه حكم الاحرار، وكذلك ما في ذمته من مال الكتابة له أن يحيل سيده على غرمائه وتبرأ ذمته من مال الكتابة بهذه الحوالة، ويكون ذلك بمنزلة القبض، ولا يصح لسيده أن يحيل مال الكتابة إلى غرمائه لانه يستطيع أن يعجز نفسه.

واشترط صاحب المجموع أن يكون النجم قد حل لانه بمنزلة أن يقضيه

ذلك من يده، وان كان لسيده عليه مال من جهة المعاملة فهل يجوز للسيد أن يحيل غريما له عليه، فيه وجهان حكاهما الطبري

(أحدهما)

يصح.

ولم يذكر ابن الصباغ غيره، لانه دين لازم

(والثانى)

لا يصح لانه قد يعجز نفسه فيسقط ما في ذمته لنفسه من دين المعاملة وغيرها، لان السيد لا يثبت له مال على العبد قال الصيمري: وان أحاله رجل على عبده - فإن كان مأذونا في التجارة - جاز، وان كان غير مأذون ففيه وجهان، الاصح لا تصح الحوالة (فرع)

إذا أحالت المرأة على زوجها بصداقها قبل الدخول لم يصح لانه دين غير مستقر، وان أحالها الزوج به صح، لانه له تسليمه إليها وحوالته به تقوم مقام تسليمه، وان أحالت به بعد الدخول صح لانه مستقر قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

واختلف أصحابنا في جنس المال الذى تجوز به الحوالة، فمنهم من قال لا تجوز الا بما له مثل، كالاثمان والحبوب وما أشبهها، لان القصد بالحوالة اتصال الغريم إلى حقه على الوفاء من غير زيادة ولا نقصان، ولا يمكنه ذلك الا فيما له مثل، فوجب أن لا يجوز فيما سواه، ومنهم من قال تجوز في كل ما يثبت

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 428)

________________________________________

في الذمة بعقد السلم كالثياب والحيوان، لانه مال ثابت في الذمة يجوز بيعه قبل القبض، فجازت الحوالة به كذوات الامثال.

 

(فصل)

ولا تجوز الا بمال معلوم، لانا بينا أنه بيع فلا تجوز في مجهول واختلف أصحابنا في ابل الدية، فمنهم من قال لا تجوز.

وهو الصحيح لانه مجهول الصفة فلم تجز الحوالة به كغيره.

ومنهم من قال تجوز لانه معلوم العدد والسن فجازت الحوالة به.

(الشرح) الاحكام: تجوز الحوالة بالدراهم والدنانير وبما له مثل كالطعام

والادهان، وما استحدث في عصرنا هذا من صناعات بخارية وكهربية كالسيارة والثلاجة والغسالة والمرناة (التلفزيون) والمذياع بشرط أن تكون جديدة محددة الصفات حتى تتحق المثلية، فإذا كانت مستعملة وأمكن تحديد الهرش من حيث زمن الاستعمال وقدر الهرش وضبطه ووجد المثيل بشهادة الخبير الامين من غير زيادة أو نقصان جازت الحوالة، لان القصد بالحوالة ايفاء الغريم حقه من غير زيادة ولا نقصان، وذلك يحصل بما ذكرناه.

وهل تصح الحوالة بما لا مثل له مما يضبط بالصفة كالثياب والحيوان والعروض التى يصح السلم عليها؟ فيه وجهان

(أحدهما)

يصح، لانه مال ثابت في الذمة مستقر فصحت الحوالة به، كالدراهم والدنانير

(والثانى)

لا يصح، لان المثل فيه لا ينحصر، ولهذا لا يضمن بمثله في الاتلاف.

فإذا قلنا بهذا لم تجز الحوالة بإبل الدية، وإذا قلنا بالاول فهل تصح الحوالة بإبل الدية.

فيه وجهان مخرجان من القولين للشافعي رضى الله عنه: إذا جنت امرأة على رجل موضحة فتزوجها على خمس من الابل في ذمتها له أرش جنايتها عليه.

وكذلك قال في الصلح: إذا كان له في ذمته أرش جناية خمس من الابل فصالح عنها، فهل يصح.

فيه قولان

(أحدهما)

يصح لانه دين مستقر في الذمة معلوم العدد والسن.

 

(والثانى)

لا يصح وهو الصحيح، لانها مجهولة الصفة، لا يتعين على من وجبت عليه أن يسلمها بخصوصها

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 429)

________________________________________

وقال أصحاب أحمد لا تصح الحوالة فيما لا يصح السلم فيه، لانه لا يثبت في الذمة، ومن شرط الحوالة تساوى الدينين، فأما ما يثبت في الذمة سلما غير المثليات كالمذروع والمعدود، ففى صحة الحوالة به وجهان

(أحدهما)

لا تصح لان

المثل فيه لا يتحرر، ولهذا لا يضمنه بمثله في حالة الاتلاف (الثاني) تصح، ذكره القاضى من الحنابلة قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

ولا تجوز الا أن يكون الحقان متساويين في الصفة والحلول والتأجيل، فإن اختلفا في شئ من ذلك لم تصح الحوالة، لان الحوالة ارفاق كالقرض، فلو جوزنا مع الاختلاف صار المطلوب منه طلب الفضل، فتخرج عن موضوعها، فان كان لرجل على رجلين ألف على كل واحد منهما خمسمائة، وكل واحد منهما ضامن عن صاحبه خمسمائة، فأحال عليهما رجلا له عليه ألف، على أن يطالب من شاء منهما بألف، ففيه وجهان

(أحدهما)

تصح، وهو قول الشيخ أبى حامد الاسفراينى رحمه الله، لانه لا يأخذ الا قدر حقه.

 

(والثانى)

لا تصح، وهو قول شيخنا القاضى أبى الطيب رحمه الله، لانه يستفيد بالحوالة زيادة في المطالبة، وذلك لا يجوز، ولان الحوالة بيع فإذا خيرناه بين الرجلين صار كما لو قال " بعتك أحد هذين العبدين " (الشرح) ولا تصح الحوالة الا ان كان الحقان من جنس واحد، فإن كان عليه لرجل دنانير فأحاله بها على رجل له عليه دراهم، أو حال من له عليه حنطة على من له شعير أو ذرة لم تصح الحوالة، لان موضوع الحوالة أنها لا تفتقر إلى رضى المحال عليه، فلو صححناها بغير جنس الحق لاشترط فيها رضاه، لانه لا يجبر على تسليم غير الجنس الذى عليه، ولان الحوالة تجرى مجرى المقاصة، لان المحبل سقط ما في ذمته بما له في ذمة المحال عليه، ثم المقاصة لا تصح من جنس بجنس آخر وكذلك الحوالة، ولا تصح الحوالة الا ان كان الحقان من نوع

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 430)

________________________________________

واحد لما ذكرناه في الجنس.

فإن كان له على رجل ألف صحاح، فأحاله بها على من له عليه ألف مكسرة، أو كان بالعكس من ذلك لم تصح الحوالة، لان الحوالة في الحقيقة بيع دين بدين، وبيع الدراهم بالدراهم صرف من شرطه القبض في المجلس إلا ان جوزنا تأخير القبض في الحوالة، لانه عقد إرفاق معروف، فإذا دخل فيه الفضل صار بيعا وتجارة، وبيع الدين بالدين لا يجوز.

ألا ترى أن القرض في الحقيقة صرف، لانه يعطى درهم بدرهم، ولكن جوز تأخير القبض فيه لانه إرفاق.

ولو قال أقرضتك هذه الدراهم المكسرة لتردها على صحاحا لم يصح.

وكذلك هذا مثله.

(فرع)

وإن كان لرجل على رجلين ألف درهم كل واحد خمسمائة، وكل واحد منهما ضامن عن صاحبه، فأحاله أحدهما على آخر بألف برئت ذمتهما مما له عليهما وإن أحال عليهما رجلا له عليه ألف ليأخذ من كل واحد منهما خمسمائة صح.

وإن أحاله عليهما على أن يطالب من شاء منهما بالالف فهل تصح الحواله، فيه وجهان حكاهما أبو العباس بن سريج

(أحدهما)

تصح الحوالة، وهو اختيار الشيخ أبى حامد الاسفرايينى، لان المحتال لا يأخذ الا قدر حقه، لان الزيادة انما تكون في القدر أو الصفة، ألا ترى أنه يجوز أن يحيل على من هو أملا منه

(والثانى)

لا تصح الحوالة، وهو اختيار القاضى أبى الطيب لانه يستفيد بهذه الحوالة زيادة في المطالبة، لانه كان يطالب واحدا فصار يطالب اثنين، ولان الحوالة بيع فإذا كان الحق على اثنين كان المقبوض منه منهما مجهولا فلم يصح وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:

(فصل)

ولا تجوز الحوالة الا على من له عليه دين، لانا بينا أن الحوالة بيع ما في الذمة بما في الذمة، فإذا أحال من لا دين له عليه كان بيع معدوم فلم

تصح.

ومن أصحابنا من قال تصح إذا رضى المحال عليه، لانه تحمل دين يصح إذا كان عليه مثله فصح، وان لم يكن عليه مثله كالضمان فعلى هذا يطالب المحيل

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 431)

________________________________________

بتخليصه، كما يطالب الضامن المضمون عنه بتخليصه، فإن قضاه بإذنه رجع على المحيل، وإن قضاه بغير إذنه لم يرجع.

(الشرح) الاحكام: إذا كان لرجل على رجل حق فأحاله على من لا حق عليه: فإن لم يقبل المحال عليه الحوالة لم تصح الحوالة ولم يبرأ المحيل لانه لا يستحق شيئا على المحال عليه.

وإن قبل المحال عليه الحوالة فهل تصح الحوالة فيه وجهان

(أحدهما)

لا تصح.

وهو قول أكثر أصحابنا، وهو ظاهر كلام المزني لان الحوالة معاوضة، فإذا كان لا يملك شيئا في ذمة المحال عليه لم يصح، كما لو اشترى شاة حية بشاة ميتة.

ولانه لو أحال على من له عليه دين غير لازم أو غير مستقر أو مخالف لصفة دينه لم يصح، فلان لا تصح الحوالة على من لا دين له عليه أولى

(والثانى)

تصح الحوالة.

وهو قول أبى حنيفة وأصحابه، لان المحال عليه إذا قبل الحوالة صار كأنه قال لصاحب الحق أسقط عنه حقك وأبرئه وعلى عوضه.

ولو قال ذلك للزمه لانه استدعى إتلاف ملك بعوض فكذلك هذا مثله فإذا قلنا بهذا فللمحال عليه أن يطالب المحيل بتخليصه، كما يطالب الضامن المضمون عنه بتخليصه.

وإن قبض المحتال الحق من المحال عليه بإذن المحيل، ثم وهبه المحتال للمحال عليه فهل يرجع المحال عليه على المحيل بشئ، فيه وجهان

(أحدهما)

لا يرجع عليه بشئ، لانه لم يغرم شيئا، لان ما دفع إليه رجع إليه

(والثانى)

يرجع عليه وهو المذهب، لا أنه قد غرم، وإنما يرجع عليه بسبب آخر.

وان كان عليه حق مؤجل فأحال به على رجل لا شئ له عليه، وقبل المحال عليه الحوالة - وقلنا

تصح - فإن قضاه المحال عليه الحق في محله بإذن المحيل رجع عليه، وان قضاه قبل حلول الحق لم يرجع على المحيل قبل محل الدين، لانه متطوع بالتقديم فإن اختلف المحيل والمحال عليه فقال المحال عليه: أحلت على ولا حق لك على، فأنا أستحق الرجوع عليك لانى قضيت بإذنك، وقال المحيل: بل أحلت بحق لى عليك، فالقول قول المحال عليه مع يمينه، لان الاصل براءة ذمته من الدين.

والله أعلم

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 432)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

ولا تصح الحوالة من غير رضا المحتال، لانه نقل حق من ذمة إلى غيرها فلم يجز من غير رضا صاحب الحق، كما لو أراد أن يعطيه بالدين عينا، وهل تصح من غير رضا المحال عليه.

ينظر فيه فإن كان على من لا حق له عليه وقلنا انه تصح الحواله على من لا حق له عليه لم تجز الا برضاه، وإن كان على من له عليه حق ففيه وجهان

(أحدهما)

وهو قول أبى سعيد الاصطخرى واختيار المزني أنه لا تجوز الا برضاه لانه أحد من تتم به الحوالة فاعتبر رضاه في الحوالة كالمحتال

(والثانى)

وهو المذهب أنه تجوز، لانه تفويض قبض فلا يعتبر فيه رضى من عليه، كالتوكيل في قبضه، ويخالف المحتال فإن الحق له فلا ينقل بغير رضاه كالبائع، وههنا الحق عليه فلا يعتبر رضاه كالعبد في البيع (الشرح) الاحكام: اعتبار رضى المحتال، هو مذهبنا ومذهب مالك رضى الله عنه.

وقال أحمد وأصحابه وداود وأهل الظاهر: لا يعتبر الرضا.

قال الخرقى ومن أحيل بحقه على ملئ فواجب عليه أن يحتال وقال ابن قدامة، قال أحمد في تفسير الملئ " كان الملئ عنده أن يكون مليئا بماله " وقوله وبدنه ونحو هذا، فإذا أحيل على من هذه صفته لزم المحتال والمحال

عليه القبول ولم يعتبر رضاهما.

وقال أبو حنيفة يعتبر رضاهما، لانها معاوضة فيقتضى الرضا من المتعاقدين.

(قلت) ودليل أحمد وداود وأهل الظاهر قوله صلى الله عليه وسلم " إذا أحيل على ملئ فليحتل " وهذا أمر، والامر يقتضى الوجوب أما دليلنا فان الحق قد تعلق بذمة المحيل فلا يملك نقله إلى غير ذمته بغير رضا من له الحق، كما لو تعلق بعين فليس له أن ينقله إلى عين أخرى بغير رضا من له الحق.

وأما الحديث فمحمول على الاستحباب وأما المحيل فان البغداديين من أصحابنا قالوا يعتبر رضاه لان الحق عليه فلا يتعين عليه جهة قضائه، كما لو كان له دراهم في كيسه فليس لصاحب الحق أن يطالب باجباره على أن يقضيه حقه من كيس معين.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 433)

________________________________________

وأما الخراسانيون فقالوا: هل يعتبر رضا المحيل؟ فيه وجهان.

وصورتها أن يقول المحتال عليه لرجل أحلتك على نفسي بالحق الذى لك على فلان، فإذا قال: قبلت، فهل يصح؟ على الوجهين بناء على الوجهين فيما لو قال: ضمنت عنه بشرط أن تبرئه.

وعندي أن هذين الوجهين انما يتصوران في المحال عليه، إذا لم يكن عليه حق للمحيل - وقلنا: تصح الحوالة على من لا حق له عليه برضاه - فأما إذا كان عليه حق للمحيل فهل يعتبر في صحة الحوالة؟ فيه وجهان.

أحدهما: وهو قول ابن القاص وأبى سعيد الخدرى وأبى سعيد الاصطخرى أن الحوالة لا تصح الا برضاه، وهو قول الزهري، لانه أحد من تتم به الحوالة فاعتبر رضاه كالمحيل والمحتال.

والثانى: وهو المذهب أن الحوالة تصح من غير رضاه، لان المحيل أقام

المحتال مقامه في القبض فلم يعتبر رضا من عليه الحق، كما لو وكل من له الحق وكيلا في القبض، فانه لا يعتبر رضا من عليه الحق.

قال المصنف رحمه الله:

(فصل)

إذا أحال بالدين انتقل الحق إلى المحال عليه، وبرئت ذمة المحيل لان الحواله اما أن تكون تحويل حق أو بيع حق، وأيهما كان وجب أن تبرأ به ذمة المحيل.

 

(فصل)

ولا يجوز شرط الخيار فيه، لانه لم يبن على المغابنة فلا يثبت فيه خيار الشرط، وفى خيار المجلس وجهان

(أحدهما)

يثبت لانه بيع فيثبت فيه خيار المجلس كالصلح

(والثانى)

لا يثبت، لانه يجرى مجرى الابراء، ولهذا لا يجوز بلفظ البيع، فلم يثبت فيه خيار المجلس.

(الشرح) الاحكام: قال الشيخ أبو حامد.

اختلف أصحابنا في الحوالة هل هي بيع أو رفق، على وجهين، فمنهم من قال.

انها رفق لقوله صلى الله عليه وسلم " فإذا أحيل أحدكم على ملئ فليحتل " فندب إلى الحوالة والبيع مباح لا مندوب

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 434)

________________________________________

إليه، وانما المندوب إليه الرفق لقوله صلى الله عليه وسلم في القرض " قرض درهم خير من صدقة " ولان الحوالة لو كانت بيعا لدخل فيها الفضل، ولما صحت بالدين ومنهم من قال.

ان الحوالة بيع، لان البيع ضربان.

ضرب بلفظ البيع فيدخله الربح والفضل والمغابنة.

وضرب منه بغير بفظ البيع القصد منه الرفق فلا يدخله الفضل والمغابنة، ولا يقتضى التمليك كالبيع، لان المحيل يملك المحتال ماله في ذمة المحال عليه الا أنهما اختلفا في الاسم ليعرف به المطلوب من كل واحد منهما فإذا قلنا: انها رفق لم يدخلها خيار المجلس كالقرض.

وإذا قلنا: انها بيع دخلها خيار المجلس في الصرف.

وأما خيار الثلاث فلا يدخلها بالاجماع،

وعندي أن الوجهين في الحوالة على من لا حق له عليه برضا المحال مأخوذان من هذا، فإذا قلنا.

ان الحوالة رفق صحت، وان قلنا.

انها بيع لم تصح.

 

قال المصنف رحمه الله تعالى:

(فصل)

وان أحاله على ملئ فأفلس أو جحد الحق وحلف عليه لم يرجع إلى المحيل، لانه انتقل حقه إلى مال يملك بيعه فسقط حقه من الرجوع، كما لو أخذ بالدين سلعة ثم تلفت بعد القبض، وان احاله على رجل بشرط أنه ملئ فبان أنه معسر فقد ذكر المزني أنه لا خيار له، وأنكر أبو العباس هذا.

وقال له الخيار، لانه غيره بالشرط فثبت له الخيار، كما لو باعه عبدا بشرط أنه كاتب ثم بان أنه ليس بكاتب.

وقال عامة أصحابنا.

لا خيار له، لان الاعسار نقص، فلو ثبت به الخيار لثبت من غير شرط كالعيب في المبيع، ويخالف الكتابة، فان عدم الكتابة ليس بنقص، وانما هو عدم فضيلة، فاختلف الامر فيه بين أن يشرط وبين أن لا يشرط.

(الشرح) الاحكام.

إذا أحال بالحق انتقل الدين من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه.

وبرئت ذمة المحيل، وهو قول العلماء كافة.

وقال زفر.

لا ينتقل الحق من ذمة المحيل، وانما يكون له مطالبة أيهما شاء كالضمان.

دليلنا: أن الحوالة مشتقة من تحويل الحق، والضمان مشتق من ضم ذمة

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 435)

________________________________________

إلى ذمة، فيجب أن يعطى كل لفظ ما يقتضيه، إذا ثبت أن الحق من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، فإن الحق لا يعود إلى ذمة المحيل بافلاس المحال عليه، ولا بموته، ولا بجحوده ويمينه، وبه قال مالك والليث وأحمد رضى الله عنهم وروى ذلك عن على كرم الله وجهه.

وقال أبو حنيفة: يرجع إليه في حالين، إذا مات المحال عليه مفلسا، وإذا

جحد الحق وحلف.

وقال أبو يوسف ومحمد: يرجع إليه في هذين الحالين، وفى حالة ثالثة إذا أفلس المحال عليه، وحجر عليه.

وقال الحكم: يرجع عليه في حالة واحدة إذا مات المحال عليه مفلسا، وأيس من الوصول إلى حقه لقوله صلى الله عليه وسلم " مطل الغنى ظلم وإذا أتبع على ملئ فليتبع ".

وقال أصحاب أحمد رضى الله عنه: لانه شرط ما فيه المصلحة للعقد في عقد معاوضة.

فيثبت الفسخ بفواته ويرجع على المحيل، كما لو شرط صفة في المبيع وقد يثبت بالشرط ما لا يثبت باطلاق العقد، بدليل اشتراط صفة في المبيع.

وقال الشافعي رضى الله عنه: فلما ندب المحتال إلى إتباع المحال عليه بشرط أن يكون المحال عليه مليئا علم أن الحق يتحول عن المحيل إلى ذمة المحال عليه تحولا يمنع المحتال من الرجوع إلى المحيل إذ لو كان له الرجوع إليه لم يكن لعقد هذا الشرط ضرورة.

وقال الربيع بن سليمان: أخبرنا الشافعي في الاملاء قال.

والقول عندنا - والله أعلم - ما قال مالك بن أنس، ان الرجل إذا أحال الرجل على الرجل بحق له، ثم أفلس المحال عليه أو مات لم يرجع المحال على المحيل أبدا، فان قال قائل ما الحجة فيه؟ قال مالك بن أنس أخبرنا عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال " مطل الغنى ظلم، وإذا أتبع أحدكم على ملئ فليتبع " فان قال قائل.

وما في هذا مما يدل على تقوية قولك، قيل.

أرأيت لو كان المحال يرجع على المحيل كما قال محمد بن الحسن إذا أفلس المحال عليه في الحياة أو مات مفلسا، هل يصير المحال على من أحيل، أرأيت لو أحيل

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 436)

________________________________________

على مفلس وكان حقه نائيا عن المحيل هل ان يزداد بذلك الا خيرا ان أيسر المفلس، والا فحقه حيث كان، ولا يجوز الا أن يكون في هذا.

ثم قال: أما قولنا: إذا برئت من حقك وضمنه غيرى فالبراءة لا ترجع إلى أن تكون مضمونة، واما لا تكون الحوالة جائزة، فكيف يجوز أن أكون بريئا من دينك إذا أحلتك لو حلفت وحلفت ما لك على حق بررنا، فان أفلس عدت على بشئ بعد أن برئت منه بأمر قد رضيت به جائزا بين المسلمين واحتج محمد بن الحسن بأن عثمان قال في الحوالة والكفالة: يرجع صاحبه لا توى على مسلم، وهو في أصل قوله يبطل من وجهين، ولو كان ثابتا عن عثمان لم يكن فيه حجة، انما شك فيه عثمان.

ولو ثبت ذلك عن عثمان احتمل حديث عثمان خلافه.

وإذا أحال الرجل على الرجل بالحق فأفلس المحال عليه أو مات ولا شئ له لم يكن للمحتال أن يرجع على المحيل، من قبل أن الحوالة تحول حق من موضعه إلى غيره، وما تحول لم يعد، والحوالة مخالفة للحمالة، ما تحول عنه لم يعد الا بتجديد عودته عليه، ونأخذ المحتال عليه دون المحيل بكل حال.

اه قال أصحابنا: ولان عموم الخبر يدل على أنه يتبع أبدا، وان مات مفلسا أو جحد فحلف.

وروى أن جد سعيد بن المسيب كان له على عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حقا فسأله أن يحيل به على رجل فأحاله به عليه فمات المحال عليه فعاد جد سعيد يسأل عليا رضى الله عنه حقه فقال له على: اخترت علينا غيرنا أبعدك الله.

فثبت أنه اجماع لانه لم ينكر على على رضى الله عنه أحد من الصحابة رضى الله عنهم، ولانه لا يخلو اما أن يكون بالحوالة سقط حقه من ذمة المحيل، أو لم يسقط، فان لم يسقط حقه عنه كان له الرجوع عليه، سواء مات المحال عليه أو لم يمت، وسواء

أفلس أو لم يفلس.

وان كان قد سقط حقه عنه فكيف يرجع بالاعسار والجحود.

لان الحوالة كالقبض للحق فلم يرجع على المحيل، كما لو قبض عن حقه عوضا فتلف في يده.

(فرع)

إذا كان عليه لرجل فأحاله على من له عليه دين، ثم ان المحيل

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 437)

________________________________________

قضى المحتال صح القضاء، ولا يرجع المحيل على المحال عليه بشئ، إذا قضى بغير اذنه.

وقال أبو حنيفة رضى الله عنه وأصحابه: يكون له الرجوع عليه.

دليلنا أن الحوالة قد صحت، وانما يتبرع بالقضاء، فلم يرجع عليه بشئ، ولانه لا يملك ابطال الحوالة فكان بدفعه متبرعا، كما لو قضى عنه أجنبي.

(فرع)

فان أحاله على رجل ولم يشرط أنه ملئ أو معسر فبان أنه معسر لم يرجع المحتال على المحيل سواء علم باعساره أو لم يعلم، وبه قال أبو حنيفة.

وقال مالك إذا لم يعلم باعساره كان له الرجوع على المحيل دليلنا أن الاعسار لو حدث بعد الحوالة وقبل القبض لم يثبت للمحتال الخيار فكذلك إذا ثبت أنه معسر حال العقد، وأما إذا أحاله على رجل بشرط أنه ملئ قال الشيخ أبو حامد، فان قال أحلتك على فلان الموسر أو على فلان وهو موسر فقبل الحوالة، ثم بان أنه معسر فقد روى المزني عن الشافعي أنه لا يرجع على المحيل أبدا، سواء كان المحال عليه غنيا أو فقيرا أفلس أو مات معدما، غره أو لم يغره.

واختلف أصحابنا فيه، فقال أبو العباس بن سريج له أن يرجع على المحيل كما لو باعه سلمة بشرط أنها سليمة من العيب فبانت بخلافها، قال وما نقله المزني فلا أعرفه للشافعي رحمه الله في شئ من كتبه.

وقال أكثر أصحابنا ليس له أن يرجع عليه كما نقله المزني، لان الاعسار لو كان غنيا في الحوالة لثبت له به

الخيار من غير شرط كالعيب في المبيع، ولان التفريط في البيع من جهة البائع حيث لم يبين العيب في سلعته.

فإذا لم يبين ثبت للمشترى الخيار.

والتفريط ههنا من جهة المحتال حيث لم يختبر حال المحال عليه ولان السلعة حق للمشترى فإذا وجدها ناقصة كان له الرجوع إلى الثمن.

وليس كذلك ذمة المحال عليه لانها ليست بنفس حق المحتال وانما هي محل لحقه فوجود الاعسار بذمة المحال عليه ليس بنقصان في حقه، وانما يتأخر حقه، ألا ترى أنه قد يتوصل إلى حقه من هذه الذمة الخربه.

بأن يوسر أو يستدين فيقضيه حقه بخلاف المبيع إذا وجده معيبا.

والله أعلم

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 438)

________________________________________

قال المصنف رحمه الله تعالى

(فصل)

وإن اشترى رجل من رجل شيئا بألف، وأحال المشترى البائع على رجل بالالف، ثم وجد بالمبيع عيبا فرده فقد اختلف أصحابنا فيه، فقال أبو على الطبري: لا تبطل الحوالة، فيطالب البائع المحال عليه بالمال ويرجع المشترى على البائع بالثمن لانه تصرف في أحد عوضي البيع فلا يبطل بالرد بالعيب كما لو اشترى عبدا وقبضه وباعه، ثم وجد البائع بالثوب عيبا فرده.

وقال أبو إسحاق تبطل الحوالة، وهو الذى ذكره المزني في المختصر، فلا يجوز للبائع مطالبة المحال عليه، لان الحوالة وقعت بالثمن، فإذا فسخ البيع خرج المحال به عن أن يكون ثمنا فإذا خرج عن أن يكون ثمنا ولم يتعلق به حق غيرهما وجب ان تبطل الحوالة ويخالف هذا إذا اشترى عبدا وقبضه وباعه لان العبد تعلق به حق غير المتبايعين وهو المشترى الثاني، فلم يمكن إبطاله، والحوالة لم يتعلق بها حق غيرهما، فوجب إبطالها.

وإن أحال الزوج زوجته بالمهر على رجل، ثم ارتدت المرأة قبل الدخول ففى الحوالة وجهان بناء على المسألة قبلها.

وإن أحال البائع رجلا على المشترى بالالف، ثم رد المشترى المبيع بالعيب لم تبطل الحوالة وجها واحدا، لانه تعلق بالحوالة حق غير المتعاقدين، وهو الأجنبي المحتال، فلم يجز إبطالها.

(الشرح) الاحكام: إذا اشترى رجل من رجل سيارة بألف ثم أحال المشترى البائع بالالف على رجل عليه للمشترى ألف، ثم وجد المشترى بالسيارة عيبا فردها.

فإن ردها بعد قبض البائع مال الحوالة انفسخ البيع ولم تبطل الحوالة بلا خلاف على المذهب.

بل تثبت في ذمة المحال عليه ويرجع المشترى على البائع بالثمن.

وان رده قبل قبض البائع مال الحوالة فقد ذكر المزني في المختصر أن الحوالة باطلة.

وقال في الجامع الكبير الحوالة ثابتة.

واختلف أصحابنا فيها على أربع طرق.

فقال أبو العباس بن سريج وأبو علي ابن أبى هريرة: تبطل الحوالة كما ذكر في المختصر.

لان الحوالة وقعت بالثمن

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 439)

________________________________________

فإذا رد المبيع بالعيب انفسخ البيع فسقط الثمن فبطلت الحوالة.

وقال أبو على في الافصاح: لا تبطل الحوالة كما ذكر في الجامع الكبير، لان الحوالة كالقبض فلم تبطل برد المبيع، كما لو قبض المحتال مال الحوالة ثم وجد المشترى بالمبيع عيبا فرده ولان المبتاع دفع إلى البائع بدل ماله في ذمته وعاوضه بما في ذمة المحال عليه، فإذا انفسخ العقد الاول لم ينفسخ الثاني، كما لو أعطاه بالثمن ثوبا وسلمه إليه ثم وجد بالمبيع عيبا فرده فإن العقد لا ينفسخ في الثوب ومنهم من قال هي على حالين.

فحيث قال الحوالة باطلة أراد إذا رد المبيع قبل أن يقبض البائع مال الحوالة.

وحيث قال الحوالة لا تبطل أراد إذا رد المبيع بعد قبض البائع مال الحوالة.

ومنهم من قال هي على حالين أخريين.

فحيث قال تبطل الحوالة أراد إذا ادعى المشترى وجود العيب فصدقه البائع، لان الحوالة تمت

بهما جميعا فانحلت بهما.

وحيث قال لا تبطل أراد دعوى المشترى أن العيب كان موجودا حال العقد وقال البائع بل حدث في يدك وكان مما يمكن حدوثه فلم يحلف البائع وحلف المشترى، فإن الحوالة لا تنفسخ، لان الحوالة تمت بهما فلم ينفسخ بأحدهما، هذا إذا كان الرد بغير مدة الخيار فأما إذا كان الرد في مدة الخيار فإن البيع ينفسخ بأحدهما: هذا إذا كان الرد بغير مدة الخيار، فأما إذا كان الرد في مدة الخيار فإن البيع ينفسخ والحوالة تبطل وجها واحدا.

سواء كان قبل القبض أو بعده، لان البيع لا يلزم قبل انقضاء الخيار، وإذا لم يلزم لم تلزم الحوالة لانها متعلقة بالثمن، هكذا ذكر الشيخ أبو حامد، وهذا بدل من قوله ان الحوالة بالثمن في مدة الخيار تصح، وقد مضى فيها وجهان (فرع)

وإن أحال الزوج زوجته بالمهر ثم اردت قبل الدخول، أو وحد أحدهما بالآخر عيبا ففسخ النكاح، فان كان ذلك بعد أن قبضت المرأة مال الحوالة لم تبطل الحوالة، وان كان ذلك قبل القبض فعلى الخلاف المذكور في البيوع (فرع)

وإن أحال البائع رجلا بالثمن على المشترى ثم وجد المشترى بالمبيع عيبا فرده لم تنفسخ الحواله وجها واحدا، لانه تعلق بالحواله حق غير المتعاقدين وهو الأجنبي فلم يبطل حقه بغير رضاه، وهكذا لو أحالت الزوجه بمهرها على

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 440)

________________________________________

الزوج رجلا ثم ارتدت قبل الدخول لم تبطل الحواله، لانه تعلق بالحواله حق أجنبي وهو المحتال فلا يبطل من غير رضاه، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى

(فصل)

وإن أحال البائع على المشترى رجلا بألف ثم اتفقا على أن العبد كان حرا فإن كذبهما المحتال لم تبطل الحواله، كما لو اشترى عبدا وباعه ثم اتفق

البائع والمشترى أنه كان حرا فإن أقاما على ذلك بينة لم تسمع لانهما كذبا البينه بدخولهما في البيع.

وان صدقهما المحتال بطلت الحواله لانه ثبتت الحرية وسقط الثمن فبطلت الحواله (الشرح) الاحكام: ولو اشترى رجل من رجل عبدا بألف ثم أحال البائع رجلا له ألف على المشترى ثم صادف البائع والمشترى أن العبد كان حرا وقت البيع فان صدقهما المحتال على حرية العبد وقت البيع وأن الحواله وقعت بالثمن حكم ببطلان الحواله وكان للمحتال أن يطالب البائع بما له عليه لان الحواله وقعت بالثمن وقد صدقهما أنه لا ثمن للبائع على المشترى.

وان كذبهما المحتال ولم يكن هناك بينة فالقول قول المحتال مع يمينه لان الحواله تمت بالمحيل والمحتال فلا يتحلل إلا بهما.

كما أن البيع لما تم بالبيع والمشترى لا ينفسخ البيع الا بهما.

ولانه قد تعلق بالثمن حق غير المتعاقدين فلا يبطل حقه بقول المتبايعين كما لو اشترى عبدا فقبضه وباعه من آخر ثم اتفق المتبايعان الاولان أن العبد كان حرا فإنهما لا يحيلا على المبتاع الثاني.

فإذا حلف المحتال قبض المال من المشترى.

وهل يرجع المشترى على البائع بذلك.

فيه وجهان قال صاحب الفروع يرجع عليه.

لان المشترى قضى عن البائع دينه باذنه فرجع عليه وقال الطبري في العدة " لا يرجع عليه لان المشترى يقر أن المحتال ظلمه بأخذ ذلك منه فلا يرجع به على غير من ظلمه.

وان أقام البائع والمشترى بينة فهل تسمع.

فيه وجهان

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 441)

________________________________________

قال الشيخ أبو إسحاق: لا تسمع، لانهما كذبا البينة بدخولهما في البيع، وقال الشيخ أبو حامد وصاحب الفروع: إن شهدت البينة أن العبد حر الاصل، وأن

الحوالة وقعت بالثمن أو شهدت بأنه حر الاصل وأقر المحتال بأن الحوالة وقعت بالثمن بطلب الحواله، لانه إذا ثبت أنه حر تبينا أنه لم يتعلق بذمة المشترى شئ فحكم ببطلان الحوالة، وإن أقام العبد بينة بحريته، قال ابن الصباغ تثبت حريته وبطلت الحواله، ولم يذكر له وجها والذى يقتضى المذهب أن الحوالة لا تبطل بذلك، لان العبد يحكم بحريته بتصادق البائع والمشترى، ولا تبطل الحوالة بذلك فكذلك إذا أقام العبد بينة، ولان المتبايعين إذا كانا مقرين بحريته فلا حاجة به إلى إقامة البينة فلا تبطل الحوالة بإقامته البينة.

وإن صدقهما المحتال أنه كان حرا وادعى أن الحوالة وقعت بغير الثمن وقالا بل وقعت بالثمن أو أقاما البينة أن العبد كان حرا، ولم يذكر البينة أن الحوالة وقعت بالثمن، فالقول قول المحتال مع يمينه، لانهما يدعيان ما يفسدها، والاصل صحتها، قال الشيخ أبو حامد: ويحلف على العلم.

 

قال المصنف رحمه الله تعالى

.

 

(فصل)

إذا أحال رجل رجلا له عليه دين على رجل له عليه دين ثم اختلفا فقال المحيل وكلتك، وقال المحتال: بل أحلتني نظرت، فان اختلفا في اللفظ فقال المحيل: وكلتك بلفظ الوكالة، وقال المحتال: بل أحلتني، بلفظ الحوالة، فالقول قول المحيل، لانهما اختلفا في لفظه، فكان القول فيه قوله، وإن اتفقا على لفظ الحواله ثم اختلفا فقال المحيل وكلتك، وقال المحتال: بل أحلتني ففيه وجهان.

قال أبو العباس: القول قول المحتال، لان اللفظ يشهد له.

ومن أصحابنا من قال: القول قول المحيل، وهو قول المزني، لانه يدعى بقاء الحق في الذمة والمحتال يدعى انتقال الحق من الذمة، والاصل بقاء الحق في الذمة.

فإن قلنا: بقول أبى العباس، وحلف المحتال ثبتت الحوالة وبرئ المحيل وثبتت له مطالبة المحال عليه، وإن قلنا بقول المزني فحلف المحيل ثبتت الوكالة

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 442)

________________________________________

فإن لم يقبض المال انعزل عن الوكالة بانكاره فان كان قد قبض المال أخذه المحيل وهل يرجع هو على المحيل بدينه؟ فيه وجهان.

 

(أحدهما)

لا يرجع، لانه أقر ببراءة ذمته من دينه.

 

(والثانى)

له أن يرجع لانه يقول: إن كنت محتالا فقد استرجع منى ما أخذته بحكم الحوالة، وإن كنت وكيلا فحقي باق في ذمته فيجب أن يعطينى، وإن هلك في يده لم يكن للمحيل الرجوع عليه، لانه يقر بأن ماله تلف في يد وكيله من غير عدوان، وليس للمحتال أن يطالب المحيل بحقه لانه يقر بأنه استوفى حقه وتلف عنده.

وان قال المحيل: أحلتك، وقال المحتال بل وكلتني، فقد قال أبو العباس القول قول المحيل، لان اللفظ يشهد له.

وقال المزني: القول قول المحتال، لانه يدعى بقاء دينه في ذمة المحيل، والاصل بقاؤه في ذمته.

فان قلنا بقول أبى العباس فحلف المحيل برئ من دين المحتال، وللمحتال مطالبة المحال عليه بالدين، لانه إن كان محتالا فله مطالبته بمال الحوالة، وإن كان وكيلا فله المطالبة بحكم الوكالة، فإذا قبض المال صرف إليه، لان المحيل يقول: هو له بحكم الحوالة، والمحتال يقول.

هو لى فيما لى عليه من الدين الذى لم يوصلني إليه.

وإن قلنا بقول المزني وحلف المحتال، ثبت أنه وكيل، فان لم يقبض المال كان له مطالبة المحيل بماله في ذمته، وهل يرجع المحيل على المحال عليه بشئ فيه وجهان.

 

(أحدهما)

لا يرجع، لانه مقر بأن المال صار للمحتال.

 

(والثانى)

يرجع، لانه إن كان وكيلا فدينه ثابت في ذمة المحال عليه وان كان محتالا فقد قبض المحتال المال منه ظلما، وهو مقر بأن ما في ذمة المحال عليه

للمحتال، فكان له قبضه عوضا عما أخذه منه ظلما فان كان قد قبض المال فان كان باقيا صرف إليه، لانه قبضه بحوالة فهو له، وإن قبضه بوكالة فله أن يأخذه عما له في ذمة المحيل.

وان كان تالفا نظرت، فان تلف بتفريط لزمه ضمانه، وثبت للمحيل عليه مثل ما ثبت له في ذمته فتقاصا، وان تلف من غير تفريط

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 443)

________________________________________

لم يلزمه الضمان، لانه وكيل، ويرجع على المحيل بدينه، ويبرأ المحال عليه، لانه إن كان محتالا فقد وفاه حقه وإن كان وكيلا فقد دفع إليه.

(الشرح) الاحكام: قال أبو العباس بن سريج: إذا كان لرجل عند رجل ألف فقال من له الدين لرجل لا شئ له عليه، أحلتك على فلان بألف، فهذا توكيل منه في القبض، وليس بحوالة، لان الحوالة إنما تكون عمن له حق، ولا حق للمحتال ههنا فثبت أن ذلك توكيل.

وإن كان لزيد على عمرو ألف درهم ولعمرو على خالد ألف، فاختلف زيد وعمرو، فقال زيد.

أحلتني بالالف التى عليك لى بالالف التى لك على خالد بلفظ الحوالة.

وقال عمرو.

بل وكلتك بأن يقبضها لى منه بلفظ الوكالة، فالقول قول عمرو لانهما اختلفا في لفظه، وهو أعلم بلفظه، ولانه قد ثبت استحقاق عمرو الالف في ذمة خالد، وزيد يدعى أن ملكها قد انتقل إليه بالحوالة، والاصل بقاء ملك عمرو عليها، وعدم ملك زيد.

فإن قال عمرو لزيد.

أحلتك على خالد بالالف التى لى عليه، فقبل زيد ثم اختلفا فقال عمرو وكلتك لتقبضها لى منه.

ومعنى قولى أحلتك أي سلطتك عليه وقال زيد.

بل أحلتني عليه بدينى الذى لى عليك، فاختلف أصحابنا فقال المزني.

القول قول المحيل وهو عمرو.

وقال الشيخ أبو حامد والطبري: وبه قال المصنف وأبو العباس بن سريج

وأكثر أصحابنا، وهو قول أبى حنيفة.

لانهما قد اتفقا على ملك عمرو للالف التى في ذمة خالد، واختلفا في انتقالها إلى زيد وهو المحتال كان القول قول عمرو لان الاصل بقاء ملكه عليها، وإن كان الظاهر مع زيد، كما لو كان لرجل سيارة في يد آخر فادعى من هي بيده أن مالكها وهبها منه.

وقال المالك.

بل أعرتكها فالقول قول المالك.

وكما لو كانت دار في يد رجل فادعى رجل أنه ورثها من أبيه أو ابتاعها، وأقام على ذلك بينة، وادعى من هي بيده أنها ملكه فإنه يحكم بها لصاحب البينة لانه قد عرف له أصل ملك، وإن كان الظاهر مع صاحب اليد.

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 444)

________________________________________

(والوجه الثاني) حكاه المصنف وابن الصباغ عن أبى العباس بن سريج أن القول قول زيد وهو المحتال، لان اسم الحوالة موضوع لتحويل الحق من ذمة إلى ذمة، فكان اللفظ يشهد له.

كما لو تنازعا دارا وهى في يد أحدهما فوجهان فذهب بعض أصحابنا إلى أنه لا يرجع عليه، والثانى.

له أن يرجع عليه، لان المحتال إن كان صادقا فالذي في ذمة المحال عليه يمكنه أخذه عن حقه، فإذا قلنا يرجع عليه لان المحتال إن كان صادقا فالذي في ذمة المحال عليه للمحيل، وإن كان المحتال كاذبا فقد استحق المحيل على المحتال ما أخذه منه ظلما، وللمحتال حق على المحال عليه يمكنه أخذه عن حقه.

فإذا قلنا: يرجع عليه، فالذي يقتضى المذهب أنه يرجع عليه بأقل الامرين مما أخذ منه المحتال أو الدين الذى على المحال عليه لانه إن أعطى المحتال أكثر من حقه فلم يستحق الرجوع على المحال عليه بأكثر مما عنده، وإن أعطى المحتال أقل من حقه فهو يقر أن جميع ما على المحال عليه للمحتال، وإنما يرجع من ماله

بالقدر الذى أخذه منه، وما زاد عليه يقر به المحتال.

وإن قلنا.

القول قول المحيل فحلف فبرئ من دين المحتال، وكان للمحتال مطالبة المحال عليه إما بحكم الحواله أو الوكالة فإذا أخذ منه المال أمسكه بحقه لان المحيل يقول.

هو له بحق الحوالة، والمحتال يقول.

هو للمحيل ولى عليه مثله وهو غير قادر على حقه من جهة المحيل، فكان له أخذه.

(مسألة) إذا كان لزيد على عمرو ألف درهم، ولخالد على زيد ألف درهم فجاء خالد إلى عمرو وقال.

قد أحالني زيد بالالف التى عليك له فان صدقه وجب عليه دفع المال إليه، ثم ينظر في زيد فان صدقه فلا كلام، وإن كذبه كان القول قوله مع يمينه، لان الاصل عدم الحوالة، فإذا حلف رجع زيد بالالف على عمرو، ولا يرجع خالد على زيد بشئ، لانه إن كان قد قبض حقه من عمرو فقد استوفى، وإن لم يقبضه فله أن يطالبه بحقه، لانهما متصادقان على الحوالة.

وان كذب عمرو خالدا ولا بينة فالقول قول عمرو مع يمينه، لان الاصل

المجموع شرح المهذب - جـ 13(ص: 445)

________________________________________

عدم الحوالة، فإذا حلف سقطت دعوى خالد، ولم يكن لخالد الرجوع على زيد بشئ لانه يقر أن ذمته برئت من حقه، ثم ينظر في زيد فان كذب خالدا كان له مطالبة عمرو بدينه، وإن صدق خالدا ففيه وجهان.

قال عامة أصحابنا: يبرأ من دين زيد لانه قد أقر بذلك.

وقال ابن الصباغ إذا قلنا: ليس من شرط الحوالة رضا المحال عليه، فان الحوالة ثبتت بتصادق المحيل والمحتال.

(فرع)

إذا كان لرجل على رجل ألف درهم فطالبه بها فقال من عليه الدين أحلت بها على فلان الغائب، فأنكر المحيل فالقول قوله مع يمينه، لان الاصل عدم الحوالة، فان أقام من عليه الدين بينة بالحواله.

قال ابن الصباغ: سمعت البينة لاسقاط حق المحيل عليه، ولا يثبت بها الحق للغائب، لان الغائب لا يقضى له بالبينة، فإذا قدم الغائب وادعى فانما يدعى على المحال عليه دون المحيل وهو مقر له بذلك فلا يحتاج إلى إقامة البينه ولو ادعى رجل على رجل أنه أحاله على فلان الغائب، وأنكر المدعى عليه فالقول قوله مع يمينه، وان أقام المدعى بينة ثبتت في حق الغائب، لان البينة يقضى بها على الغائب، فان شهد للمحتال ابناه لم تقبل شهادتهما لانهما يشهدان لابيهما، وان شهد له ابنا المحال عليه أو ابنا المحيل قبلت شهادتهما، لانهما يشهدان على أبيهما، والله تباك وتعالى أعلم.

تم الجزء الثالث عشر ويليه الجزء الرابع عشر وأوله كتاب الضمان


Next Post Previous Post
No Comment
Add Comment
comment url